بافلوف (ايفان بتروفيتش)
Pavlov (Ivan Petrovitch-) - Pavlov (Ivan Petrovitch-)
بافلوف (إيفان بتروفيتش ـ)
(1849 ـ 1936م)
إيفان بتروفتش بافلوف Ivan Petrovith Pavlov عالم فيزيولوجي ولد في ريازان Riazan، وانتسب إلى جامعة سان بطرسبورغ Saint-Petersbourg، وحصل عام 1884م على الدكتوراه في مجال فيزيولوجية الأعصاب، شغل بعدها كرسي الأستاذية ورئاسة مخبر الفيزيولوجية في المعهد العالي الطبي في الجامعة نفسها.
حاز إيفان بافلوف جائزة نوبل عام 1904م، وذلك اعترافاً بإنجازاته العلمية في ميدان علم وظائف الأعضاء (الفيزيولوجية) في مجال الغدد الهضمية والدورة الدموية خاصة. ونال تقدير القيادة الثورية في الاتحاد السوفييتي سابقاً. ويأخذ بافلوف مكانة الأب الحقيقي لعلم وظائف الأعضاء وعلم النفس الحديث.
يعتقد بافلوف أن الأنشطة النفسية المركبة نتاج للعلاقة بين الكائن الحي والوسط على شكل ردود الأفعال المنعكسة الشرطية التي تمثل استجابة الكائن الحي للوسط الذي يوجد فيه والذي يمثل عملاً خارجياً، وتستند الأفعال المنعكسة الفطرية إلى أسس تشريحية بيولوجية في حين تستند الأفعال المنعكسة الشرطية إلى أنشطة أكثر تطوراً واتصالاً بالبيئة.
وتمثلت فكرة بافلوف هذه في اكتشافاته الخاصة بالأفعال المنعكسة الشرطية التي كان لها أثر كبير في بناء نظريته الجديدة حول الحياة النفسية. لقد حاول في أعماله أن يجيب عن مسألته الأساسية التي تتمثل في طبيعة العلاقة بين الدماغ والأنشطة النفسية، وهو يقول في هذا الصدد «ألا يمكننا أن نجد مظاهر نفسية أولية يمكنها في الوقت نفسه أن تكون، وعلى نحو كلي، ظاهرة فيزيولوجية».
بدأت قصة الكشف عن الفعل المنعكس الشرطي حين كان بافلوف يجري أبحاثه الخاصة بالإفرازات اللعابية عند الكلب، إذ لاحظ أن لعاب الكلب يبدأ بالسيلان قبل وصول الطعام (قطعة اللحم) إلى فمه وأن لعاب الكلب يسيل لمجرد رؤية من يقدم له الطعام أو لدى سماع خطواته. ومع أن هذه الملاحظة عادية وبسيطة فإن بافلوف وجد فيها منطلقاً للبحث في وظيفة الدماغ، وهيأت له طريقة جديدة لتحليل العمليات الدماغية من دون اللجوء إلى الطريقة المعهودة عند علماء الفيزيولوجية، الذين كانوا يلجؤون إلى جراحة الدماغ وإزالة بعض جوانبه من أجل إدراك وظائف الأجزاء المبتورة. ومن هذا المنطلق أجرى بافلوف تجاربه الفيزيولوجية، فدرس الدورة الدموية والبنية العصبية للجهاز الهضمي، واستطاع بالتجارب الفيزيولوجية حول التنظيم العصبي لجهاز الهضم أن يصل إلى اكتشافه العظيم حول الأفعال المنعكسة الشرطية Reflexes conditionnels أي المتعلَّمة.
اعتقد بافلوف أن حدوث الإفرازات النفسية تؤدي إلى بناء علاقات جديدة تسجل في قشرة المخ أو في القشرة الدماغية عند الحيوانات العليا. وهو بذلك كله يريد أن يبرهن على أن السلوك النفسي عند الإنسان يرتكز إلى أسس بيولوجية فيزيولوجية مركزها قشرة المخ عند الإنسان أو الحيوانات العليا.
وعلى إثر هذه الملاحظات الخاصة بإفرازات اللعاب أجرى بافلوف سلسلة متواصلة من التجارب على الكلاب أمكن عن طريقها الوصول إلى قوانين علمية واضحة تعكس المفهومات الأساسية لنظريته الخاصة بالتعزيز والانطفاء والتعميم والترابط والتعلم.
أطلق بافلوف على المثير الطبيعي، أي الطعام، تعبير المثير غير الشرطي وعلى الاستجابة الطبيعة تعبير الاستجابة غير الشرطية، ثم أطلق على المثير الخارجي (صوت الجرس) تعبير المثير الشرطي وعلى الاستجابة غير الطبيعية (سيلان اللعاب لمجرد سماع صوت الجرس) تعبير الاستجابة الشرطية.
ويتبين أن المثير الذي كان حيادياً (رنين الجرس) وبفعل الترابط يستطيع أن يؤدي دور المثير الطبيعي الذي هو قطعة اللحم، وأن يؤدي إلى استجابة شرطية متعلمة هي سيلان اللعاب عند الكلب.
حاول بافلوف ومن حذا حذوه أن يبرهن على أن منظومة سلوك الإنسان وأفعاله ومشاعره هي نتاج موضوعي للعلاقات الاستجابية الشرطية التي تضرب جذورها في عمق الجملة العصبية الدماغية عند الإنسان، وهو بذلك يسعى إلى تأكيد مقولة الوحدة الجدلية بين الوجود المادي والوجود النفسي عند الإنسان وأن الحياة النفسية هي انعكاسات أو ارتكاسات عصبية للعلاقة الموضوعية بين الدماغ والمثيرات الخارجية.
وتُعزز الاستجابة الشرطية وتُقوى عن طريق اقتران المثير الشرطي بالمثير الطبيعي فيكتسب المثير الشرطي قوة جر الاستجابة، ولكن هذه القوة قد تضعف فيحصل الانطفاء أو المحو وبالتالي تتلاشى الاستجابة الشرطية المكتسبة. ويعني ذلك أن المثير الشرطي يجب أن يعزز دائماً على نحو متقطع ليحافظ على فعاليته في إحداث الاستجابة الشرطية. وتحدث حالة الانطفاء الداخلي من عدم تقديم الطعام، أما الانطفاء الخارجي فيعود إلى شروط خارجية مثل سماع أصوات غريبة ومفاجئة في أثناء التجربة، ولكن الانطفاء لايكون نهائياً إذ يمكن معاودة الاكتساب بسهولة كبيرة.
ولاحظ بافلوف في هذا السياق أنه عندما يثار اللعاب وفقاً لصوت جرس معين فإن الأصوات المقاربة للذبذبة الصوتية المعينة يمكنها أن تؤدي إلى النتيجة نفسها، وهذا ما يطلق عليه بافلوف مفهوم «التعميم» Généralisation. وبحث بافلوف عن صيغة متكاملة للمثيرات، وذلك من أجل الإشارة إلى عملية تحول طاقة ردود الفعل من مثير إلى آخر، ثم عمل على تحليل هذه المثيرات من أجل كشف الفروق القائمة بينها.
الاستجابات الشرطية والسلوك الإنساني
ينظر بافلوف إلى الظاهرة النفسية وما يترتب عليها من أنماط سلوكية على أنها أفعال منعكسة وأفعال منعكسة شرطية محددة بزمان ومكان معينين.
ويعتقد بافلوف أن الإنسان نظام محكوم بالقوانين الطبيعية المشتركة بين كل ظواهر الطبيعة، ويرى أن النظام الإنساني هو الوحيد بين الأنظمة الطبيعية الذي يتميز بقدرته الهائلة على التنظيم الذاتي، والذي يمتلك المرونة الفائقة لهذه الفعالية. والإنسان بأنظمته المعقدة خلاصة تطور الطبيعة في أكثر صورها رقياً وتقدماً. والسلوك الإنساني صناعة تتم وفقاً لمبدإ الاستجابات الشرطية، وهي صناعة ممكنة أي إنه يمكن التحكم في سلوك الإنسان وإشراطه وتصنيعه مخبرياً أو اجتماعياً حين يتم التحكم في شروط الحياة الاجتماعية.
بيّن بافلوف أنه يمكن توظيف الإشراط الاستجابي لتكون سبباً في الأمراض النفسية وكذلك في تحرير الناس من آلامهم وعقدهم وأمراضهم النفسية. فالإنسان ينطلق، في عملية تكيفه، وفق منظومة دلالية من الرموز، والمثيرات اللغوية التي تجعله في حركة استجابات شرطية تتصف بالاستمرار والديمومة. فالكلام يشكل للإنسان نظاماً ثانياً من الدلالات التي يتمايز بها الإنسان من الحيوان، إذ إن الكلام هو بالتأكيد الاختراع الذي جعل منا بشراً متفاهمين. فالمثيرات الأولى هي المثيرات الصادرة عن العالم الخارجي مثل الأصوات والروائح ومثيرات اللمس والضوء، والأحداث الخارجية هي مثيرات مشتركة بين الإنسان والحيوان، ولكن الإنسان يتفرد فيما يطلق عليه بافلوف المثيرات الدلالية من المستوى الثاني التي تتعلق بالرموز واللغة والكلمات والمعاني وهي الرموز أو الدلالات التي يتفرد بها عالم الإنسان عن عالم الحيوان.
المنعكسات الشرطية ووظائف الدماغ العصبية العليا
كان هدف بافلوف الأساسي من دراساته عن الفعل المنعكس الشرطي أن يصل إلى تحديد موضعي للأنشطة العصبية العليا عند الكائن الحي. فالمثير يمكنه أن يطلق عنان عمليات الإثارة أو الكبح، وذلك في مستوى القشرة الدماغية، ويمكن كذلك أن ينتشر ليعم المناطق الدماغية المجاورة، وفي كلتا الحالتين تنمو عملية إثارة بدرجة كثافة مختلفة وفقاً لنوعية المثير الحيادي أو الطبيعي. فالترابط المؤقت الذي يجمع بين مثير طبيعي ومثير شرطي يمثل ترابطاً بين مثيرات طبيعية وأخرى متعلمة تكتسب قوتها من الترابط والاقتران.
ويفرّق بافلوف بين الفعل المنعكس الطبيعي والفعل المنعكس الشرطي تفريقاً فيزيولوجياً يتعلّق بموقع الاستثارة لكل منهما في الدماغ. فالعمليات الخاصة بالفعل المنعكس الشرطي تجري في مجال القشرة الدماغية عند الإنسان أما الفعل المنعكس (الطبيعي) فيجري في المناطق الداخلية للدماغ (مناطق تحت القشرة) التي تتحكم في السلوك الفطري.
ويربط بافلوف بين النماذج العُصابية واكتشافاته الخاصة بالأفعال المنعكسة الشرطية التي أتاحت له اكتشاف مايسمى «بالعُصاب التجريبي»، وهو عُصاب يحدث حين يتعرض الحيوان المجرّب عليه لعمليات إثارة وكبح في آن واحد يقع على أثرها الحيوان فريسة الإثارة البالغة في اتجاهين وذلك لأنه لايستطيع التفريق بين المثيرات القادمة المتنافرة وتكون النتيجة إصابة الحيوان المعني بالعُصاب.
دفع اكتشاف بافلوف الفعل المنعكس الشرطي إلى إجراء الأبحاث النظرية والتجريبية حول التعلم، في النصف الأول من القرن العشرين، وشكل مفهوم الأفعال المنعكسة الشرطية مهاد تطور كبير ذي طابع تجريبي لمفهوم الترابط الذي كان قد أخذ منحى ذهنياً. وغني عن البيان أيضاً أن بافلوف قد بذل جهوداً كثيرة من أجل تطوير علم النفس العلمي القائم على التجارب حين بيّن إلى أي حد يمكن للتحليل الموضوعي أن يؤدي إلى نتائج مختلفة عن التي تؤدي إليها التأملات النظرية فحسب.
الجوانب النفسية الفلسفية لنظرية بافلوف
حاول بافلوف في سياق جهوده العلمية الكبيرة وفي مسار ابتكاراته أن يعزز بعض المنطلقات الأساسية للاتجاهات الفلسفية المادية وأن ينتصر بما قدمه من نتائج علمية بارعة لتيارات علم النفس التجريبي والفيزيولوجي الذي طرح نفسه بوصفه الاتجاه الوحيد القادر على تفسير الظاهرة النفسية تفسيراً علمياً بعيداً عن أوهام علم النفس التأملي.
وغني عن البيان أن نظرية بافلوف تنطوي على رؤية فلسفية طموحة وأصلية في جوانبها العلمية، وهذه الرؤية تعزز، في الوقت نفسه، اتجاهات علم النفس النزاعة إلى الارتقاء علمياً. فالنظرية البافلوفية تقوم على المبادئ التالية:
العمليات النفسية: هي صورة لفعالية الدماغ ووظيفة من وظائفه الأساسية والدماغ هو أعلى أشكال المادة وأرقاها. وينبني على هذه المسلمة أنه لا يمكن إدراك العمليات النفسية إدراكاً علمياً على الأقل بعيداً عن إدراك العمليات التي تتأصل في البنية الدماغية، فالفعل النفسي فعل يتأصل ويحفر مجاريه في قشرة الدماغ، مركز المشاعر والأحاسيس والانفعالات.
الشعور: انعكاس للمادة وصورة من صور العالم الموضوعي الخارجي، والعمليات النفسية برمتها مرهونة بإشراطات هذا العالم الذي يتحول إلى صور دماغية قشرية ذات طابع إشراطي. وبالتالي فإن إدراك الفعل النفسي مرهون بأوضاعه الخارجية والداخلية، وعلى نحو أكثر تحديداً الفعل النفسي هو نتاج التفاعل بين الوسط الخارجي بمثيراته المختلفة والوسط الداخلي الذي يتمثل بالمناطق الدماغية وخاصة القشرة الدماغية.
المادة أولية والشعور لاحق وثانوي: وهذا يعني أن الأفكار والإحساسات تنبع من العالم الخارجي المادي الموجود مستقلاً عن الوعي. وهذا يعني أن علم النفس عند بافلوف هو انتصار لآراء هوبس الفلسفية؛ فالعمليات العقلية والنفسية قابلة للدراسة والاختبار علمياً. ومن هذه النقطة يمكن الانطلاق إلى القول إن نظرية بافلوف، استناداً إلى نتائجها العملية في ميادين الحياة المختلفة، قدمت لعلم النفس أساساً علمياً صلباً يعتمد على معطيات العلوم المختلفة من طب وفيزيولوجية الأعصاب وفيزياء، وبذلك يتمثل مسعى بافلوف لإخراج علم النفس من متاهاته الأسطورية ذات الطابع التأملي الخالص.
تطبيقات النظرية في مجالات الحياة النفسية والاجتماعية
لم تعد الأمراض النفسية والعقلية بعيدة عن الفهم والعلاج منذ أن قدم بافلوف الأساس الفيزيولوجي الواضح لها. وتنطوي نظرية بافلوف على تطبيقات لاتقل أهمية عن ذلك في مجال فيزيولوجية الأعصاب وفي التعلم والعلاج النفسي، واستطاع بافلوف أن يبرهن بها على إمكانيات كبيرة في مجال علاج الهيستيرية والعُصاب والفصام والاضطرابات العقلية والنفسية عامة.
وقد وظفت معطيات هذه النظرية توظيفاً غير إنساني وخاصة في عمليات غسل الدماغ، إذ قدمت هذه النظرية الأسس العلمية لعمليات غسل الدماغ عن طريق ما يسميه بافلوف «العصاب التجريبي» الذي يؤدي إلى هدم الارتباطات الشرطية الموضوعية في المخ، ويعمل على تصفية ثوابت الارتباطات القائمة وفق نظام جديد من الشرطية المتنافرة التي يمكن أن تؤدي ببساطة إلى الخلل العقلي وإلى الفصام والاضطرابات النفسية المتنوعة.
وغني عن البيان أن نظرية بافلوف هذه، التي دفعت مسارات البحث في ميادين عدة، وجدت فيما بعد تطويرها الأصيل على يد المفكر الأمريكي بوروس فردريك سكنر[ر] B.F.Skinner الذي ابتكر طريقة الإشراط الإجرائي وجداول التعزيز، واعتمد على الإشراط الذي يعزز السلوك بعد حدوثه، فيزيد احتمال السلوك المعزز، أي إن سكنر يرى أن السلوك الإجرائي المتعلَّم يتطلب القيام بالعمل أولاً ثم يعزز هذا العمل فيزداد احتمال حدوثه في المستقبل. لقد سمي الإشراط البافلوفي بالإشراط الاستجابي وقوامه السلوك المتعلَّم للنواحي الانفعالية وغير الإرادية، في حين يشمل السلوك الإجرائي معظم سلوك الإنسان اليومي المتعلَّم.
إن الوقوف عند نظرية بافلوف يمثل وقفة في محطة مهمة من محطات التاريخ العلمية التي كان لها أثر كبير في دفع العجلات التاريخية للمعرفة العلمية في مجالات علم النفس وعلم نفس الأعضاء وفيزيولوجية الدماغ. وستبقى نظرية بافلوف الارتكاسية مركز إشعاع علمي تاريخي يرسم للمفكرين مسارات مضيئة في مجال علم النفس الفيزيولوجي.
علي وطفه
Pavlov (Ivan Petrovitch-) - Pavlov (Ivan Petrovitch-)
بافلوف (إيفان بتروفيتش ـ)
(1849 ـ 1936م)
إيفان بتروفتش بافلوف Ivan Petrovith Pavlov عالم فيزيولوجي ولد في ريازان Riazan، وانتسب إلى جامعة سان بطرسبورغ Saint-Petersbourg، وحصل عام 1884م على الدكتوراه في مجال فيزيولوجية الأعصاب، شغل بعدها كرسي الأستاذية ورئاسة مخبر الفيزيولوجية في المعهد العالي الطبي في الجامعة نفسها.
حاز إيفان بافلوف جائزة نوبل عام 1904م، وذلك اعترافاً بإنجازاته العلمية في ميدان علم وظائف الأعضاء (الفيزيولوجية) في مجال الغدد الهضمية والدورة الدموية خاصة. ونال تقدير القيادة الثورية في الاتحاد السوفييتي سابقاً. ويأخذ بافلوف مكانة الأب الحقيقي لعلم وظائف الأعضاء وعلم النفس الحديث.
يعتقد بافلوف أن الأنشطة النفسية المركبة نتاج للعلاقة بين الكائن الحي والوسط على شكل ردود الأفعال المنعكسة الشرطية التي تمثل استجابة الكائن الحي للوسط الذي يوجد فيه والذي يمثل عملاً خارجياً، وتستند الأفعال المنعكسة الفطرية إلى أسس تشريحية بيولوجية في حين تستند الأفعال المنعكسة الشرطية إلى أنشطة أكثر تطوراً واتصالاً بالبيئة.
بدأت قصة الكشف عن الفعل المنعكس الشرطي حين كان بافلوف يجري أبحاثه الخاصة بالإفرازات اللعابية عند الكلب، إذ لاحظ أن لعاب الكلب يبدأ بالسيلان قبل وصول الطعام (قطعة اللحم) إلى فمه وأن لعاب الكلب يسيل لمجرد رؤية من يقدم له الطعام أو لدى سماع خطواته. ومع أن هذه الملاحظة عادية وبسيطة فإن بافلوف وجد فيها منطلقاً للبحث في وظيفة الدماغ، وهيأت له طريقة جديدة لتحليل العمليات الدماغية من دون اللجوء إلى الطريقة المعهودة عند علماء الفيزيولوجية، الذين كانوا يلجؤون إلى جراحة الدماغ وإزالة بعض جوانبه من أجل إدراك وظائف الأجزاء المبتورة. ومن هذا المنطلق أجرى بافلوف تجاربه الفيزيولوجية، فدرس الدورة الدموية والبنية العصبية للجهاز الهضمي، واستطاع بالتجارب الفيزيولوجية حول التنظيم العصبي لجهاز الهضم أن يصل إلى اكتشافه العظيم حول الأفعال المنعكسة الشرطية Reflexes conditionnels أي المتعلَّمة.
اعتقد بافلوف أن حدوث الإفرازات النفسية تؤدي إلى بناء علاقات جديدة تسجل في قشرة المخ أو في القشرة الدماغية عند الحيوانات العليا. وهو بذلك كله يريد أن يبرهن على أن السلوك النفسي عند الإنسان يرتكز إلى أسس بيولوجية فيزيولوجية مركزها قشرة المخ عند الإنسان أو الحيوانات العليا.
وعلى إثر هذه الملاحظات الخاصة بإفرازات اللعاب أجرى بافلوف سلسلة متواصلة من التجارب على الكلاب أمكن عن طريقها الوصول إلى قوانين علمية واضحة تعكس المفهومات الأساسية لنظريته الخاصة بالتعزيز والانطفاء والتعميم والترابط والتعلم.
أطلق بافلوف على المثير الطبيعي، أي الطعام، تعبير المثير غير الشرطي وعلى الاستجابة الطبيعة تعبير الاستجابة غير الشرطية، ثم أطلق على المثير الخارجي (صوت الجرس) تعبير المثير الشرطي وعلى الاستجابة غير الطبيعية (سيلان اللعاب لمجرد سماع صوت الجرس) تعبير الاستجابة الشرطية.
ويتبين أن المثير الذي كان حيادياً (رنين الجرس) وبفعل الترابط يستطيع أن يؤدي دور المثير الطبيعي الذي هو قطعة اللحم، وأن يؤدي إلى استجابة شرطية متعلمة هي سيلان اللعاب عند الكلب.
حاول بافلوف ومن حذا حذوه أن يبرهن على أن منظومة سلوك الإنسان وأفعاله ومشاعره هي نتاج موضوعي للعلاقات الاستجابية الشرطية التي تضرب جذورها في عمق الجملة العصبية الدماغية عند الإنسان، وهو بذلك يسعى إلى تأكيد مقولة الوحدة الجدلية بين الوجود المادي والوجود النفسي عند الإنسان وأن الحياة النفسية هي انعكاسات أو ارتكاسات عصبية للعلاقة الموضوعية بين الدماغ والمثيرات الخارجية.
وتُعزز الاستجابة الشرطية وتُقوى عن طريق اقتران المثير الشرطي بالمثير الطبيعي فيكتسب المثير الشرطي قوة جر الاستجابة، ولكن هذه القوة قد تضعف فيحصل الانطفاء أو المحو وبالتالي تتلاشى الاستجابة الشرطية المكتسبة. ويعني ذلك أن المثير الشرطي يجب أن يعزز دائماً على نحو متقطع ليحافظ على فعاليته في إحداث الاستجابة الشرطية. وتحدث حالة الانطفاء الداخلي من عدم تقديم الطعام، أما الانطفاء الخارجي فيعود إلى شروط خارجية مثل سماع أصوات غريبة ومفاجئة في أثناء التجربة، ولكن الانطفاء لايكون نهائياً إذ يمكن معاودة الاكتساب بسهولة كبيرة.
ولاحظ بافلوف في هذا السياق أنه عندما يثار اللعاب وفقاً لصوت جرس معين فإن الأصوات المقاربة للذبذبة الصوتية المعينة يمكنها أن تؤدي إلى النتيجة نفسها، وهذا ما يطلق عليه بافلوف مفهوم «التعميم» Généralisation. وبحث بافلوف عن صيغة متكاملة للمثيرات، وذلك من أجل الإشارة إلى عملية تحول طاقة ردود الفعل من مثير إلى آخر، ثم عمل على تحليل هذه المثيرات من أجل كشف الفروق القائمة بينها.
الاستجابات الشرطية والسلوك الإنساني
ينظر بافلوف إلى الظاهرة النفسية وما يترتب عليها من أنماط سلوكية على أنها أفعال منعكسة وأفعال منعكسة شرطية محددة بزمان ومكان معينين.
ويعتقد بافلوف أن الإنسان نظام محكوم بالقوانين الطبيعية المشتركة بين كل ظواهر الطبيعة، ويرى أن النظام الإنساني هو الوحيد بين الأنظمة الطبيعية الذي يتميز بقدرته الهائلة على التنظيم الذاتي، والذي يمتلك المرونة الفائقة لهذه الفعالية. والإنسان بأنظمته المعقدة خلاصة تطور الطبيعة في أكثر صورها رقياً وتقدماً. والسلوك الإنساني صناعة تتم وفقاً لمبدإ الاستجابات الشرطية، وهي صناعة ممكنة أي إنه يمكن التحكم في سلوك الإنسان وإشراطه وتصنيعه مخبرياً أو اجتماعياً حين يتم التحكم في شروط الحياة الاجتماعية.
بيّن بافلوف أنه يمكن توظيف الإشراط الاستجابي لتكون سبباً في الأمراض النفسية وكذلك في تحرير الناس من آلامهم وعقدهم وأمراضهم النفسية. فالإنسان ينطلق، في عملية تكيفه، وفق منظومة دلالية من الرموز، والمثيرات اللغوية التي تجعله في حركة استجابات شرطية تتصف بالاستمرار والديمومة. فالكلام يشكل للإنسان نظاماً ثانياً من الدلالات التي يتمايز بها الإنسان من الحيوان، إذ إن الكلام هو بالتأكيد الاختراع الذي جعل منا بشراً متفاهمين. فالمثيرات الأولى هي المثيرات الصادرة عن العالم الخارجي مثل الأصوات والروائح ومثيرات اللمس والضوء، والأحداث الخارجية هي مثيرات مشتركة بين الإنسان والحيوان، ولكن الإنسان يتفرد فيما يطلق عليه بافلوف المثيرات الدلالية من المستوى الثاني التي تتعلق بالرموز واللغة والكلمات والمعاني وهي الرموز أو الدلالات التي يتفرد بها عالم الإنسان عن عالم الحيوان.
المنعكسات الشرطية ووظائف الدماغ العصبية العليا
كان هدف بافلوف الأساسي من دراساته عن الفعل المنعكس الشرطي أن يصل إلى تحديد موضعي للأنشطة العصبية العليا عند الكائن الحي. فالمثير يمكنه أن يطلق عنان عمليات الإثارة أو الكبح، وذلك في مستوى القشرة الدماغية، ويمكن كذلك أن ينتشر ليعم المناطق الدماغية المجاورة، وفي كلتا الحالتين تنمو عملية إثارة بدرجة كثافة مختلفة وفقاً لنوعية المثير الحيادي أو الطبيعي. فالترابط المؤقت الذي يجمع بين مثير طبيعي ومثير شرطي يمثل ترابطاً بين مثيرات طبيعية وأخرى متعلمة تكتسب قوتها من الترابط والاقتران.
ويفرّق بافلوف بين الفعل المنعكس الطبيعي والفعل المنعكس الشرطي تفريقاً فيزيولوجياً يتعلّق بموقع الاستثارة لكل منهما في الدماغ. فالعمليات الخاصة بالفعل المنعكس الشرطي تجري في مجال القشرة الدماغية عند الإنسان أما الفعل المنعكس (الطبيعي) فيجري في المناطق الداخلية للدماغ (مناطق تحت القشرة) التي تتحكم في السلوك الفطري.
ويربط بافلوف بين النماذج العُصابية واكتشافاته الخاصة بالأفعال المنعكسة الشرطية التي أتاحت له اكتشاف مايسمى «بالعُصاب التجريبي»، وهو عُصاب يحدث حين يتعرض الحيوان المجرّب عليه لعمليات إثارة وكبح في آن واحد يقع على أثرها الحيوان فريسة الإثارة البالغة في اتجاهين وذلك لأنه لايستطيع التفريق بين المثيرات القادمة المتنافرة وتكون النتيجة إصابة الحيوان المعني بالعُصاب.
دفع اكتشاف بافلوف الفعل المنعكس الشرطي إلى إجراء الأبحاث النظرية والتجريبية حول التعلم، في النصف الأول من القرن العشرين، وشكل مفهوم الأفعال المنعكسة الشرطية مهاد تطور كبير ذي طابع تجريبي لمفهوم الترابط الذي كان قد أخذ منحى ذهنياً. وغني عن البيان أيضاً أن بافلوف قد بذل جهوداً كثيرة من أجل تطوير علم النفس العلمي القائم على التجارب حين بيّن إلى أي حد يمكن للتحليل الموضوعي أن يؤدي إلى نتائج مختلفة عن التي تؤدي إليها التأملات النظرية فحسب.
الجوانب النفسية الفلسفية لنظرية بافلوف
حاول بافلوف في سياق جهوده العلمية الكبيرة وفي مسار ابتكاراته أن يعزز بعض المنطلقات الأساسية للاتجاهات الفلسفية المادية وأن ينتصر بما قدمه من نتائج علمية بارعة لتيارات علم النفس التجريبي والفيزيولوجي الذي طرح نفسه بوصفه الاتجاه الوحيد القادر على تفسير الظاهرة النفسية تفسيراً علمياً بعيداً عن أوهام علم النفس التأملي.
وغني عن البيان أن نظرية بافلوف تنطوي على رؤية فلسفية طموحة وأصلية في جوانبها العلمية، وهذه الرؤية تعزز، في الوقت نفسه، اتجاهات علم النفس النزاعة إلى الارتقاء علمياً. فالنظرية البافلوفية تقوم على المبادئ التالية:
العمليات النفسية: هي صورة لفعالية الدماغ ووظيفة من وظائفه الأساسية والدماغ هو أعلى أشكال المادة وأرقاها. وينبني على هذه المسلمة أنه لا يمكن إدراك العمليات النفسية إدراكاً علمياً على الأقل بعيداً عن إدراك العمليات التي تتأصل في البنية الدماغية، فالفعل النفسي فعل يتأصل ويحفر مجاريه في قشرة الدماغ، مركز المشاعر والأحاسيس والانفعالات.
الشعور: انعكاس للمادة وصورة من صور العالم الموضوعي الخارجي، والعمليات النفسية برمتها مرهونة بإشراطات هذا العالم الذي يتحول إلى صور دماغية قشرية ذات طابع إشراطي. وبالتالي فإن إدراك الفعل النفسي مرهون بأوضاعه الخارجية والداخلية، وعلى نحو أكثر تحديداً الفعل النفسي هو نتاج التفاعل بين الوسط الخارجي بمثيراته المختلفة والوسط الداخلي الذي يتمثل بالمناطق الدماغية وخاصة القشرة الدماغية.
المادة أولية والشعور لاحق وثانوي: وهذا يعني أن الأفكار والإحساسات تنبع من العالم الخارجي المادي الموجود مستقلاً عن الوعي. وهذا يعني أن علم النفس عند بافلوف هو انتصار لآراء هوبس الفلسفية؛ فالعمليات العقلية والنفسية قابلة للدراسة والاختبار علمياً. ومن هذه النقطة يمكن الانطلاق إلى القول إن نظرية بافلوف، استناداً إلى نتائجها العملية في ميادين الحياة المختلفة، قدمت لعلم النفس أساساً علمياً صلباً يعتمد على معطيات العلوم المختلفة من طب وفيزيولوجية الأعصاب وفيزياء، وبذلك يتمثل مسعى بافلوف لإخراج علم النفس من متاهاته الأسطورية ذات الطابع التأملي الخالص.
تطبيقات النظرية في مجالات الحياة النفسية والاجتماعية
لم تعد الأمراض النفسية والعقلية بعيدة عن الفهم والعلاج منذ أن قدم بافلوف الأساس الفيزيولوجي الواضح لها. وتنطوي نظرية بافلوف على تطبيقات لاتقل أهمية عن ذلك في مجال فيزيولوجية الأعصاب وفي التعلم والعلاج النفسي، واستطاع بافلوف أن يبرهن بها على إمكانيات كبيرة في مجال علاج الهيستيرية والعُصاب والفصام والاضطرابات العقلية والنفسية عامة.
وقد وظفت معطيات هذه النظرية توظيفاً غير إنساني وخاصة في عمليات غسل الدماغ، إذ قدمت هذه النظرية الأسس العلمية لعمليات غسل الدماغ عن طريق ما يسميه بافلوف «العصاب التجريبي» الذي يؤدي إلى هدم الارتباطات الشرطية الموضوعية في المخ، ويعمل على تصفية ثوابت الارتباطات القائمة وفق نظام جديد من الشرطية المتنافرة التي يمكن أن تؤدي ببساطة إلى الخلل العقلي وإلى الفصام والاضطرابات النفسية المتنوعة.
وغني عن البيان أن نظرية بافلوف هذه، التي دفعت مسارات البحث في ميادين عدة، وجدت فيما بعد تطويرها الأصيل على يد المفكر الأمريكي بوروس فردريك سكنر[ر] B.F.Skinner الذي ابتكر طريقة الإشراط الإجرائي وجداول التعزيز، واعتمد على الإشراط الذي يعزز السلوك بعد حدوثه، فيزيد احتمال السلوك المعزز، أي إن سكنر يرى أن السلوك الإجرائي المتعلَّم يتطلب القيام بالعمل أولاً ثم يعزز هذا العمل فيزداد احتمال حدوثه في المستقبل. لقد سمي الإشراط البافلوفي بالإشراط الاستجابي وقوامه السلوك المتعلَّم للنواحي الانفعالية وغير الإرادية، في حين يشمل السلوك الإجرائي معظم سلوك الإنسان اليومي المتعلَّم.
إن الوقوف عند نظرية بافلوف يمثل وقفة في محطة مهمة من محطات التاريخ العلمية التي كان لها أثر كبير في دفع العجلات التاريخية للمعرفة العلمية في مجالات علم النفس وعلم نفس الأعضاء وفيزيولوجية الدماغ. وستبقى نظرية بافلوف الارتكاسية مركز إشعاع علمي تاريخي يرسم للمفكرين مسارات مضيئة في مجال علم النفس الفيزيولوجي.
علي وطفه