بابا وبابويه
Pope and Papacy - Pape et Papauté
البابا والبابوية
البابا Pope كلمة مشتقة أصلاً من اليونانية Pappas ومعناها الأب Father. وهي لقب كنسي يُطلق على الرئيس الأعلى للكنيسة الكاثوليكية الجامعة (الرومانية الغربية). وقد أُطلقت كلمة «البابا» في تاريخ الكنيسة المبكِّر، على كل أسقف، ثم اقتصر هذا اللقب مع بداية القرن السادس الميلادي حتى اليوم، على أسقف رومة خاصة. كما يطلق أيضاً في الشرق على كرسي البطريركية الأرثوذكسية الاسكندرانية. وهو أسمى المناصب الكهنوتية حيث يوُصف بالألقاب التالية: مطران رومة، ممثل السيد المسيح، خليفة الرسول بطرس ـ هامة الرسل، بطريرك الغرب، الأسقف الأعلى للكنيسة الغربية، كبير أساقفة إيطالية، مخلص دولة الفاتيكان.
ومعظم الباباوات من أصل إيطالي تقريباً ولكن في عام 1978، أصبح جون بول الثاني (يوحنا بولس الثاني) أول بابا غير إيطالي منذ عام 1523، فقد ولد في بولندة، وهو البابا رقم 264 في سلسلة الباباوات في تاريخ الكنيسة. ويُنتخب البابا مدى الحياة، ويمكنه أن يستقيل ولكن لا يمكن أن يقال، وله حق العصمة في الأمور الدينية. ويوضح المجمع الفاتيكاني الأول والثاني أن سلطة البابا على الكنيسة جمعاء مرتبطة بوظيفته، وهذه السلطة لا تحجب سلطة الأساقفة ومهمته التوحيد والمراقبة. وعلى البابا التقيد بالحق الإلهي وبالنظم الأساسية للكنيسة.
البابوية Papacy
هي نظام الحكم الرئيسي للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، والبنية الأساسية لمعتقداتها الدينية. وقد اتخذت كنيسة رومة الرسولية مقراً رئيسياً لها.
وكان للسدة البابوية سلطة واسعة في الغرب في القرن الرابع الميلادي، وخصوصاً بعد أن تلاشت سلطة الأباطرة بعد غزو البرابرة. فكانت قرارات البابا تأخذ صيغة أحكام وتصبح مصدراً للتشريع الغربي، ومن أشهر باباوات هذه الحقبة يوليوس الأول (337-352) وداماسيوس الأول (366-384) وإنوسنت (إينوشنسيوس) الأول (401- 417). وفي الشرق بقيت للبابا منزلة مرموقة ليس بوصفه رئيساً للشطر الغربي من الكنيسة فحسب بل لكونه مرجعاً يلجأ إليه لإحقاق الحق وللاحتماء من عبث الأباطرة.
وقد اكتمل مفهوم السلطة البابوية كمسؤولية رعوية تجاه الكنيسة كلها، ترتكز على سلطة إلهية هي امتداد سلطة بطرس كبير الرسل، في أواسط القرن الخامس حين برز القديس لاون الكبير (440-461)، وقد دافع أساقفة رومة عن العقيدة المسيحية إبان الخلافات التي ثارت حول عقيدتي التثليث والتجسد ولاسيما في الشرق.
لمّا بسط الامبراطور البيزنطي جستنيان (يوستينيانوس) حكمه على جزء كبير من إيطالية وإفريقية الشمالية في القرن السادس أصبحت السدة البابوية لأول مرة تحت حكم الأباطرة البيزنطيين. وبرز الامبراطور جستنيان الذي أقر في تشريعه تقسيم الكنيسة إلى خمس بطريركيات [ر.البطريركية]، رومة التي تشمل الغرب كله والقسطنطينية والاسكندرية وأنطاكية والقدس.
وبدأ النفور بين البابوية والامبراطورية البيزنطية مع الامبراطور البيزنطي ليو (ليون) الإيسوري محارب الأيقونات، الذي اقتطع مناطق البلقان التابعة مباشرة لرومة وضمها إلى بطريركية القسطنطينية. ولمّا هدد اللومبارديون رومة وعجز البيزنطيون عن حمايتها استنجد البابا إستفانوس الثاني بملك الفرنجة الذي حرر البلاد ولم يعدها إلى البيزنطيين بل وهبها للبابا. وأشهر باباوات هذه الحقبة البابا غريغوريوس الكبير (590-604). وقد اعتلى كرسي رومة عدة باباوات من أصل شرقي خمسة منهم سوريون هم: يوحنا الخامس (685ـ686)، وسرجيوس الأول (687-701)، وسيسينيوس (708)، وقسطنطين (708-715)، وغريغوريوس الثالث (731-741).
كما زاد النفور بين البابوية والامبراطورية البيزنطية حين توج البابا لاون الثالث شارلمان امبراطوراً على الغرب عام 800، وأنذرت القطيعة السياسية بين الغرب والشرق بالقطيعة الدينية. وظلّت الوحدة الكنسية قائمة بين الشرق وكرسي رومة مدة، لكن تدخلات البابا في الشرق صارت نادرة. وآخر مجمع رسمي اشترك فيه البابا وموفدوه مع سائر البطاركة في الشرق هو مجمع القسطنطينية لعام (879-880) الذي تصالح فيه بطريرك القسطنطينية مع الكرسي الروماني واعترف فيه برئاسته العليا مع الإقرار بحق البطريركيات الشرقية في اتباع تقليدها الخاص. وبدأت العلاقات تتضاءل في القرن العاشر حتى انقطعت في القرن الحادي عشر رسمياً مع البطريرك كارولاريوس عام 1054. ومن أبرز باباوات رومة في القرن التاسع البابا نيقولا الأول (858-867) الذي قاوم سلطة رؤساء الأساقفة في الغرب ودخل في مواجهة مع البطريرك القسطنطيني فوطيوس.
ومع أواخر القرن التاسع ومطلع القرن العاشر عرفت البابوية عصراً مظلماً سمي العصر الحديدي فأصبح الكرسي البابوي ألعوبة بيد كبريات الأسر الإقطاعية الإيطالية، ثم وقع تحت سيطرة الأباطرة الألمان.
ولمّا اعتلى السدة البابوية غريغوريوس السابع (1073-1085)، توطدت معه المركزية البابوية، حيث فرض الكثير من الإصلاحات وأعلن سلطته العليا على الملوك والأباطرة وأخذ يقيلهم ويحل عصيانهم إذا خرجوا على طاعة الله، وبدا الباباوات الرؤساء الحقيقيين للمجتمع الغربي. وقد لمع في هذا العصر البابا إنوسنت الثالث (1198-1216)، الذي قامت في عهده الحملة الصليبية الرابعة بغزو القسطنطينية عام 1204، وبإنشاء دولة لاتينية على الأراضي البيزنطية، وتعيين بطاركة لاتين على الكرسي القسطنطيني فزاد التباعد بين الشرق والغرب واتخذ طابع العداء.
كما بلغت السلطة البابوية أوجها مع البابا بونيفاسيوس الثامن (1294-1303) وبعده مرّت في مراحل عصيبة. فمن عام 1309 إلى 1377 اضطر الباباوات إلى الإقامة في أفينيون في فرنسة بعيداً عن رومة، مما أدى إلى الانشقاق الغربي الكبير (1378-1417) فشهدت الكنيسة تنافساً داخلياً بين الكرادلة حول منصب البابوية لم يحسم إلا في مجمع كونستانس عام 1417. وخرجت البابوية من الأزمة ضعيفة معنوياً، فقام كثير من المفكرين ينقصون من سلطتها فتهيأ الجو للثورة التي فجرها مارتن لوثر[ر] عام 1517، فأخرجت عن طاعة البابا جزءاً كبيراً من الشعوب الأوربية [ر: الإصلاح الديني]. وأدى كل هذا فيما بعد إلى نشوب حرب الثلاثين سنة[ر] (1618-1648) بين أنصار الكاثوليكية والبروتستنتية[ر]، فانقسمت فيها ألمانية إلى نصفين شمالي بروتستنتي وجنوبي كاثوليكي. وفي عام 1648 عقد جميع الأطراف صلحاً سُمي بصلح وستفالية Westphalia تثبتت بموجبه مساواة البروتستنت مع الكاثوليك في الحقوق.
وقد عزز مجمع ترنت (1535-1563) Trent الذي قام بإصلاح الكنيسة الكاثوليكية من الداخل مكانة البابوية. فنظمت الدوائر البابوية على هيئة وزارات عرفت بالمجامع الرومانية لمساعدة البابا في إشرافه الدقيق على شؤون الكنيسة في مختلف المجالات وفي الأقطار كافة. وبدأ البابا بإرسال السفراء إلى مختلف الدول وأجرى الاتفاقيات مع الرؤساء والملوك لتنظيم أوضاع الكنيسة الكاثوليكية في بلادهم. وأدان النزعات القومية التي أرادت أن تحدّ من سلطة البابا، لمصلحة الملوك والأساقفة المحلّيين.
وعوضت الكنيسة الكاثوليكية ما خسرته في أوربة الغربية بامتدادها إلى العالم الجديد: أمريكة وإلى مناطق كثيرة من الشرق الأقصى وإفريقية السوداء، وأعاد جزءٌ من الشرقيين ارتباطهم بالكرسي الروماني، فامتدت رقعة السلطة البابوية إلى أنحاء العالم.
وعلى أثر قيام الأنظمة الجديدة في أوربة عقب الثورة الفرنسية وانفصال الدين عن الدولة تقلّص تدخل البابوية المباشر بالشؤون الزمنية. وفي عام 1870 استولى الإيطاليون على الممتلكات البابوية وعلى مدينة رومة التي صارت عاصمة إيطالية إثر توحيدها. واحتج البابا بيوس التاسع (1846-1878) وظل خلفاؤه معتصمين في قصر الفاتيكان في قطيعة مع الدولة الإيطالية إلى أن سويت الأمور عام 1929 في اتفاقية لاتران التي عقدت بين البابا بيوس الحادي عشر (1922-1939) وموسوليني. واعترف للكرسي الرسولي بالسيادة على حاضرة الفاتيكان [ر] وأصبحت له مكانة دولية. ورافق تراجع سلطة البابا من الناحية الزمنية ازدياد سلطته الروحية ونفوذه العالمي. فالمجمع الفاتيكاني الأول عدّ رئاسة البابا العليا وعصمته عقيدة إيمانية (1870) وأكمل المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) التعليم الكاثوليكي المتعلق بالسلطة العليا في الكنيسة بإقرار الجماعية الأسقفية، ومشاركة الأساقفة كافة أسقف رومة في مسؤولية الشؤون الكنسية.
وبعد تحفظ البابوية تجاه التطورات السياسية والفكرية والاجتماعية التي وسمت القرن التاسع عشر انفتحت على الأوضاع الجديدة مع البابا لاون الثالث عشر (1878-1903). وأخذت المبادرات للمطالبة بالعدالة الاجتماعية والسلام العالمي وحريات الشعوب ونزاهة البحث العلمي حتى في الشؤون الدينية. وكان للرسائل البابوية العامة التي نُشرت تأثير كبير في الأفكار والأنظمة وفي استعادة الكنيسة الكاثوليكية مكانتها في العالم المعاصر. وانفتحت البابوية على سائر المسيحيين في الحركة المسكونية، وعلى الديانات الكبرى كافة، فأسست دوائر خاصة للحوار مع غير الكاثوليك وغير المسيحيين. وقد رسخ المجمع الفاتيكاني الثاني هذا الانفتاح فأثبت أن تأثير البابوية لا يقتصر على العالم الغربي المسيحي فقط. فمعظم الدول لها تمثيل دبلوماسي لدى الفاتيكان وللكرسي الرسولي البابوي تمثيل لدى معظم الدول وفي الهيئات الدولية.
وتأتي زيارة البابا يوحنا بولس الثاني الذي اعتلى الكرسي البابوي عام 1978 إلى منطقة الشرق العربي (مصر والأردن ولبنان وفلسطين عام 2000 وسورية عام 2001) لتؤكد مكانة البابوية الروحية في العالم المعاصر بفضل دعوته إلى التسامح والتآخي بين الأديان وإلى المحبة والسلام والتعاون بين جميع الشعوب، ولتشكل فاتحة قرن جديد من عمر البشرية نحو عالم أكثر أمناً وسلاماً وازدهاراً. وقد عبر البابا يوحنا بولس الثاني عن ذلك في أثناء زيارته لدمشق بقوله: «أرضكم عزيزة على قلب المسيحيين، فعليها عرفت ديانتنا مراحل حيوية من نشأتها ومن نموها العقائدي، وهنا عاشت جماعات مسيحية عيش سلام وحسن جوار مع المسلمين على مدى قرون».
الشرع والتنظيم
ينتخب البابا مجمع الكرادلة الذي يلتئم في خلوة بعيداً عن التأثيرات الخارجية ويحظى الحبر الروماني بسلطته العليا حال قبوله بالانتخاب إن كان أسقفاً وإلا فحال تقبله السيامة الأسقفية. ويساعد البابا في إدارته العليا أمانة سر الدولة التي هي بمنزلة رئاسة مجلس الوزراء، ووزارة الخارجية والمجامع الرومانية التي هي بمنزلة الوزارات، وعدة أمانات. ويمثله لدى الدول سفراء معتمدون.
وفي التشريع الحالي يعين البابا أساقفة الكنيسة اللاتينية، أما الأساقفة الشرقيون الذين يخضعون لبطاركة من طائفتهم فينتخبهم المجمع البطريركي ويُعرض اسم المنتخب على البابا لإبداء موافقته.
يُمارس البابا بوساطة الدوائر الرومانية مراقبة دقيقة على الأبرشيات والرهبنات كلها ويُعنى بنشر الكنيسة في أقاليم الرسالات، ويشرف عليها بوساطة نوابه لتوطيد السلطة الأسقفية المحلية. ويحرص على نشر التعاليم الصحيحة للعقيدة والأخلاق في الأقطار كافة ويسن القوانين لتكون مرجعاً أعلى إزاء أحكام السلطات الكنسية المحلية.
ولا يحق لأحد عزل البابا عن منصبه، إنما يستطيع الحَبر الروماني نفسه أن يستعفي من منصبه، ويقتضي لصحة ذلك أن يكون الاستعفاء حراً ويعبر عنه بوضوح. وما من جهة مخولة أن تقبل الاستقالة أو ترفضها.
البابوية والمسيحيون غير الكاثوليك
رفضت الجماعات المسيحية الغربية الناشئة عن حركة الإصلاح الديني البروتستنتي [ر.البروتستنتية] البابوية والأسقفية بمعناها التقليدي، وثارت على الأوضاع القائمة وحمّلت البابوية مسؤوليتها.
أما الأنغليكان [ر.البروتستنتية] فقد حافظوا على البنية الأسقفية ورفضوا هيمنة البابوية على سائر الكنائس متذرعين بحريات الكنائس القومية، وموقفهم من البابوية شبيه بموقف الكنائس الأرثوذكسية[ر] التي انفصلت عن الكنيسة الكاثوليكية الجامعة في منتصف القرن الحادي عشر الميلادي لزعمها بتسلط النظام البابوي وانحراف البابوية عن الإيمان العقائدي المعروف في التقليد القديم، لذلك فهم لا يقبلون أي تدخل بابوي في حياتهم.
لكن هذه النظرة السلبية إلى البابوية التي كانت لدى غير الكاثوليك في عصر الإصلاح الديني قد تحولت إلى نظرة إيجابية، فمعظم المسيحيين يتوقون اليوم إلى الوحدة. وقد عقدت عدة مؤتمرات بشأن ذلك، تبعها عقد المَجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1964) الذي دعا إلى توحيد الكنيسة المسيحية في جميع أنحاء العالم، ويتابع مجلس الكنائس العالمي اليوم ومركزه جنيف ومجلس كنائس الشرق الأوسط ومركزه قبرص تحقيق هذا الهدف.
أغناطيوس ديك
Pope and Papacy - Pape et Papauté
البابا والبابوية
البابا Pope كلمة مشتقة أصلاً من اليونانية Pappas ومعناها الأب Father. وهي لقب كنسي يُطلق على الرئيس الأعلى للكنيسة الكاثوليكية الجامعة (الرومانية الغربية). وقد أُطلقت كلمة «البابا» في تاريخ الكنيسة المبكِّر، على كل أسقف، ثم اقتصر هذا اللقب مع بداية القرن السادس الميلادي حتى اليوم، على أسقف رومة خاصة. كما يطلق أيضاً في الشرق على كرسي البطريركية الأرثوذكسية الاسكندرانية. وهو أسمى المناصب الكهنوتية حيث يوُصف بالألقاب التالية: مطران رومة، ممثل السيد المسيح، خليفة الرسول بطرس ـ هامة الرسل، بطريرك الغرب، الأسقف الأعلى للكنيسة الغربية، كبير أساقفة إيطالية، مخلص دولة الفاتيكان.
ومعظم الباباوات من أصل إيطالي تقريباً ولكن في عام 1978، أصبح جون بول الثاني (يوحنا بولس الثاني) أول بابا غير إيطالي منذ عام 1523، فقد ولد في بولندة، وهو البابا رقم 264 في سلسلة الباباوات في تاريخ الكنيسة. ويُنتخب البابا مدى الحياة، ويمكنه أن يستقيل ولكن لا يمكن أن يقال، وله حق العصمة في الأمور الدينية. ويوضح المجمع الفاتيكاني الأول والثاني أن سلطة البابا على الكنيسة جمعاء مرتبطة بوظيفته، وهذه السلطة لا تحجب سلطة الأساقفة ومهمته التوحيد والمراقبة. وعلى البابا التقيد بالحق الإلهي وبالنظم الأساسية للكنيسة.
البابوية Papacy
هي نظام الحكم الرئيسي للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، والبنية الأساسية لمعتقداتها الدينية. وقد اتخذت كنيسة رومة الرسولية مقراً رئيسياً لها.
وكان للسدة البابوية سلطة واسعة في الغرب في القرن الرابع الميلادي، وخصوصاً بعد أن تلاشت سلطة الأباطرة بعد غزو البرابرة. فكانت قرارات البابا تأخذ صيغة أحكام وتصبح مصدراً للتشريع الغربي، ومن أشهر باباوات هذه الحقبة يوليوس الأول (337-352) وداماسيوس الأول (366-384) وإنوسنت (إينوشنسيوس) الأول (401- 417). وفي الشرق بقيت للبابا منزلة مرموقة ليس بوصفه رئيساً للشطر الغربي من الكنيسة فحسب بل لكونه مرجعاً يلجأ إليه لإحقاق الحق وللاحتماء من عبث الأباطرة.
وقد اكتمل مفهوم السلطة البابوية كمسؤولية رعوية تجاه الكنيسة كلها، ترتكز على سلطة إلهية هي امتداد سلطة بطرس كبير الرسل، في أواسط القرن الخامس حين برز القديس لاون الكبير (440-461)، وقد دافع أساقفة رومة عن العقيدة المسيحية إبان الخلافات التي ثارت حول عقيدتي التثليث والتجسد ولاسيما في الشرق.
لمّا بسط الامبراطور البيزنطي جستنيان (يوستينيانوس) حكمه على جزء كبير من إيطالية وإفريقية الشمالية في القرن السادس أصبحت السدة البابوية لأول مرة تحت حكم الأباطرة البيزنطيين. وبرز الامبراطور جستنيان الذي أقر في تشريعه تقسيم الكنيسة إلى خمس بطريركيات [ر.البطريركية]، رومة التي تشمل الغرب كله والقسطنطينية والاسكندرية وأنطاكية والقدس.
وبدأ النفور بين البابوية والامبراطورية البيزنطية مع الامبراطور البيزنطي ليو (ليون) الإيسوري محارب الأيقونات، الذي اقتطع مناطق البلقان التابعة مباشرة لرومة وضمها إلى بطريركية القسطنطينية. ولمّا هدد اللومبارديون رومة وعجز البيزنطيون عن حمايتها استنجد البابا إستفانوس الثاني بملك الفرنجة الذي حرر البلاد ولم يعدها إلى البيزنطيين بل وهبها للبابا. وأشهر باباوات هذه الحقبة البابا غريغوريوس الكبير (590-604). وقد اعتلى كرسي رومة عدة باباوات من أصل شرقي خمسة منهم سوريون هم: يوحنا الخامس (685ـ686)، وسرجيوس الأول (687-701)، وسيسينيوس (708)، وقسطنطين (708-715)، وغريغوريوس الثالث (731-741).
كما زاد النفور بين البابوية والامبراطورية البيزنطية حين توج البابا لاون الثالث شارلمان امبراطوراً على الغرب عام 800، وأنذرت القطيعة السياسية بين الغرب والشرق بالقطيعة الدينية. وظلّت الوحدة الكنسية قائمة بين الشرق وكرسي رومة مدة، لكن تدخلات البابا في الشرق صارت نادرة. وآخر مجمع رسمي اشترك فيه البابا وموفدوه مع سائر البطاركة في الشرق هو مجمع القسطنطينية لعام (879-880) الذي تصالح فيه بطريرك القسطنطينية مع الكرسي الروماني واعترف فيه برئاسته العليا مع الإقرار بحق البطريركيات الشرقية في اتباع تقليدها الخاص. وبدأت العلاقات تتضاءل في القرن العاشر حتى انقطعت في القرن الحادي عشر رسمياً مع البطريرك كارولاريوس عام 1054. ومن أبرز باباوات رومة في القرن التاسع البابا نيقولا الأول (858-867) الذي قاوم سلطة رؤساء الأساقفة في الغرب ودخل في مواجهة مع البطريرك القسطنطيني فوطيوس.
ومع أواخر القرن التاسع ومطلع القرن العاشر عرفت البابوية عصراً مظلماً سمي العصر الحديدي فأصبح الكرسي البابوي ألعوبة بيد كبريات الأسر الإقطاعية الإيطالية، ثم وقع تحت سيطرة الأباطرة الألمان.
ولمّا اعتلى السدة البابوية غريغوريوس السابع (1073-1085)، توطدت معه المركزية البابوية، حيث فرض الكثير من الإصلاحات وأعلن سلطته العليا على الملوك والأباطرة وأخذ يقيلهم ويحل عصيانهم إذا خرجوا على طاعة الله، وبدا الباباوات الرؤساء الحقيقيين للمجتمع الغربي. وقد لمع في هذا العصر البابا إنوسنت الثالث (1198-1216)، الذي قامت في عهده الحملة الصليبية الرابعة بغزو القسطنطينية عام 1204، وبإنشاء دولة لاتينية على الأراضي البيزنطية، وتعيين بطاركة لاتين على الكرسي القسطنطيني فزاد التباعد بين الشرق والغرب واتخذ طابع العداء.
كما بلغت السلطة البابوية أوجها مع البابا بونيفاسيوس الثامن (1294-1303) وبعده مرّت في مراحل عصيبة. فمن عام 1309 إلى 1377 اضطر الباباوات إلى الإقامة في أفينيون في فرنسة بعيداً عن رومة، مما أدى إلى الانشقاق الغربي الكبير (1378-1417) فشهدت الكنيسة تنافساً داخلياً بين الكرادلة حول منصب البابوية لم يحسم إلا في مجمع كونستانس عام 1417. وخرجت البابوية من الأزمة ضعيفة معنوياً، فقام كثير من المفكرين ينقصون من سلطتها فتهيأ الجو للثورة التي فجرها مارتن لوثر[ر] عام 1517، فأخرجت عن طاعة البابا جزءاً كبيراً من الشعوب الأوربية [ر: الإصلاح الديني]. وأدى كل هذا فيما بعد إلى نشوب حرب الثلاثين سنة[ر] (1618-1648) بين أنصار الكاثوليكية والبروتستنتية[ر]، فانقسمت فيها ألمانية إلى نصفين شمالي بروتستنتي وجنوبي كاثوليكي. وفي عام 1648 عقد جميع الأطراف صلحاً سُمي بصلح وستفالية Westphalia تثبتت بموجبه مساواة البروتستنت مع الكاثوليك في الحقوق.
وقد عزز مجمع ترنت (1535-1563) Trent الذي قام بإصلاح الكنيسة الكاثوليكية من الداخل مكانة البابوية. فنظمت الدوائر البابوية على هيئة وزارات عرفت بالمجامع الرومانية لمساعدة البابا في إشرافه الدقيق على شؤون الكنيسة في مختلف المجالات وفي الأقطار كافة. وبدأ البابا بإرسال السفراء إلى مختلف الدول وأجرى الاتفاقيات مع الرؤساء والملوك لتنظيم أوضاع الكنيسة الكاثوليكية في بلادهم. وأدان النزعات القومية التي أرادت أن تحدّ من سلطة البابا، لمصلحة الملوك والأساقفة المحلّيين.
وعوضت الكنيسة الكاثوليكية ما خسرته في أوربة الغربية بامتدادها إلى العالم الجديد: أمريكة وإلى مناطق كثيرة من الشرق الأقصى وإفريقية السوداء، وأعاد جزءٌ من الشرقيين ارتباطهم بالكرسي الروماني، فامتدت رقعة السلطة البابوية إلى أنحاء العالم.
وعلى أثر قيام الأنظمة الجديدة في أوربة عقب الثورة الفرنسية وانفصال الدين عن الدولة تقلّص تدخل البابوية المباشر بالشؤون الزمنية. وفي عام 1870 استولى الإيطاليون على الممتلكات البابوية وعلى مدينة رومة التي صارت عاصمة إيطالية إثر توحيدها. واحتج البابا بيوس التاسع (1846-1878) وظل خلفاؤه معتصمين في قصر الفاتيكان في قطيعة مع الدولة الإيطالية إلى أن سويت الأمور عام 1929 في اتفاقية لاتران التي عقدت بين البابا بيوس الحادي عشر (1922-1939) وموسوليني. واعترف للكرسي الرسولي بالسيادة على حاضرة الفاتيكان [ر] وأصبحت له مكانة دولية. ورافق تراجع سلطة البابا من الناحية الزمنية ازدياد سلطته الروحية ونفوذه العالمي. فالمجمع الفاتيكاني الأول عدّ رئاسة البابا العليا وعصمته عقيدة إيمانية (1870) وأكمل المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) التعليم الكاثوليكي المتعلق بالسلطة العليا في الكنيسة بإقرار الجماعية الأسقفية، ومشاركة الأساقفة كافة أسقف رومة في مسؤولية الشؤون الكنسية.
وبعد تحفظ البابوية تجاه التطورات السياسية والفكرية والاجتماعية التي وسمت القرن التاسع عشر انفتحت على الأوضاع الجديدة مع البابا لاون الثالث عشر (1878-1903). وأخذت المبادرات للمطالبة بالعدالة الاجتماعية والسلام العالمي وحريات الشعوب ونزاهة البحث العلمي حتى في الشؤون الدينية. وكان للرسائل البابوية العامة التي نُشرت تأثير كبير في الأفكار والأنظمة وفي استعادة الكنيسة الكاثوليكية مكانتها في العالم المعاصر. وانفتحت البابوية على سائر المسيحيين في الحركة المسكونية، وعلى الديانات الكبرى كافة، فأسست دوائر خاصة للحوار مع غير الكاثوليك وغير المسيحيين. وقد رسخ المجمع الفاتيكاني الثاني هذا الانفتاح فأثبت أن تأثير البابوية لا يقتصر على العالم الغربي المسيحي فقط. فمعظم الدول لها تمثيل دبلوماسي لدى الفاتيكان وللكرسي الرسولي البابوي تمثيل لدى معظم الدول وفي الهيئات الدولية.
وتأتي زيارة البابا يوحنا بولس الثاني الذي اعتلى الكرسي البابوي عام 1978 إلى منطقة الشرق العربي (مصر والأردن ولبنان وفلسطين عام 2000 وسورية عام 2001) لتؤكد مكانة البابوية الروحية في العالم المعاصر بفضل دعوته إلى التسامح والتآخي بين الأديان وإلى المحبة والسلام والتعاون بين جميع الشعوب، ولتشكل فاتحة قرن جديد من عمر البشرية نحو عالم أكثر أمناً وسلاماً وازدهاراً. وقد عبر البابا يوحنا بولس الثاني عن ذلك في أثناء زيارته لدمشق بقوله: «أرضكم عزيزة على قلب المسيحيين، فعليها عرفت ديانتنا مراحل حيوية من نشأتها ومن نموها العقائدي، وهنا عاشت جماعات مسيحية عيش سلام وحسن جوار مع المسلمين على مدى قرون».
الشرع والتنظيم
ينتخب البابا مجمع الكرادلة الذي يلتئم في خلوة بعيداً عن التأثيرات الخارجية ويحظى الحبر الروماني بسلطته العليا حال قبوله بالانتخاب إن كان أسقفاً وإلا فحال تقبله السيامة الأسقفية. ويساعد البابا في إدارته العليا أمانة سر الدولة التي هي بمنزلة رئاسة مجلس الوزراء، ووزارة الخارجية والمجامع الرومانية التي هي بمنزلة الوزارات، وعدة أمانات. ويمثله لدى الدول سفراء معتمدون.
وفي التشريع الحالي يعين البابا أساقفة الكنيسة اللاتينية، أما الأساقفة الشرقيون الذين يخضعون لبطاركة من طائفتهم فينتخبهم المجمع البطريركي ويُعرض اسم المنتخب على البابا لإبداء موافقته.
يُمارس البابا بوساطة الدوائر الرومانية مراقبة دقيقة على الأبرشيات والرهبنات كلها ويُعنى بنشر الكنيسة في أقاليم الرسالات، ويشرف عليها بوساطة نوابه لتوطيد السلطة الأسقفية المحلية. ويحرص على نشر التعاليم الصحيحة للعقيدة والأخلاق في الأقطار كافة ويسن القوانين لتكون مرجعاً أعلى إزاء أحكام السلطات الكنسية المحلية.
ولا يحق لأحد عزل البابا عن منصبه، إنما يستطيع الحَبر الروماني نفسه أن يستعفي من منصبه، ويقتضي لصحة ذلك أن يكون الاستعفاء حراً ويعبر عنه بوضوح. وما من جهة مخولة أن تقبل الاستقالة أو ترفضها.
البابوية والمسيحيون غير الكاثوليك
رفضت الجماعات المسيحية الغربية الناشئة عن حركة الإصلاح الديني البروتستنتي [ر.البروتستنتية] البابوية والأسقفية بمعناها التقليدي، وثارت على الأوضاع القائمة وحمّلت البابوية مسؤوليتها.
أما الأنغليكان [ر.البروتستنتية] فقد حافظوا على البنية الأسقفية ورفضوا هيمنة البابوية على سائر الكنائس متذرعين بحريات الكنائس القومية، وموقفهم من البابوية شبيه بموقف الكنائس الأرثوذكسية[ر] التي انفصلت عن الكنيسة الكاثوليكية الجامعة في منتصف القرن الحادي عشر الميلادي لزعمها بتسلط النظام البابوي وانحراف البابوية عن الإيمان العقائدي المعروف في التقليد القديم، لذلك فهم لا يقبلون أي تدخل بابوي في حياتهم.
لكن هذه النظرة السلبية إلى البابوية التي كانت لدى غير الكاثوليك في عصر الإصلاح الديني قد تحولت إلى نظرة إيجابية، فمعظم المسيحيين يتوقون اليوم إلى الوحدة. وقد عقدت عدة مؤتمرات بشأن ذلك، تبعها عقد المَجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1964) الذي دعا إلى توحيد الكنيسة المسيحية في جميع أنحاء العالم، ويتابع مجلس الكنائس العالمي اليوم ومركزه جنيف ومجلس كنائس الشرق الأوسط ومركزه قبرص تحقيق هذا الهدف.
أغناطيوس ديك