عمارة الخراب.. أنينُ الحجر والشّجر والبش

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عمارة الخراب.. أنينُ الحجر والشّجر والبش

    عمارة الخراب.. أنينُ الحجر والشّجر والبشر
    محمد جميل خضر عمارة
    الموصل المدمّرة
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    سوق حلب التاريخي.. "المدينة" قبل الخراب وبعده
    العِمارة، كما ورد معناها في "القاموس المحیط"، ھي "نقیض الخراب (البنیانُ) ما یُحْفَظُ به المكانُ". وفي "لسان العرب": العِمارة هي "البنیان یُعمّر به المكان"، وھي مشتقة من عمَّر المكان، أي سكنه وجعله عامرًا.
    إنها "صناعة البناء"، كما ورد في مقدمة ابن خلدون: "ھذه الصناعة أول صنائع العمران الحضريّ وأقدمھا، وھي معرفة العمل في اتخاذ البیوت والمنازل للكنِّ، والمأوى للأبدان في المدن. وذلك أن الإنسان لِما جُبِلَ علیه من الفكر في عواقب أحواله، لا بد أن یفكر في ما یدفع عنه الأذى من الحَرِّ والبرد، كاتخاذ البیوت المكتنفة بالسقف والحیطان من سائر جھاتھا".
    فكيف تكون العِمارة عِمارة، إن نحن ألصقنا بها تهمة الخراب، وهي التي يفترض أنها، بحسب معناها في المعاجم، نقيضة هذا الخراب؟
    هذا هو السؤال الشبيه بصرخة هاملت: "نكون أو لا نكون". وهذا هو المحيط متلاطمُ الأمواج مُرعب المَدى، الذي سنحاول خوض مياهه البِدْئية الضاربة جذورها في أَعاتي الأزمان.


    إنذار هوركهايمر

    ماكس هوركهايمر (1960/ Getty)
    ما هو المحمول الجوهريّ في جعبة الفيلسوف الألماني ماكس هوركهايمر (1895 ـ 1973) عرّاب مدرسة فرانكفورت؟ ما الذي قدّمه للبشرية لمواجهة الأنانية الجامعة والمركزية القامعة التي تبدّى عبرها حال العالم منذ مطلع ثلاثينيات القرن الماضي؟ ما هي وصفته السحرية لمواجهة كل هذا الخراب؟ هل خطر على باله وهو يتحدث عن الإنسان الحُر، والخيارات الحرّة، والانتصار للذات الإنسانية المتفردة، أن شعوبًا من شرق المتوسط ستعاني، بعد رحيله بـ40 عامًا، خرابًا ماحقًا ساحقًا في العمران والبنيان وأركان اليقين، بسبب انتفاضها من أجل حريتها؟ وستدفع نقدًا ومقدّمًا، ثمن صرخة وجودها ومعناها وكرامتها، دمارًا ماحقًا لمعظم مفردات وجودها، بما في ذلك أسواق أثرية، وبيوت رافقت طفولة الحياة، وخصوصيات معمارية ارتبطت كابرًا عن كابر، بغيبيات قناعاتهم، وما وراء عباداتهم، وأبجديات معتقداتهم، واشتراطات قيمهم، وعاداتهم، ونزعاتهم الاجتماعية المحافظة الصارمة؟

    "دمّرت المقتلةُ السورية أسواقًا تاريخية، منها سوق حلب التاريخي، خلعت بيوتًا من جذورها، راكمت الخراب وأغلقت به شوارع كانت عامرة بالحياة، ردمت مدنًا كانت مشعة بأحلام بادت"


    أسئلة لا تنتهي، في جوقة خراب لا ينتهي، ليس، حتمًا، المسؤول الوحيد عنها، جماعة فرانكفورت، ولا هوركهايم، ولا كل النزعات اليسارية الجذرية في مشوار الرأسمالية الأوروبية الغربية الليبرالية المفضية في ذروةِ سقوطها واندحارِ ملفوظاتِها وأطروحاتها وتبشيراتها، إلى عولَمة حوّلت خصوصيات العمارة إلى قطيع تشابه، وأحلام الفرادة إلى حشود استهلاك.
    كلّنا مسؤولون عنها، وكلّنا ضحايا مخرجاتها.


    ضياع البيت الآمن.. ضياع اليقين..



    في حلب، قبل الخراب وبعده
    عندما يدمّر برميلُ موتٍ مصنوعٍ من مواد بدائية غرائزيّة همجية بيتَ أسرةٍ مُمتدة توارثت مفردات هذا البيت من الجدّ إلى الأب إلى الحفيد، فإن هذا البرميل لا يغتال، فعليًّا، أركان بيتٍ آمنٍ فقط، إنه بجريمته الأنانية الجبانة هذه (محتميًا بطائرة عمودية تحوم بالدمار فوق العَمار)، يجتثّ اليقين من أحشاء معناه وآبار أسراره.
    لست هُنا بوارد سرد قصة خيالية في أمسية نخبوية. أنا أتحدث عن فعل حقيقيٍّ، حدث ويحدث في سورية، على سبيل المثال، منذ عام 2012، بشكل منهجيّ، أنانيّ، وحشيّ. يُدمَّرُ البيت فوق رؤوس أصحابه. قد لا يكون بيتًا باذخ العمارة، ساحر التفاصيل، بديعَ الأقواسِ والحرّاسِ والأنفاسِ والياسمين، لكنه، حتمًا، بيتُ أُناسٍ آمنين، يكيّفون بيوتهم، كانوا يكيّفون بيوتهم، ليس بحسب حسابات الهندسة المعمارية وحدها، ولكن، أقلّها، بحسب مواضعات قيمهم الاجتماعية، واحتياجاتهم الضرورية، وموروثهم الجماليّ الأخلاقيّ الذي ينفعهم، ويمكث في الأرض. ما يعني أن ضياع البيت الآمن، يُفضي، بالضرورة، إلى ضياع اليقين.
    دمّرت المقتلةُ السورية أسواقًا تاريخية (سوق حلب التاريخي على سبيل المثال)، خلعت بيوتًا من جذورها، راكمت الخراب وأغلقت به شوارع كانت عامرة بالحياة، ردمت مدنًا كانت مشعة بأحلام بادت.


    عمارة مخيمات الفلسطينيين

    مخيم البقعة للاجئين الفلسطينيين، أكبر المخيمات في الأردن
    "في محنة الشعب الفلسطينيّ، جرت هندسة عمارة وجوده الرماديّ بعد خراب وجوده الحقيقيّ، على أساس تخصيص خيمة، ولاحقًا غرفة مركزية لربِّ الأسرة، وحولها غرف أولاده، أو أشقائه"



    ليسَ بعيدًا، وليس قريبًا، عن محنة الشعب السوريّ، محنة الشعب الفلسطينيّ. ومنذ دقّ ناقوس نكبتهِ عام 1948، توزّع الشعب الفلسطينيّ أربع جهات الأرض، ولكنّ مخيماته، على وجه الخصوص، فُرِدت، على وجهِ السرعة له، في أربعةِ معانٍ كبرى: معنى امتداده في الضفة الغربية وغزة، ومعاني مداه في الأردنّ وسورية ولبنان. في كلِّ هذه وتلك، جرت هندسة عمارة وجوده الرماديّ بعد خراب وجوده الحقيقيّ، على أساس تخصيص خيمة، ولاحقًا غرفة مركزية لربِّ الأسرة، وحولها غرف أولاده، أو أشقائه، إن كان كبير الأسرة هو رب الأسرة في حالة موت معيلها، أو عدم وجوده، أو عدم مقدرته على فعل الإعالةِ هذا.
    مع مرورِ الأعوامِ وراء الأعوام، ومع ترسّخ القناعةِ الفاجعةِ، أنْ لا عودةً قريبةً إلى الديار، تلك الديار التي كانت عمارتها جزءًا من عمارة البحر، وعمارة السهل، وعمارة التلال، وعمارة المدنيين، وعمارة الفلاحين، وعمارة المؤمنين، وعمارة المنحدرين من حضارات فائقة الحضور: يونانية ورومانية وبيزنطية وإسلامية، بدأ اللاجئون المقلوعون من ديارهم يتوسّعون حول الخيمة/ الغرفة المركزية. شرعوا يُوارون عورات المسّ بكراماتهم بِقطعة قماش، أو بعض حجارة تقي أولادهم الانخراط في تجمّعٍ بوهيميٍّ، الجميعُ فيه شهداءُ غرائزٍ وشهود. كان سيفرح سيغموند فرويد، ويغضب صاحبنا هوركهايم، لو تقاعس الآباء في مخيمات الشتات عن إصلاح ما يمكن إصلاحه وسط كل هذا الخراب. إن مجرّد إصرار هؤلاء الآباء على تعليم أولادهم ليس فكّ الحرف فقط، ولكن الحصول على أعلى الدرجات الأكاديمية الجامعية، هو شكل من أشكال مواجهة الخراب الذي استيقظوا ذات صباح حزين، فإذا بهم غارقين داخل بشاعة أعمدته، وبؤس أركانه. ينفقون (الحيلة والوسيلة) ليواصل أبناؤهم تعليمهم، يقترضون، ينصبون، يتشاطرون، يعملون عشرين ساعة في اليوم. صحيح أنهم، من جهة أولى، كما لو أنهم يستثمرون بأولادهم وبشهادات أولادهم وما يمكن أن تفتحه أمامهم من فرص حياة أفضل وعمران أنبل، ولكنهم، من جهة ثانية، يحاولون على طريقتهم ردم بعض حفر الخراب المنتشرة في دروبهم، وهدم بعض جدرانه المنتصبة أمام أحلامهم كأنها القدر.
    شيدت مخيمات اللجوء الفلسطيني على طريقة البلوكات المتراصة فيها البيوت، يسمع الجار مختلف تفاصيل جاره. هذا ما عليه الحال في مخيم الحسين في العاصمة الأردنية عمّان، وما عليه في مخيم الوحدات في العاصمة نفسها، وفي مخيمات أخرى كثيرة. مخيمات لُفّقت على عجل، وبما يشبه العشوائيات، كما هو حال معظم مخيمات لبنان، أو أقيمت في بُقعة محاصرة، لدوافع أمنية، بجبال حولها. أرض طينية لا شوارع إسفلت فيها، كما هو حال مخيم البقعة في بلقاء الأردن. وحده مخيم اليرموك في العاصمة السورية دمشق كان، قبل تدمير معظمه، يحظى ببعض فضاء ومساحات ودلال، من دون أن يعني ذلك خلوّه من البيوت المتلاصقة والأنفاس المتلاحقة.


    عالَمٌ أنانيّ

    عراقة عمرانية تنزف في صنعاء
    في كتابهما "جدل التنوير"، يرى هوركهايمر، وعالم الاجتماع الألماني، تيودور أدورنو (1903 ـ 1969) أن المدنية الحديثة بتكنولوجيتها "المتقدمة ومبانيها الشاهقة وبهرجها الزائف توجّه العلم والتقنية والعمل والسياسة، وكذلك الفلسفة نحو مصالحها". هما، بالتالي، كما أفهم، يعترضان على "المجتمع الصناعي الحديث" الذي يرفع، فعلًا، مستوى الإنتاج الاقتصادي، ولكنه، بالمقابل، يرفع من وتيرة الاستهلاك اليومي، وبما يفيض كثيرًا عن حاجات الناس الضرورية المنطقية الكفيلة بقدر نزيه لائق من الرفاه والسعادة وعدم الجشع، أو الحسد، أو التقليد النمطيّ الأعمى المنقاد للحملات الدعائية والبهرجات الإعلانية.
    انقياد كفيل بجعل السلطة المتفوقة الغاشمة الحاكمة لرأس المال الذي يدير الكوكب ويتحكّم بمخرجات التكنولوجيا. ومما لا شك فيه أن جماليات العمارة، وقدسيّتها، ويقينيّتها، وفضاءات كرامتها لبني البشر، هي في ذيل أولويات هذه السلطة الرأسمالية المتفوقة الغاشمة. ولعل وضعنا لها في الذيل، يتجلى بوصفه افتراضًا أن هذه الجماليات موجودة، أصلًا، في قائمة هؤلاء، والحقيقة المرّة أنها غير مسجّلة في قوائمها.
    واقعٌ بائسٌ خرِبٌ بِقبحِ عمارته، ولا سكينة مبانيه، يرزح الناس فيه تحت مكبّلات الخوف والقهر في ظلّ نظامٍ رأسماليٍّ شموليّ عديم الروح والمعنى، متعجرفُ المبنى.
    يكتب د. إبراهيم الحيدري في مقال نشره له موقع "إيلاف" بتاريخ 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، عن موبقات الرأسمالية الشمولية، ويشير إلى الخراب الذي قسم ظهر العمارة الزاهية، ومسّها في الصميم: "اعتبر أعضاء مدرسة فرانكفورت الرأسمالية كعصر يتقلّب الاقتصاد فيه بسرعة أكثر مما تتغيّر فيه الحضارة. فالتصنيع ينعكس في العمارات والحديد والتكنولوجيا وتداول الرَساميل بصورة خيالية، حيث تنمو المدن وتنمو معها جماهير الناس وتتوسع. غير أن التكنولوجيا الجديدة ليس لها وجهٌ محددٌ، ويجب أن تحوَّر من أجل أن تظهر حديثة. والعالم البرجوازي يبني عمارات مزخرفة، وينسج ألبسة مخملية، ويشيّد محطات قطارات ومسارح تظهر كلها وكأنها كاتدرائيات غوطية. أمّا الحياة اليومية فتختفي في علب. وتظهر الصناعات المستقبلية مملوءة بأحلام خيالية، مثلما ظهرت في تصورات منتصف القرن التاسع عشر".



    عِمارة الخراب في كتاب..





    في كتابه "عمارة الخراب: الزائل والمؤقت في عمارة بلاد الرافدين" (2021)، لا يتلاعب الفنان التشكيلي والشاعر العراقي، شاكر لعيبي، بالألفاظ. وهو، بحسب الناشر، لا ينوي "إطلاق تعبير لعبيّ، أو شكلانيّ، أو حتى شعريّ، أو محض مفارَقة مجّانية".

    "إلى أي قدرٍ نتعالق نحن بنو البشر مع خراب بيوتنا؟ وكيف يمتد خراب البنيان وصولًا إلى خراب الإنسان الساكن داخل هذا البنيان؟"


    وباستناده على الدلالة المُعجمية الدقيقة لمفردة خراب، كما وردت في "لسان العرب": خرب، الخراب ضد العمران، والخربة موضع الخراب. ودار خربة وأخربها صاحبها، وقد خرَّبه المخرِّب تخريبًا، فإن لُعيبي يريد في كتابه الجديد، تناول الخراب بالمبنى قبل أن يغوص داخل آفاق المعنى المتعلّق بهكذا مفردة، تبدو أحيانًا أنها شبه صمّاء عصيةٌ، أو تكاد، على التأويل. فأي تأويل يمكنه أن يحيل إليه الخراب سوى الخراب؟ ولعل السؤال الممكن لجعل كتاب "عمارة الخراب" بأقدام، ومنحه فرص انتشار أوسع مدى، هو: إلى أي قدرٍ نتعالق نحن بنو البشر مع خراب بيوتنا؟ وكيف يمتد خراب البنيان وصولًا إلى خراب الإنسان الساكن داخل هذا البنيان؟ أليست منظومة أجسادنا، هي، بشكل من الأشكال، عمارة معقدة من الأجهزة والضلوع والأطراف والغدد والأعصاب والحواس والدهن والعضلات والعظام والجلد والأوردة والشرايين وممكنات الحنين؟
    والسؤال هنا: إلى أي مدى تتأثر عمارتنا السيكولوجية الروحانية في حال أسكنّا أجسادنا داخل عمارة خربة، خالية من قيم الجمال، وممكنات الفضاء الصحي الوظيفي الثري؟


    أميركا اللاتينية تبحث عن سمائها..

    مدينة صفيح في فنزويلا
    في سياق بحثها عن سمائها، وبما أنها لم تهتدِ إليها بعد، تقبع عمارة أميركا الجنوبية (اللاتينية)، في منطقة ملتبسة بين الخراب، وبين تدافع الهويات، محاولة أن تنفض عن حجارتها بقايا سطوة الشمال الاستعماريّ.
    في مقال له يحمل عنوان "الغريب والقريب: مسارات "الممكن" في عمارة أميركا اللاتينية، إسقاطات على المشرق العربي"، يبحر المعماريّ السوريّ، وسام العسلي، في مدارات الأسئلة التي تطرحها عمارة أميركا الجنوبية التي قررت، أخيرًا، أن تختار الحاضر وتقلع منه، واضعة الماضي وراء ظهرها، متفوقة في سماوات بحثها على كثيرٍ من تجليات العمارة الأوروبية، والغربية على وجه العموم. يعاين تقاطعات ما جرى ويجري هناك مع مشرقنا العربيّ. يستهلّ مقاله بحديث جرى بينه وبين المعماريّ المكسيكيّ، ميغيل أنخيل أراغونيس، عندما يسأله العسلي: "ألا تعتقد أن تبنيك لطريقة بناء الأوروغوياني إلاديو ديسته Eladio Dieste (1917 ـ 2000) فيه إنقاص لعملك الشخصي؟"، ليجيبه أنخيل: "إنها شجرة واحدة، نحن فروع تبحث عن السماء". العسلي ينتقل بعد ذلك إلى تناول أثر المستعمر الغربيّ الشماليّ على الملامح الحضرية والعمرانية والمجتمعية لأميركا الجنوبية: "يَصيغ الكولونيالي تجارب الشمال ويفرضها على الجنوب. يُسقط ما ندرس، سهوًا، أو عمدًا، تجارب الجنوب في الجنوب، أو يُحيلها لمآلات كولونيالية. لا أحد يفكر بشجرة ميغيل أنخل".

    "حسب تقارير الأمم المتحدة الصادرة في عام 2018، يقبع مليار إنسان حول العالم في مدن صفيح تحبس أنفاس الكوكب، وتحيل عمارته إلى خراب"


    يقول العسلي: "في بحث أميركا الجنوبية عن سمائها، نستطيع التعميم قليلًا. فمدنها تعرف بعضها البعض جيدًا، تصغي لجلاديها وأبطالها. معماريوها، كفنانيها وشعرائها وكتّابها، يشربون من جذور مشتركة، ويتفرعون، كما يقترح ميغيل أنخل، في سماء واحدة".
    مقال العسلي لا يعرّج على مدن الصفيح في كثير من دول أميركا اللاتينية، ولو فعل، لقلّل قليلًا، ربما، من افتتانه بالقباب المائلة التي أصبحت ماركة مسجلة لمعماريي القارة الناهضة من أزمنة استعمار متعاقبة. ومن انجذابه المأسور بكيف وازنت عمارة (اللاتينية) بين مفردات شعوبها الثقافية الوجدانية، وبين معطيات الحداثة المعمارية المتقاطعة في كثير من حلولها مع مدرسة المعماريّ الفذ المصري حسن فتحي (1900 ـ 1989) حول عمارة الفقراء.


    مدن الصفيح..

    أحياء صفيح في المغرب
    على كل حال، لم تعد مدن الصفيح مقتصرة على بلدان أميركا الجنوبية، فبحسب تقارير الأمم المتحدة الصادرة في عام 2018، يقبع مليار إنسان حول العالم في مدن صفيح تحبس أنفاس الكوكب، وتحيل عمارته إلى خراب.
    فقد "باتت العشوائيات ومدن الصفيح في عصرنا الحالي، الذي تشوبه الأزمات والحروب، تشكّل آفة اجتماعية تنطوي على نشر الفقر والأوبئة، وتعمل على تفريخ الجريمة والتسوّل والتطرف. وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن عدد سكان مدن الصفيح على الصعيد العالمي سيبلغ عام 2020 نحو 1.4 مليار نسمة، أي ما يعادل عدد سكان الصين. ويُعتقد أن ربع سكان العالم في المناطق الحضرية يعيشون في مساكن عشوائية، بينما يتصاعد هذا الرقم بوتيرة متسارعة". (عثمان محمد يوسف، "الوطن القطرية"، 3 آذار/ مارس 2018).
    يشير تقرير أصدره مركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، إلى أن سكان مدن الصفيح يزدادون سنويًّا على مستوى العالم بمعدل 2.2%، وبنسبة 4.5% في القارة الأفريقية.
    وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإسكان العشوائي يقوم بتخطيطه وتشييده الأهالي بأنفسهم، "إما على الأراضي الزراعية والصحراوية القاحلة، أو على أراضي الدولة التي تقع غالبًا على تخوم المدن، من دون أن تكون مخططة رسميًا لأغراض السكن. ويقوم السكان بأعمال التخطيط والتصميم والبناء انطلاقًا من اجتهادات شخصية لإنشاء تجمعات متلاصقة ومتراصة من أكواخ من الخشب، أو الصفيح، أو الطين، مع الاستعانة أحيانًا بالكرتون والأقمشة البالية". (يوسف، الوطن).

    "يُعتقد أن ربع سكان العالم في المناطق الحضرية يعيشون في مساكن عشوائية، بينما يتصاعد هذا الرقم بوتيرة متسارعة"


    وثمة عدة عوامل أسهمت في نمو واتساع رقعة الإسكان العشوائي حول العالم، تتخلص في زيادة معدلات النمو السكاني، وتصاعد حركة الهجرة من الأرياف للمدن بدوافع البحث عن فرص العمل، والحصول على الخدمات الصحية والتعليمية، وذلك علاوة على الآثار السالبة التي خلفتها الحروب الأهلية، وتغيرات المناخ.
    فأي عِمارة خراب يشاهدها بدم بارد أسياد الأرض، ولا يحركون ساكنًا وهم يعرفون حق المعرفة أن المساكن العشوائية تفتقر "لأبسط مقومات الحياة الكريمة، خاصة المرافق العامة، من مياه الشرب، والصرف الصحي، والكهرباء، الأمر الذي يجعلها مرتعًا للأمراض، وبيئة صالحة لانتقال العدوى، خاصة في ظل التزاحم الشديد، وعدم الاهتمام بالنظافة العامة. وغالبًا ما يترتب على هذا النمط السكاني، وما يرافقه من تدنٍ لدخل الأسرة، استيطان حالات سوء التغذية والأمراض الصدرية، مثل الالتهاب المستديم للشعب الهوائية، والسل، إضافة للأمراض الباطنية، وبصفة خاصة الملاريا، والإسهالات، والديدان المعوية الناجمة من تلوث المياه". (يوسف، الوطن).
    لم يتطرق تقرير عثمان محمد يوسف للآثار النفسية والأخلاقية والقيمية التي تسببها مدن الصفيح هذه. ولم يشر إلى انعدام أي دلالات جمالية في بيوت تلك المدن، وفي خرائبها.
    هل يعقل أن تلك العشوائيات ومساكن العشش أكثر انتشارًا، عربيًّا، في مصر أمّ العمارة على مدى التاريخ، التي شيّد أجدادها الأهرامات، وجعلوا حتى المقابر شواهد عمرانية آسرة؟! وفي عراق المجد والنفط والعباسيين؟! وفي المغرب، حيث فاس وعمارتها، ومراكش ودهشتها، والدار وجليل أبيضها؟!
    وفي إمكاننا، من دون أدنى شعور بالذنب، أو الاتهام بعدم التقصّي، أن نضيف لقائمة خرابنا وعشوائياتنا: اليمن الواقعة في قلب صراع إقليميّ لا يرحم، ولبنان التي أُفْقرت كما لم يتخيّل أكثرنا تشاؤمًا، وسورية المتواصلة مقتلتها من دون أيّ أفق منظور.


    هي..
    عمارة الخراب هي أي عمارة لا تحترم النسب، ولا تراعي القيم، ولا تصون كرامة الإنسان الساكن داخل عتمتها.
    أنين البشر والحجر والشجر.
    إغلاق منافذ الهواء أمام أنفاس الحياة.
    تجريف المساحات الخضراء كي يرضى أسياد البلاء.
    مبانٍ معلّبة شيّدت على أنقاض شواهد عمرانية عريقة، من دون أن تستعيد أي أثر، أو موروث من العمارة المذبوحة قربانًا لعيون المال ورأس المال. (مقهى العاصمة ومقهى الجامعة العربية في العاصمة الأردنية عمّان نماذجًا).
    الإسمنت حين يكون بألوان الكآبة، والحديد حين يقسو على عين الجَمال.
    عمارة الخراب هي السؤال الذي يبحث عن جواب.. الباب الذي يفضي إلى عتمة بلا محراب.. الحائط الآيل للسقوط.
    عمارة القُنوط.
يعمل...
X