تعرفوا على جغرافية مدينة باريس Paris العاصمة الفرنسية.حسان عباس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تعرفوا على جغرافية مدينة باريس Paris العاصمة الفرنسية.حسان عباس

    باريس(جغرافيه)

    Paris - Paris
    باريس
    أولاً ـ باريس جغرافياً
    باريس Paris عاصمة فرنسة[ر] ومركز محافظة باريس ومقاطعة جزيرة فرنسة Ile de France وتحتل باريس قلب مجمع حضري مهم، يحتل المرتبة الرابعة بين كبريات المجمعات العالمية، وتقسم المدينة ذاتها إلى عشرين قسماً إدارياً، وسكانها ذوو أصول شديدة التنوع ناجمة عن التزاوج بين المهاجرين القادمين إليها من مختلف أنحاء فرنسة والعالم، وهي المركز الرئيسي في جميع شؤون الحياة الفرنسية والفكرية والثقافية والعلمية والحضارية والاقتصادية والسياسية وغيرها.
    الموقع والوضع الطبيعي والظهير الجغرافي
    تقع باريس على نهر السين في أواسط الربع الشمالي من فرنسة، يتقاطع في مركزها خط العرض 48 درجة و 52 دقيقة شمالاً مع خط الطول 2 درجة و 20 دقيقة شرقاً، وتحتل قلب حوض باريس الرسوبي في نقطة تلتقي عندها عدة أنهار مهمة مع محاور مواصلات رئيسية، وقد اختير موقعها في نقطة لا يزيد معدل ارتفاعها فوق مستوى سطح البحر على 25 متراً وفي قطاع يكون فيه نهر السين صالحاً للملاحة النهرية. يبلغ المتوسط السنوي لدرجة الحرارة في باريس نحو 10.2 درجة مئوية وتتلقى معدلات هطل نحو 610مم/السنة.
    يشغل مجمَّع باريس الحضري مساحة 2118 كم2، ويقطنه نحو عشرة ملايين نسمة (1994).
    نشأة المدينة وتطورها العمراني
    تقوم باريس اليوم في موقع مدينة لوتيسية الكلتية الرومانية. وكان للهجرة والعوامل الدينية أثر بالغ الأهمية في نمو المدينة واتساعها، فقامت على محيط المعابد والكنائس المهمة قرى كبيرة (مثل سان جرمان دوبري وسانت جنفييف وسان فيكتور وسان مارسل وسان جرمان الأوكسيري)، ولم تلبث أن اندمجت بالمدينة التي ظلّت تتسع باطراد. ولمّا قام شارل الخامس نحو عام 1364 بتوسيع سور الضفة اليمنى ذي الأبواب الستة الشهيرة، ازدادت مساحة المدينة إلى 438 هكتاراً، وغدت باريس، كبرى المدن الفرنسية.
    توقف نمو المدينة في أثناء حرب المئة عام، وازدهرت بعدها، وغدت منذ منتصف القرن السادس عشر تقريباً، مدينة مفتوحة، واستبدلت بالأسوار الحجرية ساحات مشجرة تتعدد فيها أقواس النصر الشهيرة، كما قفز عدد سكانها عام 1702 إلى نصف مليون نسمة موزعين على عشرين حياً، ثم ازداد عدد أحيائها مع مطلع القرن التاسع عشر. وفي هذه المرحلة شُيدت في باريس أولى محطات السكك الحديدية وهي محطة سان لازار التي افتتحت عام 1843، وبلغ عدد سكان المدينة مليون نسمة عام 1846، كما ازدهر نشاطها الصناعي وتعمقت الهوّة بين الأحياء الغربية والجنوبية ذات الطابع البرجوازي بمرافقها المتطورة وشوارعها العريضة وساحاتها الرائعة وأحيائها الشرقية ذات الطابع الصناعي والشعبي، كما اتسعت الأحياء والضواحي التي يقطنها العمال والمستخدمون على طول محاور السكك الحديدية التي تدخل المدينة بالإضافة إلى محاور الأودية النهرية التي تحيط بباريس.
    أما الملامح الباريسية الراهنة فقد بدأت بالتوضح التدريجي منذ عهد نابليون الثالث، وتعمقت في عهد محافظ المدينة هوسمان (1853-1870) الذي هدم قلب المدينة وعمل على شق الشوارع العريضة والجادات الواسعة وحسَّن الساحات العامة ووسع محطّات القطارات وفق مخططات هندسية رائعة، واستصلح مساحات خضراء (غابتي بولونية وفنسين)، ووسع شبكة الصرف الصحي وحلّ أزمة المياه وأضاء الشوارع بمصابيح غازية وغير ذلك. وارتفع عدد سكان باريس عام 1896 إلى 2.540.000 نسمة، وتناقصت أعداد السكان في الحربين العالميتين، خاصة بعد دخول الألمان المدينة عام 1940. ويتبع المدينة اليوم 310 بلدات منها ست يزيد عدد سكان كل منها على 100000 نسمة، وفيها 20 بلدة يتراوح عدد سكان كل منها بين 50000 و100000 نسمة، ولم تتوقف حركة الهجرة بين المدينة وضواحيها عن التطور والنمو في القرن العشرين.
    أما حركة السكان اليومية بين باريس وضواحيها فإنها تصل في الساعة الحرجة إلى نحو 5,5 مليون نسمة يستقل 80% منهم وسائل النقل الجماعية.
    وتصل الكثافة السكانية العامة في باريس (ومنها مساحة القطاعات التي لا تشغلها الأبنية السكنية كالحدائق والمنتزهات والمطارات ومحطات القطارات والساحات العامة وغيرها) إلى نحو 5000 نسمة/كم مربع، في حين تراوح الكثافة الفعلية بين 100000 نسمة/كم مربع في الأحياء القديمة و3000 نسمة/كم مربع فقط في الضواحي الراقية جداً، وتتناقص إلى أقل من 500 نسمة/كم مربع في الهوامش والأطراف البعيدة جداً عن المركز.
    مخطط المدينة ومعالمها
    يتخذ مخطط باريس العام شكلاً بيضوياً تقريباً إذ نمت المدينة على شكل دوائر متحلقة حول المركز، واستمر هذا النمو على حاله إلى أن نُشر المخطط التنظيمي للمنطقة عام 1965، الذي قيَّد حجم نمو المجمَّع الحضري الباريسي ليغدو كافياً لسكن عشرة ملايين نسمة عام 1975 و12 مليوناً عام 1985 و14 مليوناً عام 2000، كما حدد اتجاه النمو وفق محورين رئيسين يمتدان من الشرق إلى الغرب على طول مجرى نهر السين، كما تضمن المخطط المذكور تحديث مرافق الحياة العامة وتطويرها وعلى رأسها محاور النقل والمواصلات والمشافي والمدارس الحكومية العامة والمجمعات التجارية والمنتزهات وغيرها. مع ضرورة الحفاظ على الملامح العمرانية الأثرية القديمة للمدينة إلى جانب الإسراع في تشييد الأحياء الحديثة مع ضرورة الحفاظ على البيئة وحمايتها بحماية المناطق الزراعية والغابية في المنطقة المعنيَّة، وقد استحدثت خمس مناطق عرفت بمناطق التوازن الطبيعــي تغطي بمجملها نحو 20% من مساحة المنطقة الباريسية .
    ويميز في باريس بوجه عام :
    1ـ باريس القديمة أو التاريخية: وتضم الدوائر الثماني الأولى ويغلب عليها الطابع الأثري القديم إذ يعود 90% منها إلى ما قبل عام 1870، وفيها المكاتب التجارية والصناعات التقليدية وشركات التأمين ومحطات القطارات وبعض المتاجر الفخمة، وفيها الكثير من المسارح ودور السينما والملاهي والأندية الليلية ومبنى مجلسي البرلمان والشيوخ ومباني رئاسة الحكومة ووزارات الدولة.
    2ـ الأحياء السكنية الغربية: تمتاز بشوارعها وجاداتها العريضة المحفوفة بالأشجار وبأبنيتها الحجرية الحديثة، تتجمع فيها غالبية السفارات الأجنبية وعيادات كبار الأطباء الاختصاصيين في باريس كما يقطنها كبار رجال الفن والفكر والأدب والسياسة الفرنسيين.
    3ـ باريس الشعبية وهوامش المدينة، يطغى عليها الطابع الصناعي ويتجمع فيها العمال وصغار الكسبة.
    4ـ الضواحي، وتغطي مساحة تزيد على مساحة المدينة بنحو أربع عشرة مرة ويقطنها مِثْلا سكانها، وتتعدد على هوامشها الفيلات الراقية.
    5ـ أحياء البؤس ومدن الصفيح Bidonvilles البائسة والمحرومة التي تكاد تنعدم فيها الشروط الصحية والخدمات المدنية ويقطنها الأفارقة شمالاً (نانتر Nanterre) والبرتغاليون في (شامبيني Champigny) ومبانيها من الصفيح والطوب والطين.
    6ـ المدن الجديدة الملحقة بالعاصمة وتضم كلاً من: سيرجي بونتواز (90000 نسمة) ومدينة إيفري الجديدة (16000 نسمة) ومارن لافالي وميلون سينار وسان كنتان في إيفلين.
    وظائف المدينة
    باريس مدينة متعددة الوظائف، فإلى جانب دورها الإداري والسياسي بوصفها عاصمة لإحدى كبرى الدول الأوربية، تحتل مكانة عالمية مرموقة لاحتضانها نحو 150 مؤتمراً عالمياً سنوياً، وفيها يجد الفرنسيون آثاراً وبصمات عن تاريخهم القديم والحديث ممثلة في كاتدرائية نوتردام ومتحف اللوفر وساحة الكونكورد وحي الشانزليزيه وتلة مونمارتر والحي اللاتيني. كما تعد باريس مدينة الثقافة والعلوم والآداب والفنون المختلفة بما تحويه من معارض ومسارح ضخمة ودور سينما وملاه وأندية ليلية موزعة في سان جرمان دوبري والحي اللاتيني ومونبارناس وحي بيغال إضافة إلى ما تحويه من متاحف حضارية وشعبية وتراثية وفنية وعلمية اختصاصية تستقبل الهواة ورجال العلم، ويتعاظم دورها العلمي بفضل مراكز البحث العلمي وبفضل جامعاتها الثلاث عشرة التي تستقطب ثلث الطلاب الجامعيين الفرنسيين ونحو 35000 طالب أجنبي، وهذا ما يعادل نصف إجمالي عدد الطلاب الأجانب في فرنسة بكاملها. تعد باريس قبلة السيّاح والأجانب الذين يفدون لزيارة متاحفها ومعالمها الحضارية والأثرية وعلى رأسها كاتدرائية نوتردام ومعرض بورت دوفرساي السنوي الذي يستقطب بمفرده نحو مليون زائر، وفي المدينة 4145 فندقاً منها ثلاثون فندقاً (أربعة أو خمسة نجوم) تضم بمجملها 140000 غرفة تستقبل سنوياً 1.800.000 زائر.
    كما تعد باريس مدينة صناعية هامة، ويصل إجمالي القوى العاملة فيها إلى نحو 4 ملايين تتزايد بمعدل 1% في السنة. وتحتل المرأة نحو 40% من إجمالي هذه القوى وتؤلف مثلي نسبة الرجال في قطاع الخدمات الباريسية.
    ولتنظيم حركة النقل والمواصلات الباريسية شُيد قطار الأنفاق (المترو) بخطوطه الخمسة عشر وبمحطاته التي يبلغ عددها 365 محطة يستخدمها نحو 4 ملايين مسافر يومياً، كما يخدم الضواحي مجموعة من القطارات التي تسير على 28 خطاً لا يزيد طول أكثرها أهمية على 50كم. ويستخدم القطارات الكهربائية نحو 1.8 مليون مسافر يومياً، أما حافلات النقل الداخلي التي تسير على 180 خطاً فيستخدمها نحو 2.5 مليون باريسي في حين تخدم الشركات الخاصة نحو 300 خط، وتتزايد أعداد السيارات الخاصة بمعدل 6% سنوياً وتصل أعدادها الراهنة إلى أكثر من 2.8 مليون سيارة.
    أما إجمالي طول طرق العاصمة فيصل إلى 1200 كم، يمر في كل نقطة من نقاطها نحو 50.000-70.000 سيارة/الساعة.
    وترتبط باريس ببقية أنحاء البلاد وبأوربة والعالم بشبكة من طرق السيارات، بالإضافة إلى شبكة من خطوط السكك الحديدية الممتازة ولاسيما القطارات ذات السرعات العالية جداً (T.G.V) إضافة إلى شركة الطيران الداخلي، ويستخدم هذه الخطوط نحو 4 ملايين مسافر في السنة، وفي باريس مطارات مهمة مثل مطارات شارل ديغول وأورلي ورواسي وبورجيه وباريس إيسّيى وتوسّو لونوبل كما يوجد فيها أكثر من عشرة مطارات محلية صغيرة.
    محمد فائد الحاج حسن


    ثانياً ـ باريس تاريخياً
    قطنت قبيلة باريزي Parisi الكلتية جزيرة La Cité في القرن الثالث قبل الميلاد، مكونةً النواة الأولى لما سيصبح مدينة باريس. وفي عام 52ق.م بدأ الرومان ببناء مدينة جديدة فوق هضبة قريبة من الضفة المقابلة للنهر، أطلقوا عليها اسم «لُوتيسية» Luticia، ما فتئت تتوسع حتى ضمّت الموقع الأصلي. وأُقيم بين الموقعين جسر خشبي. وقد شُيدت لوتيسية مثلها مثل أي مدينة رومانية وفق مخطط تربيعي، وتضمَّنت كل المرافق الضرورية لحياة المجتمع.
    غزا البرابرة الجرمان لوتيسية وأحرقوها في أواخر القرن الثالث الميلادي، فقرَّر من بقي من أهلها رفع سور حول بقاياها يقيهم شرَّ غزوات لاحقة. وقد أعطى هذا السور للمدينة التي صار اسمها باريس في بداية القرن الرابع أهميّةً استراتيجيّةً، تجلّت باختيارها مركزاً لإقامة عدد من أباطرة رومة (357-366) ثم عاصمة للملوك الميروفنجيين (508).
    ومع تحوّل الملوك الكارولنجيين عن باريس عاصمةً، بقيت من أكثر مدنهم ازدهاراً وغنىً حتى الغزو النورمندي الذي دمرها تماماً في بدايات القرن التاسع، لكنها انبعثت من رمادها في نهاية ذلك القرن، وردَّت النورمنديين بعد سنة من الحصار (885) ولم تلبث أن صارت مركزاً تجارياً ودينياً وعلميّاً مهماً، فازداد عدد سكانها واتسعت رقعتها وتطوَّرت في وجهتين متعارضتين حدَّدتا ـ حتى اليوم ـ طبيعة باريس كعاصمة اقتصادية وثقافية. ففي حين ازدهرت على الضفة اليمنى لنهر السين الموانئ والأسواق التجارية، أخذت تظهر على ضفته اليسرى المدارس الدينية المنعتقة من سلطة أسقف المدينة والمتآلفة في إطار تجمُّع مهني كان النواة لما سيُعرف لاحقاً باسم الجامعة. وقام الملك «فيليب أوغست» ببناء سور حول ضفَّتي المدينة يدرأ عنها خطر الجيوش الإنكليزية والنورمندية، وقد جعل طوق هذا السور ينعقد عند حصن كبير أطلق عليه اسم اللوفر.
    وفي هذا الزمن تطوّر العمران المدني والكنائسي فظهر في المدينة الكثير من الصروح الجديدة، وبُدئ في عام 1163 ببناء كاتدرائية نوتردام التي لم تُنجز نهائياً إلا في عام 1250. كما تطوّر النشاط التجاري بوجه خاص فغدت باريس سوقاً تجاريةً كبيرةً، وقويت فيها شوكة الطبقة البرجوازية.
    عانت باريس في القرنين الرابع عشر والخامس عشر آثار الحروب المستمرة (حرب المئة عام)، ووباء الطاعون (1350)، والاحتلال الإنكليزي (1411-1436)، لكنها عادت شيئاً فشيئاً إلى مكانتها الأولى، واجتذبت الكثير من أهالي المناطق الأخرى حتى صارت في نهاية القرن الخامس عشر أكبر مدينة في أوربة بعد القسطنطينية.
    عادت إلى باريس أهميتها بكونها عاصمة ملكية (1528)، لكنها عانت حرباً طائفية عنيفة ضد الهيغنوت بلغت ذروتها في مذبحة سان بَرتِلمي Saint Barthélemy (24 آب 1572) التي ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف بروتستنتي. وعاشت باريس عقوداً من الركود والانحطاط لم تنته إلاّ بدخول هنري الرابع إلى حاضرتها واهتمامه بها شخصياً، فشق فيها الشوارع وبنى الجسور وأقام الساحات وأشرف على توسيع قصر اللوفر، فعَرَفت المدينة في عهده وعهد خلفه لويس الثالث عشر ازدهاراً كبيراً دام حتّى بدايات حكم لويس الرابع عشر. ولكي يتابع هذا الملك حروبه الخارجية، قام وزيره الكردينال «مازاران» بفرض ضرائب باهظة، فعمَّ الاستياء بين السكان، وقام الباريسيّون بانتفاضة شعبيّة (1648-1649) La Frond انتهت بانتصار الملك الذي هجر باريس نهائياً وجعل من ضاحيتها فرساي (1682) مقراً للبلاط. وقد ترسّخ في عهد هذا الملك التمايز الطبقي في المجتمع الباريسي فازدهرت البرجوازية، في حين ازدادت الطبقات الشعبية فقراً وبؤساً. ومع ذلك عاشت باريس في النصف الثاني من القرن السابع عشر واحداً من أكثر عهودها التاريخية ازدهاراً وحضارةً، فكانت مهد «عصر التنوير»، ومركز الإشعاع الفلسفي والفني والأدبي.
    وفي القرن الثامن عشر لم يتغيّر منحى التطوّر الاجتماعي في باريس، فكانت البرجوازية تتابع صعودها وتحتل موقع القيادة الاجتماعية ـ الاقتصادية بدل الأرستقراطية المنحسرة صاحبة السلطة السياسية، أما عامة باريس فكانت مشكلاتهم الاجتماعية تتفاقم والبطالة تتزايد حتى غدت حياتهم لا تطاق مع نهاية ذلك القرن، وقد استغلّت البرجوازية هذه النقمة الشعبية، واستطاعت توظيفها في صراعها مع البلاط. وفي يوم 14 تمّوز 1789، بعد أكثر من عامين من القلاقل والاضطرابات، قامت انتفاضة في باريس أثارها المُعْدَمون الذين عرفوا باسم (المحرومين من السراويل) «اللامتسرولون» Les Sans Culottes، واقتحموا حصن الباستيل بغية الحصول على السلاح وتحرير السجناء، وصار هذا اليوم رمزاً لبداية ثورة فرنسية على الاستبداد الملكي الذي دام ثمانية قرون.
    اتصفت سنوات ما بعد الثورة بالبلبلة وعدم الاستقرار، وتردَّت الأوضاع السياسية مما هيّأ لتسلم نابليون بونابرت السلطة عام 1799، وقد أراد نابليون جعل باريس عاصمة لأوربة، ومرآةً لمجده، فأقام النصب التذكارية (قوس النصر، كنيسة المادلين، الفاندوم...)، ووسّع قصر اللوفر، ونظّم المدينة وخدماتها (ترميم البيوت، جَرّ المياه، بناء الجسور، مدّ شبكة التصريف...) وجعلها مركزاً وحيداً لإدارة البلاد.
    عَرَفَت باريس في العقد الأول من القرن التاسع عشر تحوّلاً اجتماعياً عميقاً، رافقه فرز طبقي حاد انعكس على خريطتها الديمغرافية، فتجمَّع الأغنياء في نصفها الغربي حيث ظهرت أحياء جديدة مُنظَّمة، واسعة ونظيفة، وتكدّس الفقراء في وسطها وفي قسمها الشرقي، حيث انتشرت الأوبئة (الكوليرا 1832)، وارتفعت نسبة الكحولية والجرائم والوفيات.
    وكان هذا الفرز أساس الثورات الباريسية المتلاحقة (حزيران 1830، شباط 1831، حزيران 1832، نيسان 1834، شباط 1848، حزيران 1848) التي دفعت محافظ منطقة السين «هوسمان» في عهد الامبراطورية الثانية إلى العمل على إيجاد مشروعات تمتصّ البطالة، وعلى تفكيك بنية باريس القديمة، مما دفع بالسكان الفقراء إلى تخوم المدينة أو إلى الضواحي.
    ومع ذلك عرفت باريس في نهاية ذلك القرن واحدة من أهم محطاتها الثورية (كومونة باريس 18 آذار- 21 أيار 1871) إذ أدت هزيمة النظام أمام البروسيين وحصارهم العاصمة إلى دفع «البروليتارية» وحلفائها إلى إعلان حكومة ثورية في باريس، لكن الجيش النظامي بقيادة «تيير» L.A.Thiers دخل المدينة بعد أقل من شهرين، وقضى على الكومونة بوحشية منقطعة النظير (20000 قتيل).
    عاشت باريس في بداية القرن العشرين مرحلة ازدهار اقتصادي واسع، لكن الحرب العالمية الأولى وضعت حدّاً لهذا الازدهار.
    عادت باريس بعد هذه الحرب إلى التوسع، وزاد «التمركز» الصناعي في الضواحي القريبة، وفي عام 1940، في بدايات الحرب العالمية الثانية، وأمام الخطر الألماني المحدق، انسحبت الحكومة الفرنسية إلى مدينة تُور Tour، وأُعلنت باريس مدينة مفتوحة، فدخلها الألمان في يوم 14 حزيران، وأقاموا فيها مركز قيادة جيوش الاحتلال. لكن سرعان ما تألفت مجموعات المقاومة السرّية التي أسهمت بفعاليّة في عملية تحرير المدينة 19- 24 آب 1944، وعادت إليها الحكومة الفرنسية بقيادة شارل ديغول في 31 آب.
    وفي عام 1968 ظهرت في باريس حركة احتجاج طلابية واسعة تطالب بإصلاحات سياسية واجتماعية، تلتها حركة إضراب عمالي، كانتا شديدتي الأثر في تاريخ فرنسة إذ أعادتا النظر في قيم المجتمع الفرنسي وأعرافه.
    وشهدت باريس في النصف الثاني من القرن العشرين تطوراً كبيراً في شتى المجالات، عزَّز التفاوت بينها وبين بقية المناطق الفرنسية، وتمثل في التزايد الكبير في عدد سكانها، إذ يعيش في باريس وضواحيها اليوم سدس المجتمع الفرنسي، ويعمل فيها ربع اليد العاملة. وكان من نتائج هذا التطور أن تسارعت حركة التحديث العمراني فأزيلت أحياء شعبية بكاملها لترتفع مكانها عمارات حديثة تستقبل ذوي الدخول المتوسطة، أما الفقراء والعمال والمهاجرون فقد هُجّروا إلى الضواحي الشعبية حيث ترتفع الكثافة السكانية إلى أعلى معدلاتها.
    ومن ناحية أخرى، ظهرت في مدينة باريس في النصف الثاني من القرن العشرين مجموعة من الصروح الجديدة التي تمثل ما عرفته المدينة من تطور كبير سواء في المجال الاقتصادي، أو في المجال الثقافي (المركز الوطني للفن والثقافة: «جورج بومبيدو»، مدينة العلوم، دار أوبرا الباستيل، معهد العالم العربي، مشروع المكتبة الوطنية الكبرى).
    حسان عباس

يعمل...
X