الفنان أحمد كنعان: بين تراجيديا الواقع وجماليات الموروث

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الفنان أحمد كنعان: بين تراجيديا الواقع وجماليات الموروث



    الفنان أحمد كنعان: بين تراجيديا الواقع وجماليات الموروث
    مليحة مسلماني 6 فبراير 2023
    تشكيل
    الفنان أحمد كنعان يعمل على منحوتة
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    يُعد الفنان أحمد كنعان من أبرز الفنانين الفلسطينيين من فلسطين المحتلة 1948، ممن اشتغلوا في أعمالهم على إعادة إنتاج التراث الفلسطيني، والكنعانيّ منه بخاصة، ضمن السياق الفلسطيني المعاصر. قدّم كنعان كثيرًا من الأعمال الفنية في النحت والرسم والتركيب، مستخدمًا مختلف المواد، من حجر وطين وخشب وحديد وغيرها، معالجًا إياها بمختلف الأساليب، ومعبّرًا عن مواضيع صقلت هوية أعماله الفنية، وهويته كإنسان وفنان باحث عن الجذور. وتأخذ أعمال كنعان حضورًا مغايِرًا ومتمايزًا داخل الكيان الصهيوني، لما تحيل إليه منحوتاته ولوحاته من رموز ودلالات للهوية الفلسطينية وموروثاتها الثقافية المتنوعة.


    محاريث كنعانية
    حين سُئل الفنان كنعان عن بدايات رحلته في البحث عن الهوية من خلال أعماله، أجاب أنها تبدأ من اسم عائلته "كنعان"، وهو اسم مستمرّ منذ الحضارة الكنعانية، ما دفعه إلى الانطلاق في مسيرته الفنية بمجموعة من الأعمال جاءت بعنوان "محاريث"، في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات. اشتملت المجموعة على منحوتات ولوحات أُنجزت بمواد مختلفة عمل فيها الفنان على إعادة إنتاج الأدوات الزراعية الأولى التي استخدمها الكنعانيون في حراثة الأرض؛ فالكنعانيون هم الذين أدخلوا أساليب الزراعة البدائية إلى فلسطين، ومن بينها المحراث. يجسد كنعان من خلال أعماله هذه المعتقدات والصلوات والطقوس الكنعانية التي مارستها تلك الحضارة، ضمن معالجات بصريّة يبدو جليًا أن موضوعها الأساسي إعادة إحياء حضارة كنعان عبر الفن.

    "اسم عائلته "كنعان"، وهو اسم مستمرّ منذ الحضارة الكنعانية، ما دفعه إلى الانطلاق في مسيرته الفنية بمجموعة من الأعمال جاءت بعنوان "محاريث"، في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات"


    بدأ الفنان مسيرته الفنية بمجموعة "محاريث" عندما كان طالبًا في السنة الأخيرة في "أكاديمية بتسلئيل للفنون والتصميم" الإسرائيلية في القدس، حيث تعرّف على أساليب الفن الغربية العالمية، لكنه اختار البحث عن ذاته وجذوره في الحضارات التي تعاقبت على أرض فلسطين، مبتعدًا عن مصادر الإيحاء الغربية في الفن: "بالرغم من التشبيهات العديدة التي تثيرها في مخيّلتنا محاريث كنعان، على أنواعها، والمرتبطة بعلاقة الإنسان بالأرض على الصعيد العام، وبواقع الأقلية الفلسطينية التي ينتمي إليها الفنان على الصعيد الخاص، نلاحظ أن تماثيله تقف على الأرض بثبات منغرسة في عمق الزمن فيها من الحكمة وأبدية الآلهة"(1). استمر كنعان في إنتاجه الفني الكنعاني بمجموعات أخرى عديدة تمحورت في عمومها حول إعادة إحياء التراث الكنعاني، بما فيه من أدوات وطقوس موسيقية اشتهر بها الكنعانيون. عن عمله صلاة الاستسقاء، وهو عبارة عن تمثال من الحديد لامرأتيْن، الأولى واقفة، والثانية جالسة وعلى رأسها حجر الرحى، يقول الفنان: "تملك مقدمة هذا المنحوت في مضمونها ما يكفي من الطاقة ليجعل مفهوم معاصرتها عاملًا يظهر العالم الزمني ويضفي عليه حالة من الكونية المطلقة... أن تكون قاب قوسيْن أو أدنى من صورة حضارية لتراثنا الكنعاني في القديم على أرض فلسطين في هذه البلاد. هذا ما جعلني أصيغ هذا التمثال، من خلال جهد فكري، يمكنني من خلق الشكل والقالب، في صورة جسّدتها حول محور كوني لإحدى عصارات الحلقة الكنعانية في سلسلة تراثنا في هذه البلاد"(2).


    عناة ـ رمزية الأرض
    "معبد عناة"، خشب ـ ألوان زيتية على قماش (1995)
    "تتحول عناة في بعض اللوحات إلى وحدة زخرفية متكررة، يصوّرها الفنان مقنّعة، أو بلا ملامح واضحة في وجهها، في دلالة ربما على أنه محرّم على الآلهة أن تكشف النقاب عن وجهها"


    أنجز كنعان كذلك أعمالًا عديدة تمثل عناة، إلهة الخصب والزراعة عند الكنعانيين. وهي تظهر في أعمال الفنان ضمن حالة من التماسك والشموخ، حاملة عصاها التي ترمز إلى القوة، وتبدو في عمل آخر كعنصر مركزي ضمن تكوينات لونيّة زاهية تشير إلى الخصوبة وربيع الأرض. تتحول عناة في أعمال أخرى إلى وحدة زخرفية متكررة، يصوّرها الفنان مقنّعة، أو بلا ملامح واضحة في وجهها، في دلالة ربما على أنه محرّم على الآلهة أن تكشف النقاب عن وجهها. كما يجسّدها كنعان بدرجات مختلفة من اللون البني، لون التراب، مستخدمًا مواد الخشب والحديد والحجر، في دلالة على صلابة عناة التي ترتبط بالفِلاحة والأرض، مثلما هو الحال في مجموعاته الأخرى التي تجسّد الحضارة الزراعية القديمة في فلسطين؛ ففي استخدام الفنان لهذه المواد دلالات يشير فيها إلى صلابة الفلاح وارتباطه بالأرض وامتداده القديم فيها.


    زخرفةٌ ـ هويةٌ تناثرَتْ
    "تناثرتُ"، خشب وبلاط عربي ودهان
    برغم سيطرة الطابع الكنعاني على معظم أعمال الفنان أحمد كنعان، غير أنه لم يقف عند الموروث الكنعاني، إذ استمر يوظف مختلف عناصر الموروث الثقافي العربي، وتراث الفن الإسلامي بخاصة، والذي يعيد إنتاجه بصريًا في لوحات زخرفية تتكرر فيها أشكال الفراشات والغزلان والجِمال والطيور، وغيرها كثير من الأعمال التي تتضمن إعادة اشتغال على فن الزخرفة والتجريد الإسلامي، والذي يرى فيه الفنان مجالًا خصبًا للإبداع والتجديد. وهو يستلهم من الفنون العربية ضمن سعيه الدائم نحو الوصل بين التاريخ الذي ينتمي إليه ثقافيًا، والحاضر المتمثل في وجوده كفنان ضمن منظومة تسيطر عليها الدائرة الثقافية الإسرائيلية ـ الغربية، فهو يرى في هذه الفنون موروثًا غنيًا قابلًا وبشكل مستمر للتجديد وإعادة الإنتاج، فيوظف في أعماله عناصر من الزخارف، ويدمجها في وحدات بصرية متكاملة مع رموز شعبية عربية، ليشكّل بها متواليات تتكرر فيها رسوم الجمال والغزلان والفراشات، وغيرها من الأشكال.
    تظهر في عمله "تناثرْت" شظايا بلاطات مزخرفة وكأنها متطايرة أو متساقطة في الفراغ. و"تناثرت" هو عنوان مستعار من قصيدة للشاعر أيمن إغبارية تتناول موضوع الاحترام المفقود للبيت الفلسطيني. لقد كانت مثل هذه البلاطات تزيّن عددًا من البيوت الفلسطينية حتى عام 1948. ومع إقامة الكيان الصهيوني، أُغلقت مصانع البلاط، ولم يعد في الإمكان وجود مثل هذا البلاط في البيوت العربية في فلسطين 48: "ترتبط تصويرات هذا البلاط لدى أحمد كنعان بفقدان الهوية الفلسطينية الأصيلة، هوية ما قبل "الخلل" ـ حقبة تقليد الثقافة اليهودية الغربية. شظايا البلاط المتناثرة في فضاء غير محدّد تبدو كصورة غير متكاملة، أطلال تفجير كبير. لا يمكن إلصاقها. يعدها أحمد كنعان مجازًا لمنفى وشتات الشعب ولتوصيف مكانة اللاجئ المتدنّية، الذي يفقد احترامه الذاتي بترك مصيره لقرارات الآخرين "أعط الفلسطيني حريته ليقرر نفسه"، يقتبس أحمد كنعان شعارًا شائعًا ضد كل من يقترح عليهم حلًا قسريًا: صحيح أنني تناثرت، لكن دعوني أقرر كيف يجمعونني من جديد..."(3).


    انبعاث الفارس
    "الفارس على جسر ضيق"، زيتية على قماش (2006)
    "يحيل الفارس إلى "المخلِّص"، كمعتقد راسخ في الديانات السماوية الثلاث. وهو أيضًا، كما يقول الفنان، صلاح الدين الأيوبي الذي حرّر القدس، لكن الفارس بالإضافة إلى ذلك هو الحلم العربي ـ القومي"


    في مرحلة لاحقة، بعد عام 2000، أنجز كنعان مجموعة من الأعمال، من لوحات وتماثيل، من مختلف المواد، كان محورها "الفارس" كفكرة قابلة للمعالجة البصرية المتجددة، وكموضوع لبحث معرفيّ ـ بصري في مسائل الهوية والواقع والصراع. يشير الفارس في أعمال كنعان إلى حلم يرتبط على المستوى الذاتي البسيط بمرحلة الطفولة، فللفارس صورة راسخة في خيال الأطفال، وفي أحلامهم اليقِظة، كصورة "السوبرمان"، على سبيل المثال. يحيل الفارس أيضًا إلى "المخلِّص"، كمعتقد راسخ في الديانات السماوية الثلاث. وهو أيضًا، كما يقول الفنان، صلاح الدين الأيوبي الذي حرّر القدس، لكن الفارس بالإضافة إلى ذلك هو الحلم العربي ـ القومي، مطلب الشعوب العربية في الاصطفاف وراء قيادة حكيمة وقوية، هذا الحلم الذي يصبح غير مصرّح به، بل ومثير للتهكّم في كثير من الأحيان، إلا أنه ما زال يصرخ داخل الذات العربية.
    تحضر فكرة الفارس، المخلّص أو القائد، في بعض أعمال كنعان، مرادفةً لصورتها في الموروث الشعبي العربي والديني، لا مطلبًا مستقبليًا؛ إذ يتشكل الفنان الفارس كزخرفة وتزيين، فهو لوحة جميلة؛ زخرفة متوترة معلّقة على الجدار، يكتفي الرائي بالنظر إليها والاستمتاع بجماليات التكرار والعلاقات التي تخلقها وحداتها الزخرفية. غير أن الفنان يحرر الفارس من سجن الماضي وخانة التراث، فيقوم ببعثه كما في سلسلة أعمال عنوانها "انبعاث"؛ في أحد تلك الأعمال يترك الفارس المصفوفة الزخرفية التي تكرّر شكله، ويحتل النصف الثاني من اللوحة فارسًا واضحًا واحدًا لا مكرّرًا. ينطوي العمل على دلالات عدة متداخلة؛ فالكلّ فارس، والكلّ يشكّل من خلال وحدة الصف فارسًا.
    في عمل آخر، تشير حركة وشكل الحصان والحالة العامة للوحة إلى فارس يختزل الثورة في داخله، يحاول التشكّل من فرسان صغيرة، أو أن يولد ويُبعث من جديد. يظهر هذا التشكّل الكبير والعملاق لفارس كبير مكون من فرسان صغار في تمثال آخر كان قد عمل عليه الفنان، حيث تشكل فرسان صغيرة الحجم في مجموعها تمثالًا للقائد صلاح الدين. يكرر أحمد كنعان ما عمل عليها سابقًا في تماثيل مثل "السمكة الكبيرة" التي تشكّلها أسماك صغيرة، وتمثال "داود وجوليات"، حيث يتشكّل المقاوم الفلسطيني الكبير من مجموع مقاومين أصغر حجمًا، ما يشير إلى اتخاذ الفنان التفكيك والتركيب وسيلة وغاية في الوقت ذاته، وأسلوبًا ومضمونًا.
    يتحوّل الفارس في أعمال أخرى إلى فارس الأحلام. فالفارس مذكَّر، وفاعل، وقائد، وهو فارس أحلام البنت المنتظِرة، من خلف فتحات المشربيّة، لأن يأخذها الفارس إلى دنيا جديدة، أجمل وأكثر حياة، حيث هنالك تتحقق بهويّتها المنتَظرة، كحبيبة وأم. يختزل هذا المزج بين الهويات، الجندرية والثقافية والسياسية، حالةَ الانتظار التي تلقي بثقلها على الواقع الفلسطيني، فالفارس هو "فارس أحلام الشعب"، أو الشعوب التي تنتظر وتنظر من خلال الفتحات في جدران الحصار. والفارس المنتظَر في مجموعة "فارس الأحلام" هو إشارة إلى الخلاص، وهو صورة الأمل المرتقب في العيون التي تنظر من داخل الحصار، كما تشير إلى ذلك الفتحات المحفورة على شكل فرسان في سياج المشربية في تلك المجموعة.
    يخرج الفارس في أعمال كنعان عن كونه الحلم والتراث والماضي العربي الجميل، فهو لا يشير إلى مجرد "الحنين" إلى المجد العربي القديم، بل إن الفنان يسخر من تلك الفكرة ويتمرد عليها، فأعماله تحرر الفارس من كونه ماضيًا، أو تراثًا جميلًا، وتجعله فاعلًا ذا علاقة بالمستقبل لا بالماضي، منبعثًا في اللحظة؛ وفي كلّ لحظة ينبعث فارس.


    إنسانية محاصرة
    "لاجئون"، خشب (2017)
    "إنسانية محاصرة" هو عنوان آخرِ معارض الفنان أحمد كنعان، ضمّ تماثيل من الخشب والحجر والبرونز والحديد، وأظهر فيه تجديدًا على مستوى الأسلوب بخاصة، وبطريقة العرض كذلك، والتي تجنح إلى المَسْرحة. أما على مستوى المضمون فيحيل الفنان بأعمال المعرض إلى المأساة الفلسطينية المتمثلة في التهجير واللجوء، وما تمخض عنهما، متخذًا من المفتاح والسفينة والشخصية اللاجئة رموزا وعناصر أساسية تحتمل دلالات حول المأساة. ولا تقف دلالات أعمال المعرض عند المستوى الفلسطيني فحسب، ليشير بها الفنان أيضًا إلى تجارب الشعوب العربية، وما شهدته مؤخرًا من هجرات ونكبات، وإلى المأساة الإنسانية بعامة، تاريخها وحاضرها.
    أخيرًا، ترفض أعمال أحمد كنعان زمنية الهوية، أو الانقطاع في الزمن الذي فُرِض قسرًا على الهوية الفلسطينية، إذ تشكل أعماله تمثيلًا بصريًا لهوية تنسج ماضيها بحاضرها، وتضع رؤية لمستقبلها المنتَظر، وبذلك فإن أعماله لا تشكّل تجسيدًا للمخزون الحضاري الثقافي والتاريخي الفلسطيني فحسب، بل تقوم أيضًا بإعادة تعريف العلاقات في ثالوث الأرض ـ الإنسان ـ التاريخ، ضمن معالجة تشكيلية ضرورية لتعريف الهوية والإبقاء عليها مستندةً إلى جذورها القديمة، ومنفتحةً في الوقت ذاته على التفاعل الضروري مع التحولات المعاصرة.


    هوامش:

    [1] عزيزة دياب وآخرون، أحمد كنعان: أعمال تشكيلية 1989 ــ 2002، (حيفا: راحش أوفسيت، 2003)، ص 5.
    [2] مروان العلان، "باقة من فناني فلسطين المحتلة: تجربة في مواجهة "الآخر/ النقيض"، في: مروان العلان وآخرون، تشكيل: تجارب تشكيلية فلسطينية، الجزء الأول، رام الله، 2002، ص 136.
    [3] حاييم مؤور، "يسمونني إسماعيل"، حجيت دورون (تحرير)، صوت إسماعيل: تمثيلات لهوية مركبة في أعمال فنانين عرب في إسرائيل، رحوبوت، الجاليري البلدي للفنون، بئر السبع، مطبعة ديمونا، 2002، ص 32.
يعمل...
X