اعترف هيوي برتون في السادسة عشرة من عمره بقتل والدته، بدأت شرطة مدينة نيويورك باستجوابه وهو ما زال في حالة صدمة بعد اكتشاف جثتها، وبعد ساعات من التهديد أخبرهم بما يريدون سماعه، لكنه تراجع بعدها مدركًا براءته، وآملًا أن تفرج عنه المحكمة. في عام 1991 حُكم عليه بالسجن المؤبد بعد إدانته بجريمة القتل من الدرجة الثانية، ثم أُطلق سراحه بعد 20 عامًا إطلاقًا مشروطًا، ولم يستطع نزع وصمة الإدانة عن نفسه.
عمل المحامون أكثر من عقد على إثبات براءته وأظهروا أدلة تناقض الاعتراف وتظهر سوء معاملة الادعاء له، لكن بالنسبة إلى المدعي العام كان الاعتراف أقوى من جميع الأدلة الأخرى، فمن ذا الذي يعترف بجريمة لم يرتكبها؟
استعان محامو برتون بالطبيب النفسي سول كاسين، وهو من الخبراء في عالم الاستجواب، يقول كاسين: «دخلت مستعدًّا لتقديم عرض مدته 15 دقيقة، فبدأ المحامون بسؤالي أسئلة جيدة حقًا، واستمر النقاش نحو ساعتين ونصف».
أوضح كاسين أن أكثر من 90 شخصًا اعترفوا بجرائم لم يرتكبوها تمت تبرئتهم في العقد الماضي، وأن الاعترافات الكاذبة غير نادرة، وأخبر الفريق كيف أن تقنيات الاستجواب التي تجمع بين الضغوط النفسية وطرق الخلاص قد تجعل شخصًا بريئًا يعترف بجريمة لم يرتكبها، وأن الشباب هم الفئة الأكثر عرضةً لذلك، خاصةً عندما يكونون تحت ضغط نفسي أو في حالة صدمة كما كان برتون.
وصف الصورة: اعترف هيوي برتون بقتل والدته، ولم يُبرأ إلا بعد 30 عامًا
ساعد شرح كاسين المدعي العام على فهم علم الاستجواب والاعتراف الزائف، وبعد ستة أشهر بُرّئ برتون من التهمة التي مضى عليها ثلاثة عقود، يقول ستيفن دريزين: «كان وجود الدكتور كاسين نقطة تحول في القضية».
مع أن عشرات الأشخاص بُرّئوا من اتهامات كاذبة بسبب استخدام أدلة الحمض النووي، تُعد قضية برتون أول قضية يُبرّأ فيها شخص اعتمادًا على التحليل العلمي للاستجواب، ولهذا لا يشكك محامو الدفاع فقط في الاعترافات، وإنما في صنّاع القانون وبعض إدارات الشرطة أيضًا، التي يجب أن تعيد النظر في طرق الاستجواب.
ركزت تجارب كاسين على علم النفس المرتبط بالاعترافات الكاذبة ، وأظهر كيف أن الاعتراف -سواء كان حقيقيًّا أم لا- يؤثر في الشهود وحتى في الأطباء الشرعيين، ما يغير مسار المحاكمة بأكملها.
تأثيرات طاغية
يُعَد الاعتراف سيد الأدلة دائمًا، مع أن بعض الاعترافات ثبت عدم صحتها. مثلًا، في عام 1819 نجا رجل اعترف بجريمة قتل عندما وجدوا ضحيته المزعومة يعيش في مدينة أخرى. كانت البداية عام 1908 عندما حذر عالم النفس الشهير هوجو مونستربرغ من الاعترافات غير الصحيحة التي تنتج تحت الضغوط الشديدة، تطلب الأمر عدة حالات من الاعترافات الكاذبة واستخدام الحمض النووي دليلًا لإظهار كمّ الإدانات الخاطئة، ودور الاعترافات الكاذبة فيها.
لم يُفاجأ كاسين الذي أمضى سنوات في دراسة أساليب الشرطة في الاستجواب، وبعدما حصل على الدكتوراة في علم النفس، درس كيف يتخذ المحلفون القرارات وصُدم بقوة الاعتراف، وتساءل: هل كانت كل الاعترافات حقيقية؟ بعد أن علم بتقنية ريد للاستجواب التي تُدرس في كليات الشرطة ونُشرت عام 1962، يقول كاسين: «شعرت بالفزع عندما قرأتها، تشبه دراسات ميلجرام عن الطاعة، لكنها أسوأ».
تبدو طريقة ريد مختلفة، إذ يبدأ الضابط بطرح أسئلة بعضها استفزازي وغير مترابط، ويراقب علامات مثل النظر بعيدًا والاسترخاء وتغيير وضع الذراعين، وإذا اعتقد المحقق أن المشتبه به يكذب، ينتقل إلى المرحلة الثانية وهي الاستجواب الرسمي، إذ يبدأ المحقق باتهام المشتبه به مرارًا وتكرارًا، متجاهلًا الإنكار ومقدّمًا التعاطف والشفقة في نفس الوقت، ما يسهل الحصول على اعتراف، وفي وجود شخصية تمارس الضغط النفسي على المتهم قد يعترف بجرائم لم يرتكبها.
في عام 1990 قرر كاسين اختبار أسلوب ريد واستخدم نموذج تحطم الطائرة، أخبر المتطوعين أنهم إذا ضغطوا زرًا معينًا، سيؤدي ذلك إلى تحطم الطائرة، لكن حقيقةً بُرمِج نظام الكومبيوتر لتتحطم الطائرة سواءً ضغط المتطوع الزر أم لا. ثم اتهمهم بضغط الزر، في البداية، لم يعترف أحد، لكن كاسين استخدم أساليب الشرطة في التحقيق.
مثلًا، تخبر الشرطة المتهم بوجود شهود على الجريمة، فيشك الشخص في روايته للأحداث. في أحد أبرز الأمثلة عام 1988 وجد مارتي تانكليف والديه مطعونين، وماتت والدته ودخل والده في غيبوبة، وجد المحققون أن إصابات تانكليف لم تكن سيئة، ومن ثم أصبح المشتبه به الأول، قال له أحد المحققين إن والده أفاق من الغيبوبة وأخبرهم أن مارتي هو من طعنه، مع أنه في الحقيقة تُوفي دون أن يستعيد وعيه، وبسبب هذه الصدمة اعترف مارتي بالجريمة، وقضى 19 عامًا في السجن قبل أن تثبت براءته.
لم يستطع كاسين أن يحاكي هذا النوع من الصدمات، لكن كان نموذج تحطم الطائرة ناجحًا، إذ اعترف جميع المتطوعين بضغط الزر مع أنهم لم يفعلوا، واعتقد بعضهم أنهم فعلوا ذلك حقًا، ولم يصدقوا عندما أخبرهم كاسين بالحقيقة. يقول كاسين إن إيمان الشخص ببراءته وبنظام العدالة قد يكونان من عوامل الخطر، فقد اعترف معظم الأشخاص الذين تمت تبرئتهم بجرائم لم يرتكبوها ليتخلصوا من مأزق غرفة التحقيق، اعتقادًا منهم أن الأدلة ستبرّئهم لاحقًا.
كشف الخداع
شكك المنتقدون في النتائج التي توصل إليها كاسين، لأن موضع الاتهام في التجربة قد يُفسر بأنه إهمال ولم يكن للاعتراف عواقب وخيمة. يرى جوزيف باكلي أن دراسات كاسين تفتقر إلى الصحة، ويضيف أن تقنية ريد لا تجبر الشخص البريء على الاعتراف، بل تخلق بيئة مناسبة تسهل على الشخص قول الحقيقة.
للرد على الانتقادات، صممت عالمة النفس ميليسا روسانو تجربة طُلب فيها من المتطوعين حلّ بعض المسائل المنطقية، وقسمت المتطوعين إلى مجموعتين، مجموعة يعمل فيها كل فرد وحيدًا وأخرى تتكون من مجموعات صغيرة، وطُلِب من المساعدين عدم مساعدة الأشخاص الذين يعملون بمفردهم، لكن قبلها دُرِّب بعض الأشخاص المنفردين على التذمر وادّعاء الانزعاج من الأسئلة، وفي النهاية، ساعدهم بعض المساعدين منتهكين قواعد التجربة.
لم يكن ممكنًا أن يرتكب المشارك الجريمة دون أن يدري، وكان للاعتراف عواقب وخيمة لأنه يُعد انتهاكًا لميثاق شرف الجامعة، لكن -كما وجد كاسين- فإن الاستجواب الاتهامي يزيد الاعترافات الكاذبة ، واستخدم الباحثون طريقة التقليل (Minimization)، بالتهوين من العواقب النفسية للفعل ما يؤدي إلى الاعتراف، كأن يستخدموا عبارات مثل: «غالبًا أنت لم تدرك خطورة فعلتك»، تقول ميليسا روسانو إن هذه التقنية تزيد الاعترافات الكاذبة بنسبة 35%.
أظهر باحثون آخرون أن بعض الأشخاص معرّضون خصوصًا لهذا الضغط، ووجدوا أن بعض العوامل مثل الإعاقة العقلية والإدمان تجعل الناس أكثر شكًا في ذاكرتهم، ومن ثم أكثر عرضة للاعتراف بجريمة لم يرتكبوها.
ذكر أستاذ القانون ريتشارد ليو أن أقل من 20% من المتهمين في الولايات المتحدة طالبوا بحق ميراندا ضد تجريم الذات، ربما على أمل أن يكونوا متعاونين، وأوضح أن الاعترافات الكاذبة تسبقها ساعات من الاستجواب تنتهي بأن يعتقد المشتبه به أنه ارتكب الجريمة، وهي مشكلة واضحة خصوصًا بين المراهقين مثل برتون.
تشمل تقنية ريد علامات لفظية وغير لفظية من الخداع، ويعتقد كثير من محققي الشرطة أنهم ماهرون في ذلك، لكن وضع كاسين هذه الثقة على المحك منذ أكثر من عقد بقوله: «يجعلهم تدريبهم أكثر ثقة وأقل دقة في نفس الوقت».
قوة الاعتراف
يظهر ملصق في مكتب كاسين في كلية جون جاي 28 شخصًا بين نساء ورجال ومراهقين، يقول كاسين إن الشيء المشترك بينهم أنهم اعترفوا بجرائم لم يقترفوها، وقد ساعد الكثير منهم، إحداهم الطالبة أماندا نوكس، التي اعترفت بقتل زميلتها في السكن، وأُطلق سراحها إثر تقارير كاسين، وباري لافمان وهو شخص منخفض القدرات الذهنية، اعترف عام 1987 باغتصاب وقتل جارته المسنة بعد أن أخبرته الشرطة أنها عثرت على بصماته في مكان الحادث، وبعد اعترافه تجاهلت الشرطة جميع الأدلة الأخرى مثل شهادة الجيران وفصيلة الدم، فقد كانت فصيلة دم المجرمA وفصيلة دم باريB ، وتجاهلوا هذا الدليل بعدما اقترح خبير الطب الشرعي نظرية جديدة أن فصيلة الدمB قد تتحول إلى A بفعل البكتيريا، لكنه بُرِّئ عام 2004 بفضل أدلة الحمض النووي بعدما قضى 16 عامًا في السجن.
أظهرت قضية لافمان أن الاعتراف يفوق الأدلة الأخرى. وكذلك في حالة برتون، فقد قبض المحققون على جار له لديه تاريخ من العنف يقود سيارة الأم المفقودة، لكن لم يهتم المحققون بذلك لأن برتون اعترف ببساطة.
ظهر تأثير الاعتراف عام 2012 عندما نشر كاسين وزملاؤه تحليل 49 قضية اعتراف كاذب، واستنتجوا أن الاعتراف أول دليل يهتم به المحقق، وفور حصوله عليه لا يهتم بجميع الأدلة الأخرى، حتى أدلة الحمض النووي.
أساليب جديدة
لكن التغيير قادم، في عام 2010 أصبحت الأدلة حول الاعترافات الكاذبة مقنعة لدرجة أن كاسين وزملاءه أرسلوا للجمعية الأمريكية لعلم النفس رسالة يحذرون فيها من خطر الإكراه للحصول على الاعترافات، واقترحوا طرقًا للإصلاح مثل:
- تحديد وقت الاستجواب.
- تسجيل جميع الاستجوابات من البداية إلى النهاية.
- تجريم الكذب الذي قد تمارسه الشرطة.
- منع استخدام تقنية التقليل.