يونان (تاريخيا)
Greece - Grèce
التاريخ
تثبت الدراسات الأثرية أن بلاد اليونان عرفت استيطاناً بشرياً قديماً جداً، بيد أن تاريخها يبدأ في الألف الثالثة قبل الميلاد بعدد من الحضارات، نشأت أولاً في الجزر اليونانية وانتقلت في نهاية الألف الثانية إلى بلاد اليونان القارية، وأشهرها الحضارتان المينوية[ر] والموكينية أو الميسينية[ر] (3000 ـ 1200ق.م) في كل من جزيرة كريت ومدينة موكيناي ومدينة طروادة، وهي المدن التي عرفت حضارة بدائية رائعة أنشأها سكان بلاد اليونان من سلالة البحر المتوسط الذين مهدوا السبيل لحضارة العصر اللاحق، وهو عصر دولة المدينة أو العصر الكلاسيكي (1200 ـ 336ق.م) الذي بدأ في بلاد اليونان القارية على وجه الخصوص بعد استقرار العناصر الدورية[ر] في هذه المنطقة من العالم. ويمثل هذا العصر خير تمثيل مدينتان هما: أثينا وإسبرطة حيث قدمت كل واحدة منهما بحسب ظروف إنشائها وسكانها نظاماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً مختلفاً عن الأخرى، ففي حين برزت أثينا بصورة (المدينة الدولة) الأكثر انفتاحاً وتطوراً وتقدمية؛ أصبحت إسبرطة مع الزمن رمزاً للرجعية ورهبة الدولة. ودار في فلك هاتين المدينتين معظم المدن الدول الصغرى في بلاد اليونان مثل: كورنثه وطيبة وأرغوس وميغارا وغيرها، مما أتاح الفرص لنشوء الخلافات السياسية بين هذين المعسكرين، وهو الأمر الذي حدّ من تفاقمه في تلك الفترة ظهور الخطر الفارسي على حدود بلاد اليونان، حينها اتحد المعسكران في مواجهة الخطر في حرب ضروس عرفت باسم الحروب الفارسية[ر] التي انتهت إلى تراجع القوات الفارسية من دون تحقيق انتصار صريح، وهو أمر فسَّره اليونانيون على أنه انتصار لهم، وأدى فيما بعد إلى قيام الحليفتين (أثينا وإسبرطة) بإعداد العدة لإثبات زعامتهما على بلاد اليونان كلها.
وقد أدى الخلاف العقائدي بين كل من أثينا وإسبرطة ـ إضافة إلى تضارب المصالح وشحن النوايا المتعارضة من قبل المدن الحليفة لكل من الدويلتين ـ إلى قيام حرب أهلية انقسمت فيها بلاد اليونان بين المعسكرين دعيت باسم حرب البيلوبونيز [ر]، وأسفرت عن انتصار المعسكر الإسبرطي وسيطرته مؤقتاً على كامل بلاد اليونان حتى ظهور مدينة طيبة على مسرح السياسة نحو سنة 371ق.م وقضائها على نفوذ إسبرطة إلى غير رجعة، وهو أمر أدى إلى تفتت القوى في بلاد اليونان وإتاحة الفرصة أمام الملك المقدوني فيليب الثاني Philip II لبسط نفوذه على معظم التراب اليوناني تمهيداً للقيام بغزو الامبراطورية الفارسية، وهو الهدف الذي حققه ابنه الإسكندر الكبير في نهاية سنة 323ق.م.
ولم يطل عمر امبراطورية الاسكندر، فقد تكونت بعد موته المفاجئ ثلاث ممالك (السلوقية في آسيا الغربية) و(البطلمية في مصر وليبيا) و(الأنتيغونية في بلاد اليونان) وكانت الأخيرة أصغر هذه الممالك وأول مملكة تقضي عليها روما سنة 179ق.م بوفاة آخر ملوكها فيليب الخامس.
ومنذ ذلك التاريخ لم تعد بلاد اليونان أكثر من مقاطعة في الامبراطورية الرومانية تشتهر مدنها بكونها مراكز تعليمية مرموقة لأبناء الأغنياء الرومان. وعندما انقسمت الامبراطورية إلى قسمين في القرن الرابع الميلادي تبعت بلاد اليونان ـ بحكم الجغرافيا ـ الامبراطورية الرومانية الشرقية أو الامبراطورية البيزنطية.
ـ التاريخ الوسيط:
تعرضت بلاد اليونان منذ القرن الخامس حتى التاسع الميلادي لموجات من الغزوات البربرية كالڤيسكوت Visigoths والهون Hun والأڤار Avars والبلغار Bulgars والسلاڤ Slavs مثلها في ذلك مثل كل مناطق البلقان. وفي القرن العاشر والحادي عشر حققت سلالة ملكية من أصل مقدوني جلوساً على العرش البيزنطي وسيطرت على بلاد اليونان كلها، وفي عام 1204م تمكن الصليبيون القادمون من غربي أوربا من تأسيس مملكة إقطاعية لاتينية في القسطنطينية، وتقاسم زعماؤها من النبلاء الفرنسيين والإسبان والإيطاليين حكم المنطقة بما فيها بلاد اليونان، لكنه في سنة 1261م استعادت الامبراطورية البيزنطية عافيتها وسيطرتها على أراضيها حتى انهيار الدولة على أيدي العثمانيين الذين ضموا بلاد اليونان، لكنهم أبقوا الكنيسة اليونانية خارج نطاق سيطرتهم.
ـ التاريخ الحديث:
مع أن عدداً من المثقفين اليونانيين والتجار وبعض الفلاحين حققوا رخاء ملحوظاً في عهد الدولة العثمانية وخاصة في القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ فإن بداية انحطاط العثمانيين أيقظت الروح القومية اليونانية التي بدأت بالظهور بدعم روسي أوربي معاد للعثمانيين، وعلى الرغم من إخفاق أول محاولة يونانية للتحرر سنة 1770 فإن أخبار نجاح الثورة الفرنسية 1789 أعطى دفعاً جديداً لهذه القضية. وفي سنة 1814 أسس عدد من التجار اليونانيين في روسيا جمعية قومية حصلت على دعم كل القوى المعادية للعثمانيين في أوربا والأمريكتين وتأييدها، ودعت إلى استقلال اليونان ودعمت القوميين داخل البلاد في حرب الاستقلال اليونانية التي اندلعت سنة 1820. وهي الحرب التي أسفرت عن قيام حلف روسي بريطاني فرنسي وجّه شروطه بعد معركة ناڤارينو Navarino البحرية إلى الدولة العثمانية التي وافقت سنة 1827 على منح اليونان استقلالها. وقد رسم مؤتمر برلين للسلام بعد ذلك حدود الدولة اليونانية، وانتخب أواخر عام 1827 وزير خارجية روسيا ذو الأصل اليوناني يوهانس كابودسترياس J.Capodistrias رئيساً لليونان، لكنه اغتيل سنة 1831. وباقتراح من قوات الحلفاء عين الأمير أوتو Otto الباڤاري ملكاً على اليونان سنة 1832، وحينما جنح بحكمه نحو الأوتقراطية أجبرته ثورة شعبية عام 1843 على اعتماد دستور للحكم أقره الشعب سنة 1844، لكنه سرعان ما أعاده معاونوه الباڤاريون إلى الأوتقراطية مما دفع الشعب إلى الثورة مرة أخرى، وأجبروا أوتو سنة 1862 على النزول عن العرش، ليخلفه سنة 1863 الأمير جورج الدنماركي الذي حكم بموجب الدستور المعتمد من قبل الشعب سنة 1864 مدة خمسين سنة.
في فترة حكم الملك جورج تطور الاقتصاد على نحو ملحوظ وخاصة في مجال النقل البحري الذي كانت عوائده مفيدة للدولة والأشخاص بآن واحد. بيد أن فترة السلم هذه وزيادة عدد السكان التي نتجت منه أدت إلى ملاحظة هجرتين: واحدة داخلية من الريف إلى المدينة وأخرى إلى عدد من دول الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذه الفترة أيضاً توسعت مساحة الدولة اليونانية بعد تخلي بريطانيا سنة 1864 عن الجزر الإيونية لمصلحة اليونان، كما سحبت تركيا قواتها من مقاطعة تساليا Thessaly وقسم من إقليم إبيروس Epirus سنة 1881، وفي عام 1898 أتمت تركيا انسحابها من جزيرة كريت التي انضمت بعد 15سنة إلى اليونان. أما في الداخل فقد شجعت هذه النجاحات التوسعية على ظهور منظمات عسكرية شوفينية كان من الممكن أن تهدد استقرار البلاد، بيد أن رئيس الوزراء المعاصر لهذه الأحداث اليثيروس ڤِنيزيلوس E.Venizelos تمكن سنة 1911 من ضبط الأمور بعد إدخال تعديلات مهمة على صلاحية السلطة التنفيذية دستورياً.
ولم يقنع اليونانيون بما حققوه من مكاسب إقليمية على حساب جارتهم تركيا وشاركوا مع دول شرقي أوربا في حرب البلقان 1912-1913 ضدها، وكسبوا بنتيجتها أراضي جديدة من إقليم إبيروس. وفي نهاية الحرب اغتيل الملك جورج وخلفه ابنه قسطنطين الأول على العرش.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى مال الملك قسطنطين إلى جانب الألمان في حين كان رئيس وزرائه ڤِنيزيلوس يميل إلى جانب الحلفاء. وعندما وصل الخلاف إلى مرحلة الصدام طرد الملك رئيس وزرائه الذي أقام حكومة في مدينة تسالونيكي شمالي اليونان وضغط بمساعدة الحلفاء حتى تمكن من إكراه الملك على النزول عن العرش لمصلحة ابنه إسكندر الذي كلف ڤِنيزيلوس تشكيل الوزارة وأعلن انضمام اليونان إلى جانب الحلفاء في المرحلة الأخيرة من الحرب، مما كفل لها الحصول على غنائم حرب، منها ضم إقليم تراقية الغربية على حساب بلغاريا وتراقية الشرقية على حساب تركيا، وإعطاء مدينة سميرنا Smyrna (إزمير) على الساحل التركي ذات الأكثرية اليونانية استقلالاً ذاتياً. وإثر موت الملك إسكندر سنة 1920 أعيد الملك قسطنطين إلى العرش بموجب استفتاء عام، وسرعان ما قاد حرباً ضد تركيا سنة 1922 لكنه خسر بنتيجتها تراقية الشرقية ومدينة سميرنا، كما أجبرت الحرب نحو مليون يوناني يعيشون في تركيا على الهرب إلى بلاد اليونان، وتفاقمت المآسي الاجتماعية والاقتصادية إلى درجة اضطرت قسطنطين إلى النزول عن العرش سنة 1922 لمصلحة ابنه جورج الثاني. وبسبب الاضطرابات التي استمرت بعد تولية جورج تعالت أصوات اليونانيين لمصلحة الحكم الجمهوري، لكن إقدام الملك على إدخال إصلاحات على النظام الملكي أبقت على النظام، وفي سنة 1936 كلف الملك الجنرال يوحنا مِتاكساس J.Metaxas تشكيل حكومة ديمقراطية مدنية، لكنها بمرور الوقت وبتأثير أجواء بدايات الحرب العالمية الثانية جنحت نحو النظام الدكتاتوري على النموذج الفاشي.
في سنة 1940 هاجمت القوات الإيطالية اليونان بذريعة أن رئيس وزرائها متاكساس رفض منح الإيطاليين قواعد على البر اليوناني، ومع أن الحملة الإيطالية أخفقت وتراجعت إلى ألبانيا فإن القوات الألمانية التي نزلت في تسالونيكي بعد ذلك تمكنت من احتلال معظم مناطق اليونان باستثناء تلك التي نشأت فيها مقاومة وطنية قادتها منظمة يسارية تدعى إلاس Elas، أزعجت الاحتلال الألماني وحصلت على تأييد المواطنين وسيطرت على معظم اليونان بعد انسحاب القوات الألمانية. وبناء على الاتفاق البريطاني السوڤييتي حول اقتسام مناطق النفوذ في شرقي أوربا؛ فقد تمكنت القوات البريطانية 1944 ـ 1945 من إخراج القوى اليسارية من أثينا وتشكيل حكومة وطنية يمينية برئاسة جورج الثاني الذي عاد من المنفى سنة 1946 بموجب استفتاء شعبي، لكنه مات بعد سنة من عودته وتسلم أخوه بول Poul العرش واسترجعت في عهده جزر الدودكانس Dodecanese من إيطاليا.
ولم تتمكن القوى اليسارية اليونانية التي قادت حرب عصابات من الجبال الشمالية ضد الحكومة اليمينية من تحقيق النصر على الرغم من دعم القوى الاشتراكية الأوربية؛ إذ كان تدخل بريطانيا وبعد ذلك الولايات المتحدة كفيلاً باستسلام اليساريين أوائل سنة 1949. وفي سنة 1951 اعتمد اليونانيون دستوراً جديداً لهم، وكُلِّف الجنرال باباغوس Papagos تشكيل وزارة حتى وفاته سنة 1955، وخلفه قسطنطين كارامنليس C.Caramanlis الذي رأس حزب الاتحاد الوطني الراديكالي واستمر في الحكم حتى انتخابات عام 3691 حين هزمه الحزب الاتحادي بزعامة الاشتراكي جورج پاپاندريو G.Papandreou الذي اتهم سنة 1965 بمساندة القوى اليسارية في جزيرة قبرص، مما اضطره إلى الاستقالة لمصلحة مجموعة من الحكومات التي لم تفلح في إصلاح الأمور الاقتصادية إلى درجة دعت عدداً من ضباط الجيش إلى إقامة نظام دكتاتوري في إبريل/نيسان 1967 هرب على أثرها الملك قسطنطين إلى خارج البلاد، واستدعي بابا دوبولوس لتشكيل الحكومة، وفي سنة 1968 اعتمد اليونانيون في استفتاء شعبي دستوراً جديداً استبدل على أثره النظام الجمهوري بالنظام الملكي، وانتخب بابا دوبولوس رئيساً للجمهورية لفترة قصيرة؛ إذ أطاح حلفاؤه العسكريون بنظامه وأصبح الجنرال فايدون غِيزيكيس Ph. Gizikis رئيساً للدولة.
لم يتمكن العسكريون من الحفاظ على مركزهم في الحكم بعد أزمة قبرص حينما قامت القوات التركية (صيف 1974) بغزو الجزيرة وإقامة دولة تركية في القسم الشمالي منها، ولما لم يتمكن العسكريون اليونانيون من الرد على هذه الإهانة؛ تمكن رئيس الوزراء السابق كارامنليس بضغط شعبي من العودة وقام بالانسحاب من حلف الناتو NATO رداً على عدم قيام الحلف بأي إجراء عسكري ضد تركيا، وفي خريف 1974 أجريت انتخابات فاز فيها كارامنليس بعد تأسيسه حزب الديمقراطية الجديدة، كما أجري بعدها استفتاء أكد إلغاء الملكية واعتماد دستور جديد في صيف 1975.
وفي عام 1980 انتخب كارامنليس رئيساً للجمهورية وعين جورج راليس G.Rallis رئيساً للوزراء، فأعاد البلاد إلى حلف الأطلسي وضمها إلى السوق الأوربية المشتركة.
عانت اليونان في الثمانينات بطء النمو الاقتصادي فيها إضافة إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع. وهذا ما دعا إلى تعيين الاشتراكي أندرياس پاپاندريو رئيساً للوزراء الذي نجح في منح اليونان شروطاً أفضل في السوق الأوربية المشتركة، كما حقق التزاماً أقوى في تعامل الحلف الأطلسي مع أزمة قبرص لمصلحة اليونان، وانتزع من المحافظين موافقتهم على تشريع الزواج المدني، ولعل أبرز إنجازاته كان إنهاء الوجود العسكري الأمريكي على الأرض اليونانية سنة 1987.
مفيد رائف العابد
Greece - Grèce
التاريخ
تثبت الدراسات الأثرية أن بلاد اليونان عرفت استيطاناً بشرياً قديماً جداً، بيد أن تاريخها يبدأ في الألف الثالثة قبل الميلاد بعدد من الحضارات، نشأت أولاً في الجزر اليونانية وانتقلت في نهاية الألف الثانية إلى بلاد اليونان القارية، وأشهرها الحضارتان المينوية[ر] والموكينية أو الميسينية[ر] (3000 ـ 1200ق.م) في كل من جزيرة كريت ومدينة موكيناي ومدينة طروادة، وهي المدن التي عرفت حضارة بدائية رائعة أنشأها سكان بلاد اليونان من سلالة البحر المتوسط الذين مهدوا السبيل لحضارة العصر اللاحق، وهو عصر دولة المدينة أو العصر الكلاسيكي (1200 ـ 336ق.م) الذي بدأ في بلاد اليونان القارية على وجه الخصوص بعد استقرار العناصر الدورية[ر] في هذه المنطقة من العالم. ويمثل هذا العصر خير تمثيل مدينتان هما: أثينا وإسبرطة حيث قدمت كل واحدة منهما بحسب ظروف إنشائها وسكانها نظاماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً مختلفاً عن الأخرى، ففي حين برزت أثينا بصورة (المدينة الدولة) الأكثر انفتاحاً وتطوراً وتقدمية؛ أصبحت إسبرطة مع الزمن رمزاً للرجعية ورهبة الدولة. ودار في فلك هاتين المدينتين معظم المدن الدول الصغرى في بلاد اليونان مثل: كورنثه وطيبة وأرغوس وميغارا وغيرها، مما أتاح الفرص لنشوء الخلافات السياسية بين هذين المعسكرين، وهو الأمر الذي حدّ من تفاقمه في تلك الفترة ظهور الخطر الفارسي على حدود بلاد اليونان، حينها اتحد المعسكران في مواجهة الخطر في حرب ضروس عرفت باسم الحروب الفارسية[ر] التي انتهت إلى تراجع القوات الفارسية من دون تحقيق انتصار صريح، وهو أمر فسَّره اليونانيون على أنه انتصار لهم، وأدى فيما بعد إلى قيام الحليفتين (أثينا وإسبرطة) بإعداد العدة لإثبات زعامتهما على بلاد اليونان كلها.
وقد أدى الخلاف العقائدي بين كل من أثينا وإسبرطة ـ إضافة إلى تضارب المصالح وشحن النوايا المتعارضة من قبل المدن الحليفة لكل من الدويلتين ـ إلى قيام حرب أهلية انقسمت فيها بلاد اليونان بين المعسكرين دعيت باسم حرب البيلوبونيز [ر]، وأسفرت عن انتصار المعسكر الإسبرطي وسيطرته مؤقتاً على كامل بلاد اليونان حتى ظهور مدينة طيبة على مسرح السياسة نحو سنة 371ق.م وقضائها على نفوذ إسبرطة إلى غير رجعة، وهو أمر أدى إلى تفتت القوى في بلاد اليونان وإتاحة الفرصة أمام الملك المقدوني فيليب الثاني Philip II لبسط نفوذه على معظم التراب اليوناني تمهيداً للقيام بغزو الامبراطورية الفارسية، وهو الهدف الذي حققه ابنه الإسكندر الكبير في نهاية سنة 323ق.م.
ولم يطل عمر امبراطورية الاسكندر، فقد تكونت بعد موته المفاجئ ثلاث ممالك (السلوقية في آسيا الغربية) و(البطلمية في مصر وليبيا) و(الأنتيغونية في بلاد اليونان) وكانت الأخيرة أصغر هذه الممالك وأول مملكة تقضي عليها روما سنة 179ق.م بوفاة آخر ملوكها فيليب الخامس.
ومنذ ذلك التاريخ لم تعد بلاد اليونان أكثر من مقاطعة في الامبراطورية الرومانية تشتهر مدنها بكونها مراكز تعليمية مرموقة لأبناء الأغنياء الرومان. وعندما انقسمت الامبراطورية إلى قسمين في القرن الرابع الميلادي تبعت بلاد اليونان ـ بحكم الجغرافيا ـ الامبراطورية الرومانية الشرقية أو الامبراطورية البيزنطية.
ـ التاريخ الوسيط:
تعرضت بلاد اليونان منذ القرن الخامس حتى التاسع الميلادي لموجات من الغزوات البربرية كالڤيسكوت Visigoths والهون Hun والأڤار Avars والبلغار Bulgars والسلاڤ Slavs مثلها في ذلك مثل كل مناطق البلقان. وفي القرن العاشر والحادي عشر حققت سلالة ملكية من أصل مقدوني جلوساً على العرش البيزنطي وسيطرت على بلاد اليونان كلها، وفي عام 1204م تمكن الصليبيون القادمون من غربي أوربا من تأسيس مملكة إقطاعية لاتينية في القسطنطينية، وتقاسم زعماؤها من النبلاء الفرنسيين والإسبان والإيطاليين حكم المنطقة بما فيها بلاد اليونان، لكنه في سنة 1261م استعادت الامبراطورية البيزنطية عافيتها وسيطرتها على أراضيها حتى انهيار الدولة على أيدي العثمانيين الذين ضموا بلاد اليونان، لكنهم أبقوا الكنيسة اليونانية خارج نطاق سيطرتهم.
ـ التاريخ الحديث:
مع أن عدداً من المثقفين اليونانيين والتجار وبعض الفلاحين حققوا رخاء ملحوظاً في عهد الدولة العثمانية وخاصة في القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ فإن بداية انحطاط العثمانيين أيقظت الروح القومية اليونانية التي بدأت بالظهور بدعم روسي أوربي معاد للعثمانيين، وعلى الرغم من إخفاق أول محاولة يونانية للتحرر سنة 1770 فإن أخبار نجاح الثورة الفرنسية 1789 أعطى دفعاً جديداً لهذه القضية. وفي سنة 1814 أسس عدد من التجار اليونانيين في روسيا جمعية قومية حصلت على دعم كل القوى المعادية للعثمانيين في أوربا والأمريكتين وتأييدها، ودعت إلى استقلال اليونان ودعمت القوميين داخل البلاد في حرب الاستقلال اليونانية التي اندلعت سنة 1820. وهي الحرب التي أسفرت عن قيام حلف روسي بريطاني فرنسي وجّه شروطه بعد معركة ناڤارينو Navarino البحرية إلى الدولة العثمانية التي وافقت سنة 1827 على منح اليونان استقلالها. وقد رسم مؤتمر برلين للسلام بعد ذلك حدود الدولة اليونانية، وانتخب أواخر عام 1827 وزير خارجية روسيا ذو الأصل اليوناني يوهانس كابودسترياس J.Capodistrias رئيساً لليونان، لكنه اغتيل سنة 1831. وباقتراح من قوات الحلفاء عين الأمير أوتو Otto الباڤاري ملكاً على اليونان سنة 1832، وحينما جنح بحكمه نحو الأوتقراطية أجبرته ثورة شعبية عام 1843 على اعتماد دستور للحكم أقره الشعب سنة 1844، لكنه سرعان ما أعاده معاونوه الباڤاريون إلى الأوتقراطية مما دفع الشعب إلى الثورة مرة أخرى، وأجبروا أوتو سنة 1862 على النزول عن العرش، ليخلفه سنة 1863 الأمير جورج الدنماركي الذي حكم بموجب الدستور المعتمد من قبل الشعب سنة 1864 مدة خمسين سنة.
في فترة حكم الملك جورج تطور الاقتصاد على نحو ملحوظ وخاصة في مجال النقل البحري الذي كانت عوائده مفيدة للدولة والأشخاص بآن واحد. بيد أن فترة السلم هذه وزيادة عدد السكان التي نتجت منه أدت إلى ملاحظة هجرتين: واحدة داخلية من الريف إلى المدينة وأخرى إلى عدد من دول الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذه الفترة أيضاً توسعت مساحة الدولة اليونانية بعد تخلي بريطانيا سنة 1864 عن الجزر الإيونية لمصلحة اليونان، كما سحبت تركيا قواتها من مقاطعة تساليا Thessaly وقسم من إقليم إبيروس Epirus سنة 1881، وفي عام 1898 أتمت تركيا انسحابها من جزيرة كريت التي انضمت بعد 15سنة إلى اليونان. أما في الداخل فقد شجعت هذه النجاحات التوسعية على ظهور منظمات عسكرية شوفينية كان من الممكن أن تهدد استقرار البلاد، بيد أن رئيس الوزراء المعاصر لهذه الأحداث اليثيروس ڤِنيزيلوس E.Venizelos تمكن سنة 1911 من ضبط الأمور بعد إدخال تعديلات مهمة على صلاحية السلطة التنفيذية دستورياً.
ولم يقنع اليونانيون بما حققوه من مكاسب إقليمية على حساب جارتهم تركيا وشاركوا مع دول شرقي أوربا في حرب البلقان 1912-1913 ضدها، وكسبوا بنتيجتها أراضي جديدة من إقليم إبيروس. وفي نهاية الحرب اغتيل الملك جورج وخلفه ابنه قسطنطين الأول على العرش.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى مال الملك قسطنطين إلى جانب الألمان في حين كان رئيس وزرائه ڤِنيزيلوس يميل إلى جانب الحلفاء. وعندما وصل الخلاف إلى مرحلة الصدام طرد الملك رئيس وزرائه الذي أقام حكومة في مدينة تسالونيكي شمالي اليونان وضغط بمساعدة الحلفاء حتى تمكن من إكراه الملك على النزول عن العرش لمصلحة ابنه إسكندر الذي كلف ڤِنيزيلوس تشكيل الوزارة وأعلن انضمام اليونان إلى جانب الحلفاء في المرحلة الأخيرة من الحرب، مما كفل لها الحصول على غنائم حرب، منها ضم إقليم تراقية الغربية على حساب بلغاريا وتراقية الشرقية على حساب تركيا، وإعطاء مدينة سميرنا Smyrna (إزمير) على الساحل التركي ذات الأكثرية اليونانية استقلالاً ذاتياً. وإثر موت الملك إسكندر سنة 1920 أعيد الملك قسطنطين إلى العرش بموجب استفتاء عام، وسرعان ما قاد حرباً ضد تركيا سنة 1922 لكنه خسر بنتيجتها تراقية الشرقية ومدينة سميرنا، كما أجبرت الحرب نحو مليون يوناني يعيشون في تركيا على الهرب إلى بلاد اليونان، وتفاقمت المآسي الاجتماعية والاقتصادية إلى درجة اضطرت قسطنطين إلى النزول عن العرش سنة 1922 لمصلحة ابنه جورج الثاني. وبسبب الاضطرابات التي استمرت بعد تولية جورج تعالت أصوات اليونانيين لمصلحة الحكم الجمهوري، لكن إقدام الملك على إدخال إصلاحات على النظام الملكي أبقت على النظام، وفي سنة 1936 كلف الملك الجنرال يوحنا مِتاكساس J.Metaxas تشكيل حكومة ديمقراطية مدنية، لكنها بمرور الوقت وبتأثير أجواء بدايات الحرب العالمية الثانية جنحت نحو النظام الدكتاتوري على النموذج الفاشي.
في سنة 1940 هاجمت القوات الإيطالية اليونان بذريعة أن رئيس وزرائها متاكساس رفض منح الإيطاليين قواعد على البر اليوناني، ومع أن الحملة الإيطالية أخفقت وتراجعت إلى ألبانيا فإن القوات الألمانية التي نزلت في تسالونيكي بعد ذلك تمكنت من احتلال معظم مناطق اليونان باستثناء تلك التي نشأت فيها مقاومة وطنية قادتها منظمة يسارية تدعى إلاس Elas، أزعجت الاحتلال الألماني وحصلت على تأييد المواطنين وسيطرت على معظم اليونان بعد انسحاب القوات الألمانية. وبناء على الاتفاق البريطاني السوڤييتي حول اقتسام مناطق النفوذ في شرقي أوربا؛ فقد تمكنت القوات البريطانية 1944 ـ 1945 من إخراج القوى اليسارية من أثينا وتشكيل حكومة وطنية يمينية برئاسة جورج الثاني الذي عاد من المنفى سنة 1946 بموجب استفتاء شعبي، لكنه مات بعد سنة من عودته وتسلم أخوه بول Poul العرش واسترجعت في عهده جزر الدودكانس Dodecanese من إيطاليا.
ولم تتمكن القوى اليسارية اليونانية التي قادت حرب عصابات من الجبال الشمالية ضد الحكومة اليمينية من تحقيق النصر على الرغم من دعم القوى الاشتراكية الأوربية؛ إذ كان تدخل بريطانيا وبعد ذلك الولايات المتحدة كفيلاً باستسلام اليساريين أوائل سنة 1949. وفي سنة 1951 اعتمد اليونانيون دستوراً جديداً لهم، وكُلِّف الجنرال باباغوس Papagos تشكيل وزارة حتى وفاته سنة 1955، وخلفه قسطنطين كارامنليس C.Caramanlis الذي رأس حزب الاتحاد الوطني الراديكالي واستمر في الحكم حتى انتخابات عام 3691 حين هزمه الحزب الاتحادي بزعامة الاشتراكي جورج پاپاندريو G.Papandreou الذي اتهم سنة 1965 بمساندة القوى اليسارية في جزيرة قبرص، مما اضطره إلى الاستقالة لمصلحة مجموعة من الحكومات التي لم تفلح في إصلاح الأمور الاقتصادية إلى درجة دعت عدداً من ضباط الجيش إلى إقامة نظام دكتاتوري في إبريل/نيسان 1967 هرب على أثرها الملك قسطنطين إلى خارج البلاد، واستدعي بابا دوبولوس لتشكيل الحكومة، وفي سنة 1968 اعتمد اليونانيون في استفتاء شعبي دستوراً جديداً استبدل على أثره النظام الجمهوري بالنظام الملكي، وانتخب بابا دوبولوس رئيساً للجمهورية لفترة قصيرة؛ إذ أطاح حلفاؤه العسكريون بنظامه وأصبح الجنرال فايدون غِيزيكيس Ph. Gizikis رئيساً للدولة.
لم يتمكن العسكريون من الحفاظ على مركزهم في الحكم بعد أزمة قبرص حينما قامت القوات التركية (صيف 1974) بغزو الجزيرة وإقامة دولة تركية في القسم الشمالي منها، ولما لم يتمكن العسكريون اليونانيون من الرد على هذه الإهانة؛ تمكن رئيس الوزراء السابق كارامنليس بضغط شعبي من العودة وقام بالانسحاب من حلف الناتو NATO رداً على عدم قيام الحلف بأي إجراء عسكري ضد تركيا، وفي خريف 1974 أجريت انتخابات فاز فيها كارامنليس بعد تأسيسه حزب الديمقراطية الجديدة، كما أجري بعدها استفتاء أكد إلغاء الملكية واعتماد دستور جديد في صيف 1975.
وفي عام 1980 انتخب كارامنليس رئيساً للجمهورية وعين جورج راليس G.Rallis رئيساً للوزراء، فأعاد البلاد إلى حلف الأطلسي وضمها إلى السوق الأوربية المشتركة.
عانت اليونان في الثمانينات بطء النمو الاقتصادي فيها إضافة إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع. وهذا ما دعا إلى تعيين الاشتراكي أندرياس پاپاندريو رئيساً للوزراء الذي نجح في منح اليونان شروطاً أفضل في السوق الأوربية المشتركة، كما حقق التزاماً أقوى في تعامل الحلف الأطلسي مع أزمة قبرص لمصلحة اليونان، وانتزع من المحافظين موافقتهم على تشريع الزواج المدني، ولعل أبرز إنجازاته كان إنهاء الوجود العسكري الأمريكي على الأرض اليونانية سنة 1987.
مفيد رائف العابد