تجارب الفنانين العرب المعاصرين تنقل لك "أكثر مما يمكن أن تراه عيناك"
أعمال واقعية تبحث في أعماق أمكنة وشخوص ومشكلات جندرية من الدول العربية.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
حارس الواحة، صورة محمد الفراج
يقدم الفنانون العرب المعاصرون تجارب تشكيلية وبصرية ربما لا تثير انتباه الكثيرين في منطقتنا لكنها تجذب الغرب نحوها، فنرى مؤسسات أميركية وأوروبية تخصص معارض طويلة المدى لتحتفي بهذه التجارب خاصة إن كانت جماعية، وتضفي عليها هالة من الأهمية والعمق قد ترتقي بالفعل إلى قيمة الأعمال المعروضة، وأحيانا قد يكون فيها من المبالغة الشيء القليل أو حتى الكثير.
هل فكرت يوما فيما تراه عيناك؟ وفيما يمكن أن تراه؟ الحقيقة أننا نرى كل شيء، لكننا لا ندرك حقيقة ما نراه، أو ربما نحن لا نهتم بفهم ما نراه، ففعل النظر الذي نؤديه أوتوماتيكيا لأننا اعتدنا القيام به أنسانا أن ما نراه يستحق منا الانتباه إليه قليلا وفهم أبعاده وأدق تفاصيله.
من المعارض المنعقدة حاليا في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، التي تصور لقطات عفوية قد يراها الإنسان يوميا لكنه لا ينتبه إليها معرض بعنوان “أكثر مما يمكن أن تراه عيناك”، وفيه أعمال لفنانين من عشر دول عربية هي الجزائر، مصر، العراق، الأردن، المغرب، عمان، فلسطين، تونس، المملكة العربية السعودية، واليمن.
والأعمال المعروضة في مجملها مختصة في التصوير الفوتوغرافي المعاصر للقطات من العالم العربي يستعرضها خمسة عشر مصورًا بعضهم مقيم في دول المنطقة وآخرون في المهجر، ممن يجيدون استخدام التصوير الصحافي والتصوير الفوتوغرافي للفنون الجميلة، وتوفر أعمالهم المتنوعة لقاء حميميا وديناميكيا يمكن من خلاله رؤية العالم العربي من زوايا مختلفة، مما يلقي الضوء على التجربة الحية لعملية التطور السريعة في بعض المدن والعواصم العربية ويأخذ المشاهدين إلى أماكن جديدة وغير متوقعة، ويعرض لهم صورا تنتصر للمرأة العربية التي لا زالت تعاني من التمييز على أساس جندري وتمنع من أبسط حقوق الحياة اليومية البسيطة.
ويقول البيان الصحافي المصاحب للمعرض الذي ينعقد من الثالث من يونيو الماضي حتى الواحد والعشرين من أكتوبر المقبل، إن “المعرض يستعرض بعض الأصوات الأكثر إثارة لجيل من الفنانين والمصورين الذين يتخطون الحدود الجمالية الضيّقة والتقليدية ويتحدون ما نعرفه وكيف نراه، من خلال سرد قصص بالكثير من التجريب وبوسائط جديدة، ويسعون من خلال عملهم إلى تمييز الحاضر وتخيّل المستقبل المحتمل، واستكشاف مفاهيم المكان والهوية والجسد والبيئة وثقافة الشباب والسياسة وغير ذلك. لعالم هو أكثر بكثير مما يبدو عليه في الواقع”.
والمعرض منظم بالشراكة مع مجلة “تريب”، وهي مطبوعة ومنصة غير ربحية تركز على توثيق أعمال التصوير الفوتوغرافي والأفلام والفيديو من العالم العربي. وعرضت المجلة أعمال جميع الفنانين المشاركين في العرض.
والفنانون المشاركون في المعرض هم محمد الفرج، إيمان علي، عمرو التميمي، زياد بن رمضان، إيمان جميل، فرح فوده، رولا حلواني، ياسمين حاتمي، سمر حزبون، أمير حازم، محمد كيليتو، سيف كوسماتي، فتحي الصحراوي، نجلاء سعيد، إسماعيل زيدي.
ونستعرض في هذا المقال جزءا من أعمال الفنانين المشاركين، حسب المعلومات المتاحة عنهم وبناء على أعمالهم المعروضة والتي يوفر الموقع الإلكتروني لمعهد الشرق الأوسط صورا عنها.
يشارك الفنان السعودي محمد الفراج بعمل فني بعنوان “حراس الواحة 2021″، وفيه يواصل الشاب السعودي المتأثر بجمال واحات المملكة وخصائص الحياة فيها تنمية اهتمامه بممارسات فنية وثقافية متعددة ترصد الحياة في الواحة من خلال صناعة الأفلام والفيديوهات والتصوير والتركيب والكتابة.
يقدم لنا الفراج صورة متخيلة ومصغّرة عن عالم الواحة، عالم مليء بالقصص والتوترات، عالم يتأرجح بين التعلّق بالجذور والانتماء إلى الهوية والتقاليد الاجتماعية وبين سعيه نحو الحداثة ومجاراة وتيرة التقدم السريعة على حساب الواحة وديمومتها. ويستلهم الفنان أعماله من الناس والأرض والخيال، محاولا استكشاف العلاقة بين الشكل والمفهوم من خلال الصور المحررة.
يستخدم الفراج ويعيد استخدام المواد الموجودة في محافظة الأحساء الواقعة في المنطقة الشرقية للسعودية والأماكن الأخرى التي يزورها، ويجمعها مع العناصر الروحية والمادية لإنشاء أعمال مشحونة بالذاكرة والشعر والخيال والمعرفة، ولتكون أمثلة للتعايش بين البشر والطبيعة والكائنات الحية الأخرى.
يستكشف عمل “حراس الواحة” التحلل والانحلال الذي يؤثر على العلاقات بين هذه العناصر، مع الاعتقاد بأن الخلاص دائمًا في أيدينا نحن البشر. فنحن من نقود الواحة نحو ازدهارها أو هلاكها، ونحن من نحمي البيئة الأم ونبعث فيها الحياة أو نخنقها بسمومنا.
◙ إنها "لالالاند" اليمني عمر التميمي الأولى
وتشارك العمانية إيمان علي بعملين أحدهما بعنوان “صيلات، 2016″، والآخر دون عنوان، وتجمع فيهما بين التصوير الفوتوغرافي والنصوص المكتوبة والصوت والتركيب، وتوظف فيهما الأيديولوجيات الجندرية والاجتماعية والسياسية للتشكيك في الثقافة والمجتمعات والتمثلات النسائية الخليجية المعقدة في عدة جوانب منها.
دمجت الفنانة ممارستها للنقد الاجتماعي وملاحظتها للحياة اليومية واستقصاء محطات مهمة من تاريخ دول الخليج والعالم العربي وشرق أفريقيا، للخروج بصورها الفوتوغرافية من قيود المجتمع الخليجي والعربي، واستعراض جسد المرأة دونما إثارة ومبالغة، وتظهرها وكأنها تولي ظهرها لكل القيود المجتمعية.
ومن خلال صورها ذات النظرة السينمائية، تكشف الفنانة العمانية عن المعايير التي لا توصف لمجتمعنا وتدعو المشاهدين إلى التفكير في الحدود والأنظمة الأساسية والاجتماعية التي تحكم حياتنا.
ويحضر الفنان اليمني عمرو التميمي بعملين هما “لالالاندد 1، 2013″، و”لالالاند 2، 2014″، وهما صورتان فوتوغرافيتان مع تركيب، تلقيان نظرة عامة وفوقية على اليمن بحضارته ومعماره وتفاصيل البنايات الشاهقة فيه، مع تركيب تخيلي للغيوم العابرة على سماء اليمن.
ويتميز أسلوب الفنان بمحاولات تعبيره عن النفس بأساليب سريالية ومعاصرة. وفي بلد غالبا ما يجد فيه الفنانون صعوبة في اختراق حاجز التقاليد، والحواجز الأمنية المشددة التي فرضتها الحرب على اليمنيين، استوحى التميمي الإلهام من العالم من حوله، وهو يستخدم الفن كمهرب ليوصل مشاعره وأفكاره الداخلية إلى الناس في اليمن وبقية العالم.
الصور معاصرة ومجددة في توثيقها للأمكنة والشخوص تقدم للمتلقي أكثر مما يمكن أن يدركه عقله
ويقول الفنان إنه يطمح إلى تصوير وعرض المراحل المختلفة لمساره الحياتي، وعكس أفكاره عبر تنقله في أجزاء كثيرة من العالم. لذلك انتقل إلى لندن منذ عام 2015 ليواصل رحلته ويكتشف هويته الفنية والشخصية في مكان بعيد عن المنزل والأسرة وضوابط العادات والتقاليد.
الفنانة الأردنية فرح فوده تشارك بعملين بعنوان “لأنني أبكي لا يعني أنني قوي”، وفيهما تهتم الباحثة المولودة في نيجيريا بتأثيرات صور الماضي والحاضر على تصورنا للواقع. فالفنانة التي ولدت وترعرعت في نيجيريا لأبوين أردنيين فلسطينيين من الجيل الثاني، كانت تتنقل باستمرار بين عوالم متناقضة، وتدرك تمامًا الفرق بين الإدراك والواقع في وسائل الإعلام، لذلك هي تحاول أن تصور مشاهد تستفز المشاهد لإدراك الواقع المصور وفهمه.
والفنانة تقيم حاليا في عمان وتنجز أعمالا تدرس فيها تأثير الصور على اتجاهات السفر والسلوك البشري. وهي تعتقد أنه من المهم التحقيق دوما في ما وصلنا من أكاذيب وتحريفات الماضي من أجل فهم أين نحن اليوم، وإلى أين يمكننا الذهاب من هنا، فمن لا يعرف ماضيه ويدرك حقائقه لن يدرك كيف يرسم حاضره ولن يعلم عن مستقبله شيئا.
أما الفنانة الفلسطينية رولا حلواني فتشارك بلوحة دون عنوان، لوحة تبحث في خصوصيات حياة الأجيال الفلسطينية في القدس، وتعايشها اليومي مع الجدار الفاصل والمستقبل الضبابي الذي يكاد لا يختلف كثيرا عن حاضر الفلسطينيين.
والفنانة تهتم منذ بداية مسيرتها الفنية بتسجيل صعوبات العيش في ظل الصراع السياسي طويل الأمد بين إسرائيل وفلسطين. وتلتقط أعمالها العديد من جوانب هذا الواقع، من اللحظات المملة لمحاولة أداء المهام اليومية في ظل قيود الاحتلال العسكري إلى الحصار العنيف الذي يحول الأحياء والبلدات والمدن الفلسطينية إلى مناطق حرب بين عشية وضحاها.
وبعد عدة سنوات من تصويرها الصور الصارخة التي تحدد الحياة اليومية للفلسطينيين، ركزت حلواني بشكل متزايد على الآثار المكانية للاحتلال من خلال توثيق البيئات والهياكل المبنية التي تعمل كإحدى آلياته المركزية، وفي حين قد تبدو صورها للمشاهد العادي مجرد صور لمدن فلسطينية من فوق، بإمكان متأملها أن يلحظ التفاصيل الدقيقة والوجوه المنتشرة هنا وهناك في خلفية الصورة، مما يجعلها مناظر واقعية عميقة تراوح بين التصوير الفوتوغرافي والتركيب البصري لتظهر فلسطين وكأنها رحلة حالمة تتغير ملامحها كل يوم فلا يذكرها أي جيل كما يذكرها الآخر.
وتشارك الفلسطينية سمر حزبون بأربع صور هي الأخرى دون عنوان. حيث ترصد عدسة المصورة مظاهر الحياة الروتينية التي يمكن أن يعيشها أي شخص في الحياة، تبرز أهميتها في الحالة الخاصة بكل شخصية مصورة، التي تبوح حركاتها ونظراتها بحكاياتها وبآلامها واضطراباتها النفسية وتأثير العزلة والانعزال عليها.
◙ الآخر كما صوره العراقي أمير حازم
وسمر حزبون فنانة تسافر في أعماق روحها لاستكشاف حالة الإنسان من خلال التصوير الفوتوغرافي، وتسعى إلى تسليط الضوء على المجتمعات والأفراد المهمشين في الشرق الأوسط. وتدور أغلب أعمال الفنانة حول الصمت والعنف القائم على النوع الاجتماعي.
من جانبه، يعرض المصور العراقي أمير حازم سلسلة تحت عنوان “احتجاجات بغداد” وهي سلسلة مكونة من أربع صور (بعد قنابل الغاز، آخر، الفوضى، لهب مزدوج)، وهي صور سريالية بالأبيض والأسود – كما هي أغلب صور الفنان – تقدم نظرته الخاصة لاحتجاجات العراق ولقطات نادرة تعكس حالات إنسانية وأحاسيس تستشعر عمق اللحظة التاريخية لشعب منتفض في وجه الظلم والفساد.
أمير حازم يعرف بالتقاطه صورا بالأبيض والأسود واشتغاله على ثنائية الضوء والظل. مع ذلك، غالبًا ما يختبر الألوان النابضة بالحياة، ويستكشف سرديات ملاحظاته وتجاربه المعيشية في بغداد بعد عام 2003، بالإضافة إلى اهتمامه بالثقافة الحضرية المحلية، وهشاشة الإنسان، والتاريخ الاجتماعي والمناظر الطبيعية للعراق، كل ذلك مع لمسة من الغموض الكئيب.
ومن تونس يشارك الفنان زياد بن رمضان، هو الآخر بأربع صور بالأبيض والأسود، فيها تصوير حي للحياة، للحظات الألم والضحك والمشقة. ويمزج فيها المصور بين أنواع متعددة من التصوير ليروي قصة أكثر اكتمالاً؛ ويصور أمكنة لا يكون فيها الأشخاص ضحايا، ولكنهم أشخاص يبحثون عن استمرارية العيش وسط ظروف بيئية صعبة ومربكة.
وتعرض المصرية نجلاء سعيد صورتين بعنوان “أبدا.. كثيرا 1 و2″، وفيهما ملامح للعلاقة بين الإناث مع إسقاطها على الحياة اليومية للمجتمع. والفنانة التي ولدت وترعرعت في القاهرة، تصور العلاقة الحميمة للقرابة الأنثوية. وتتعمق أعمالها في الجوانب الحميمة والمغفلة من القاهرة، وتسلط الضوء على الديناميكيات الأساسية التي تلعبها داخل الهيكل المعقد لمجتمعها. يوجه عمل سعيد انتباهنا إلى مفاهيم الهوية والأنوثة وما هو مسموح ومرفوض من المجتمع المصري و”الذكور” المصريين الذين قد لا يروق لهم ركوب النساء على الدراجات واستمتاعهن كما يفعل أقرانهن من الرجال.
◙ فوضى، هكذا رأى أمير حازم احتجاجات العراق
ويشارك المصور المغربي إسماعيل زايدي بصورة بعنوان “أمل”، تصور لحظات حلم وردي لا يمكن التعمق في وصفه، فهي صورة لامرأة محاطة بثوبها الوردي المتطاير، لكنها ربما تعكس أمل الفنان، فهو معروف باستخدام كاميرته للتعبير عن منظوره الداخلي بأسلوب تجريدي وبسيط. ويتأثر عمل زايدي إلى حد كبير بعائلته، وغالبًا ما يعرض أعمال زايدي أشقاؤه، الذين يعتبرهم أساسيين في تطوير مشاريعه. وفي “أمل” تحضر شقيقته فاطمة الزهراء، لتكون بطلة الصورة. ويصف الفنان صوره بأنها تعبر عن وجهة نظر داخلية حول مواضيع لا يمكن التعبير عنها بالكلمات.
و”أمل”، وفق تقديم الزايدي لها، هي لوحة تصور شقيقته كعارضة أزياء وإسهامات والدته كمصممة أزياء، لإظهار حب العائلة خلال فترة الإغلاق الصعبة لوباء كوفيد – 19.
تصوير زايدي مستوحى من منزل طفولته في مراكش، وملاحظته للنساء في الملابس التقليدية المغربية، مثل الجلابة. وتعيد جميع مشاريعه الاتصال بثقافته وبالحياة اليومية في شوارع المغرب.
كل الأعمال المعروضة، هي صور تنقل المشاهد من مكان إلى آخر، من شرق الأرض إلى غربها ومن شمالها نحو جنوبها، صور تسافر به في عمق الصحراء، وفي أعالي الجبال وربما في أزقة وشوارع تشبه تلك المنتشرة في أغلب الدول العربية. صور بعضها مركب وملتقط عن سابق إصرار وترصد وبعضها تلقائي التقطته عين المصور الفوتوغرافي لتقرر توثيقه ونقله إلى الجمهور.
وإن كانت هذه الصور، معاصرة ومجددة في طريقة توثيقها الفوتوغرافي للأمكنة والشخوص، ولكنها لا تقدم بالضرورة للمتلقي أكثر مما يمكن أن تراه عيناه وإنما أكثر مما يمكن أن يدركه عقله، فغوصنا في اليومي ومشاكله التي لا تنتهي قد تقلص من حساسيتنا البصرية وبالتالي من إدراكنا للتفاصيل وللجمال والقبح من حولنا، وتجعلنا غير قادرين على الانتباه لما بعد الصورة التي تلتقطها عدسات أعيننا بانتظام. لذلك وكما تقول الروائية هيلين كيلر في كتاب لو أبصرت ثلاثة أيام “استفيدوا من عيونكم كما لو كنتم مهددين غدا بفقد هذه النعمة… وإن النصح نفسه ينبغي تطبيقه على سائر الحواس”.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
حنان مبروك
صحافية تونسية
أعمال واقعية تبحث في أعماق أمكنة وشخوص ومشكلات جندرية من الدول العربية.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
حارس الواحة، صورة محمد الفراج
يقدم الفنانون العرب المعاصرون تجارب تشكيلية وبصرية ربما لا تثير انتباه الكثيرين في منطقتنا لكنها تجذب الغرب نحوها، فنرى مؤسسات أميركية وأوروبية تخصص معارض طويلة المدى لتحتفي بهذه التجارب خاصة إن كانت جماعية، وتضفي عليها هالة من الأهمية والعمق قد ترتقي بالفعل إلى قيمة الأعمال المعروضة، وأحيانا قد يكون فيها من المبالغة الشيء القليل أو حتى الكثير.
هل فكرت يوما فيما تراه عيناك؟ وفيما يمكن أن تراه؟ الحقيقة أننا نرى كل شيء، لكننا لا ندرك حقيقة ما نراه، أو ربما نحن لا نهتم بفهم ما نراه، ففعل النظر الذي نؤديه أوتوماتيكيا لأننا اعتدنا القيام به أنسانا أن ما نراه يستحق منا الانتباه إليه قليلا وفهم أبعاده وأدق تفاصيله.
من المعارض المنعقدة حاليا في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، التي تصور لقطات عفوية قد يراها الإنسان يوميا لكنه لا ينتبه إليها معرض بعنوان “أكثر مما يمكن أن تراه عيناك”، وفيه أعمال لفنانين من عشر دول عربية هي الجزائر، مصر، العراق، الأردن، المغرب، عمان، فلسطين، تونس، المملكة العربية السعودية، واليمن.
والأعمال المعروضة في مجملها مختصة في التصوير الفوتوغرافي المعاصر للقطات من العالم العربي يستعرضها خمسة عشر مصورًا بعضهم مقيم في دول المنطقة وآخرون في المهجر، ممن يجيدون استخدام التصوير الصحافي والتصوير الفوتوغرافي للفنون الجميلة، وتوفر أعمالهم المتنوعة لقاء حميميا وديناميكيا يمكن من خلاله رؤية العالم العربي من زوايا مختلفة، مما يلقي الضوء على التجربة الحية لعملية التطور السريعة في بعض المدن والعواصم العربية ويأخذ المشاهدين إلى أماكن جديدة وغير متوقعة، ويعرض لهم صورا تنتصر للمرأة العربية التي لا زالت تعاني من التمييز على أساس جندري وتمنع من أبسط حقوق الحياة اليومية البسيطة.
ويقول البيان الصحافي المصاحب للمعرض الذي ينعقد من الثالث من يونيو الماضي حتى الواحد والعشرين من أكتوبر المقبل، إن “المعرض يستعرض بعض الأصوات الأكثر إثارة لجيل من الفنانين والمصورين الذين يتخطون الحدود الجمالية الضيّقة والتقليدية ويتحدون ما نعرفه وكيف نراه، من خلال سرد قصص بالكثير من التجريب وبوسائط جديدة، ويسعون من خلال عملهم إلى تمييز الحاضر وتخيّل المستقبل المحتمل، واستكشاف مفاهيم المكان والهوية والجسد والبيئة وثقافة الشباب والسياسة وغير ذلك. لعالم هو أكثر بكثير مما يبدو عليه في الواقع”.
والمعرض منظم بالشراكة مع مجلة “تريب”، وهي مطبوعة ومنصة غير ربحية تركز على توثيق أعمال التصوير الفوتوغرافي والأفلام والفيديو من العالم العربي. وعرضت المجلة أعمال جميع الفنانين المشاركين في العرض.
والفنانون المشاركون في المعرض هم محمد الفرج، إيمان علي، عمرو التميمي، زياد بن رمضان، إيمان جميل، فرح فوده، رولا حلواني، ياسمين حاتمي، سمر حزبون، أمير حازم، محمد كيليتو، سيف كوسماتي، فتحي الصحراوي، نجلاء سعيد، إسماعيل زيدي.
ونستعرض في هذا المقال جزءا من أعمال الفنانين المشاركين، حسب المعلومات المتاحة عنهم وبناء على أعمالهم المعروضة والتي يوفر الموقع الإلكتروني لمعهد الشرق الأوسط صورا عنها.
يشارك الفنان السعودي محمد الفراج بعمل فني بعنوان “حراس الواحة 2021″، وفيه يواصل الشاب السعودي المتأثر بجمال واحات المملكة وخصائص الحياة فيها تنمية اهتمامه بممارسات فنية وثقافية متعددة ترصد الحياة في الواحة من خلال صناعة الأفلام والفيديوهات والتصوير والتركيب والكتابة.
يقدم لنا الفراج صورة متخيلة ومصغّرة عن عالم الواحة، عالم مليء بالقصص والتوترات، عالم يتأرجح بين التعلّق بالجذور والانتماء إلى الهوية والتقاليد الاجتماعية وبين سعيه نحو الحداثة ومجاراة وتيرة التقدم السريعة على حساب الواحة وديمومتها. ويستلهم الفنان أعماله من الناس والأرض والخيال، محاولا استكشاف العلاقة بين الشكل والمفهوم من خلال الصور المحررة.
يستخدم الفراج ويعيد استخدام المواد الموجودة في محافظة الأحساء الواقعة في المنطقة الشرقية للسعودية والأماكن الأخرى التي يزورها، ويجمعها مع العناصر الروحية والمادية لإنشاء أعمال مشحونة بالذاكرة والشعر والخيال والمعرفة، ولتكون أمثلة للتعايش بين البشر والطبيعة والكائنات الحية الأخرى.
يستكشف عمل “حراس الواحة” التحلل والانحلال الذي يؤثر على العلاقات بين هذه العناصر، مع الاعتقاد بأن الخلاص دائمًا في أيدينا نحن البشر. فنحن من نقود الواحة نحو ازدهارها أو هلاكها، ونحن من نحمي البيئة الأم ونبعث فيها الحياة أو نخنقها بسمومنا.
◙ إنها "لالالاند" اليمني عمر التميمي الأولى
وتشارك العمانية إيمان علي بعملين أحدهما بعنوان “صيلات، 2016″، والآخر دون عنوان، وتجمع فيهما بين التصوير الفوتوغرافي والنصوص المكتوبة والصوت والتركيب، وتوظف فيهما الأيديولوجيات الجندرية والاجتماعية والسياسية للتشكيك في الثقافة والمجتمعات والتمثلات النسائية الخليجية المعقدة في عدة جوانب منها.
دمجت الفنانة ممارستها للنقد الاجتماعي وملاحظتها للحياة اليومية واستقصاء محطات مهمة من تاريخ دول الخليج والعالم العربي وشرق أفريقيا، للخروج بصورها الفوتوغرافية من قيود المجتمع الخليجي والعربي، واستعراض جسد المرأة دونما إثارة ومبالغة، وتظهرها وكأنها تولي ظهرها لكل القيود المجتمعية.
ومن خلال صورها ذات النظرة السينمائية، تكشف الفنانة العمانية عن المعايير التي لا توصف لمجتمعنا وتدعو المشاهدين إلى التفكير في الحدود والأنظمة الأساسية والاجتماعية التي تحكم حياتنا.
ويحضر الفنان اليمني عمرو التميمي بعملين هما “لالالاندد 1، 2013″، و”لالالاند 2، 2014″، وهما صورتان فوتوغرافيتان مع تركيب، تلقيان نظرة عامة وفوقية على اليمن بحضارته ومعماره وتفاصيل البنايات الشاهقة فيه، مع تركيب تخيلي للغيوم العابرة على سماء اليمن.
ويتميز أسلوب الفنان بمحاولات تعبيره عن النفس بأساليب سريالية ومعاصرة. وفي بلد غالبا ما يجد فيه الفنانون صعوبة في اختراق حاجز التقاليد، والحواجز الأمنية المشددة التي فرضتها الحرب على اليمنيين، استوحى التميمي الإلهام من العالم من حوله، وهو يستخدم الفن كمهرب ليوصل مشاعره وأفكاره الداخلية إلى الناس في اليمن وبقية العالم.
الصور معاصرة ومجددة في توثيقها للأمكنة والشخوص تقدم للمتلقي أكثر مما يمكن أن يدركه عقله
ويقول الفنان إنه يطمح إلى تصوير وعرض المراحل المختلفة لمساره الحياتي، وعكس أفكاره عبر تنقله في أجزاء كثيرة من العالم. لذلك انتقل إلى لندن منذ عام 2015 ليواصل رحلته ويكتشف هويته الفنية والشخصية في مكان بعيد عن المنزل والأسرة وضوابط العادات والتقاليد.
الفنانة الأردنية فرح فوده تشارك بعملين بعنوان “لأنني أبكي لا يعني أنني قوي”، وفيهما تهتم الباحثة المولودة في نيجيريا بتأثيرات صور الماضي والحاضر على تصورنا للواقع. فالفنانة التي ولدت وترعرعت في نيجيريا لأبوين أردنيين فلسطينيين من الجيل الثاني، كانت تتنقل باستمرار بين عوالم متناقضة، وتدرك تمامًا الفرق بين الإدراك والواقع في وسائل الإعلام، لذلك هي تحاول أن تصور مشاهد تستفز المشاهد لإدراك الواقع المصور وفهمه.
والفنانة تقيم حاليا في عمان وتنجز أعمالا تدرس فيها تأثير الصور على اتجاهات السفر والسلوك البشري. وهي تعتقد أنه من المهم التحقيق دوما في ما وصلنا من أكاذيب وتحريفات الماضي من أجل فهم أين نحن اليوم، وإلى أين يمكننا الذهاب من هنا، فمن لا يعرف ماضيه ويدرك حقائقه لن يدرك كيف يرسم حاضره ولن يعلم عن مستقبله شيئا.
أما الفنانة الفلسطينية رولا حلواني فتشارك بلوحة دون عنوان، لوحة تبحث في خصوصيات حياة الأجيال الفلسطينية في القدس، وتعايشها اليومي مع الجدار الفاصل والمستقبل الضبابي الذي يكاد لا يختلف كثيرا عن حاضر الفلسطينيين.
والفنانة تهتم منذ بداية مسيرتها الفنية بتسجيل صعوبات العيش في ظل الصراع السياسي طويل الأمد بين إسرائيل وفلسطين. وتلتقط أعمالها العديد من جوانب هذا الواقع، من اللحظات المملة لمحاولة أداء المهام اليومية في ظل قيود الاحتلال العسكري إلى الحصار العنيف الذي يحول الأحياء والبلدات والمدن الفلسطينية إلى مناطق حرب بين عشية وضحاها.
وبعد عدة سنوات من تصويرها الصور الصارخة التي تحدد الحياة اليومية للفلسطينيين، ركزت حلواني بشكل متزايد على الآثار المكانية للاحتلال من خلال توثيق البيئات والهياكل المبنية التي تعمل كإحدى آلياته المركزية، وفي حين قد تبدو صورها للمشاهد العادي مجرد صور لمدن فلسطينية من فوق، بإمكان متأملها أن يلحظ التفاصيل الدقيقة والوجوه المنتشرة هنا وهناك في خلفية الصورة، مما يجعلها مناظر واقعية عميقة تراوح بين التصوير الفوتوغرافي والتركيب البصري لتظهر فلسطين وكأنها رحلة حالمة تتغير ملامحها كل يوم فلا يذكرها أي جيل كما يذكرها الآخر.
وتشارك الفلسطينية سمر حزبون بأربع صور هي الأخرى دون عنوان. حيث ترصد عدسة المصورة مظاهر الحياة الروتينية التي يمكن أن يعيشها أي شخص في الحياة، تبرز أهميتها في الحالة الخاصة بكل شخصية مصورة، التي تبوح حركاتها ونظراتها بحكاياتها وبآلامها واضطراباتها النفسية وتأثير العزلة والانعزال عليها.
◙ الآخر كما صوره العراقي أمير حازم
وسمر حزبون فنانة تسافر في أعماق روحها لاستكشاف حالة الإنسان من خلال التصوير الفوتوغرافي، وتسعى إلى تسليط الضوء على المجتمعات والأفراد المهمشين في الشرق الأوسط. وتدور أغلب أعمال الفنانة حول الصمت والعنف القائم على النوع الاجتماعي.
من جانبه، يعرض المصور العراقي أمير حازم سلسلة تحت عنوان “احتجاجات بغداد” وهي سلسلة مكونة من أربع صور (بعد قنابل الغاز، آخر، الفوضى، لهب مزدوج)، وهي صور سريالية بالأبيض والأسود – كما هي أغلب صور الفنان – تقدم نظرته الخاصة لاحتجاجات العراق ولقطات نادرة تعكس حالات إنسانية وأحاسيس تستشعر عمق اللحظة التاريخية لشعب منتفض في وجه الظلم والفساد.
أمير حازم يعرف بالتقاطه صورا بالأبيض والأسود واشتغاله على ثنائية الضوء والظل. مع ذلك، غالبًا ما يختبر الألوان النابضة بالحياة، ويستكشف سرديات ملاحظاته وتجاربه المعيشية في بغداد بعد عام 2003، بالإضافة إلى اهتمامه بالثقافة الحضرية المحلية، وهشاشة الإنسان، والتاريخ الاجتماعي والمناظر الطبيعية للعراق، كل ذلك مع لمسة من الغموض الكئيب.
ومن تونس يشارك الفنان زياد بن رمضان، هو الآخر بأربع صور بالأبيض والأسود، فيها تصوير حي للحياة، للحظات الألم والضحك والمشقة. ويمزج فيها المصور بين أنواع متعددة من التصوير ليروي قصة أكثر اكتمالاً؛ ويصور أمكنة لا يكون فيها الأشخاص ضحايا، ولكنهم أشخاص يبحثون عن استمرارية العيش وسط ظروف بيئية صعبة ومربكة.
وتعرض المصرية نجلاء سعيد صورتين بعنوان “أبدا.. كثيرا 1 و2″، وفيهما ملامح للعلاقة بين الإناث مع إسقاطها على الحياة اليومية للمجتمع. والفنانة التي ولدت وترعرعت في القاهرة، تصور العلاقة الحميمة للقرابة الأنثوية. وتتعمق أعمالها في الجوانب الحميمة والمغفلة من القاهرة، وتسلط الضوء على الديناميكيات الأساسية التي تلعبها داخل الهيكل المعقد لمجتمعها. يوجه عمل سعيد انتباهنا إلى مفاهيم الهوية والأنوثة وما هو مسموح ومرفوض من المجتمع المصري و”الذكور” المصريين الذين قد لا يروق لهم ركوب النساء على الدراجات واستمتاعهن كما يفعل أقرانهن من الرجال.
◙ فوضى، هكذا رأى أمير حازم احتجاجات العراق
ويشارك المصور المغربي إسماعيل زايدي بصورة بعنوان “أمل”، تصور لحظات حلم وردي لا يمكن التعمق في وصفه، فهي صورة لامرأة محاطة بثوبها الوردي المتطاير، لكنها ربما تعكس أمل الفنان، فهو معروف باستخدام كاميرته للتعبير عن منظوره الداخلي بأسلوب تجريدي وبسيط. ويتأثر عمل زايدي إلى حد كبير بعائلته، وغالبًا ما يعرض أعمال زايدي أشقاؤه، الذين يعتبرهم أساسيين في تطوير مشاريعه. وفي “أمل” تحضر شقيقته فاطمة الزهراء، لتكون بطلة الصورة. ويصف الفنان صوره بأنها تعبر عن وجهة نظر داخلية حول مواضيع لا يمكن التعبير عنها بالكلمات.
و”أمل”، وفق تقديم الزايدي لها، هي لوحة تصور شقيقته كعارضة أزياء وإسهامات والدته كمصممة أزياء، لإظهار حب العائلة خلال فترة الإغلاق الصعبة لوباء كوفيد – 19.
تصوير زايدي مستوحى من منزل طفولته في مراكش، وملاحظته للنساء في الملابس التقليدية المغربية، مثل الجلابة. وتعيد جميع مشاريعه الاتصال بثقافته وبالحياة اليومية في شوارع المغرب.
كل الأعمال المعروضة، هي صور تنقل المشاهد من مكان إلى آخر، من شرق الأرض إلى غربها ومن شمالها نحو جنوبها، صور تسافر به في عمق الصحراء، وفي أعالي الجبال وربما في أزقة وشوارع تشبه تلك المنتشرة في أغلب الدول العربية. صور بعضها مركب وملتقط عن سابق إصرار وترصد وبعضها تلقائي التقطته عين المصور الفوتوغرافي لتقرر توثيقه ونقله إلى الجمهور.
وإن كانت هذه الصور، معاصرة ومجددة في طريقة توثيقها الفوتوغرافي للأمكنة والشخوص، ولكنها لا تقدم بالضرورة للمتلقي أكثر مما يمكن أن تراه عيناه وإنما أكثر مما يمكن أن يدركه عقله، فغوصنا في اليومي ومشاكله التي لا تنتهي قد تقلص من حساسيتنا البصرية وبالتالي من إدراكنا للتفاصيل وللجمال والقبح من حولنا، وتجعلنا غير قادرين على الانتباه لما بعد الصورة التي تلتقطها عدسات أعيننا بانتظام. لذلك وكما تقول الروائية هيلين كيلر في كتاب لو أبصرت ثلاثة أيام “استفيدوا من عيونكم كما لو كنتم مهددين غدا بفقد هذه النعمة… وإن النصح نفسه ينبغي تطبيقه على سائر الحواس”.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
حنان مبروك
صحافية تونسية