هو أحد أقسام علم النفس، ويدرس الناس غير الطبيعيين مقارنةً بأعضاء مجتمع معين. ومع بساطة تعريف (غير الطبيعي) يبقى تطبيق هذا المفهوم في علم النفس معقدًا، فما الطبيعي؟ وبمعايير من؟ وفي أي عمر؟ وفي أي مجتمع؟
التعريفات
النُدرة الإحصائية
يُعَد الشخص غير طبيعي من وجهة نظر إحصائية حين تكون صفاته أو طريقة تفكيره أو سلوكياته نادرة إحصائيًا، كأصحاب معدل الذكاء الأعلى من المعدل الوسطي للمجتمع أو الأقل منه، ومن إيجابيات هذا التعريف أنه يساعد على التشخيص بوضع قيم محددة إحصائيًا، لكن هذا التصنيف لا يفرق بين السلوك المرغوب وغير المرغوب، فمثلًا تُعَد البدانة عادية إحصائيًا لكنها ليست صفة مرغوبة أو صحية، ويُعَد معدل الذكاء المرتفع غير طبيعي إحصائيًا لكنه مرغوب بشدة.
تكثر الصفات النادرة التي لا تتعلق بما هو طبيعي أو مرضي كاستخدام اليد اليسرى مثلًا، وكذلك توجد العديد من الصفات التي تُعَد مرضية مع أنها شائعة، فالاكتئاب يصيب كبار السن بنسبة 27% ما يجعل الأمر طبيعيًا إحصائيًا، لكنه يبقى مشكلة.
يبقى وضع الحدود التي يُعَد ما يقع خارجها مرضيًا أمرًا اعتباطيًا، فمن يضع تلك الحدود أساسًا؟ هل يمكننا القول عن شخص يبلغ معدل ذكائه 69 في مجتمع يبلغ المتوسط فيه 70 بأنه مرضي؟ يوحي هذا التعريف أيضًا بأن السلوك المرضي يجب أن يكون نادرًا إحصائيًا، وهذا غير صحيح.
خرق القواعد الاجتماعية
يُعَد تفكير الفرد أو سلوكه مرضيًا إذا كان ينتهك القواعد غير المكتوبة لما يُعَد مقبولًا أو متوقعًا في مجتمع ما، إذ يعد الآخرون سلوكهم حينها غير مفهوم أو مهددًا أو غير مريح. ولكل ثقافة معاييرها المجتمعية للسلوك المقبول، وتعبر هذه المعايير عن السلوك الذي تتوقعه الأكثرية في مجتمع ما، ومن لا يفكر أو يتصرف وفقًا لهذه المعايير يُعَد غير طبيعي في ذلك المجتمع.
من الأمور المؤثرة في وصف سلوك ما بأنه مقبول اجتماعيًا:
الثقافة: تختلف المعايير المجتمعية بين ثقافة وأخرى، فمثلًا، تختلف المسافة التي تُعَد عاديةً للوقوف بجانب الغرباء بين المملكة المتحدة وجنوب أوروبا، إضافةً إلى أمور أخرى كنبرة الصوت والملامسة واتجاه النظر ومواضيع المناقشة التي قد تتباين كثيرًا بين الثقافات المختلفة.
السياق والموقف: فالسلوك الذي يُعَد عاديًا في موقف ما لا يكون كذلك في موقف آخر، فمثلًا قد يكون ارتداء زي تنكري لجمع التبرعات في الشارع مقبولًا، ولكنه يُعَد سلوكًا غريبًا عند القيام بنشاطات أخرى كالتسوق أو حضور التجمعات الدينية.
السياق التاريخي: يجب أن يؤخذ التوقيت بعين الاعتبار، فما يُعَد مرضيًا في مجتمع ما في مرحلة تاريخية قد يُعَد عاديًا في مرحلة أخرى في المجتمع ذاته، فمثلًا، كانت حالات الحمل خارج إطار الزواج منذ مئة عام تُعَد دليلًا على المرض العقلي، لدرجة إدخال النساء إلى مصحات الأمراض العقلية، في حين لم يعد الأمر كذلك في الوقت الحالي.
العمر والجنس: هي من العوامل التي تحدد هل السلوك سوي أم لا؟ فارتداء الفساتين والكعوب العالية أمر متوقع من النساء، في حين يُعَد سلوكًا مرضيًا إذا فعله رجل.
وفي هذا التعريف يجب أخذ العوامل التالية بعين الاعتبار:
- الدرجة التي ينتهك بها السلوك المعايير المجتمعية.
- أهمية المعيار المنتهك.
- القيمة المرتبطة بالانتهاك، فهل يُعَد وقحًا أم غريبًا أم مرضيًا أم إجراميًا؟
يُعَد غياب اتفاق عالمي على معايير محددة من أوضح المآخذ على تحديد السلوك المرضي اجتماعيًا، إذ تتعلق بالثقافة وتتغير كثيرًا بين جيل وآخر، وكذلك بين الأعراق والطبقات الاجتماعية وسكان المناطق المختلفة، وتتغير مع مرور الوقت أيضًا، فقد كانت منظمة الصحة العالمية تعد المثلية الجنسية اضطرابًا نفسيًا في الماضي، لكنها مقبولة في يومنا هذا. وترتبط أيضًا بالموقف والسياق، فأكل لحم البشر أمر مرضي عادةً، لكنه أصبح ضرورة للنجاة حين تحطمت طائرة فريق رغبي سنة 1972 على جبال الأنديز المغطاة بالثلوج، إذ اضطر الناجون من التحطم إلى العيش في البرد القارس دون طعام مدة 72 يومًا.
الفشل في العمل
يُعَد الشخص مرضيًا إذا لم يكن قادرًا على التكيف مع متطلبات الحياة اليومية، كالرعاية الذاتية والعمل والتواصل الفعال مع الآخرين والتعبير عن النفس.
اقترح روزنهان وسيلغمان عدة صفات لتحديد الفشل في القيام بالمهام اليومية:
- المعاناة.
- سوء التكيف (الخطورة على النفس).
- الحيوية الزائدة والخروج عن التقليدي (ظهور غير اعتيادي).
- تقلب المزاج وفقدان السيطرة.
- اللاعقلانية (أو عدم قابلية الفهم).
- التسبب في عدم ارتياح المحيطين.
- انتهاك المعايير الأخلاقية والاجتماعية.
من مشاكل هذا التعريف أن السلوك المرضي قد يكون أحيانًا مفيدًا للفرد ظاهريًا، ومساعدًا على التأقلم، فاضطراب الوسواس القهري المتعلق بغسل اليدين مثلًا قد يساعد المصاب به على الشعور بالتحسن والقدرة على التكيف. ويمارس الكثير من الناس أنماطًا من السلوك المؤذي للذات، لكننا لا نعده مرضيًا، مثل بعض الرياضات الخطرة والتدخين واستهلاك الكحول والتغيب عن الدروس.
الانحراف عن الحالة العقلية المثالية
يحدد علماء النفس في هذا التعريف ما هو سوي، وأن كل ما ينحرف عنه يُعَد مرضيًا، وحددت (ماري جاهودا) سنة 1956 ستة معايير لقياس الصحة العقلية وهي:
- النظرة الإيجابية للنفس.
- القدرة على النمو والتطور.
- الاستقلال الذاتي.
- الإدراك الجيد للواقع.
- العلاقات والصداقات الإيجابية.
- الفعالية في المحيط (القدرة على القيام بمتطلبات الحياة اليومية).
وكلما حقق الفرد قيمًا أكبر من هذه المعايير كان أكثر صحة، لكن تحقيق كل هذه المعايير دائمًا مستحيل تقريبًا، وكذلك لا يشير غياب هذه المعايير إلى وجود مرض عقلي. وعلى هذه المقاربة مأخذ عرقي، فمعظم الاضطرابات النفسية وضعها رجال بيض متوسطي الطبقة، ما قد يعطي أرقامًا غير متكافئة للسلوك المرضي في جماعات أخرى. فمثلًا، النساء أكثر عرضة للاكتئاب في المملكة المتحدة، والسود أكثر ميلًا للإصابة بالفصام.
تفسير ما هو مرضي
وجهة النظر السلوكية
يعتقد مختصو علم السلوك أن تصرفاتنا ناتجة من تجاربنا الحياتية لا من مشاكل مرضية لا واعية، أي إن السلوك المرضي ينتج من تكرار أنماط سلوكية غير صحية، فكل التصرفات نتعلمها من مُحيطنا، وعلى هذا يمكننا تعلم الامتناع عنها، إذ يُكتسب السلوك عبر التكيف التقليدي أو التكيف الإجرائي (التعلم الاجتماعي).
التكيف التقليدي مسؤول عن تطور الرهاب، فالشيء المرهوب -كرهاب العناكب- مرتبط بخوف أو قلق سابق، ما يحفز استجابة قوية للخوف عند التعرض لموقف مشابه، ويولد سلوكًا متجنبًا له. أما التكيف الإجرائي فمسؤول عن تعزيز المشكلات السلوكية، فقد يحصل الشخص على مزيد من الانتباه والدعم من العائلة والأصدقاء عندما يعاني نوبات هلع، ما سيزيد هذا السلوك في المستقبل.
وجهة النظر المعرفية
تفترض المقاربة المعرفية أن السلوك ينتج من الأفكار، ويتعامل مع كيفية معالجة الأفكار في الدماغ وانعكاسها على السلوك، من الافتراضات الأساسية:
- ينتج السلوك المتعلق بسوء التكيف من معرفة خاطئة أو غير عقلانية.
- ما يسبب الاضطرابات العقلية هو طريقة التفكير في المشكلة، لا المشكلة نفسها.
- يمكن معالجة الاضطرابات العقلية عبر تعلم استخدام معارف أكثر ملاءمة.
إن ما يؤثر في السلوك هو طريقة معالجة الأحداث وتوقعها وتقييمها، وهي عملية تلقائية، وتكون هذه العملية أكثر سلبية لدى من يعانون مشاكل نفسية، إذ تكون عملية الإدراك غير دقيقة، ما يسبب تفكيرًا غير عقلاني.
وجهة النظر الطبية والبيولوجية
تركز على الأسباب الجسدية والعضوية للمشاكل النفسية، كالجينات والنواقل العصبية والأعصاب وتشريحها والكيمياء البيولوجية. فمثلًا، يُعَد ارتفاع مستويات الدوبامين مسؤولًا عن الإصابة بالفصام. وفقًا لهذه المقاربة ترتبط الاضطرابات العقلية بالبنى الدماغية وعملها.
وجهة نظر الديناميكية النفسية
من افتراضاتها الأساسية أن السلوك المرضي -كما افترض فرويد- ناتج من مسببات نفسية لا عضوية، إذ ينتج من الصراع بين الأنا والهو والأنا الأعلى.
الأنا الضعيف: يتطلب الاستقرار النفسي (أنا) قويًا قادرًا على الموازنة بين مطالب (الهو) و(الأنا الأعلى)، أما الأنا الضعيف فسيسمح لأحدهما -الأقوى أيًا كان- بأن يسيطر على الشخصية.
اندفاعات الهو غير المسيطر عليها: قد تسبب هذه الاندفاعات تأثيرًا مدمرًا للذات وسلوكًا لا أخلاقي، وقد تسبب اضطرابات التصرف في الطفولة، وسلوكًا مرضيًا مختلًا (سايكوباثيًا) خطيرًا لدى الكبار.
الأنا الأعلى مفرط القوة: يسبب تقييدًا كبيرًا للهو لدرجة انعدام الاستمتاع حتى بالملذات المقبولة اجتماعيًا، فيسبب -وفقًا لفرويد- العصاب، الذي يظهر في أعراض اضطرابات القلق كالرهاب والهوس.
وجهة نظر بديلة: المرض العقلي يُبنى اجتماعيًا
منذ ستينيات القرن الماضي عارض العديد من معارضي علم النفس -ومنهم ميشيل فوكو- فكرة (غير الطبيعي) و الاضطرابات العقلية ، إذ عدوها بناءً اجتماعيًا يصنعه المجتمع، ومن الافتراضات التي تقوم عليها هذه النظرة:
- الأمراض العقلية من صنع الأطباء، فليس للمرض العقلي آلية مرضية بيولوجية يمكن إثباتها.
- معايير الأمراض العقلية ضبابية وشخصية ويمكن إساءة تفسيرها.
- يستخدم القطاع الطبي أوصافًا مختلفة -كالاكتئاب والفصام- لإبعاد من لا يمتثلون لمعايير المجتمع.
- قد تُستخدم هذه الأوصاف والعلاجات للسيطرة الاجتماعية.
- تثير التشخيصات أسئلة أخلاقية بسبب الارتباطات المالية والمهنية بالشركات الدوائية وشركات التأمين الصحي.
المصدر:ibelieveinsci