زرياب
أبو الحسن علي بن نافع
[ ١٦٠ ه ٧٧٧ م - ٢٣٨ ه ٨٥٢ م ]
زریاب اسم طائر جميل الصوت أسود اللون اطلق على علي بن نافع الجمال صوته وسواد لونه ، كما قيل إن زرياب كلمة فارسية تعني ماء الذهب أطلقت على علي هذا لأن صوته كان كالذهب بالجودة والأصالة ، وكلا المعنيين رائع يمكن أن يفسر مكانة علي بن نافع ورأي معاصريه فيه . وعلي بن نافع ولد حوالي عام ۱٦٠ هـ ، أسود اللون ، أشعث الشعر، وكان أبوه من مجاليب السودان وهو مولى للخليفة المهدي الذي كشف مواهب زرياب ونباهته وفصاحته ، فأعتقه وهو في فجر صباه وأسلمه إلى اسحق الموصلي ليعلمه الغناء والموسيقى ، لكن مات المهدي ولزرياب تسع سنوات من العمر فقط لهذا لم يتمتع به شاباً ، ولاندري كثيراً عن حال زرياب أيام الهادي، حيث نجد كتب التاريخ تظهره لنا فجأة وهو يقابل الرشيد مباشرة . وقصة ذلك أن الرشيد طلب من اسحق بن ابراهيم يقدم له مغنياً جديداً على سبيل التنويع ، وأراد اسحق أن ينال حظوة عند الرشيد فقدم تلميذه اللامع زرياب ، وقد أطال اسحق في مدحه والثناء عليه أمام الخليفة . فلما مثل زرياب بين يدي الرشيد سأله عن فنه فقال : ( إنني أستطيع الغناء تماماً كما يستطيعه الآخرون ، الموصلي أن ولكنني أستطيع شيئاً لا يقدر عليه غيري ، إن فني الخاص لا يفهمه إلا من تبحر في فن الغناء مثل مولاي الخليفة ، فإن أذن لي غنيت أمامكم ما لم يغنه أحد من قبل » .
وناوله اسحق عوده ليعزف عليه فقال زرياب وقد تناول العود مخاطباً الرشيد : ( إن شاء مولاي سماع أغنية من طراز ما يغني معلمي فأعزف على عوده ، وإن شاء مولاي معرفة نوع الغناء الذي ابتكرته فيجب أن
أعزف على عودي الذي صنعته بيدي » وأذن له لرشيد بالعزف على عوده ، فما كان منه إلا أن غنى لحناً جديداً في مدح الرشيد ومنه :
يا أيها الملك الميمون طائره
هارون راح إليك الناس وابتكروا فطرب الرشيد كثيراً وسر أيما سرور ، وقد تمكن منه الإعجاب فهمس باذن اسحق - بعد أن أبدى اسحق للخليفة دهشته من تفنن زرياب ومفاجئته له بهذا المستوى الفني الرائع - : « لولا أنني أعلم من صدقك على كتمانه إياك لما عنده وتصديقي لك من أنك لم تسمعه قبل الآن لأنزلت بك العقوبة لتركك إعلامي بشأنه، فخذه إليك واعتن به حتى أفرغ له ،
فإن لي فيه نظراً ، . ولم يستطع اسحق كتم غيظه من زرياب الذي أهانه وحقره أمام الخليفة وكتم عبقريته واختراعه الوتر الخامس بالعود - الذي سماء بالأوسط - ففاجئه به أمام الخليفة الرشيد ، وقد قال اسحق له وهو في قمة ثورته وهيجانه : ( إن الحسد أقدم للأدواء ، والدنيا فتانة ، والشركة في الصناعة عداوة ، ولا حيلة في حسمها ، وقد مكرت بي فيا انطويت عليه من إجادتك وهلو طبقتك ، وقصدت منفعتك فإذا أنا قد أتيت نفسي من
مصيره مكنها بإدنائك ، وعن قليل تسقط منزاقي وترتقي أنت فوقي ، وهذا ما لا أصاحبك عليه ، ولولا أنك ولدي ، ولولا رعايتي لذمة تربيتك لما قدمت شيئاً على أن أذهب نفسك ، وليكن ذلك ما كان ، فتخير في اثنين لابد لك منهما : إما أن تذهب عني في الأرض العريضة لا أسمع لك خبراً بعد أن تعطيني على ذلك الأيمان الموثقة ، وانهضك لذلك بما أردت من مال وغيره ، وإما أن تقيم على كرمي ورغمي مستهدفا لسهامي فإني لا أبطىء عليك ولا أدع اغتيالك باذلاً في ذلك بدني ومالي فاقض قضاؤك » . وأمام هذه المواجهة قرر زرياب ترك بغداد ، فتوجه إلى القيروان ، بينما فسر اسحق الرشيد غياب زرياب بأنه مجنون ومغتر بنفسه وأنه يزعم أن الجن تكلمه وتعلمه وأنه استبطأ جائزة الخليفة فترك بغداد هائما على وجهه ولا أحد يعرف اتجاهه أو فكان جواب الرشيد : على ما كان به فقد فاتنا منه سرور كبير » . بدأ زرياب رحلته سراً بالاتفاق مع اسحق وربما بتمويل مادي من اسحق فمر بالشام ومصر واجتاز الصحراء الكبرى متوجها إلى برقة ثم القيروان وقد لقي مع أسرته وأطفاله الصغار أهوالاً شق . واستقر المقام بزرياب في القيروان في ظل دولة الأغالبة وقد عاش هناك عيشاً رغيداً وذاع صيته في كل أنحاء شمال أفريقية والأندلس ، ومن تأثيره تحول جزء من القيروان إلى منطقة تخصصت للملاهي والمرح والاشتغال بالموسيقى والرقص والغناء حتى عرفت هذه المنطقة باسم ( الحي الزريابي ) وعرف القسم الآخر من القيروان باسم ) حي الزهاد ) ذلك أن القيروان قبل زرياب لم تكن لتعرف سوى الزهد والصلاح والتدين . كان الحي الزريابي مجمعاً للفن والفنانين وكان على رأسهم زرياب وعلى يده تتلمذ الكثيرين. إلا أن الغرور أخذ من زرياب فغنى مرة بحضرة الملك
أبو الحسن علي بن نافع
[ ١٦٠ ه ٧٧٧ م - ٢٣٨ ه ٨٥٢ م ]
زریاب اسم طائر جميل الصوت أسود اللون اطلق على علي بن نافع الجمال صوته وسواد لونه ، كما قيل إن زرياب كلمة فارسية تعني ماء الذهب أطلقت على علي هذا لأن صوته كان كالذهب بالجودة والأصالة ، وكلا المعنيين رائع يمكن أن يفسر مكانة علي بن نافع ورأي معاصريه فيه . وعلي بن نافع ولد حوالي عام ۱٦٠ هـ ، أسود اللون ، أشعث الشعر، وكان أبوه من مجاليب السودان وهو مولى للخليفة المهدي الذي كشف مواهب زرياب ونباهته وفصاحته ، فأعتقه وهو في فجر صباه وأسلمه إلى اسحق الموصلي ليعلمه الغناء والموسيقى ، لكن مات المهدي ولزرياب تسع سنوات من العمر فقط لهذا لم يتمتع به شاباً ، ولاندري كثيراً عن حال زرياب أيام الهادي، حيث نجد كتب التاريخ تظهره لنا فجأة وهو يقابل الرشيد مباشرة . وقصة ذلك أن الرشيد طلب من اسحق بن ابراهيم يقدم له مغنياً جديداً على سبيل التنويع ، وأراد اسحق أن ينال حظوة عند الرشيد فقدم تلميذه اللامع زرياب ، وقد أطال اسحق في مدحه والثناء عليه أمام الخليفة . فلما مثل زرياب بين يدي الرشيد سأله عن فنه فقال : ( إنني أستطيع الغناء تماماً كما يستطيعه الآخرون ، الموصلي أن ولكنني أستطيع شيئاً لا يقدر عليه غيري ، إن فني الخاص لا يفهمه إلا من تبحر في فن الغناء مثل مولاي الخليفة ، فإن أذن لي غنيت أمامكم ما لم يغنه أحد من قبل » .
وناوله اسحق عوده ليعزف عليه فقال زرياب وقد تناول العود مخاطباً الرشيد : ( إن شاء مولاي سماع أغنية من طراز ما يغني معلمي فأعزف على عوده ، وإن شاء مولاي معرفة نوع الغناء الذي ابتكرته فيجب أن
أعزف على عودي الذي صنعته بيدي » وأذن له لرشيد بالعزف على عوده ، فما كان منه إلا أن غنى لحناً جديداً في مدح الرشيد ومنه :
يا أيها الملك الميمون طائره
هارون راح إليك الناس وابتكروا فطرب الرشيد كثيراً وسر أيما سرور ، وقد تمكن منه الإعجاب فهمس باذن اسحق - بعد أن أبدى اسحق للخليفة دهشته من تفنن زرياب ومفاجئته له بهذا المستوى الفني الرائع - : « لولا أنني أعلم من صدقك على كتمانه إياك لما عنده وتصديقي لك من أنك لم تسمعه قبل الآن لأنزلت بك العقوبة لتركك إعلامي بشأنه، فخذه إليك واعتن به حتى أفرغ له ،
فإن لي فيه نظراً ، . ولم يستطع اسحق كتم غيظه من زرياب الذي أهانه وحقره أمام الخليفة وكتم عبقريته واختراعه الوتر الخامس بالعود - الذي سماء بالأوسط - ففاجئه به أمام الخليفة الرشيد ، وقد قال اسحق له وهو في قمة ثورته وهيجانه : ( إن الحسد أقدم للأدواء ، والدنيا فتانة ، والشركة في الصناعة عداوة ، ولا حيلة في حسمها ، وقد مكرت بي فيا انطويت عليه من إجادتك وهلو طبقتك ، وقصدت منفعتك فإذا أنا قد أتيت نفسي من
مصيره مكنها بإدنائك ، وعن قليل تسقط منزاقي وترتقي أنت فوقي ، وهذا ما لا أصاحبك عليه ، ولولا أنك ولدي ، ولولا رعايتي لذمة تربيتك لما قدمت شيئاً على أن أذهب نفسك ، وليكن ذلك ما كان ، فتخير في اثنين لابد لك منهما : إما أن تذهب عني في الأرض العريضة لا أسمع لك خبراً بعد أن تعطيني على ذلك الأيمان الموثقة ، وانهضك لذلك بما أردت من مال وغيره ، وإما أن تقيم على كرمي ورغمي مستهدفا لسهامي فإني لا أبطىء عليك ولا أدع اغتيالك باذلاً في ذلك بدني ومالي فاقض قضاؤك » . وأمام هذه المواجهة قرر زرياب ترك بغداد ، فتوجه إلى القيروان ، بينما فسر اسحق الرشيد غياب زرياب بأنه مجنون ومغتر بنفسه وأنه يزعم أن الجن تكلمه وتعلمه وأنه استبطأ جائزة الخليفة فترك بغداد هائما على وجهه ولا أحد يعرف اتجاهه أو فكان جواب الرشيد : على ما كان به فقد فاتنا منه سرور كبير » . بدأ زرياب رحلته سراً بالاتفاق مع اسحق وربما بتمويل مادي من اسحق فمر بالشام ومصر واجتاز الصحراء الكبرى متوجها إلى برقة ثم القيروان وقد لقي مع أسرته وأطفاله الصغار أهوالاً شق . واستقر المقام بزرياب في القيروان في ظل دولة الأغالبة وقد عاش هناك عيشاً رغيداً وذاع صيته في كل أنحاء شمال أفريقية والأندلس ، ومن تأثيره تحول جزء من القيروان إلى منطقة تخصصت للملاهي والمرح والاشتغال بالموسيقى والرقص والغناء حتى عرفت هذه المنطقة باسم ( الحي الزريابي ) وعرف القسم الآخر من القيروان باسم ) حي الزهاد ) ذلك أن القيروان قبل زرياب لم تكن لتعرف سوى الزهد والصلاح والتدين . كان الحي الزريابي مجمعاً للفن والفنانين وكان على رأسهم زرياب وعلى يده تتلمذ الكثيرين. إلا أن الغرور أخذ من زرياب فغنى مرة بحضرة الملك
تعليق