أگورا agora

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أگورا agora

    أگورا agora

    كان مهرجان ( كان ) السينمائي الفرنسي الدولي ، للعام 2009 ، أولَ مناسبة يتم فيها عرض فيلم ( أگورا ) ، و هو مهرجانٌ يُقام ــ عادةً ــ في شهر آيار/ مايو من كل سنة ، ولكن الفيلم لم يدخل حيز مسابقاته ، على اعتبار أنه خارج مواصفات هذه المسابقات ، غير أنه عومل كتحفةٍ سينمائيةٍ ملفتة للفكر و الإنتباه ، و مثيرةٍ للجدل ، على أكثر من مستوى . و مع ذلك فأنه لم يُعرض في صالات العرض الأوروبية إلا ّ نهاية ذلك العام ، أي بعد سبعة أشهر كاملة من ذلك العرض الدولي الشهير ، لسبب مثير سوف أشير اليه لاحقاً ، ولم يُعرض الفيلم في أمريكا الشمالية ( أمريكا و كندا ) إلا في آيار / مايو من العام 2010 .. أي بعد سنة كاملة من عرضه الأول .
    يأخذ الفيلمُ عنوانه ( أگورا ) من الساحة العامة في مدينة ( الإسكندرية ) المصرية القديمة ، التي تجتمع فيها الناس ــ عادة ً ــ من أجل التبادل التجاري و الفكري و النقاش السياسي ، و هذه الساحة تستعير اسمها من الساحة القديمة في ( أثينا ) أيام مجد اليونان . ولكن هذه الساحة ( الإسكندرانية ) تحولت ، نهايات القرن الرابع الميلادي ــ كما هو معروف تاريخياً ــ الى ساحة للجدل الديني ، عندما اشتد عود المسيحية .. بعد تحولها الى الدين شبه الرسمي للدولة الرومانية منذ أن سمح الإمبراطور " كوستنتين " ــ تحت تأثير أمه " هيلانا " ــ بظهورها الى العلن و ممارسة المسيحيين طقوسهم .
    و في الإسكندرية ( التي كانت العاصمة الرومانية الثانية بعد روما ) كان الوجودُ المسيحيُ فاعلا ً في تلك الفترة التي بدأت تشهد بوادرَ انهيار الدولة الرومانية ، و الذي اتاح للمسيحية حيزاً كبيراً .. ظهرت فيه ليست كقوة تحد ٍ للديانيتين الوثنية و اليهودية بل كقوةٍ بديلةٍ من الممكن أن تدير شؤون الدولة و المجتمع بعيداً عن القوة السياسية التي تدير هي ــ عادة ــ هذه الشؤون . و فيلم ( أگورا ) يسجل هذه الفترة الحرجة في التحول التاريخي على المستويين السياسي و الديني . ولكنه أظهر الجانبَ الذي لا يُرضي المسيحيين اليوم ــ المصريين تحديداً ــ لأنه يقدم أجدادَهم كهَمَج و رُعاعٍ قُساةٍ أساءوا الى الحضارة الإنسانية ، عندما اشتد عودُهم في مصر و انتقلوا من مرحلة التبشير الى مرحلة العنف . فأظهرهم الفيلمُ و قد راحوا يتسيّدون على الإسكندرية ، من خلال تسيّدهم على ( أگورا ) ، و باتوا يجادلون فيها بشأن أفضلية دينهم على غيره ، من خلال ِ اللجوءِ الى اسلوب تأكيد المعجزات لدى المسيحية ، كإثبات ذلك بمشي أحد الأساقفة المتشددين على النار وسط الساحة العامة ، ليتحول الأمر ، شيئاً فشيئاً ، الى العنف و احتلال الساحة و القتل و تدمير مظاهر الحضارة في مدينة الإسكندرية من تماثيل و رموز فكرية و دينية و مرافق عامة وصولاً الى ( مكتبة الإسكندرية ) الأشهر في تاريخ المعرفة .
    و الحقيقة أن الفيلم يقدم ، عند هذه النقطة ، شهادة براءة للمسلمين أمام الغرب الذي أعتاد على اتهامهم بأنهم هم الذين أتلفوا مكتبة الإسكندرية الشهيرة ، كتعبير عن همجية العرب المسلمين حين فتحت الجيوشُ الإسلامية مصرَ بقيادة ( عمرو بن العاص ) . ولكن الفيلم ــ بالمقابل ــ يُلجم أفواه الإسلاميين المتشددين في مصر اليوم ، والذين يضغطون على المسيحيين فيها لمغادرتها ، باعتبارها ليست بلادهم و أن المسلمين أوْلى بها ، فالفيلم يثبت أن مسيحيي مصر هم الأصليون فيها ، منذ القرن الرابع الميلادي ، أي قبل ظهور الإسلام بقرنين ، و هذه حقيقة تاريخية . ولكن مع ذلك ، فإن الذي يثير غضب و حفيظة و حنق مسيحيي مصر على الفيلم هو أنه أظهرهم على درجة عالية من العنف و الهمجية بما لا يتفق مع طبيعة السلام و التسامح اللذين عـُرفت الدعوة المسيحية التبشيرية بهما . و مع أن المخرج الإسباني ــ تشيلي المولد ــ " اليخاندرو أمينابار " طرح فيلمه باللغة الإنجليزية لغرض التسويق ، إلا أنه أرتكب سابقة بحق فيلمه و تحت ذريعة التسويق أيضاً . و هذه السابقة هي التي أخـّرت عرض الفيلم مدة سبعة أشهر كاملة في أوربا و سنةً كاملة ً في أمريكا الشمالية . فعندما عُرض الفيلم في مهرجان ( كان ) فقد عُرض كاملا ً ، ولكن المخرج عمد ــ بعد ذلك العرض ــ الى حذف نحو عشرين دقيقة من فيلمه ، و هو الزمن الذي تستغرقه مشاهدُ العنف الذي مارسه ( اليهود ) ضد ( المسيحيين ) ، و لم يُبق ِ غير مشهد ( الفخ ) الذي نصبه اليهود للمسيحيين في أحدى دور العبادة و قد مارسوا فيه غدراً قاسياً بدا كما لو كان ردَ فعل طبيعياً أمام قسوة المسيحيين ، مثلما أبقى على مشهد طرد اليهود من مصر على يد المسيحيين اياهم .. فأظهرهم في الفيلم ــ بعد الحذوفات ــ كجهة مظلومة حسب . ولكن اذا كان المخرج قد برر ذلك بأسباب تسويقية ــ كما أعلن ــ فإن في ذلك اعترافاً صريحاً بأن الصهيونية العالمية تسيطر على عالم السينما حقاً ، أكان في هوليوود أم خارجها ، و أنها هي التي تقرر طبيعة الترويج و هي التي تتحكم بالتسويق .
    صحيح أن الحذف الذي أجراه المخرج لم يؤثر على سياق الفيلم من الناحية الفنية ، ولكن إجراءً كهذا إنما شكـّل مثلبة تـُسجل على المخرج الذي قدّم بها ذريعة جلية لمسيحيي مصر للإعتراض على طروحات الفيلم ، فتم منعُ عرضه في مصر ( إلا في المهرجانات ) ، ربما لا لأنه قدّم صورةً سلبية سوداء عن أجدادهم الأوائل فقط ، بل لأنه حذف مشاهد العنف اليهودي تجاههم ، بمعنى أنه ( نظف ) ساحة اليهود و ترك ساحة المسيحيين ( وسخة ) ، بعد أن كان محايداً أثناء صناعة فيلمه . و بهذا فإنه قدم الى المتشددين المسيحيين ( في مصر ) ــ من حيث لا يقصد ــ الذريعة ليدخلوا على الخط ، على غرار المتطرفين الإسلاميين الذين باتوا يتدخلون في ما لا يعنيهم من شأنٍ ثقافي و فني محض ، و كذلك على غرار المتشددين اليهود الذين اعترضوا ــ مثلاً ــ على فيلم ( آلام المسيح ) من اخراج ( مل گبسون ) الذي لم يستطيعوا التلاعب في تسويق فيلمه ، لأنه هوليوودي أقوى قدرة ً في التحدي من ( اليخاندرو ) الإسباني . و يمكن القول أنه ربما أراد مخرج فيلم ( أگورا ) أن يتجنب الوقوع في المطب الذي وقع فيه المخرج الأمريكي ( أدوارد زويك ) الذي قدم اليهود كمقاومين للجيش النازي في فيلمه ( التحدي ) ، فغضبت منه الأوساط اليهودية داخل أمريكا و خارجها ، باعتباره قدم صورة تحد ٍ و عنف لدى اليهود هي غير الصورة النمطية التي اعتادت أفلام الهولوكوست تقديم اليهود فيها كضحايا فقط .
    ولكن ، على أية حال ، فإن فيلم ( أگورا ) يلامس بحساسية عالية قضيةً باتت ــ اليوم ــ هي الشغل الشاغل في العالم ، تلكم هي قضية التطرف الديني التي باتت لا تكهرب العلاقات بين الناس في المجتمع الواحد حسـب بل و بين الشـعوب .. و ربما بين الدول أيضاً . غير أن المخرج اختار حقبة تاريخية حساسة و حرجة شهدت تحولات سياسية و دينية حدثت قبل نحو ستة عشر قرناً مضت ولكنها تجد انعكاسها في مرآة حاضرنا . و هذه هي النقطة الأساسية التي جعلت فيلم ( أگورا ) مثيراً للجدل على نطاق واسع ، بموازاة رُقيه الجمالي على مستوى الصنعة السينمائية ، بما أهـّله لأن يكـون تحفة حقيـقية لا يمكن لمن يشاهـده أن ينساه أو أن لا يتطلـّع الى تكرار مشاهدته .
    إذا كانت ( أگورا ) هي الساحة ، أو المحيط الذي تدور فيه الأحداث ، فإن " هيباتيا " هي المركز الأساس الذي يستقطب الأحداث في الفيلم ، بل هي العنصر البطولي النسوي الوحيد فيه ، و هي إذ بدت شخصية باهرة في الفيلم ، فإنها كانت باهرة عصرها فعلاً ، ذلك أنها أولُ فيلسوفةٍ في التاريخ ، و هي عالمة فلك و رياضيات بارعة ، طرحت نظرياتها الخاصة في علوم حركة الكواكب بحيث باتت تـُعتبر ــ اليوم ــ الأمَ الروحية لعلوم الطبيعة الحديثة ، ولكن نظريات هذه العالِمة الفذة لم تؤخذ بنظر الإعتبار في عصرها ، بل كانت سبباً في معاداة المتطرفين لها ، باعتبار هذه النظريات ضرباً من السحر و الشعوذة ، حتى جاء عالِمُ الرياضيات و الفلك الآلماني " يوهانس كيبلر " ( 1571 ــ 1630 ) ليثبت في القرن السادس عشر ( أي بعد اثني عشر قرناً ) صحة نظريات " هيباتيا " .
    لقد كان واحدٌ من أهم اهتمامات هذه الإمرأة المذهلة مُنصبــّـاً على لغز دوَران الكواكب حول الشمس و كيفية وضع قانون ينظـّم هذه العلاقة . و " هيباتيا " هي أول من غيـّـرَ فكرة تصوّر المدار الدائري ، حين وضعت صورة ً للمسار البيضوي لدوَران الكواكب حول الشمس ، و هي أول من وضعت يدها على قانون جاذبية الأرض قبل " نيوتن " . و من هذه النقطة يبدأ الفيلم : حين تظهر " هيباتيا " في أول المشاهد و هي تقدم درسها لتلاميذها بإلقاء منديل على الأرض ، شارحةً لهم كيف أن المنديل يسقط على الأرض بسبب جاذبيتها ، في حين أن الكواكب لا تسقط خلال دورانها في الفضاء الفارغ و هي تدور بحكم قانون ما ، و هذا القانون هو الذي كان يشغل " هيباتيا " ، إضافة ً الى انشغالاتها الأخرى في الفلسفة و الرياضيات .
    لقد كانت هذه المرأة خالقةَ أسئلةٍ عميقةٍ و متشابكةٍ و مُحيّرة ، في الدرجة الأولى ، أكثر منها صائغة اجاباتٍ جاهزة أو تقليدية ، و بقدر ما كانت أسئلتُها توخز العقل و توقظ الراقدَ فيه ، فإن أجوبتها نفسَها كانت مولّدة أسئلة و شاحذة عقل . و توجهات " هيباتيا " و نشاطها الجاد ، في الفكر و العلم ، جعلها بعيدة عن فكرة الدين و كذلك عن الإرتباط العاطفي ، فعلى الرغم من أنها ولدت و نشأت في عهدٍ وثني تزامن مع اليهودية و من ثم برزت فيه المسيحية ، غير أنها لم تكن ملتفتة الى فكرة الدين ، مطلقاً ، لقد كانت ترى أن الجميع أخوة ، و كان العلم هو دينها ، و الإلتزام به هو مبدأها الذي لا تحيد عنه . لذلك فإنها تجيب المُعتنق المسيحي الذي كان أحد تلامذتها ــ عندما يطلب منها أن تعتنق المسيحية هي أيضاً ــ تجيبه بالقول : ( إيمانك يمنعك عن طرح الأسئلة .. أنا عملي يتطلب مني أن أطرحها ) . و على الرغم من جمال " هيباتيا " الفاتن ، و انوثتها الطاغية ، و حوم الرجال حولها ــ و في مقدمتهم عبدها المتيم بها " داڤوس " و تلميذها " أوريستوس " الذي غدا حاكم المدينة ــ إلا أنها تجنبت فكرة الخوض في تجربة الحب الذي كانت كلُ أسبابه متوفرة عندها و حولها .
    لقد كان خطأ القدَر في التاريخ ، هو أن " هيباتيا " ظهرت في عصرٍ أزاح ( الإيمانُ ) خلاله ( العقلَ ) ، فباتت الفلسفة و نظرياتُ العِلم ضرباً من السحر و الشعوذة ، و اعلاناً عن انتماءٍ الى الوثنية التي باتت على حافة النهاية عقب تقوّي المسيحية ، التي غدت الدينَ شبه الرسمي للدولة الرومانية ، بعد أن عانت قروناً من التعسف و الإضطهاد في عهد هذه الدولة الوثنية أصلاً . و بطبيعة الحال فإن تحالف السلطة الدينية و السلطة السياسية إنما يضع خطاً أحمر لا يقبل مطلقاً أي تجاوز له ، فالمتجاوز من وجهة نظرهما ( كافر ) دينياً و ( خائن ) سياسياً . و هاتان السلطتان تعملان على الإخضاع و الإيمان ، قسراً أو طوعاً ، و هذا الإخضاع لا يفسح مجالاً للعقل و أسئلته و حواراته المنطقية ، و يتم في كل العصور ، تغييب أصحاب العقول ، و في مقدمتها الفلسفة و مقترباتها الرياضية و الفلكية . لذلك فإن تجريع " سقراط " سـُمّ ( الشوكران ) لأن طروحاته لا تتوافق مع السلطة السياسية ، وقتــْلُ " هيباتيا " لأن طروحاتها تعارضت مع السلطة الدينية ، يأتيان كنتيجة طبيعية في سياق تسلط ما هو إيماني على حساب ما هو عقلي . فالمثقفون ، و أصحاب الرأي الفردي ، المختلِف ، لا يمتلكون ــ عادة ً ــ قوة إثارة العامّة ضد السلطة ــ أي سلطة ــ لذلك فأنهم أول الضحايا ، لا لكونهم يشكلون قوةً خطيرة ، بل لأنهم يجب أن يكونوا درساً و عبرة للعامة ، من وجهة النظر غير المُعلنة من لدن احدى السلطتين ، أو كلتيهما ، في سياق حلفهما المقدس غير المعلن أيضاً . و ها نحن نرى ــ بصورة عملية جلية مثلاً ــ أن السلطة السياسية الصهيونية قد فرضت على المخرج حذف المقاطع التي تستعرض العنف اليهودي في فيلم ( أگورا ) ، فيما فرضت السلطة الدينية المسيحية ، في مصر ، على الرقابة المصرية مَنـعَ عرض الفيلم في صالات العرض السينمائي المصرية .
    و واقع التاريخ المعرفي يشير الى أن الفلسفة هي أم العلوم ، ولكن هذه الأم العظيمة وقعت عبر هذا التاريخ ضحية ًرسمية ً لسلطتي ( السياسة ) المتخلفة و ( الدين ) المتطرفة ، ذلك أن الفلسفة ميدانُها العقل الذي هو عدو لدود لهاتين السلطتين اللتين لا يمكن أن تطيقا الأسئلة و الأفكار القلِقة ، و هو ما يدفعهما الى جعلها هدفاً و اعتبارها ( هرطقة يونانية ) ، باعتبار اليونان مهد الفلسفة . و هناك من وصف ( أثينا ) بالمدينة ( المشؤومة ) للسبب ذاته . كما أن الإمبراطور " كوستنتين " الذي سمح بإعلان المسيحية ، كان قد أصدر في العام 323 ميلادية أمراً صريحاً و علنياً بإتلاف و حرق جميع مؤلفات الفيلسوف " فروفوريوس " . بل أن الأمبراطور " يوستنياس " كان قد أغلق جامعة ( أثينا الفلسفية ) و نعت أساتذتها بـ ( مرضى الجنون الإغريقي ) ... و ضمن هذا السياق من الغباء الصريح و التزمت القبيح ، راحت " هيباتيا " كضحية و شهيدة عظيمة لا يتوقف تاريخ الفلسفة و التاريخ الإنساني عن ذرف الدمع الصادق على ذكراها .
    و إذ ظهرت " هيباتيا " في العصر الخطأ ، فإن عاملين أساسيين أوقعاها تحت عجلة جريمة عصرها ، الأول : أنها اعتنقت الفلسفة و اتخذت من العلم ديناً لها ، و الثاني : كونها إمرأة . ولكن هذه الإمرأة هي أول فيلسوفة تدرّس العلم و لها أتباع كثيرون من الرجال الذين كانوا يتهافتون على قاعات محاضراتها ، بل هي أول استاذة جامعية عرفها التاريخ . و اذ يعلن الكاهن " سيريل " ــ في ما يشبه المراسيم الدينية ــ وجوبَ عدم الإستماع الى المرأة و منعها من العمل و التدريس و الفكر ، فأنه يكون قد أصدر ( فتوى ) استهدفت " هيباتيا " بصورة غير مباشرة ، ولكنها صريحة ، الأمر الذي وضع الحجة الدينية الغبية في أيادي المتطرفين المسيحيين ليفعلوا فعلتهم الوحشية التي لم ينسها التاريخ .. و لن ينسى .
    و تشير المعلومات التاريخية الى أن مجموعة المتطرفين الذين قتلوا " هيباتيا " ، اقتادوها الى وسط المدينة ، و عرّوها تماماً ، ثم قاموا بسلخ جلدها و هي حية ، ثم قطّعوها ، ثم وزعوا قطع جسدها على أماكن متفرقة من المدينة و أحرقوها ، إمعاناً في الجريمة .. بإسم الدين .
    ولكن المخرج " أمينابار " اختار مشهداً مختلفاً لـنهاية حياة " هيباتيا " في فيلمه ( أگورا ) ، و هو مشهد معقول لغرض التخفيف ، لا لتخفيف الجريمة .. بل لتخفيف بشاعتها ، فجعل النهاية خفيفة الصدمة على عين المشاهد .. ولكنها ضاربة في عمق روحه ، خصوصاً روح المشاهد الذي يعرف من هي " هيباتيا " عميقة العقل و جميلة الروح والبدن : فقد عمد المخرج الى جعل هؤلاء المتطرفين القتلة يقتادون تلك المرأة العظيمة من وسط المدينة الى مكان ما ( كانت نظرة الممثلة القديرة " راشيل وايز " في هذا المشهد تعبر عن تمثيل عبقري مؤثر ) ، و في هذه الأثناء كان عبدها " داڤوس " ــ الذي أعتقته و قد اعتنق المسيحية ــ يبحث عنها لينقذها و قد علم بأن مصيراً بشعاً ينتظرها ، و اذ يعثر عليها و قد جردها المجرمون من ثيابها ، تمهيداً لتنفيذ جريمتهم البشعة ، فإنه يقترح عليهم الإتيان بالحجارة لقتلها رجماً ، و اذ يستجيبون لاقتراحه و ينفرد بها ــ و هو الذي يهيم بها عشقاً ــ فإنه يعانقها من الخلف بقوة الهَيْمان و يقوم بخنقها ، بهدوء ، تخليصاً لها من المصير المخيف الذي ينتظرها .. لينتهي الفيلم بهذا المشهد المؤثر .
    كتب سيناريو الفيلم " ميتيو جيل " و شاركه في ذلك المخرجُ نفسُه ، الذي أسند دور البطولة الى الممثلة الإنجليزية الجميلة " راشيل وايز " بدور " هيباتيا " ، و قد كانت ذاتَ حضورٍ طاغ و متفرّد في الفيلم ، و شاركها البطولة " ماكس مانگيللا " بدور العبد " داڤوس " و " أوسكار ايساك " بدور التلميذ ثم الحاكم " أوريستوس " . كما أسند أدواراً الى ممثلين شرقيين ، من مثل الفلسطيني ــ من عرب 48 ــ " أشرف برهوم " بدور الأسقف المتشدد " أمونيوس " ، و الممثل الإيراني " همايون ارشادي " بدور العالم المساعد لـ " هيباتيا " . فيما وضع الموسيقار الإيراني المعروف " داريو ماريانللي " الموسيقى التصويرية الرائعة للفيلم ، فكانت لمسة موسيقاه الإيرانية الجميلة واضحة في التايتل ، على وجه الخصوص .
    بلغت تكاليف الفيلم خمسين مليون يورو ، و هو مبلغٌ يـُعد ضخماً بالنسبة للسينما الأوروبية ، ولكنه متواضع جداً أمام الميزانيات التي ترصدها هوليوود لفيلم بفخامة فيلم ( أگورا ) الذي استغرق تصويره أربعة أشهر في جزيرة ( مالطا ) التي شـُـيّد فيها ديكورٌ على غرار مدينة ( الإسكندرية ) في القرن الرابع الميلادي ، و هو ديكورٌ مُتقن و أخاذ في هندسته التي قرّبت الصورة عن تلك المدينة التاريخية الباهرة بمبانيها و تماثيلها و رموزها الفنية في ساحاتها و بأزياء سكانها التي ظهرت متكاملة في هذا الفيلم الأخاذ الذي بقدر ما يثير الجدل حول طروحاته فأنه يُصيب مُشاهدَهُ بالإنبهار بجمالياته السينمائية .. فيُـثبت أنه تحفةٌ سينمائيةٌ حقاً .
يعمل...
X