لغز يُشبه الحياة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • لغز يُشبه الحياة



    تحليل فيلم The Double Life of Véronique: لغز يُشبه الحياة

    مراجعة التحفة الفنية "الحياة المزدوجة لفيرونيكا"

    يقول الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس إن الجمال هو ذلك اللغز الجميل الذي لا يستطع علم النفس ولا البلاغة فكه. وفيلم The Double Life of Véronique هو الجمال في أبهى صوره. فهذا الفيلم بمثابة شعور أكثر من كونه قصة، ولا يمكن فهم قصة فيلم The Double Life of Véronique إلا من خلال ما يجعلنا نشعر به عند مشاهدته. ومن ثم نسأل أنفسنا ما الذي رأيناه خلف الستارة التي سحبها لنا كيشلوفسكي. في المقال التالي نحاول تحليل فيلم The Double Life of Véronique بمزيد من التفصيل.

    معلومات عن فيلم The Double Life of Véronique
    • البلد: فرنسا | النرويج | بولندا.
    • اللغة: الفرنسية | البولندية | الإيطالية.
    • تاريخ الإصدار: 22 نوفمبر 1991.
    • المخرج: كريستوف كيشلوفسكي.
    • الكاتب: كريستوف كيشلوفسكي | كريستوف بييسيفيتش.
    • وقت العرض: 98 دقيقة.
    • النوع: دراما | فانتازيا | موسيقى.
    • التصنيف: (R) للكبار فقط | يحتوي على مشاهد فاضحة.
    • فريق التمثيل: إيرين جاكوب | فلاديسلاف كوالسكي | هالينا جريغلاسزوسكا.
    • التقييم: 7.7.

    قصة فيلم The Double Life of Véronique

    مشهد من فيلم The Double Life of Véroniqueوُلدت امرأتان في نفس اليوم من عام 1968، واحدة في بولندا والأخرى في فرنسا. ترتبط المرأتان ببعضهما البعض بشكل غامض، حيث يتشاركان في نفس الاسم والمظهر المتطابق، والموهبة الموسيقية، وحتى أن لديهما نفس الحالة المرضية – القلب الضعيف، لكنهما يعيشان في عالمين منفصلين، ولا تعرف أحدهما عن وجود الأخرى. ومع ذلك، تشعر كل منهما بالأخرى ولديها معرفة حدسية بوجودها. لدى فيرونيكا البولندية شعور مقلق بعدم كونها وحيدة في العالم. في حين تشعر فيرونيكا الفرنسية كما لو كانت في مكانين في وقت واحد، وتتفاعل بشكل غريزي مع بيئتها. يربط الفيلم المرأتين من خلال إشارات بصرية رنانة: إيماءات متطابقة، قطعة من الخيط، نفس المرأة العجوز، كرة شفافة.
    فيرونيكا البولندية

    يبدأ الفيلم في بولندا. حيث نرى فيرونيكا البولندية تعمل كمغنية سوبرانو في جوقة، بعد أن نجحت في تجربة أداء، وخلال سيرها في شوارع المدينة، حيث خرجت مظاهرة ضد الحكومة يصطدم بها أحد المتظاهرين ويتسبب في سقوط النوتة الموسيقية وتناثرها في مهب الريح. وعندما تنظر فيرونيكا لأعلى ترى ما يشبه أختها التؤام تستقل الحافلة وتبتعد. تحمل النوتة الموسيقية وتذهب، وأثناء عرضها الافتتاحي تسقط على خشبة المسرح وتموت.
    فيرونيكا الفرنسية

    في اليوم نفسه، وفي نفس لحظة وفاة فيرونيكا البولندية، كانت فرونيكا الفرنسية تمارس الحب مع صديقها حينما توقفت فجأة بعد شعورها بالحزن. وتقرر ترك مسيرتها الموسيقية لتعمل كمعلمة موسيقى للأطفال. وخلال أحد الأيام تأخذ فصلها إلى مسرحية للدمى المتحركة، كان عرض الدمى المتحركة ينبض بالحياة، مع نفس الموسيقى التي ماتت فيرونيكا الأخرى وهي تغنيها.


    وخلال حفل للأطفال تقع في حب محرك الدمى الذي يكتب كتب الأطفال. وفي تلك الأوقات بدأت في تلقي مكالمات هاتفية غامضة وشريط كاسيت غريب يحتوي على أصوات من محطة قطار قريبة. تحاول فيرونيكا أن تصل إلى المكان الذي تشير إليه هذه الأصوات، وتكتشف أن الشريط سجل بالقرب من محطة سانت لازار. تذهب إلى هناك لتعقب الاحتمال المؤلم للتواصل مع حبيب محتمل لملء فراغ رهيب في حياتها، لتجد هناك محرك الدمى في انتظارها.
    تدخل هي ومحرك الدمى في علاقة غريبة، وإن كانت عاطفية. بينما تكتشف لاحقاً أنه يعمل على كتاب جديد عن امرأة لديها توأم متطابق، وإن كانا غير مرتبطين ببعضهما البعض. تشعر فيرونيكا أن هذه القصة تشبه قصتها في الحقيقة، لتذهب إلى منزل فيرونيكا الأخرى وتلمس شجرة الزيتون. إلى هنا تنتهي القصة فإلى تحليل فيلم The Double Life of Véronique بالتفصيل.

    تحليل فيلم The Double Life of Véronique

    مشهد من فيلم The Double Life of Véroniqueلا تزال حكاية كيشلوفسكي البسيطة غامضة في معانيها الإيحائية العميقة، فهو يترك الفيلم للمشاهد مفتوحاً على قراءات لا حصر لها. إنه فيلم مذهل بصرياً نعيش معه جواً يشبه الحلم، من خلال الصور التي تعكس الكثير من الأفكار. فهل من الممكن أن يكون لدينا توأم روحي وأن اتصالنا مع هذا التؤام يهدف إلى منحنا فهم أكبر لمكاننا في هذا العالم (الهوية) وكيف أننا لسنا وحدنا أبداً (التواصل مع الآخرين). سواء كنت تقبل مثل هذه النظرة الروحية أم لا فقد ابتكر صانع الفيلم فيلماً طيفياً غنياً بالصور والموسيقى والأفكار التي تتجاوز الوجود العادي.

    تؤام روحي

    في فيلم The Double Life of Véronique تعيش امرأتان – تبدو متطابقتان – في بلدين مختلفين ويبدو أنهما تعيشان في تعايش روحي مع بعضهما البعض. يرى بعضهما البعض عن طريق الصدفة، إنها صدفة لا تصدق، ففي العالم الحقيقي نتوقف قليلاً أمام مثل هذه الصدفة ونتساءل عما إذا كان هناك تؤام روحي فعلاً أم لا؟ لكننا سرعان ما نستدير لتختفي هذه الصدفة العابرة وكأنها لم تكن، ومن ثم نمضي في حياتنا، ولن نعرف أبداً على وجه اليقين.
    في وقت ما تقول فيرونيكا: “شعرت طوال حياتي وكأنني كنت هنا وفي مكان آخر في نفس الوقت”. ربما عاش معظمنا مثل هذه التجربة. حيث نحاول أن نتخيل ذواتنا المثالية وما يمكن أن تفعله في الحياة (مثل إذا كنت مغنياً)، ولكننا سرعان ما نعود إلى واقع ما نحن عليه بالفعل (مثل معلمة الموسيقى). وبالنظر إلى فلسفة كيشلوفسكي، يمكننا أن نتساءل عما إذا كان هذا الفيلم يعكس القطبية بين الأمل واليأس وبين الواقع والمتخيل، والنجاح والفشل، الحب والكراهية. إن الحياة المزدوجة لفيرونيكا تمثل هذه الازدواجية، فبدلاً من قبول حياتنا كما هي عليه نعاني من التطلعات التي تكبلها بعض الظروف – في الفيلم يمثل مرض القلب مثل هذه الظروف. مما يؤدي بنا إلى الكآبة واليأس وصولاً إلى الحزن المستمر.
    الدين والروحانية

    هنا يكمن مفتاح سبب وجود الدين وفكرة الروحانية. لكن الدين ليس كما ينظر إليه البعض على إنه نوعاً من الراحة أو الوهم. بل ينبع من الحقيقة التي لا مفر منها وهي أن داخل الإنسان سيظل لغزاً عصياً على الفهم. إننا لدينا أدمغة بشرية جبارة ولغة بشرية نتواصل بها، وقد وصلنا إلى الكثير من المعرفة حول الكون والطبيعة المادية، لكن ماذا نعرف حقاً عن الشعور عن الإحساس، حتى ما نشعر به لا يمكننا تفسيره. لكن مع ذلك فالشعور لا يكذب فنحن نعلم في داخلنا أننا لا نعرف شيئاً.

    لقد استطاع المخرج البولندي الرائع كيشلوفسكي تصوير ما لا يمكن تصويره، واستكشاف ما لا يمكن شرحه. صور المخرج أشخاصاً عاديين وحياتهم اليومية بطريقة سمحت لنا برؤية أرواحهم وقلوبهم بشكل غريزي. وكانت أفلامه عبارة عن نوافذ صامتة وواقعية حيث كانت الحياة اليومية الرمادية للإنسان على جانب واحد من الزجاج، وحيث كان الغموض الروحي العظيم على الجانب الآخر.
    قال كيشلوفسكي في مقابلة: “عالم الجسد، الرؤية، الهواجس، الحدس، الأحلام، كل هذا هو الحياة الداخلية للشخص وهذا هو أصعب شيء يمكنك محاولة تصويره”.
    الصدفة أم القدر

    كانت جميع أفلام كيشلوفسكي – بشكل أو بآخر – تدور حول القدر والمصادفة – ما يفعله الناس في حياتهم، والمشاكل التي يواجهونها وكيف يتعاملون مع تلك المشاكل. كانت سلسلته المصغرة الرائعة Dekalog (1989-1990) تدور حول أشخاص مختلفين في نفس المبنى السكني القاسي في وارسو والمشاكل التي واجهوها لتتوافق مع الوصايا العشر؛ وفي فيلم Blind Chance (1987) يركض رجل للحاق بقطار ونرى ثلاث نسخ مختلفة من حياته، اعتماداً على كيفية اختياره؛ وفي فيلم Three Colors: Blue (1993) تفقد امرأة زوجها وطفلها في حادث سيارة، لتنجو بنفسها وتجد أن زوجها لم يكن مخلصاً لها. فهل كان المعنى يتعلق في هذا الفيلم بالقدر أم الصدفة؟ هذا هو السؤال.


    البحث عن المعنى

    نحن نبحث عبثاً عن المعنى في هذه القرائن الغامضة الموجودة في الفيلم. فهل فيرونيكا وشبيهتها هما الدميتان؟ وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يهم …؟ لكننا نخطئ إذا حاولنا حل” الحياة المزدوجة لفيرونيكا” إنه يعطينا اللغز فقط، ويريد منا أن نفكر فيه، لأنه لغزنا. حيث يفتح العالم لنا، ينير الأشياء التي نحملها معنا ونشعر بها.
    الحياة المزدوجة لفيرونيكا عبارة عن فيلم يدعو إلى التحليل، لكنه يشجعك على أن تراه بشكل حسي وروحاني. ففي الوقت الذي تشعر فيه أنك أمسكت بتلابيب القصة تجده ينزلق من بين يديك بسهولة. إنه ليس فيلماً مبالغاً فيه، بل هو بسيط وغامض مثل خدعة ساحرة التي كلما حاولت كشفها تأتي محاولاتك بنتيجة عكسية.
    الكثير من المشاهدين لا يرون جاذبية أفلام كيشلوفسكي – على الأقل في البداية – لأنهم معتادون على الجلوس بسلبية ومشاهدة فيلم، وعلى الفيلم القيام بكل شيء من أجلهم. لكن هذا الفيلم ليس كذلك إنه يشرك الجمهور معه بطريقة خلابة تجعلك تفكر ليس لساعات بل لأيام. قصة فيلم The Double Life of Véronique لن تفرض عليك أي رسالة أو أي فكرة فلسفية أو سياسية أو دينية، إنه يثير فقط الماء الراكد بداخلك ليحركه، وباقي المهمة عليك أنت، ومن هنا عليك أن تفتح حقائب عقلك ومعتقداتك لتفسره كيفما تشاء.

    قد يرى البعض أنه فيلماً بلا حبكة، وبالتالي لا معنى له. وقد يرى البعض أنه تصوير لما أسماه عالم النفس كارل يونغ التزامن – ظاهرتان منفصلتان ولكن متطابقتان، مرتبطتان ليس فقط بخصائصهما ولكن أيضاً بمعناهما المتأصل – وقد يراه البعض الآخر استسقاط، وهو ميل الدماغ البشري إلى “ملء” ووضع الصور معاً والعثور على أنماط في بيانات لا معنى لها؛ ومن هذا المنظور، لا تتشابه المرأتان مع بعضهما البعض، إلا لأننا نحتاج إلى أن يكونا متشابهين مع بعضهما البعض، وأن مصادفتهما العديدة لا تتعدى حالات علاقات احتمالية منخفضة للغاية.
    العلم والروح

    إلى أي مدى يمكننا أن نفهم هذا التواصل المستمر لوعي شخصين مجهولين يشعران، وهما يعيشان بعيداً عن بعضهما بأعمق اتصال داخلي بينهما؟ نحن ندرك الواقع من خلال إدراكنا المباشر المحدود الذي تشكل من خلال تعليمنا وبيئتنا، ولكننا لم نفهم المشاعر والخبرات. علاوة على ذلك وكما تخبرنا النظريات العلمية الحديثة أن العالم الذي يمكننا إدراكه صغير جداً مقارنةً بكوننا، وصغير أكثر مقارنةً بالأكوان الموازية الموجودة، نظراً لأن الدماغ البشري يمكنه فقط فهم مساحة زمنية محددة لحقيقة معينة.
    فيرونيكا هي الوحيدة التي تواصل الغناء تحت المطر وتحول وجهها إلى السماء بكل سرور. لكن يتوقف قلبها في حفلها الأول، بعد أن تجاهلت مشكلة صحية خطيرة. عندما تغادر روحها جسدها، يغمر الحزن فوراً الشخصية الأخرى. وفي الوقت نفسه ينتابها هاجس وقائي، فتتخلى عن الغناء الأغنية، وتخضع لفحوصات طبية على عجل.

    يتوقف الدماغ عن العمل عندما يموت الجسم، ولكن أين تذهب الطاقة التي أنتجها حتى تلك النقطة، مع الأخذ في الاعتبار أنها لا تضيع، كما يعلمنا العلم؟ هل هناك علاقة بين هذه الفرضية العلمية وفكرة خلود الروح (تعبير عن قلق الإنسان من البقاء على قيد الحياة في الأبدية)، والذي يتم غرسه في جسد آخر لمواصلة مساره التطوري؟ هناك علاقة في السؤال حول المكان الذي تنتقل فيه الطاقة التي ينتجها دماغ ميت، فهل تنتقل إلى عالم آخر؟ أم تعود إلى عالمنا، وإذا كان الأمر كذلك، فمتى؟
    من هنا نجد أن العلم، والميتافيزيقا، والتحليل النفسي، والتقاليد، وانعكاسات العالم الفائق، والحكاية الخيالية، كل هذه الأشياء تتعايش معاً في جو غامض، ويدمجهم كيشلوفسكي في الحياة اليومية لأبطاله، ويترك لنا تفسير الأشخاص والأحداث من خلال منظور روحي ونفسي.
    ليس فيلماً بل شعوراً

    إذا كان هذا الفيلم بمثابة شعور أكثر من كونه قصة، فلا يمكن فهمه إلا من خلال ما يجعلنا نشعر به عند مشاهدته. نسأل أنفسنا ما الذي رأيناه خلف الستارة التي سحبها لنا كييلوفسكي. ربما نكون موجودين في العديد من الأماكن في وقت واحد. وربما يكون هناك محرك للدمى يحركنا خلال الحياة، وكل خطوة لدينا تأتي بناءً على رغبته.


    أو ربما أدركنا ببساطة أن هناك شيئاً آخر يحدث، لكن لا يمكننا وصفه بالكلمات أو شرحه، لكن كونك من الجمهور يمكنك تحليل فيلم The Double Life of Véronique وتفسيره بالطريقة التي تفضلها. فإذا كنت مؤمناً يظهر لك هذا الفيلم كمثال ديني روحاني. وإذا كنت ملحداً يبدو وكأنه قصيدة حب لألغاز الكون التي لا يمكن حلها. وفي نوبات الاكتئاب هو عويل على عدم قدرتنا على فهم الحياة ؛ وفي اللحظات السعيدة هو احتضان دافئ بسيط لفرحة أننا مازلنا على قيد الحياة، داخل لغز الوجود المبهم. وبهذه المغاني فإن فيلم The Double Life of Véronique لا يمكن أن يتقدم في العمر أو يفقد رونقه. فسيعني دائماً شيئاً ما طالما كان له يجعلنا نشاهد ونتفاعل ونتأمل، وفي مكان ما خلف الستار، يوجهنا كيشلوفسكي إلى أعماق أنفسنا إلى الأبد.
    شعور عابر

    تلتقط قصة فيلم The Double Life of Veronique إحساساً عابراً ومشتركاً عالمياً ويبلوره في فيلم. ومن الصعب، وربما من المستحيل، تحديد ماهية هذا الشعور بالضبط. هذا الشعور هو إدراك خافت لمكان ما في محيط وعينا ولكن في اللحظة التي نحاول فيها فهمه، فإن معناه يهرب منا. إنه شعور لحظي ومراوغ للغاية لدرجة أننا نميل إلى رفض وجوده وننظر إليه على إنه شيء وهمي. يؤكد هذا الفيلم حقيقة هذا الشعور العابر ويحاول تكبير زاوية الرؤية حتى نرى نختبر حقيقته. لكن في اللحظة التي نحاول فيها ترجمة هذا الشعور إلى مصطلحات ملموسة، يتفكك معناه.

    في الختام وبعد تحليل فيلم The Double Life of Véronique لا يسعنا سوى القول بأن هذا الفيلم يحمل السمة المميزة لأفلام الرائع كيشلوفسكي. حيث يقدم للمشاهد سلسلة من الأسئلة، ويترك مساحة في عمله حتى يتمكن من يشاهد أفلامه من تفسيرها بطريقته الخاصة.

يعمل...
X