عصام الصباح فنان في زمن لا يحتمل فكرة الاحتضان
"أنا غلطة".. عمل فلسفي مأخوذ بالقوة والسلطة.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
فنان مهووس بتجاربه
اختار الفنان العراقي – الأيرلندي عصام الصباح أن يعبر بريشته وألوانه وبمقطع فيديو عن مسيرته، لرحلته الإنسانية وتأثيرها في مساره الفني، والتي بدأها مع الغزو الأميركي للعراق ليكون مصيره بعدها دائم التقلب والتحولات التي يبحث فيها عن أمل يدافع به عن وجوده الإنساني والفني.
قدمت "غازوورك"، وهي مؤسسة غير ريعية نشأت سنة 1994 لدعم الفنون العالمية المعاصرة لاسيما المعتمدة على التقنيات المعاصرة والمفاهيم الشائكة المرتبطة بها، معرضا فرديا للفنان العراقي – الأيرلندي المعاصر عصام الصباح تحت عنوان “أنا غلطة”، أو ربما الأصح القول “أنا خطأ تقني” الذي سبق وأن نظمت النسخة الأولى منه في 2021 وقدمت نسخته الثانية سنة 2022.
“أنا غلطة” للفنان العراقي – الأيرلندي المقيم في بيلفاست عصام الصباح، هو حدث أكثر مما هو معرض فني قدمته مؤسسة “غازوورك” الراعية للفن المعاصر في لندن بالتعاون مع مؤسسات أخرى. وارتكز هذا الحدث على عرض فيلم فيديو أساسي لا يعتبر قصيرا لأنه تخطى العشرين دقيقة في حين أن أفلام التجهيز الفني لا تتخطى غالبا العشرة دقائق وعُرض الفيلم على شاشة كبيرة ومُقعّرة.
إضافة إلى ذلك حضرت في الصالة ثلاثة أفلام فرعية أخرى، إلى جانب مجموعة مجسّمات غرائبية معظمها تذكّر بما يراه المُشاهد في الفيلم ومنها رأس شبه إنسان وكأنه سقط صريعا من الأعلى، ومجسمات ضخمة لذباب يحط على أرض الصالة. وهناك أيضا منحوتات نُفّذت بطريقة النحت الديجيتالي.
عصام الصباح كان دوما مأخوذا بمواضيع مرتبطة بالقوة المفرطة والسلطة
ويمكن اعتبار هذا الفيلم وما أحاط به عملا فلسفيا معاصرا بكل معنى الكلمة. فهو لا يرتكز على الإبهام بل على الغموض الذي يدفع بذهن المُشاهد إلى العديد من الآفاق التي لا تخلو من المأساوية المجبولة بروح دعابة لاذعة لا دفء فيها. وهو لا يصور عيشا إنسانيا معهودا بنسخ مختلفة بقدر ما يقذف الناظر إلى احتمالات كينونة مستقبلية حلّقت على علوّ منخفض من الغنائية الحزينة المرتبطة ارتباطا وثيقا بما يعني أن تكون إنسانا محكوما بالموت.
ويذكر النص المرافق للمعرض أن الفنان كان دوما مأخوذا بمواضيع مرتبطة بالقوة المفرطة والسلطة. ويضيف أن عالم الفنان يرتكز على تجارب شخصية اختبرها أثناء الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 واضطرار عائلته إلى الرحيل عن بغداد.
أما ما يميز هذا العمل عن غيره من الأعمال ذات المغزى الفلسفي فهو أنه يطرح مبدأ الزوال النهائي وإن كان فعلا ما يريده الإنسان الحديث (شعوريا أو لاشعوريا أو الاثنين معا) حسب ما تدل عليه التوجهات العلمية لاسيما استيراد أسلحة بيولوجية ودس جراثيم قاتلة في المجتمعات وابتكار أسلحة نووية فتاكة إضافة إلى السعي المحموم نحو عالم يطيح بالإنسان على حساب كائنات الذكاء الاصطناعي، إذ أن بطل الفيديو بالرغم من كونه كائنا إنسانيا في الكثير من ملامحه غير أنه غير منسجم مع ذاته ودائم التكدر حتى قبل أن تتصاعد وتيرة التهديد الكامن في محيطه المباشر. قدره ومصيره دائم التقلب وكثير التحولات وغير مُلطف بآمال تعده بها بالماورائيات المُبلسمة لجراحه الحالية وغير واعدة له بحياة بعد موت تكون من ضمن إنسانيته، ولكن أفضل بكثير مما عرفه.
ويبدأ الفيديو بسرد سيرة بطل مُصمم ديجيتاليا ليشبه الفنان ويتحول بسبب محيطه العدائي إلى أزهار وحشرات وحيوانات هجينة كي يدافع عن نفسه، وتأتي أشكال تحولاته شبيهة إما بأشكال التهديد التي يواجهها في محيطه أو شبيهة بأوردة تدب فيها حياة غرائبية ومخيفة. أي أن البطل خلال الفيلم يتزود بقدرات خارقة تمكنه من مواجهة أخطار العالم المحيط ليصبح بدوره مخيفا مثلها وغريبا عن ذاته.
وكما يحدث في ألعاب الفيديو، التي هي المصدر الرئيسي الذي اعتمد عليه عصام الصباح لتشكيل عالمه الفني، تصبح الصفات الخارقة التي اكتسبها البطل إنساني الملامح، لاسيما تلك التي التصقت به كالصمغ السام الذي يتفاعل مع مسام الجلد مبدلا لونه وملمسه، وتلك التي غرزت وزرعت في جسده وكأننا في عملية جراحية أولية وغير مكتملة، تصبح تلك الصفات المُكتسبة هي القدر الضاغط الذي يشقق جسده ويزهق روحه في خلجات مخيفة تستمر وتخفت وتستعيد قوتها ثم تتضاعف وتتضاءل وتقوى حتى يصبح البطل شيئا فشيئا كائنا هجينا ومتعبا: لا هو زهرة ولا هو حشرة ولا هو إنسان بل مزيج أنتج كائنا سيليكونيا يتمدد ويتلوى نكاد نشتم منه رائحة البلاستيك المحروق.
البطل خلال الفيلم يتزود بقدرات خارقة تمكنه من مواجهة أخطار العالم المحيط ليصبح بدوره مخيفا مثلها وغريبا عن ذاته
وحين تحصل هذه التحولات تندثر أيّ أسباب أو أهداف قد يمكن أن نتصورها قد حركت بطل الفيديو. وما يبقى من كل الصراعات والمواجهات والتحولات هو كائن برّاق وهادئ يطوف في فضاء لانهائي وليّن يزيد من اختناقه لحظة بعد لحظة.
ويتساءل مُشاهد الفيديو إن كانت الأزهار والأغصان الدقيقة التي تنموا ببطء شاعري من داخل جسد البطل إلى خارجه إشارة إلى انتصار مّا للطبيعة وإلى ولادة عضوية تعيد الحياة إلى ما كانت عليها قبل أن تصيبها التشوهات التي بمعظمها من صنيعة الإنسان وطموحاته التكنولوجية.
غير أن هذا التساؤل لا يلبث أن يختفي ليظهر سؤال عند خواتيم الفيلم: هل سيذوب هذا البطل الغرائبي في الكُلّ المُتجانس ليكون مجرد “علقة” تكنولوجية مستوحشة وعنصرا مُؤلفا لعالم عدائي سيهدد حتما بطلا آخر سيأتي عقبه؟
ربما يريدنا الفنان عصام الصباح أن ندخل إلى ميوعة عالم لزج افتخرنا به لأننا صنعناه، واعتبرناه بالتالي تحت سلطتنا المطلقة ليناقضنا قائلا في بضع كلمات مكتوبة، هي الوحيدة المقروءة بوضوح خارج خزعبلات ارتجاج الشاشة في فيديو صامت إلا من مؤثرات صوتية ونوتات موسيقية قليلة، “العالم ينهار.. لم يعد هناك ما يمكن فعله..”، ولا تظهر هذه الكلمات إلا حين يوشك البطل الغنائي بكآبته والمأساوي بقدره وبما تبقى من ملامحه الإنسانية في لحظة سقوطه الأخيرة في عالم سيليكوني لا يخضع إلى اعتبارات أخلاقية واضحة ولا إلى قوانين تنصف الخير وتدين الشر لتنهي أمره.