باروك (ادب)
Baroque - Baroque
الباروك
ظهر مصطلح الباروك Baroque للمرة الأولى في القرن السابع عشر في مهنة صياغة المجوهرات في البرتغال وأوربة عموماً، ثم صار يُشار به إلى كل عمل فني خرج عن المألوف أو كان كثير الزخرفة. وحمل المصطلح بعد ذلك مدلولاً سلبياً في مجالي الفن التشكيلي والعمارة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فكانت تطلق على لوحة أو شكل نحتي أو معماري صفة الباروك إذا كان الأثر خارجاً على القواعد الاتباعية (الكلاسيكية) أو ناتجاً عن انسياق الفنان لهواه ومزاجه. لكن النظرة السلبية سرعان ما تبدلت في القرن التاسع عشر حين قدّم الباحث الفني السويسري هاينريش فولفين (1864-1942) Heinrich Wolffin وجهة نظر جديدة حول الباروك على صعيد الفنون التشكيلية، وذلك في كتابه «النهضة والباروك» (1888) Renaissance und Barock، فالاتباعية «الكلاسيكية» الجديدة في فرنسة القرن السابع عشر وجدت في فنون الباروك زخرفة مبهرجة شاذة، في حين أن هذه الفنون بتعبيرها الجلي عن التناقضات الحادة في فكر إنسان ذلك العصر وسلوكه وذوقه، إنما تؤلف وحدة أسلوب أوربي يعكس نمط إنسان ما بعد عصر النهضة وموقفه من مستجدات عصره، بحيث تضيء الفنون والآداب بعضها بعضاً لتستكمل صورة الإنسان وتكوينه، مما يساعد على فهمه في سياق التطور التاريخي.
وتظهر في هذا المجال، ولاسيما فيما يتعلق بالفن، إشكالية جمع كل آثار فن القرن السابع عشر من عمارة وتصوير ونحت وامتدادها فيما بعد تحت تسمية واحدة «الباروك»، التي تعني الأسلوب ومدى علاقته بالاتباعية، كما تعني في الوقت نفسه المفهوم الفكري كنظام جديد، ولاسيما أنها آثار متباينة المظهر مثل أعمال الإيطاليين كرافادجو[ر] وبييتر دي كورتونه[ر]، وبرنيني[ر] وبورّوميني والفلمنكي روبنز[ر] والمصورين الهولنديين فرمير[ر] ورمبرانت[ر] والمصور الفرنسي بوسان[ر] والمصور الإسباني فيلاسكيز[ر] وغيرهم في أوربة وروسية والبرازيل. فإذا كانت أعمال هؤلاء الفنانين تشترك في أنها ظهرت في القرن السابع عشر، فإن عمل كل واحد منهم من حيث المنطلق الفكري والنتيجة الفنية، مختلف عن الآخر.
وقد حقق عصر الباروك في الفن الأوربي انكفاءً عن هدف التمثيل الموضوعي للأشياء الذي ساد عصر النهضة، واضعاً مفهوماً مختلفاً لمبادىء الفن (النسبة والعلاقة والفراغ)، وهو مفهوم يحمل طابعاً انفعالياً أخذ به الفنانون والمعماريون بغية تحريك مشاعر المشاهد في ما أبدعوه من أعمال تحمل خيالاً جامحاً وفصاحة في أداء الرقة الحسية والخداع البصري. فقد مزج الفنانون في زخرفة أسقف أبهاء القصور مثلاً العناصر المعمارية المجسمة والتماثيل والمشاهد المصورة والمنظور الخادع في العمل الواحد. كما استخدموا المواد المختلفة في السطوح المعمارية إلى جانب بعضها كالمرمر والبرونز والجص والخشب المذهّب حتى يحيلها الضوء الساقط عليها إلى بهاء ساحر تلبية لتطلعات الذوق الأرستقراطي الجديد.
تألق أسلوب الباروك في فن عمارة الكنائس والأديرة والقصور، كما ظهر في تنظيم الشوارع والساحات العامة، في المدن الأوربية وفي أمريكة اللاتينية. وقد اصطلح نقاد الفن على تقسيم عصر الباروك إلى ثلاث مراحل: المرحلة المبكرة والمرحلة العليا ثم المرحلة المتأخرة «الروكوكو» Rococo.
ويلاحظ أن فن الباروك قد جاء في البداية من إيطالية حيث عمد ميكيلانجلو[ر] في أعماله المعمارية والنحتية المتأخرة إلى تحطيم النسب الاتباعية لعصر النهضة الأوربي. ويعدّ ما حققه برنيني في مجال العمارة وتخطيط المدن كما في قصر بربريني Palais Barberini ونافورة مياه ساحة نافونا Place Navone في رومة، مثالاً لفن الباروك، ومثلها أعمال بوروميني الذي جعل الخطوط والسطوح تتحرك منسابة في انحناءات متواصلة، كما في واجهة كنيسة القديسة أغنيز S.Agnèse في رومة.
انتقل الباروك إلى فرنسة في مرحلته المبكرة وتطور منه طراز ملكي كما في قصر فرساي وحدائقه. ووصل الباروك إلى البلاد الأوربية والأمريكية في وقت متأخر نسبياً. وقد وقع الفنانون والمعماريون في تلك البلاد في البداية تحت تأثير زملائهم الإيطاليين، ولكنهم سرعان ما اختطوا لأنفسهم منهجاً خاصاً في كل واحد من الأقطار التي انتشر الباروك فيها.
واستخدم مصطلح الباروك في الموسيقى ليصف أسلوباً موسيقياً مميزاً كان يؤدى في الحقبة ما بين عام 1600 ووفاة باخ (1750) J.S.Bach وهَندل (1759) Handel، أي إن ظهور الباروك في الموسيقى كان بين عصري النهضة وما قبل الاتباعية Preclassism. ففي عصر الباروك الموسيقي تثبّت «اللحن المنفرد» monody المرافق بالآلات الموسيقية «والجهير (الباص) المتواصل» basso continuo واستمر استخدامهما طوال هذا العصر بفضل الموسيقيين الإيطاليين، وكان ذلك عن طريق ظهور الأوبراopera، والأوراتوريو oratorio [ر. الأغنية]، والكانتاتا (المغْناة) cantata، وتطور موسيقى الآلات «ذوات لوحة الملامس» كالكلافسان clavecin [ر.البيانو]، والأرغن organ. وتعزز في هذا العصر المفهوم اللحني المقامي ومفهوم الانسجام harmony اللذان أسهما في إتقان الكتابة الموسيقية المتعددة الأصوات «البوليفونية» polyphony. ويمكن القول إن التطور التاريخي لموسيقى الباروك انطلق من إيطالية حين كان اللحن المنفرد المصاحِب والأوبرا يثبتان خُطاهما فيها مع موسيقيي «الجمعية الفلورنسية» Camerata Florentina ومع مونتفيردي Monteverdi، ثم مع ممثلي مدرسة رومة مثل روسّي L.Rossi، وكاريسّيمي G.Carissimi، وتْشِسْتي A.Cesti، وكذلك مع موسيقيي مدرسة البندقية مثل: كافالّي F.Cavalli، ولغرِنتسي G.Legrenzi. ولم يتوان الموسيقيون الألمان أيضاً، بدءاً من شوتس H.Schütz حتى هندل، وكذلك الإنكليزي بورسيلْ Purcell في الاعتناء بالصيغ الموسيقية الإيطالية للأوبرا والكانتاتا والأوراتوريو. وتفتّح في إيطالية أيضاً نتاج موسيقي للآلات كان بداية السوناتا sonata وفروعها التي تحقق بناؤها النهائي على يد كل من سْتراديلاّ Stradella، وكوريلّي Corelli، وتوريلّي Torelli، وفيفالدي Vivaldi، وتوطد هذا الإنتاج في الحوارية الموسيقية الجماعية concerto grosso. وانتقلت السوناتا إلى ألمانية يدعمها كارل فيليب إيمانويل باخ K.PH.E.Bach (ثاني أبناء باخ الشهير)، وهايدن Haydn. وهكذا صارت جميع الأشكال الموسيقية المذكورة آنفاً من مميزات عصر الباروك إضافة إلى موسيقى الآلات ذوات لوحة الملامس وتطورها والأرغن منها خاصة.
وأما في فرنسة، فيصعب الكلام عن الباروك في موسيقاها إذ إن استخدام الجهير المتواصل جاء متأخراً فيها (نحو عام 1640). فقد كان العود فيها ما يزال آلة أساسية في عصر النهضة وبارزاً أيضاً في عصر الباروك. واتخذت الموسيقى الفرنسية للآلات قالباً معيناً إذ إنها استلهمت صيغها من إيقاعات الرقصات المختلفة في القصور، ومن مجموعات برامج عازفي العود. وهكذا، برزت «المتتالية الفرنسية» suite française التي تميزت من قالب السوناتا والحوارية الإيطاليتين. وبفضل لولّي Lully، الإيطالي الأصل، وجدت موسيقى فرنسية ذات طابع باروكي بقدرٍ ما، وذلك بدمج العناصر الموسيقية الإيطالية في الفرنسية، كما وصلت الموسيقى الآلية للكلافسان ذروتها عند كوبران F.Couperin.
وفي أواخر عصر الباروك برز مظهر جمالي موسيقي جديد سمي «الأسلوب الأنيق» Galant Style، ربط بين عصر الباروك وما قبل الاتباعية، وأطلق عليه أيضاً اسم «الروكوكو» لما تحلى به من أناقة وخفة وجمال في ثوب زخرفي يحاكي مظاهر الفنون البصرية visual arts. وقد دام هذا الأسلوب زهاء نصف قرن، وتميز بالابتعاد عن المظاهر المعقدة للبوليفونية الباروكية، وبالتنويعات والتزيينات، وبوضع التوكيد accent على الألحان، وبالبراعة في الأداء كهدف ذاتي. وقد عُبّر عن هذا الأسلوب في موسيقى الهاربسيكورد harpsichord [ر. البيانو]، وتميزت صفاته باختلافها عن أسلوب الطباق counterpoint عند مؤلفي الباروك الألمان. وبرز في موسيقى الكلافسان أيضاً في أعمال موفّات G.Muffat، وفيشر J.K.Fisher الألمانيين، وغالوبّي Galuppi الإيطالي، وكوبران الفرنسي.
ويُعدّ تيليمان Telemann وكثير من موسيقيي القصور، ولاسيما يوهان كريستيان باخ (أصغر أبناء باخ الشهير) من أكبر ممثلي هذا الأسلوب. والأسلوب الأنيق هو في الحقيقة خلاصة الأرستقراطية ومظاهر حياتها. وقد نتج من ذلك ظهور جمهور برجوازي جديد كانت أمنيته الرئيسة التسلية والمتعة في الأوبرا والحفلات الموسيقية.
وفي بداية كتابة باخ وهندل أواخر أعمالهما وفق الأسلوب الباروكي التقليدي، كان شتاميتس Stamitz، بالتعاون مع زملائه في «مدرسة مانهايم الموسيقية» Die Mannheimer schule، المؤلفة من عدة موسيقيين ألمان، يوطد أسلوباً جديداً للموسيقى الأوركسترالية. فبدلاً من استخدام نظام الطباق المكثف في أعمال الموسيقيين الباروكيين، جاءت الموسيقى الجديدة في حلة زاهية وبأصوات أحادية monophonic، وباتفاقات chords يؤدى بعضها مع بعضها الآخر، وبقيام آلات الكمان بأداء الألحان الرئيسة. وقد أُعطيت لمجموعة آلات النفخ والآلات الإيقاعية أيضاً وظيفة خاصة بهما في الأداء، وحلّت الآلات الموسيقية محل الجهير المتواصل. وهكذا، صارت آلات الأوركسترا جميعها في توازن عام منسجم. وبذلك يعود الفضل إلى مدرسة مانهايم في تثبيت دعائم الأوركسترا منذ منتصف القرن الثامن عشر.
وعلى خطى السويسري فولفين استعار الباحث الأدبي الألماني فريتس شتريش (1882-1963) Fritz Strich مصطلح الباروك من الفنون التشكيلية وطبقه على الآداب الأوربية في الحقبة الممتدة من عام 1560 حتى نهاية القرن السابع عشر، وخاصة الأدب الإسباني والإيطالي والإنكليزي والفرنسي والألماني. وتوصل في دراساته إلى أن ما يوحد أسلوب الباروك في أدب تلك الحقبة هو الموضوعات التي تعبر عن التوتر الحاصل بين قطبي الجوع إلى الحياة والزهد فيها، والفئة الاجتماعية التي حملت ثقافة الباروك لم تكن البرجوازية بقدر ما كانت أرستقراطية البلاطات الأوربية في نظام الحكم الملكي المطلق Absolutism.
إن مفهوم الحياة في فنون عصر الباروك وأدبه ليس جديداً، بل هو استعادة أو متابعة لأفكار المرحلة الأخيرة من العصور الوسطى، ومن ثمّ فهو في العمق أفكار مسيحية كاثوليكية، مرتبط بفلسفة اللاهوت المسيحي. وأدب عصر الباروك يجنح نحو التعبير عن المتناقضات وإلى المبالغة في الأسلوب اللغوي وكذلك إلى الخروج على قواعد الأشكال الفنية، وهو لا يعبر عن تجربة ذاتية، بل هو استعراض مسرحي ذو طابع تزييني، يُكثر من استخدام المحسنات الخطابية العاطفية، وما الأشكال الهجينة الجديدة مثل الملهاة المأسوية (الكوميتراجيديا الشعرية في رأي الفيلسوف الألماني ياكوب بومه (1575- 1624) Jakob Bohme إلا تعبير متميز عن نظام متعالٍ يمنح كل صورة قيمة مجازية).
يلجأ أدب عصر الباروك إلى أساليب الاتباعية وعصر النهضة ويزيد عليها بإفراط، للتعبير عن هذه القطبية الأزلية بين الدنيا والآخرة، كما عند الشاعر الإيطالي جامباتيستا مارينو[ر] Giambattista Marino والإسباني لويس دي غونغورا[ر] Luis de Gongora والإنكليزي جون ليلي[ر] John Lyly. وما يلفت النظر في عصر الباروك هو أن جميع الأجناس الأدبية قد بلغت كمالها في المسرح، نصاً وعرضاً، وبأنواعه كافة : الديني والدنيوي والموسيقي والمغنّى والراقص، سواء في الكنائس والكاتدرائيات والساحات والشوارع وعلى العربات أو في القصور وحدائقها ودور الأوبرا والمسرح والخانات والحانات. وقد نتج من صراع الكنيستين الكاثوليكية والبروتستنتية في ألمانية خاصة نوعان من المسرح يحملان سمات الباروك على الرغم من التباين الكبير في تجسدهما المشهدي، أولاهما المسرح المدرسي Das Schultheater الذي اعتمد على البساطة في أدوات العرض مقابل لغة غنية ومؤثرة في خطابيتها، أدت إلى انتشاره سلاحاً إيديولوجياً (عقائدياً) في جميع أنحاء أوربة الغربية و الشرقية. وثانيهما مسرح الجزويت (اليسوعي) Das Jesuitentheater الذي أطلقته الكنيسة الكاثوليكية الألمانية رداً على المسرح المدرسي من خلال الجمعيات اليسوعية، والذي اعتمد على البهرجة والبذخ والتنوع في تقنيات الحيل المسرحية المشهدية والمناظر والأزياء بأسلوب أسر المشاهدين بصرياً وطغى على وظيفة النص الدرامي المنطوق والذي لم يتقيد بأيٍ من قواعد الكتابة الدرامية التقليدية، وهي سمة تسري على مسرح عصر الباروك بأنواعه كلها. فقاعدة الوحدات الثلاث (الزمان والمكان والموضوع) صارت مجافية لروح العصر وضروراته حسبما قال المسرحي بيغا[ر] Vega في رده على ممثلي الكلاسيكية الجديدة في فرنسة، نافياً ضرورة الالتزام بالفصل بين المأساة والملهاة. ففي مسرحياته وأغلب مسرحيات معاصريه مثل كالديرون[ر] Calderon في إسبانية وشكسبير[ر] Shakespeare وبومونت Beaumont في إنكلترة وكورنيّ[ر] Corneille وموليير[ر] Moliére في فرنسة، وتختلط العناصر الجدية بالهزلية، وتتأسس «لعبة المسرح داخل المسرح» تعبيراً عن تداخل الحلم بالواقع وعن التناقض بين الظاهر والباطن، وتختلط كذلك هويات الشخصيات وعواطفها نتيجة للتنكر.
إلياس زيات، حسني الحريري، نبيل الحفار
Baroque - Baroque
الباروك
ظهر مصطلح الباروك Baroque للمرة الأولى في القرن السابع عشر في مهنة صياغة المجوهرات في البرتغال وأوربة عموماً، ثم صار يُشار به إلى كل عمل فني خرج عن المألوف أو كان كثير الزخرفة. وحمل المصطلح بعد ذلك مدلولاً سلبياً في مجالي الفن التشكيلي والعمارة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فكانت تطلق على لوحة أو شكل نحتي أو معماري صفة الباروك إذا كان الأثر خارجاً على القواعد الاتباعية (الكلاسيكية) أو ناتجاً عن انسياق الفنان لهواه ومزاجه. لكن النظرة السلبية سرعان ما تبدلت في القرن التاسع عشر حين قدّم الباحث الفني السويسري هاينريش فولفين (1864-1942) Heinrich Wolffin وجهة نظر جديدة حول الباروك على صعيد الفنون التشكيلية، وذلك في كتابه «النهضة والباروك» (1888) Renaissance und Barock، فالاتباعية «الكلاسيكية» الجديدة في فرنسة القرن السابع عشر وجدت في فنون الباروك زخرفة مبهرجة شاذة، في حين أن هذه الفنون بتعبيرها الجلي عن التناقضات الحادة في فكر إنسان ذلك العصر وسلوكه وذوقه، إنما تؤلف وحدة أسلوب أوربي يعكس نمط إنسان ما بعد عصر النهضة وموقفه من مستجدات عصره، بحيث تضيء الفنون والآداب بعضها بعضاً لتستكمل صورة الإنسان وتكوينه، مما يساعد على فهمه في سياق التطور التاريخي.
وتظهر في هذا المجال، ولاسيما فيما يتعلق بالفن، إشكالية جمع كل آثار فن القرن السابع عشر من عمارة وتصوير ونحت وامتدادها فيما بعد تحت تسمية واحدة «الباروك»، التي تعني الأسلوب ومدى علاقته بالاتباعية، كما تعني في الوقت نفسه المفهوم الفكري كنظام جديد، ولاسيما أنها آثار متباينة المظهر مثل أعمال الإيطاليين كرافادجو[ر] وبييتر دي كورتونه[ر]، وبرنيني[ر] وبورّوميني والفلمنكي روبنز[ر] والمصورين الهولنديين فرمير[ر] ورمبرانت[ر] والمصور الفرنسي بوسان[ر] والمصور الإسباني فيلاسكيز[ر] وغيرهم في أوربة وروسية والبرازيل. فإذا كانت أعمال هؤلاء الفنانين تشترك في أنها ظهرت في القرن السابع عشر، فإن عمل كل واحد منهم من حيث المنطلق الفكري والنتيجة الفنية، مختلف عن الآخر.
تألق أسلوب الباروك في فن عمارة الكنائس والأديرة والقصور، كما ظهر في تنظيم الشوارع والساحات العامة، في المدن الأوربية وفي أمريكة اللاتينية. وقد اصطلح نقاد الفن على تقسيم عصر الباروك إلى ثلاث مراحل: المرحلة المبكرة والمرحلة العليا ثم المرحلة المتأخرة «الروكوكو» Rococo.
ويلاحظ أن فن الباروك قد جاء في البداية من إيطالية حيث عمد ميكيلانجلو[ر] في أعماله المعمارية والنحتية المتأخرة إلى تحطيم النسب الاتباعية لعصر النهضة الأوربي. ويعدّ ما حققه برنيني في مجال العمارة وتخطيط المدن كما في قصر بربريني Palais Barberini ونافورة مياه ساحة نافونا Place Navone في رومة، مثالاً لفن الباروك، ومثلها أعمال بوروميني الذي جعل الخطوط والسطوح تتحرك منسابة في انحناءات متواصلة، كما في واجهة كنيسة القديسة أغنيز S.Agnèse في رومة.
انتقل الباروك إلى فرنسة في مرحلته المبكرة وتطور منه طراز ملكي كما في قصر فرساي وحدائقه. ووصل الباروك إلى البلاد الأوربية والأمريكية في وقت متأخر نسبياً. وقد وقع الفنانون والمعماريون في تلك البلاد في البداية تحت تأثير زملائهم الإيطاليين، ولكنهم سرعان ما اختطوا لأنفسهم منهجاً خاصاً في كل واحد من الأقطار التي انتشر الباروك فيها.
واستخدم مصطلح الباروك في الموسيقى ليصف أسلوباً موسيقياً مميزاً كان يؤدى في الحقبة ما بين عام 1600 ووفاة باخ (1750) J.S.Bach وهَندل (1759) Handel، أي إن ظهور الباروك في الموسيقى كان بين عصري النهضة وما قبل الاتباعية Preclassism. ففي عصر الباروك الموسيقي تثبّت «اللحن المنفرد» monody المرافق بالآلات الموسيقية «والجهير (الباص) المتواصل» basso continuo واستمر استخدامهما طوال هذا العصر بفضل الموسيقيين الإيطاليين، وكان ذلك عن طريق ظهور الأوبراopera، والأوراتوريو oratorio [ر. الأغنية]، والكانتاتا (المغْناة) cantata، وتطور موسيقى الآلات «ذوات لوحة الملامس» كالكلافسان clavecin [ر.البيانو]، والأرغن organ. وتعزز في هذا العصر المفهوم اللحني المقامي ومفهوم الانسجام harmony اللذان أسهما في إتقان الكتابة الموسيقية المتعددة الأصوات «البوليفونية» polyphony. ويمكن القول إن التطور التاريخي لموسيقى الباروك انطلق من إيطالية حين كان اللحن المنفرد المصاحِب والأوبرا يثبتان خُطاهما فيها مع موسيقيي «الجمعية الفلورنسية» Camerata Florentina ومع مونتفيردي Monteverdi، ثم مع ممثلي مدرسة رومة مثل روسّي L.Rossi، وكاريسّيمي G.Carissimi، وتْشِسْتي A.Cesti، وكذلك مع موسيقيي مدرسة البندقية مثل: كافالّي F.Cavalli، ولغرِنتسي G.Legrenzi. ولم يتوان الموسيقيون الألمان أيضاً، بدءاً من شوتس H.Schütz حتى هندل، وكذلك الإنكليزي بورسيلْ Purcell في الاعتناء بالصيغ الموسيقية الإيطالية للأوبرا والكانتاتا والأوراتوريو. وتفتّح في إيطالية أيضاً نتاج موسيقي للآلات كان بداية السوناتا sonata وفروعها التي تحقق بناؤها النهائي على يد كل من سْتراديلاّ Stradella، وكوريلّي Corelli، وتوريلّي Torelli، وفيفالدي Vivaldi، وتوطد هذا الإنتاج في الحوارية الموسيقية الجماعية concerto grosso. وانتقلت السوناتا إلى ألمانية يدعمها كارل فيليب إيمانويل باخ K.PH.E.Bach (ثاني أبناء باخ الشهير)، وهايدن Haydn. وهكذا صارت جميع الأشكال الموسيقية المذكورة آنفاً من مميزات عصر الباروك إضافة إلى موسيقى الآلات ذوات لوحة الملامس وتطورها والأرغن منها خاصة.
وأما في فرنسة، فيصعب الكلام عن الباروك في موسيقاها إذ إن استخدام الجهير المتواصل جاء متأخراً فيها (نحو عام 1640). فقد كان العود فيها ما يزال آلة أساسية في عصر النهضة وبارزاً أيضاً في عصر الباروك. واتخذت الموسيقى الفرنسية للآلات قالباً معيناً إذ إنها استلهمت صيغها من إيقاعات الرقصات المختلفة في القصور، ومن مجموعات برامج عازفي العود. وهكذا، برزت «المتتالية الفرنسية» suite française التي تميزت من قالب السوناتا والحوارية الإيطاليتين. وبفضل لولّي Lully، الإيطالي الأصل، وجدت موسيقى فرنسية ذات طابع باروكي بقدرٍ ما، وذلك بدمج العناصر الموسيقية الإيطالية في الفرنسية، كما وصلت الموسيقى الآلية للكلافسان ذروتها عند كوبران F.Couperin.
وفي أواخر عصر الباروك برز مظهر جمالي موسيقي جديد سمي «الأسلوب الأنيق» Galant Style، ربط بين عصر الباروك وما قبل الاتباعية، وأطلق عليه أيضاً اسم «الروكوكو» لما تحلى به من أناقة وخفة وجمال في ثوب زخرفي يحاكي مظاهر الفنون البصرية visual arts. وقد دام هذا الأسلوب زهاء نصف قرن، وتميز بالابتعاد عن المظاهر المعقدة للبوليفونية الباروكية، وبالتنويعات والتزيينات، وبوضع التوكيد accent على الألحان، وبالبراعة في الأداء كهدف ذاتي. وقد عُبّر عن هذا الأسلوب في موسيقى الهاربسيكورد harpsichord [ر. البيانو]، وتميزت صفاته باختلافها عن أسلوب الطباق counterpoint عند مؤلفي الباروك الألمان. وبرز في موسيقى الكلافسان أيضاً في أعمال موفّات G.Muffat، وفيشر J.K.Fisher الألمانيين، وغالوبّي Galuppi الإيطالي، وكوبران الفرنسي.
ويُعدّ تيليمان Telemann وكثير من موسيقيي القصور، ولاسيما يوهان كريستيان باخ (أصغر أبناء باخ الشهير) من أكبر ممثلي هذا الأسلوب. والأسلوب الأنيق هو في الحقيقة خلاصة الأرستقراطية ومظاهر حياتها. وقد نتج من ذلك ظهور جمهور برجوازي جديد كانت أمنيته الرئيسة التسلية والمتعة في الأوبرا والحفلات الموسيقية.
وفي بداية كتابة باخ وهندل أواخر أعمالهما وفق الأسلوب الباروكي التقليدي، كان شتاميتس Stamitz، بالتعاون مع زملائه في «مدرسة مانهايم الموسيقية» Die Mannheimer schule، المؤلفة من عدة موسيقيين ألمان، يوطد أسلوباً جديداً للموسيقى الأوركسترالية. فبدلاً من استخدام نظام الطباق المكثف في أعمال الموسيقيين الباروكيين، جاءت الموسيقى الجديدة في حلة زاهية وبأصوات أحادية monophonic، وباتفاقات chords يؤدى بعضها مع بعضها الآخر، وبقيام آلات الكمان بأداء الألحان الرئيسة. وقد أُعطيت لمجموعة آلات النفخ والآلات الإيقاعية أيضاً وظيفة خاصة بهما في الأداء، وحلّت الآلات الموسيقية محل الجهير المتواصل. وهكذا، صارت آلات الأوركسترا جميعها في توازن عام منسجم. وبذلك يعود الفضل إلى مدرسة مانهايم في تثبيت دعائم الأوركسترا منذ منتصف القرن الثامن عشر.
وعلى خطى السويسري فولفين استعار الباحث الأدبي الألماني فريتس شتريش (1882-1963) Fritz Strich مصطلح الباروك من الفنون التشكيلية وطبقه على الآداب الأوربية في الحقبة الممتدة من عام 1560 حتى نهاية القرن السابع عشر، وخاصة الأدب الإسباني والإيطالي والإنكليزي والفرنسي والألماني. وتوصل في دراساته إلى أن ما يوحد أسلوب الباروك في أدب تلك الحقبة هو الموضوعات التي تعبر عن التوتر الحاصل بين قطبي الجوع إلى الحياة والزهد فيها، والفئة الاجتماعية التي حملت ثقافة الباروك لم تكن البرجوازية بقدر ما كانت أرستقراطية البلاطات الأوربية في نظام الحكم الملكي المطلق Absolutism.
إن مفهوم الحياة في فنون عصر الباروك وأدبه ليس جديداً، بل هو استعادة أو متابعة لأفكار المرحلة الأخيرة من العصور الوسطى، ومن ثمّ فهو في العمق أفكار مسيحية كاثوليكية، مرتبط بفلسفة اللاهوت المسيحي. وأدب عصر الباروك يجنح نحو التعبير عن المتناقضات وإلى المبالغة في الأسلوب اللغوي وكذلك إلى الخروج على قواعد الأشكال الفنية، وهو لا يعبر عن تجربة ذاتية، بل هو استعراض مسرحي ذو طابع تزييني، يُكثر من استخدام المحسنات الخطابية العاطفية، وما الأشكال الهجينة الجديدة مثل الملهاة المأسوية (الكوميتراجيديا الشعرية في رأي الفيلسوف الألماني ياكوب بومه (1575- 1624) Jakob Bohme إلا تعبير متميز عن نظام متعالٍ يمنح كل صورة قيمة مجازية).
يلجأ أدب عصر الباروك إلى أساليب الاتباعية وعصر النهضة ويزيد عليها بإفراط، للتعبير عن هذه القطبية الأزلية بين الدنيا والآخرة، كما عند الشاعر الإيطالي جامباتيستا مارينو[ر] Giambattista Marino والإسباني لويس دي غونغورا[ر] Luis de Gongora والإنكليزي جون ليلي[ر] John Lyly. وما يلفت النظر في عصر الباروك هو أن جميع الأجناس الأدبية قد بلغت كمالها في المسرح، نصاً وعرضاً، وبأنواعه كافة : الديني والدنيوي والموسيقي والمغنّى والراقص، سواء في الكنائس والكاتدرائيات والساحات والشوارع وعلى العربات أو في القصور وحدائقها ودور الأوبرا والمسرح والخانات والحانات. وقد نتج من صراع الكنيستين الكاثوليكية والبروتستنتية في ألمانية خاصة نوعان من المسرح يحملان سمات الباروك على الرغم من التباين الكبير في تجسدهما المشهدي، أولاهما المسرح المدرسي Das Schultheater الذي اعتمد على البساطة في أدوات العرض مقابل لغة غنية ومؤثرة في خطابيتها، أدت إلى انتشاره سلاحاً إيديولوجياً (عقائدياً) في جميع أنحاء أوربة الغربية و الشرقية. وثانيهما مسرح الجزويت (اليسوعي) Das Jesuitentheater الذي أطلقته الكنيسة الكاثوليكية الألمانية رداً على المسرح المدرسي من خلال الجمعيات اليسوعية، والذي اعتمد على البهرجة والبذخ والتنوع في تقنيات الحيل المسرحية المشهدية والمناظر والأزياء بأسلوب أسر المشاهدين بصرياً وطغى على وظيفة النص الدرامي المنطوق والذي لم يتقيد بأيٍ من قواعد الكتابة الدرامية التقليدية، وهي سمة تسري على مسرح عصر الباروك بأنواعه كلها. فقاعدة الوحدات الثلاث (الزمان والمكان والموضوع) صارت مجافية لروح العصر وضروراته حسبما قال المسرحي بيغا[ر] Vega في رده على ممثلي الكلاسيكية الجديدة في فرنسة، نافياً ضرورة الالتزام بالفصل بين المأساة والملهاة. ففي مسرحياته وأغلب مسرحيات معاصريه مثل كالديرون[ر] Calderon في إسبانية وشكسبير[ر] Shakespeare وبومونت Beaumont في إنكلترة وكورنيّ[ر] Corneille وموليير[ر] Moliére في فرنسة، وتختلط العناصر الجدية بالهزلية، وتتأسس «لعبة المسرح داخل المسرح» تعبيراً عن تداخل الحلم بالواقع وعن التناقض بين الظاهر والباطن، وتختلط كذلك هويات الشخصيات وعواطفها نتيجة للتنكر.
إلياس زيات، حسني الحريري، نبيل الحفار