عن استرجاع الفرشاة للقلم واحتكار الفنانين للكتابة الفنية
أسعد عرابي 3 مارس 2023
تشكيل
الكاتب مع جيرار أغسيروغيرا، أحد أبرز النقاد بأوروبا
شارك هذا المقال
حجم الخط
ربما يتفوق هذا الموضوع في حدثيته التشكيلية والنقدية على سواه. فقد شهدت أدوات التواصل الاجتماعي هجمة غير مسبوقة من "الحقد على النقد"، سواء الوافد من عالم الأدب، أو الصحافة، باعتبار أن الفنان عندما يفشل يمارس الكتابة النقدية، وهي تهمة تعميمية أكل عليها الدهر وشرب، كما أنها إشكالية تخلصت منها أوروبا منذ أكثر من قرن، بينما لا يزال نقادنا الأدباء يحتكرون سلطة النجومية في التقويم التشكيلي، مما أثار فوضى التقويم. انتهت المعضلة في أوروبا مع فضيحة إميل زولا بإساءته لبول سيزان، ومع تأسيس نابليون الثالث لصالون المرفوضين عام 1886، لتُفرِّخ بعدها المدارس والتيارات خلال الحربين.
حلت، إذًا، ظاهرة صحية باسترداد الممارسين لأنواع التشكيل حقهم في الكتابة الفنية منذ بداية القرن العشرين. وحتى قبل ذلك، مع دعوة كلود مونيه للانطباعية (المتحالفة مع علماء الفيزياء البصرية مثل شيفرول) منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كما رسخت سلطة مدرسة الباوهاوس أفضلية الفنان التعددي المفكر على الصنائعي، وهكذا.
كما لعب اكتشاف تقارب الموسيقى من التجريد بُعدًا في النقد الأدبي ولم تصلنا بعد هذه الثورة، لذلك فنحن متخلفون أكثر من مئة عام عن مراحل ما بعد الحداثة، فإن فازاريللي، كمثال، يملك من عدد الكتب أكثر من عدد لوحاته، وهو النموذج الغائب عن حاضرنا الحداثي.
* * *
استرد الفنانون التشكيليون الممارسون لمادتهم (التي يعايشونها كل يوم مع الشهيق والزفير) لحقهم في الكتابة الفنية عن أسرار مهنتهم، وذلك خاصة منذ أوائل القرن العشرين (وحتى قبل ذلك مع تأسيس الرومانسية من قبل أوجين دولاكروا، واستخدامه للألوان الصريحة، مثل التخطيط باللون الأحمر للأحصنة والمحظيات (إثر رحلته التشكيلية إلى الأندلس مرورًا بالجزائر والمغرب)، وما سجله من ملاحظات تشكيلية وكتابية في دفتريه الخالدين لأول مرة.
* * *
لعلها العودة الحميدة إلى تقاليد عصر النهضة الإيطالي (القرن الخامس عشر للميلاد)، وسيطرة الفنانين على تأسيس الكتابة الفنية، وعلى رأسهم رابع العباقرة (مع ميكيل آنجلو، وليوناردو دافنشي، ورفائيل)، وهو فريدريكو فاساري، الذي عرفنا في كتابه على أسرار عبقرية زملائه (هو الذي لا يقل عنهم خصوبة تشكيلية وموهبة)، وثبت أخلاقيًا الفرق بين النقد الفني (المعتمد على التحليل والخبرة المختصة) والانتقاد المرذول عوضًا عن شرح أفكارهم للقراء.
وهكذا استرجع الفنان صانع اللوحة، أو المنحوتة، أو المطبوعة، مع نظائرها، حق ممارسة الفكر والكتابة النوعية، وبيان الأسرار المهنية والتقنية، بمعزل عن وصاية الأدب والصحافة والمؤسسات الطفيلية الخاصة (صالات العرض والتسويق ونقادهم المأجورين)، أو العامة، وحتى وزارات الثقافة.
تم هذا عن طريق تأسيس كلود مونيه لمجموعة الانطباعيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بعد تحالفه مع أبحاث الفيزياء البصرية، خاصة التي أسسها العالم شيفرول، والمعتمدة على الخروج إلى الفضاء الطبيعي الرحب لتحليل ضوء الشمس إلى ألوانه القزحية الأولى، بحيث أن شبكية العين تخلط مزيجها وهميًا، ولا تحتاج للخلط الكيميائي على صفيحة الألوان (الباليتا). هو الانقلاب الذي قاد إلى تغيير فلترات الكاميرا للتلاعب بألوان الفصول الأربعة. وقاد مع التنقيطية المتفرعة عنها إلى تنقيبات الزنكوغراف، والأوفست، والبث إلى الصور المتلفزة، على أساس نقاط الألوان الأساسية، واشتقاقات "الباكسن". وهكذا كلما اندمجت العلوم الحديثة بالفنون (خاصة المعلوماتية والسبرنتيك ويعني: علم النظم التقنيّة- المحرّر) انحسر دور النقد غير المختص خارج كتابات الفنانين، التي التحقت في ما بعد بفلسفة علم الجمال والدراسات المنهجية النخبوية، على غرار علم الجمال المقارن. وتبين أن الموسيقى أقرب الفنون إلى التصوير، يجمعهما التجريد. بعكس المجاز الأدبي: خطان متعاكسان من الدلالة القاموسية إلى تجريد التيه الشعري في الأدب. ومن التجريد "السيميولوجي" إلى التقارب المتدرج من التمثيل، أو التشخيص، تمامًا مثل الفرق بين استحضار مفردة شجرة في الشعر، والابتداء بالعكس من غيبوبتها التشخيصية في اللوحة.
يرمز استرجاع هذا "الحق المغتصب" في الكتابة الفنية إلى فضيحة إساءة إميل زولا لزميل طفولته وصباه العبقري التشكيلي بول سيزان، مؤكدًا في دعوى روايته أن الصالونات الرسمية لم تقبل لوحاته ولا مرة لضعفها وفشلها المتكرر.
في الواقع التاريخي، أسس نابليون الثالث صالون المرفوضين عام 1886م، وقُبِلت فيه لوحة سيزان لأول مرة. في حين أن مؤسسي تيار التكعيبية، بابلو بيكاسو، وجورج براك، يدينان بفضل هذا الاكتشاف إلى طريقة التحليل التكعيبي الثوري لبوسان في متحف اللوفر من قبل سيزان. المشكلة ببساطة سيطرة نجوم الأدب في تلك الفترة على لجان التحكيم في الصالونات الرسمية (للفن التشكيلي)، فضيحة أخرى من هذا الطراز في أحد الصالونات التالية، يكتب أحد الصحافيين معلقًا بسخرية على عرض الكلاسيكي بورديل (رامي القرص) بجانب لوحات هنري ماتيس، وأندريه ديران، وفيون، وبراك، قائلًا: "بورديل في قفص الوحوش"، متهمًا أرهف الملونين الحداثيين بالتوحش. قَبِل ماتيس على ذكائه وحصافته هذه التهمة، وأسس عام 1905م "تيار الوحشية"، وهو الأشد تأثيرًا مع مونيه على مدرسة نيويورك.
تبعه "الأنبياء" والمتنبئون بقيادة بيير بونار، وعودة اللوحة إلى حميمية الداخل بتحالف فويار، وفالادون، وسواهما، بالعرض معه. وازدادت بذلك الهوة بين الصحافة النقدية وكتابات وندوات الفنانين المحترفين، حتى توصلنا مع ماتيس في مرحلته الأخيرة المعتمدة على المقص وأوراق ألوان الغواش يعلن بأن "التصوير الحقيقي يعتمد على قص اللسان"، يقصد النقدي. لا شك في أن لمدرسة الباوهاوس الألمانية دورًا أساسيًا في أفضلية الفنان المفكر والتعددي، مثل بول كلي، على الصنائعي.
هذا في أوروبا حاضنة الفن الحديث بتياراته الصامتة، مثل "المفاهيمية"، وسواها، أما المحترف العربي فلا يزال يجتر قاعدة "الأدباء قوامون على الفنانين"، واستمر نجوم الأدب على غرار أدونيس بإثارة فوضى التقويم يرفعون من يتفيأ بظل نجوميتهم، ويظللون المحترفين الأصليين، مما أدى إلى تقويم النماذج الاستهلاكية الفاسدة، ومما قاد غلاة المحترفين إلى تعميم اتهامهم للكتابة النقدية بأنها نتاج الفنانين المتواضعي الموهبة، وهو خطأ ديماغوغي كبير، لأنه ضاعف من سلطة الكلمة المدللة لدى الأنظمة السياسية، واتسع الشقاق بين صفي الأدباء (ما عدا الأصليين، مثل بلند الحيدري، وزكريا تامر، الذي اكتشف موهبة شلبية إبراهيم، زوجة نذير نبعة الصعيدية، وعمل معها سنوات طويلة) والفنانين في المقابل.
غلب على الوسط الفني نموذجي الشخصي المزدوج في ريشته وقلمه، أي الفنان الكاتب، الذي يسعى في اتجاهين من دون عصبية ثقافية، لا تمنعه معارضه المستقبلية من تثبيت عقائده الحداثية في مؤلفات ذات لغة فنية خاصة، وبمصطلحات فنية نوعية لا يستوعبها الأدباء ونقاد الصحافة، على غرار المصطلح الجوهري الشائع البديل للألوان في مدرسة برشلونة، وقيادة أنطوني تابييس لها: "الموادية" le matiérisne، معتمدة على الخامات والأجناس المتباينة في نحتها ونسيج موادها، وليس على اشتقاقاتها اللونية.
لدينا تعددية أسماء الفنانين والكتاب بالفن التي ضمنت التوازن بين الطرفين (النقد الوافد من مادة مناقضة، وهي الكلمة والنقد الفني المختص الغارق عموديًا في الخصائص التشكيلية)، من أمثال محمد القاسمي، ود. أحمد نوار، ود. مصطفى الرزاز، وجماعته السوريالية، مثل رمسيس يونان، وعادل السيوي، وإميل منعم، ومحمد عمران، وسمير صايغ، وشاكر حسن، وضياء العزاوي، وجواد سليم، وحسين بيكار، ومحمود حماد، ولور غريب، وسمير تريكي، وإيتيل عدنان، وعشرات غيرهم، مثل محمد المليحي، ومنير الشعراني، وعز الدين شموط.
* * *
تيسر لي من خلال عملي في المجلات المختصة الفنية في باريس بصداقتين ثمينتين لأشهر ناقدين في أوروبا، لا يمارسان مادة التشكيل، ولكنهما يغرفان من فكر الممارسين حولهما، وتجمعات تياراتهما ما بعد الحداثية، أولهما متوفَّى، وهو بيير ريستاني، الذي يملك دورًا مركزيًا في إعادة لحمة التحالف الفني ما بعد الحرب العالمية الثانية، ما بين طرفي المحيط الأطلسي، ما بين مونوبولين: باريس ونيويورك. وذلك عن طريق تجميعه لكبار رواد ستينيات ما بعد الحرب في فرنسا، من إيف كلاين، إلى سيزار، وسولاج، وسواهما، تحت عنوان "الواقعية الجديدة". لم يستكمل كتابه إلا بعد عام من الجدل مع هؤلاء، وقبل تبادل المعارض مع جماعة "البوب آرت" في نيويورك وباريس، ولشدة متانة هذا الكتاب التشكيلي المحض فقد زلزل خرائط وقناعات استقلال المدرستين الفرنسية والأميركية. أصبح سيزار الفرنسي من جماعة البوب آرت (بباهمه الشهير)، وأصبح روشنبرغ الأميركي منتميًا إلى الواقعية الجديدة، من خلال إنشاءاته العدمية، أو التجهيزات الدادائية المحدثة.
* * *
أما الصديق الثاني فهو الناقد العالمي، جيرار أغسيروغيرا، الذي يملك أكثر من مئة كتاب ما بعد حداثي نافذة جميعها، ومختص بالمنماليزم النحتي، أو النصبي (الآسيوي خاصة). يستحوذ على مجتمع من رواد الفنانين أغلبهم منخرطون كما مر معنا في الواقعية الجديدة، لذلك فهو لا يختلط بالنقاد، وإنما بالفنانين كل يوم، وتجمعه مع ريستاني صداقة تحالف فكرية ومهنية، حتى اختصا بالإشراف على التظاهرات الكبرى العالمية الشمولية، مثل ثالثهم مارتان.
هؤلاء في النتيجة على قناعة بعزلة النقد إذا لم يتحالف مع مقولات وبيانات وتصريحات المحترفين، لذلك فهم يمثلون بطريقة ما: "لسان اللغة النوعية في الفن"، والتي تحتاج إلى دراية وتدريب مداده آلاف المعارض وصفحات الكتابة الفنية (التي كانت تدعى بالنقد الفني).
أسعد عرابي 3 مارس 2023
تشكيل
الكاتب مع جيرار أغسيروغيرا، أحد أبرز النقاد بأوروبا
شارك هذا المقال
حجم الخط
ربما يتفوق هذا الموضوع في حدثيته التشكيلية والنقدية على سواه. فقد شهدت أدوات التواصل الاجتماعي هجمة غير مسبوقة من "الحقد على النقد"، سواء الوافد من عالم الأدب، أو الصحافة، باعتبار أن الفنان عندما يفشل يمارس الكتابة النقدية، وهي تهمة تعميمية أكل عليها الدهر وشرب، كما أنها إشكالية تخلصت منها أوروبا منذ أكثر من قرن، بينما لا يزال نقادنا الأدباء يحتكرون سلطة النجومية في التقويم التشكيلي، مما أثار فوضى التقويم. انتهت المعضلة في أوروبا مع فضيحة إميل زولا بإساءته لبول سيزان، ومع تأسيس نابليون الثالث لصالون المرفوضين عام 1886، لتُفرِّخ بعدها المدارس والتيارات خلال الحربين.
حلت، إذًا، ظاهرة صحية باسترداد الممارسين لأنواع التشكيل حقهم في الكتابة الفنية منذ بداية القرن العشرين. وحتى قبل ذلك، مع دعوة كلود مونيه للانطباعية (المتحالفة مع علماء الفيزياء البصرية مثل شيفرول) منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كما رسخت سلطة مدرسة الباوهاوس أفضلية الفنان التعددي المفكر على الصنائعي، وهكذا.
كما لعب اكتشاف تقارب الموسيقى من التجريد بُعدًا في النقد الأدبي ولم تصلنا بعد هذه الثورة، لذلك فنحن متخلفون أكثر من مئة عام عن مراحل ما بعد الحداثة، فإن فازاريللي، كمثال، يملك من عدد الكتب أكثر من عدد لوحاته، وهو النموذج الغائب عن حاضرنا الحداثي.
* * *
استرد الفنانون التشكيليون الممارسون لمادتهم (التي يعايشونها كل يوم مع الشهيق والزفير) لحقهم في الكتابة الفنية عن أسرار مهنتهم، وذلك خاصة منذ أوائل القرن العشرين (وحتى قبل ذلك مع تأسيس الرومانسية من قبل أوجين دولاكروا، واستخدامه للألوان الصريحة، مثل التخطيط باللون الأحمر للأحصنة والمحظيات (إثر رحلته التشكيلية إلى الأندلس مرورًا بالجزائر والمغرب)، وما سجله من ملاحظات تشكيلية وكتابية في دفتريه الخالدين لأول مرة.
* * *
لعلها العودة الحميدة إلى تقاليد عصر النهضة الإيطالي (القرن الخامس عشر للميلاد)، وسيطرة الفنانين على تأسيس الكتابة الفنية، وعلى رأسهم رابع العباقرة (مع ميكيل آنجلو، وليوناردو دافنشي، ورفائيل)، وهو فريدريكو فاساري، الذي عرفنا في كتابه على أسرار عبقرية زملائه (هو الذي لا يقل عنهم خصوبة تشكيلية وموهبة)، وثبت أخلاقيًا الفرق بين النقد الفني (المعتمد على التحليل والخبرة المختصة) والانتقاد المرذول عوضًا عن شرح أفكارهم للقراء.
وهكذا استرجع الفنان صانع اللوحة، أو المنحوتة، أو المطبوعة، مع نظائرها، حق ممارسة الفكر والكتابة النوعية، وبيان الأسرار المهنية والتقنية، بمعزل عن وصاية الأدب والصحافة والمؤسسات الطفيلية الخاصة (صالات العرض والتسويق ونقادهم المأجورين)، أو العامة، وحتى وزارات الثقافة.
تم هذا عن طريق تأسيس كلود مونيه لمجموعة الانطباعيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بعد تحالفه مع أبحاث الفيزياء البصرية، خاصة التي أسسها العالم شيفرول، والمعتمدة على الخروج إلى الفضاء الطبيعي الرحب لتحليل ضوء الشمس إلى ألوانه القزحية الأولى، بحيث أن شبكية العين تخلط مزيجها وهميًا، ولا تحتاج للخلط الكيميائي على صفيحة الألوان (الباليتا). هو الانقلاب الذي قاد إلى تغيير فلترات الكاميرا للتلاعب بألوان الفصول الأربعة. وقاد مع التنقيطية المتفرعة عنها إلى تنقيبات الزنكوغراف، والأوفست، والبث إلى الصور المتلفزة، على أساس نقاط الألوان الأساسية، واشتقاقات "الباكسن". وهكذا كلما اندمجت العلوم الحديثة بالفنون (خاصة المعلوماتية والسبرنتيك ويعني: علم النظم التقنيّة- المحرّر) انحسر دور النقد غير المختص خارج كتابات الفنانين، التي التحقت في ما بعد بفلسفة علم الجمال والدراسات المنهجية النخبوية، على غرار علم الجمال المقارن. وتبين أن الموسيقى أقرب الفنون إلى التصوير، يجمعهما التجريد. بعكس المجاز الأدبي: خطان متعاكسان من الدلالة القاموسية إلى تجريد التيه الشعري في الأدب. ومن التجريد "السيميولوجي" إلى التقارب المتدرج من التمثيل، أو التشخيص، تمامًا مثل الفرق بين استحضار مفردة شجرة في الشعر، والابتداء بالعكس من غيبوبتها التشخيصية في اللوحة.
يرمز استرجاع هذا "الحق المغتصب" في الكتابة الفنية إلى فضيحة إساءة إميل زولا لزميل طفولته وصباه العبقري التشكيلي بول سيزان، مؤكدًا في دعوى روايته أن الصالونات الرسمية لم تقبل لوحاته ولا مرة لضعفها وفشلها المتكرر.
في الواقع التاريخي، أسس نابليون الثالث صالون المرفوضين عام 1886م، وقُبِلت فيه لوحة سيزان لأول مرة. في حين أن مؤسسي تيار التكعيبية، بابلو بيكاسو، وجورج براك، يدينان بفضل هذا الاكتشاف إلى طريقة التحليل التكعيبي الثوري لبوسان في متحف اللوفر من قبل سيزان. المشكلة ببساطة سيطرة نجوم الأدب في تلك الفترة على لجان التحكيم في الصالونات الرسمية (للفن التشكيلي)، فضيحة أخرى من هذا الطراز في أحد الصالونات التالية، يكتب أحد الصحافيين معلقًا بسخرية على عرض الكلاسيكي بورديل (رامي القرص) بجانب لوحات هنري ماتيس، وأندريه ديران، وفيون، وبراك، قائلًا: "بورديل في قفص الوحوش"، متهمًا أرهف الملونين الحداثيين بالتوحش. قَبِل ماتيس على ذكائه وحصافته هذه التهمة، وأسس عام 1905م "تيار الوحشية"، وهو الأشد تأثيرًا مع مونيه على مدرسة نيويورك.
تبعه "الأنبياء" والمتنبئون بقيادة بيير بونار، وعودة اللوحة إلى حميمية الداخل بتحالف فويار، وفالادون، وسواهما، بالعرض معه. وازدادت بذلك الهوة بين الصحافة النقدية وكتابات وندوات الفنانين المحترفين، حتى توصلنا مع ماتيس في مرحلته الأخيرة المعتمدة على المقص وأوراق ألوان الغواش يعلن بأن "التصوير الحقيقي يعتمد على قص اللسان"، يقصد النقدي. لا شك في أن لمدرسة الباوهاوس الألمانية دورًا أساسيًا في أفضلية الفنان المفكر والتعددي، مثل بول كلي، على الصنائعي.
هذا في أوروبا حاضنة الفن الحديث بتياراته الصامتة، مثل "المفاهيمية"، وسواها، أما المحترف العربي فلا يزال يجتر قاعدة "الأدباء قوامون على الفنانين"، واستمر نجوم الأدب على غرار أدونيس بإثارة فوضى التقويم يرفعون من يتفيأ بظل نجوميتهم، ويظللون المحترفين الأصليين، مما أدى إلى تقويم النماذج الاستهلاكية الفاسدة، ومما قاد غلاة المحترفين إلى تعميم اتهامهم للكتابة النقدية بأنها نتاج الفنانين المتواضعي الموهبة، وهو خطأ ديماغوغي كبير، لأنه ضاعف من سلطة الكلمة المدللة لدى الأنظمة السياسية، واتسع الشقاق بين صفي الأدباء (ما عدا الأصليين، مثل بلند الحيدري، وزكريا تامر، الذي اكتشف موهبة شلبية إبراهيم، زوجة نذير نبعة الصعيدية، وعمل معها سنوات طويلة) والفنانين في المقابل.
غلب على الوسط الفني نموذجي الشخصي المزدوج في ريشته وقلمه، أي الفنان الكاتب، الذي يسعى في اتجاهين من دون عصبية ثقافية، لا تمنعه معارضه المستقبلية من تثبيت عقائده الحداثية في مؤلفات ذات لغة فنية خاصة، وبمصطلحات فنية نوعية لا يستوعبها الأدباء ونقاد الصحافة، على غرار المصطلح الجوهري الشائع البديل للألوان في مدرسة برشلونة، وقيادة أنطوني تابييس لها: "الموادية" le matiérisne، معتمدة على الخامات والأجناس المتباينة في نحتها ونسيج موادها، وليس على اشتقاقاتها اللونية.
لدينا تعددية أسماء الفنانين والكتاب بالفن التي ضمنت التوازن بين الطرفين (النقد الوافد من مادة مناقضة، وهي الكلمة والنقد الفني المختص الغارق عموديًا في الخصائص التشكيلية)، من أمثال محمد القاسمي، ود. أحمد نوار، ود. مصطفى الرزاز، وجماعته السوريالية، مثل رمسيس يونان، وعادل السيوي، وإميل منعم، ومحمد عمران، وسمير صايغ، وشاكر حسن، وضياء العزاوي، وجواد سليم، وحسين بيكار، ومحمود حماد، ولور غريب، وسمير تريكي، وإيتيل عدنان، وعشرات غيرهم، مثل محمد المليحي، ومنير الشعراني، وعز الدين شموط.
* * *
تيسر لي من خلال عملي في المجلات المختصة الفنية في باريس بصداقتين ثمينتين لأشهر ناقدين في أوروبا، لا يمارسان مادة التشكيل، ولكنهما يغرفان من فكر الممارسين حولهما، وتجمعات تياراتهما ما بعد الحداثية، أولهما متوفَّى، وهو بيير ريستاني، الذي يملك دورًا مركزيًا في إعادة لحمة التحالف الفني ما بعد الحرب العالمية الثانية، ما بين طرفي المحيط الأطلسي، ما بين مونوبولين: باريس ونيويورك. وذلك عن طريق تجميعه لكبار رواد ستينيات ما بعد الحرب في فرنسا، من إيف كلاين، إلى سيزار، وسولاج، وسواهما، تحت عنوان "الواقعية الجديدة". لم يستكمل كتابه إلا بعد عام من الجدل مع هؤلاء، وقبل تبادل المعارض مع جماعة "البوب آرت" في نيويورك وباريس، ولشدة متانة هذا الكتاب التشكيلي المحض فقد زلزل خرائط وقناعات استقلال المدرستين الفرنسية والأميركية. أصبح سيزار الفرنسي من جماعة البوب آرت (بباهمه الشهير)، وأصبح روشنبرغ الأميركي منتميًا إلى الواقعية الجديدة، من خلال إنشاءاته العدمية، أو التجهيزات الدادائية المحدثة.
* * *
أما الصديق الثاني فهو الناقد العالمي، جيرار أغسيروغيرا، الذي يملك أكثر من مئة كتاب ما بعد حداثي نافذة جميعها، ومختص بالمنماليزم النحتي، أو النصبي (الآسيوي خاصة). يستحوذ على مجتمع من رواد الفنانين أغلبهم منخرطون كما مر معنا في الواقعية الجديدة، لذلك فهو لا يختلط بالنقاد، وإنما بالفنانين كل يوم، وتجمعه مع ريستاني صداقة تحالف فكرية ومهنية، حتى اختصا بالإشراف على التظاهرات الكبرى العالمية الشمولية، مثل ثالثهم مارتان.
هؤلاء في النتيجة على قناعة بعزلة النقد إذا لم يتحالف مع مقولات وبيانات وتصريحات المحترفين، لذلك فهم يمثلون بطريقة ما: "لسان اللغة النوعية في الفن"، والتي تحتاج إلى دراية وتدريب مداده آلاف المعارض وصفحات الكتابة الفنية (التي كانت تدعى بالنقد الفني).
أسعد عرابي 3 مارس 2023
تشكيل
الكاتب مع جيرار أغسيروغيرا، أحد أبرز النقاد بأوروبا
شارك هذا المقال
حجم الخط
ربما يتفوق هذا الموضوع في حدثيته التشكيلية والنقدية على سواه. فقد شهدت أدوات التواصل الاجتماعي هجمة غير مسبوقة من "الحقد على النقد"، سواء الوافد من عالم الأدب، أو الصحافة، باعتبار أن الفنان عندما يفشل يمارس الكتابة النقدية، وهي تهمة تعميمية أكل عليها الدهر وشرب، كما أنها إشكالية تخلصت منها أوروبا منذ أكثر من قرن، بينما لا يزال نقادنا الأدباء يحتكرون سلطة النجومية في التقويم التشكيلي، مما أثار فوضى التقويم. انتهت المعضلة في أوروبا مع فضيحة إميل زولا بإساءته لبول سيزان، ومع تأسيس نابليون الثالث لصالون المرفوضين عام 1886، لتُفرِّخ بعدها المدارس والتيارات خلال الحربين.
حلت، إذًا، ظاهرة صحية باسترداد الممارسين لأنواع التشكيل حقهم في الكتابة الفنية منذ بداية القرن العشرين. وحتى قبل ذلك، مع دعوة كلود مونيه للانطباعية (المتحالفة مع علماء الفيزياء البصرية مثل شيفرول) منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كما رسخت سلطة مدرسة الباوهاوس أفضلية الفنان التعددي المفكر على الصنائعي، وهكذا.
"رسخت سلطة مدرسة الباوهاوس أفضلية الفنان التعددي المفكر على الصنائعي" |
كما لعب اكتشاف تقارب الموسيقى من التجريد بُعدًا في النقد الأدبي ولم تصلنا بعد هذه الثورة، لذلك فنحن متخلفون أكثر من مئة عام عن مراحل ما بعد الحداثة، فإن فازاريللي، كمثال، يملك من عدد الكتب أكثر من عدد لوحاته، وهو النموذج الغائب عن حاضرنا الحداثي.
* * *
استرد الفنانون التشكيليون الممارسون لمادتهم (التي يعايشونها كل يوم مع الشهيق والزفير) لحقهم في الكتابة الفنية عن أسرار مهنتهم، وذلك خاصة منذ أوائل القرن العشرين (وحتى قبل ذلك مع تأسيس الرومانسية من قبل أوجين دولاكروا، واستخدامه للألوان الصريحة، مثل التخطيط باللون الأحمر للأحصنة والمحظيات (إثر رحلته التشكيلية إلى الأندلس مرورًا بالجزائر والمغرب)، وما سجله من ملاحظات تشكيلية وكتابية في دفتريه الخالدين لأول مرة.
* * *
لعلها العودة الحميدة إلى تقاليد عصر النهضة الإيطالي (القرن الخامس عشر للميلاد)، وسيطرة الفنانين على تأسيس الكتابة الفنية، وعلى رأسهم رابع العباقرة (مع ميكيل آنجلو، وليوناردو دافنشي، ورفائيل)، وهو فريدريكو فاساري، الذي عرفنا في كتابه على أسرار عبقرية زملائه (هو الذي لا يقل عنهم خصوبة تشكيلية وموهبة)، وثبت أخلاقيًا الفرق بين النقد الفني (المعتمد على التحليل والخبرة المختصة) والانتقاد المرذول عوضًا عن شرح أفكارهم للقراء.
وهكذا استرجع الفنان صانع اللوحة، أو المنحوتة، أو المطبوعة، مع نظائرها، حق ممارسة الفكر والكتابة النوعية، وبيان الأسرار المهنية والتقنية، بمعزل عن وصاية الأدب والصحافة والمؤسسات الطفيلية الخاصة (صالات العرض والتسويق ونقادهم المأجورين)، أو العامة، وحتى وزارات الثقافة.
تم هذا عن طريق تأسيس كلود مونيه لمجموعة الانطباعيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بعد تحالفه مع أبحاث الفيزياء البصرية، خاصة التي أسسها العالم شيفرول، والمعتمدة على الخروج إلى الفضاء الطبيعي الرحب لتحليل ضوء الشمس إلى ألوانه القزحية الأولى، بحيث أن شبكية العين تخلط مزيجها وهميًا، ولا تحتاج للخلط الكيميائي على صفيحة الألوان (الباليتا). هو الانقلاب الذي قاد إلى تغيير فلترات الكاميرا للتلاعب بألوان الفصول الأربعة. وقاد مع التنقيطية المتفرعة عنها إلى تنقيبات الزنكوغراف، والأوفست، والبث إلى الصور المتلفزة، على أساس نقاط الألوان الأساسية، واشتقاقات "الباكسن". وهكذا كلما اندمجت العلوم الحديثة بالفنون (خاصة المعلوماتية والسبرنتيك ويعني: علم النظم التقنيّة- المحرّر) انحسر دور النقد غير المختص خارج كتابات الفنانين، التي التحقت في ما بعد بفلسفة علم الجمال والدراسات المنهجية النخبوية، على غرار علم الجمال المقارن. وتبين أن الموسيقى أقرب الفنون إلى التصوير، يجمعهما التجريد. بعكس المجاز الأدبي: خطان متعاكسان من الدلالة القاموسية إلى تجريد التيه الشعري في الأدب. ومن التجريد "السيميولوجي" إلى التقارب المتدرج من التمثيل، أو التشخيص، تمامًا مثل الفرق بين استحضار مفردة شجرة في الشعر، والابتداء بالعكس من غيبوبتها التشخيصية في اللوحة.
يرمز استرجاع هذا "الحق المغتصب" في الكتابة الفنية إلى فضيحة إساءة إميل زولا لزميل طفولته وصباه العبقري التشكيلي بول سيزان، مؤكدًا في دعوى روايته أن الصالونات الرسمية لم تقبل لوحاته ولا مرة لضعفها وفشلها المتكرر.
"في الواقع التاريخي، أسس نابليون الثالث صالون المرفوضين عام 1886م، وقُبِلت فيه لوحة سيزان لأول مرة" |
في الواقع التاريخي، أسس نابليون الثالث صالون المرفوضين عام 1886م، وقُبِلت فيه لوحة سيزان لأول مرة. في حين أن مؤسسي تيار التكعيبية، بابلو بيكاسو، وجورج براك، يدينان بفضل هذا الاكتشاف إلى طريقة التحليل التكعيبي الثوري لبوسان في متحف اللوفر من قبل سيزان. المشكلة ببساطة سيطرة نجوم الأدب في تلك الفترة على لجان التحكيم في الصالونات الرسمية (للفن التشكيلي)، فضيحة أخرى من هذا الطراز في أحد الصالونات التالية، يكتب أحد الصحافيين معلقًا بسخرية على عرض الكلاسيكي بورديل (رامي القرص) بجانب لوحات هنري ماتيس، وأندريه ديران، وفيون، وبراك، قائلًا: "بورديل في قفص الوحوش"، متهمًا أرهف الملونين الحداثيين بالتوحش. قَبِل ماتيس على ذكائه وحصافته هذه التهمة، وأسس عام 1905م "تيار الوحشية"، وهو الأشد تأثيرًا مع مونيه على مدرسة نيويورك.
تبعه "الأنبياء" والمتنبئون بقيادة بيير بونار، وعودة اللوحة إلى حميمية الداخل بتحالف فويار، وفالادون، وسواهما، بالعرض معه. وازدادت بذلك الهوة بين الصحافة النقدية وكتابات وندوات الفنانين المحترفين، حتى توصلنا مع ماتيس في مرحلته الأخيرة المعتمدة على المقص وأوراق ألوان الغواش يعلن بأن "التصوير الحقيقي يعتمد على قص اللسان"، يقصد النقدي. لا شك في أن لمدرسة الباوهاوس الألمانية دورًا أساسيًا في أفضلية الفنان المفكر والتعددي، مثل بول كلي، على الصنائعي.
هذا في أوروبا حاضنة الفن الحديث بتياراته الصامتة، مثل "المفاهيمية"، وسواها، أما المحترف العربي فلا يزال يجتر قاعدة "الأدباء قوامون على الفنانين"، واستمر نجوم الأدب على غرار أدونيس بإثارة فوضى التقويم يرفعون من يتفيأ بظل نجوميتهم، ويظللون المحترفين الأصليين، مما أدى إلى تقويم النماذج الاستهلاكية الفاسدة، ومما قاد غلاة المحترفين إلى تعميم اتهامهم للكتابة النقدية بأنها نتاج الفنانين المتواضعي الموهبة، وهو خطأ ديماغوغي كبير، لأنه ضاعف من سلطة الكلمة المدللة لدى الأنظمة السياسية، واتسع الشقاق بين صفي الأدباء (ما عدا الأصليين، مثل بلند الحيدري، وزكريا تامر، الذي اكتشف موهبة شلبية إبراهيم، زوجة نذير نبعة الصعيدية، وعمل معها سنوات طويلة) والفنانين في المقابل.
غلب على الوسط الفني نموذجي الشخصي المزدوج في ريشته وقلمه، أي الفنان الكاتب، الذي يسعى في اتجاهين من دون عصبية ثقافية، لا تمنعه معارضه المستقبلية من تثبيت عقائده الحداثية في مؤلفات ذات لغة فنية خاصة، وبمصطلحات فنية نوعية لا يستوعبها الأدباء ونقاد الصحافة، على غرار المصطلح الجوهري الشائع البديل للألوان في مدرسة برشلونة، وقيادة أنطوني تابييس لها: "الموادية" le matiérisne، معتمدة على الخامات والأجناس المتباينة في نحتها ونسيج موادها، وليس على اشتقاقاتها اللونية.
لدينا تعددية أسماء الفنانين والكتاب بالفن التي ضمنت التوازن بين الطرفين (النقد الوافد من مادة مناقضة، وهي الكلمة والنقد الفني المختص الغارق عموديًا في الخصائص التشكيلية)، من أمثال محمد القاسمي، ود. أحمد نوار، ود. مصطفى الرزاز، وجماعته السوريالية، مثل رمسيس يونان، وعادل السيوي، وإميل منعم، ومحمد عمران، وسمير صايغ، وشاكر حسن، وضياء العزاوي، وجواد سليم، وحسين بيكار، ومحمود حماد، ولور غريب، وسمير تريكي، وإيتيل عدنان، وعشرات غيرهم، مثل محمد المليحي، ومنير الشعراني، وعز الدين شموط.
* * *
تيسر لي من خلال عملي في المجلات المختصة الفنية في باريس بصداقتين ثمينتين لأشهر ناقدين في أوروبا، لا يمارسان مادة التشكيل، ولكنهما يغرفان من فكر الممارسين حولهما، وتجمعات تياراتهما ما بعد الحداثية، أولهما متوفَّى، وهو بيير ريستاني، الذي يملك دورًا مركزيًا في إعادة لحمة التحالف الفني ما بعد الحرب العالمية الثانية، ما بين طرفي المحيط الأطلسي، ما بين مونوبولين: باريس ونيويورك. وذلك عن طريق تجميعه لكبار رواد ستينيات ما بعد الحرب في فرنسا، من إيف كلاين، إلى سيزار، وسولاج، وسواهما، تحت عنوان "الواقعية الجديدة". لم يستكمل كتابه إلا بعد عام من الجدل مع هؤلاء، وقبل تبادل المعارض مع جماعة "البوب آرت" في نيويورك وباريس، ولشدة متانة هذا الكتاب التشكيلي المحض فقد زلزل خرائط وقناعات استقلال المدرستين الفرنسية والأميركية. أصبح سيزار الفرنسي من جماعة البوب آرت (بباهمه الشهير)، وأصبح روشنبرغ الأميركي منتميًا إلى الواقعية الجديدة، من خلال إنشاءاته العدمية، أو التجهيزات الدادائية المحدثة.
* * *
أما الصديق الثاني فهو الناقد العالمي، جيرار أغسيروغيرا، الذي يملك أكثر من مئة كتاب ما بعد حداثي نافذة جميعها، ومختص بالمنماليزم النحتي، أو النصبي (الآسيوي خاصة). يستحوذ على مجتمع من رواد الفنانين أغلبهم منخرطون كما مر معنا في الواقعية الجديدة، لذلك فهو لا يختلط بالنقاد، وإنما بالفنانين كل يوم، وتجمعه مع ريستاني صداقة تحالف فكرية ومهنية، حتى اختصا بالإشراف على التظاهرات الكبرى العالمية الشمولية، مثل ثالثهم مارتان.
هؤلاء في النتيجة على قناعة بعزلة النقد إذا لم يتحالف مع مقولات وبيانات وتصريحات المحترفين، لذلك فهم يمثلون بطريقة ما: "لسان اللغة النوعية في الفن"، والتي تحتاج إلى دراية وتدريب مداده آلاف المعارض وصفحات الكتابة الفنية (التي كانت تدعى بالنقد الفني).
أسعد عرابي 3 مارس 2023
تشكيل
الكاتب مع جيرار أغسيروغيرا، أحد أبرز النقاد بأوروبا
شارك هذا المقال
حجم الخط
ربما يتفوق هذا الموضوع في حدثيته التشكيلية والنقدية على سواه. فقد شهدت أدوات التواصل الاجتماعي هجمة غير مسبوقة من "الحقد على النقد"، سواء الوافد من عالم الأدب، أو الصحافة، باعتبار أن الفنان عندما يفشل يمارس الكتابة النقدية، وهي تهمة تعميمية أكل عليها الدهر وشرب، كما أنها إشكالية تخلصت منها أوروبا منذ أكثر من قرن، بينما لا يزال نقادنا الأدباء يحتكرون سلطة النجومية في التقويم التشكيلي، مما أثار فوضى التقويم. انتهت المعضلة في أوروبا مع فضيحة إميل زولا بإساءته لبول سيزان، ومع تأسيس نابليون الثالث لصالون المرفوضين عام 1886، لتُفرِّخ بعدها المدارس والتيارات خلال الحربين.
حلت، إذًا، ظاهرة صحية باسترداد الممارسين لأنواع التشكيل حقهم في الكتابة الفنية منذ بداية القرن العشرين. وحتى قبل ذلك، مع دعوة كلود مونيه للانطباعية (المتحالفة مع علماء الفيزياء البصرية مثل شيفرول) منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كما رسخت سلطة مدرسة الباوهاوس أفضلية الفنان التعددي المفكر على الصنائعي، وهكذا.
"رسخت سلطة مدرسة الباوهاوس أفضلية الفنان التعددي المفكر على الصنائعي" |
كما لعب اكتشاف تقارب الموسيقى من التجريد بُعدًا في النقد الأدبي ولم تصلنا بعد هذه الثورة، لذلك فنحن متخلفون أكثر من مئة عام عن مراحل ما بعد الحداثة، فإن فازاريللي، كمثال، يملك من عدد الكتب أكثر من عدد لوحاته، وهو النموذج الغائب عن حاضرنا الحداثي.
* * *
استرد الفنانون التشكيليون الممارسون لمادتهم (التي يعايشونها كل يوم مع الشهيق والزفير) لحقهم في الكتابة الفنية عن أسرار مهنتهم، وذلك خاصة منذ أوائل القرن العشرين (وحتى قبل ذلك مع تأسيس الرومانسية من قبل أوجين دولاكروا، واستخدامه للألوان الصريحة، مثل التخطيط باللون الأحمر للأحصنة والمحظيات (إثر رحلته التشكيلية إلى الأندلس مرورًا بالجزائر والمغرب)، وما سجله من ملاحظات تشكيلية وكتابية في دفتريه الخالدين لأول مرة.
* * *
لعلها العودة الحميدة إلى تقاليد عصر النهضة الإيطالي (القرن الخامس عشر للميلاد)، وسيطرة الفنانين على تأسيس الكتابة الفنية، وعلى رأسهم رابع العباقرة (مع ميكيل آنجلو، وليوناردو دافنشي، ورفائيل)، وهو فريدريكو فاساري، الذي عرفنا في كتابه على أسرار عبقرية زملائه (هو الذي لا يقل عنهم خصوبة تشكيلية وموهبة)، وثبت أخلاقيًا الفرق بين النقد الفني (المعتمد على التحليل والخبرة المختصة) والانتقاد المرذول عوضًا عن شرح أفكارهم للقراء.
وهكذا استرجع الفنان صانع اللوحة، أو المنحوتة، أو المطبوعة، مع نظائرها، حق ممارسة الفكر والكتابة النوعية، وبيان الأسرار المهنية والتقنية، بمعزل عن وصاية الأدب والصحافة والمؤسسات الطفيلية الخاصة (صالات العرض والتسويق ونقادهم المأجورين)، أو العامة، وحتى وزارات الثقافة.
تم هذا عن طريق تأسيس كلود مونيه لمجموعة الانطباعيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بعد تحالفه مع أبحاث الفيزياء البصرية، خاصة التي أسسها العالم شيفرول، والمعتمدة على الخروج إلى الفضاء الطبيعي الرحب لتحليل ضوء الشمس إلى ألوانه القزحية الأولى، بحيث أن شبكية العين تخلط مزيجها وهميًا، ولا تحتاج للخلط الكيميائي على صفيحة الألوان (الباليتا). هو الانقلاب الذي قاد إلى تغيير فلترات الكاميرا للتلاعب بألوان الفصول الأربعة. وقاد مع التنقيطية المتفرعة عنها إلى تنقيبات الزنكوغراف، والأوفست، والبث إلى الصور المتلفزة، على أساس نقاط الألوان الأساسية، واشتقاقات "الباكسن". وهكذا كلما اندمجت العلوم الحديثة بالفنون (خاصة المعلوماتية والسبرنتيك ويعني: علم النظم التقنيّة- المحرّر) انحسر دور النقد غير المختص خارج كتابات الفنانين، التي التحقت في ما بعد بفلسفة علم الجمال والدراسات المنهجية النخبوية، على غرار علم الجمال المقارن. وتبين أن الموسيقى أقرب الفنون إلى التصوير، يجمعهما التجريد. بعكس المجاز الأدبي: خطان متعاكسان من الدلالة القاموسية إلى تجريد التيه الشعري في الأدب. ومن التجريد "السيميولوجي" إلى التقارب المتدرج من التمثيل، أو التشخيص، تمامًا مثل الفرق بين استحضار مفردة شجرة في الشعر، والابتداء بالعكس من غيبوبتها التشخيصية في اللوحة.
يرمز استرجاع هذا "الحق المغتصب" في الكتابة الفنية إلى فضيحة إساءة إميل زولا لزميل طفولته وصباه العبقري التشكيلي بول سيزان، مؤكدًا في دعوى روايته أن الصالونات الرسمية لم تقبل لوحاته ولا مرة لضعفها وفشلها المتكرر.
"في الواقع التاريخي، أسس نابليون الثالث صالون المرفوضين عام 1886م، وقُبِلت فيه لوحة سيزان لأول مرة" |
في الواقع التاريخي، أسس نابليون الثالث صالون المرفوضين عام 1886م، وقُبِلت فيه لوحة سيزان لأول مرة. في حين أن مؤسسي تيار التكعيبية، بابلو بيكاسو، وجورج براك، يدينان بفضل هذا الاكتشاف إلى طريقة التحليل التكعيبي الثوري لبوسان في متحف اللوفر من قبل سيزان. المشكلة ببساطة سيطرة نجوم الأدب في تلك الفترة على لجان التحكيم في الصالونات الرسمية (للفن التشكيلي)، فضيحة أخرى من هذا الطراز في أحد الصالونات التالية، يكتب أحد الصحافيين معلقًا بسخرية على عرض الكلاسيكي بورديل (رامي القرص) بجانب لوحات هنري ماتيس، وأندريه ديران، وفيون، وبراك، قائلًا: "بورديل في قفص الوحوش"، متهمًا أرهف الملونين الحداثيين بالتوحش. قَبِل ماتيس على ذكائه وحصافته هذه التهمة، وأسس عام 1905م "تيار الوحشية"، وهو الأشد تأثيرًا مع مونيه على مدرسة نيويورك.
تبعه "الأنبياء" والمتنبئون بقيادة بيير بونار، وعودة اللوحة إلى حميمية الداخل بتحالف فويار، وفالادون، وسواهما، بالعرض معه. وازدادت بذلك الهوة بين الصحافة النقدية وكتابات وندوات الفنانين المحترفين، حتى توصلنا مع ماتيس في مرحلته الأخيرة المعتمدة على المقص وأوراق ألوان الغواش يعلن بأن "التصوير الحقيقي يعتمد على قص اللسان"، يقصد النقدي. لا شك في أن لمدرسة الباوهاوس الألمانية دورًا أساسيًا في أفضلية الفنان المفكر والتعددي، مثل بول كلي، على الصنائعي.
هذا في أوروبا حاضنة الفن الحديث بتياراته الصامتة، مثل "المفاهيمية"، وسواها، أما المحترف العربي فلا يزال يجتر قاعدة "الأدباء قوامون على الفنانين"، واستمر نجوم الأدب على غرار أدونيس بإثارة فوضى التقويم يرفعون من يتفيأ بظل نجوميتهم، ويظللون المحترفين الأصليين، مما أدى إلى تقويم النماذج الاستهلاكية الفاسدة، ومما قاد غلاة المحترفين إلى تعميم اتهامهم للكتابة النقدية بأنها نتاج الفنانين المتواضعي الموهبة، وهو خطأ ديماغوغي كبير، لأنه ضاعف من سلطة الكلمة المدللة لدى الأنظمة السياسية، واتسع الشقاق بين صفي الأدباء (ما عدا الأصليين، مثل بلند الحيدري، وزكريا تامر، الذي اكتشف موهبة شلبية إبراهيم، زوجة نذير نبعة الصعيدية، وعمل معها سنوات طويلة) والفنانين في المقابل.
غلب على الوسط الفني نموذجي الشخصي المزدوج في ريشته وقلمه، أي الفنان الكاتب، الذي يسعى في اتجاهين من دون عصبية ثقافية، لا تمنعه معارضه المستقبلية من تثبيت عقائده الحداثية في مؤلفات ذات لغة فنية خاصة، وبمصطلحات فنية نوعية لا يستوعبها الأدباء ونقاد الصحافة، على غرار المصطلح الجوهري الشائع البديل للألوان في مدرسة برشلونة، وقيادة أنطوني تابييس لها: "الموادية" le matiérisne، معتمدة على الخامات والأجناس المتباينة في نحتها ونسيج موادها، وليس على اشتقاقاتها اللونية.
لدينا تعددية أسماء الفنانين والكتاب بالفن التي ضمنت التوازن بين الطرفين (النقد الوافد من مادة مناقضة، وهي الكلمة والنقد الفني المختص الغارق عموديًا في الخصائص التشكيلية)، من أمثال محمد القاسمي، ود. أحمد نوار، ود. مصطفى الرزاز، وجماعته السوريالية، مثل رمسيس يونان، وعادل السيوي، وإميل منعم، ومحمد عمران، وسمير صايغ، وشاكر حسن، وضياء العزاوي، وجواد سليم، وحسين بيكار، ومحمود حماد، ولور غريب، وسمير تريكي، وإيتيل عدنان، وعشرات غيرهم، مثل محمد المليحي، ومنير الشعراني، وعز الدين شموط.
* * *
تيسر لي من خلال عملي في المجلات المختصة الفنية في باريس بصداقتين ثمينتين لأشهر ناقدين في أوروبا، لا يمارسان مادة التشكيل، ولكنهما يغرفان من فكر الممارسين حولهما، وتجمعات تياراتهما ما بعد الحداثية، أولهما متوفَّى، وهو بيير ريستاني، الذي يملك دورًا مركزيًا في إعادة لحمة التحالف الفني ما بعد الحرب العالمية الثانية، ما بين طرفي المحيط الأطلسي، ما بين مونوبولين: باريس ونيويورك. وذلك عن طريق تجميعه لكبار رواد ستينيات ما بعد الحرب في فرنسا، من إيف كلاين، إلى سيزار، وسولاج، وسواهما، تحت عنوان "الواقعية الجديدة". لم يستكمل كتابه إلا بعد عام من الجدل مع هؤلاء، وقبل تبادل المعارض مع جماعة "البوب آرت" في نيويورك وباريس، ولشدة متانة هذا الكتاب التشكيلي المحض فقد زلزل خرائط وقناعات استقلال المدرستين الفرنسية والأميركية. أصبح سيزار الفرنسي من جماعة البوب آرت (بباهمه الشهير)، وأصبح روشنبرغ الأميركي منتميًا إلى الواقعية الجديدة، من خلال إنشاءاته العدمية، أو التجهيزات الدادائية المحدثة.
* * *
أما الصديق الثاني فهو الناقد العالمي، جيرار أغسيروغيرا، الذي يملك أكثر من مئة كتاب ما بعد حداثي نافذة جميعها، ومختص بالمنماليزم النحتي، أو النصبي (الآسيوي خاصة). يستحوذ على مجتمع من رواد الفنانين أغلبهم منخرطون كما مر معنا في الواقعية الجديدة، لذلك فهو لا يختلط بالنقاد، وإنما بالفنانين كل يوم، وتجمعه مع ريستاني صداقة تحالف فكرية ومهنية، حتى اختصا بالإشراف على التظاهرات الكبرى العالمية الشمولية، مثل ثالثهم مارتان.
هؤلاء في النتيجة على قناعة بعزلة النقد إذا لم يتحالف مع مقولات وبيانات وتصريحات المحترفين، لذلك فهم يمثلون بطريقة ما: "لسان اللغة النوعية في الفن"، والتي تحتاج إلى دراية وتدريب مداده آلاف المعارض وصفحات الكتابة الفنية (التي كانت تدعى بالنقد الفني).