تبدو إيما رييس وكأنها شخصية روائية. حياتها رواية مثيرة، مادة خصبة وجاهزة لا تحتاج من الروائي إلا تدوين الوقائع.
من هي هذه المرأة وما حكايتها؟
استيقظ وعي إيما، وهي في الرابعة من العمر، على شقيقة لها تكبرها سنتين أو ثلاثة، وطفل صغير بائس، وامرأة شابة تحكم الثلاثة وتقودهم بقسوة، ولن تعرف إيما أبدًا من كانت هذه الراعية المتسلطة، وما صلة القرابة معها. هل كانت أمها.. شقيقتها الكبرى.. قريبة ما لها؟! كما لن تعرف من هو هذا الطفل بالضبط، وكيف وصل الأربعة إلى هذه الغرفة الأشبه بسجن في بوغوتا (كولومبيا).
كانت المرأة تخرج كل يوم بعد أن تقفل على الأطفال باب الغرفة التي بلا نوافذ، ولنا أن نتخيل أي حياة عاشتها إيما وصحبها في ظل الضجر والخوف والوحشة.
تبدو إيما رييس وكأنها شخصية روائية. حياتها رواية مثيرة، مادة خصبة وجاهزة لا تحتاج من الروائي إلا تدوين الوقائع
فجأة وصل رجل ذو ملامح أرستقراطية. جلس في الغرفة قليلًا ثم أخذ الطفل المسكين وانصرف. أما المرأة فسرعان ما لملمت حوائجها القليلة وقادت الطفلتين في رحلة بلا نهاية عبر جبال ووديان ومسالك وعرة، وصولًا إلى قرية نائية. ويبدو أن المقام هناك لم يطب للشابة غريبة الأطوار، فعادت بالطفلتين إلى بوغوتا، ثم بعد قليل أخذتهما في رحلة معذبة أخرى إلى قرية نائية في اتجاه آخر من البلاد. ثم، أخيرًا، تركتهما في محطة قطار وهربت. وعندما تحلق الناس حولهما كانت الطفلتان لا تعرفان، باستثناء اسميهما، شيئًا عن نفسيهما وعن العالم.
الشطر الثاني من الحكاية كان في دير الراهبات، وهو الشطر الذي انتهى عندما بلغت إيما رييس التاسعة عشرة من عمرها، ذلك أن الشابة الذكية فرت من الدير وهامت على وجهها ردحًا، ثم ركبت سفينة ووصلت إلى فرنسا، حيث فجرت موهبتها الفنية التشكيلية. لقد صارت فنانة من نوع خاص، ونجمة في الوسط الثقافي، مع شبكة صداقات عميقة جمعتها برموز الفكر والأدب والفن في فرنسا والعالم.
رفضت ايما كتابة سيرتها، وظلت عنيدة إزاء كل الأصدقاء الذين حثوها على فعل ذلك، إلى أن أقنعها المؤرخ والناقد الكولومبي خيرمان ارسينييغاس، مقترحًا أسلوبًا يسهل الأمر: أن ترسل له إيما رسالة كلما عنّ لها تحكي فيها جانبًا من القصة. واظبت الفنانة على المراسلة ابتداء من سنة 1967، غير أن خيرمان اقترف خطأ، إذ أطلع غابرييل غارسيا ماركيز على الرسائل، فما كان من الكاتب الكولومبي الكبير إلا أن اتصل بإيما معربًا عن إعجابه الشديد وتشجيعه. غضبت رييس وعاقبت المؤرخ بأن امتنعت عن الكتابة إليه. وفقط بعد عشرين عامًا استأنفت المراسلة. توفيت إيما رييس عام 2003 عن عمر 84 عامًا، أما رسائلها فلم تصدر في كتاب حتى عام 2012. ولكن حالما صدر صار حدثًا أدبيًا بارزًا، أحدث أصداء واسعة وأحيط بحفاوة بالغة.
بريد الذكريات"، (دار التنوير، ترجمة مارك جمال)، كتاب فريد، ليس فقط لأنه يروي قصة شيقة وغريبة، ولكن لأنه ينطوي على أسلوب خاص في السرد، والأهم لأنه مكتوب وفق رؤية استثنائية.
إيما كانت في أواخر الأربعينات من عمرها عندما شرعت في مراسلة صديقها خيرمان، ولكن ما ترويه في القسم الأكبر من الكتاب يأتي من منظور طفلة في الرابعة. لا نقول إن الكاتبة نجحت في تقمص شخصية طفلة أو في استعادة ذاكرتها، بل إن الراوي هنا هو طفلة فعلًا. الأمكنة، البشر، الأبعاد، المسافات، المساحات، الوجوه.. كلها تحضر هنا كما تجسدت ذات مرة في عيني إيما الطفلة.
وهذه معضلة قديمة في الكتابة الأدبية: قلما ينجح الكاتب في اعتماد منظور طفولي دون أن يثير احتجاجًا أو يترك ثغرة ما.. وهي معضلة تخطتها رييس بنجاح، ربما لأنها تروي سيرة حقيقية وهي لا تزال تحتفظ بصورها القديمة طازجة، وربما لأنها لا تزال هي نفسها تلك الطفلة المعذبة المستهجنة المتسائلة.
منظور الطفلة هو ما يمنح الكتاب هذا التأثير القوي الآسر، وهذه الطزاجة وهذه الطرافة..
مسالة أخرى يثيرها الكتاب، وهي علاقتنا باللغة، علاقة اللغة بالعقل البشري. ونتذكر أن لغويين بارزين قالوا بأن المهارة اللغوية لا تكتسب في المجتمع بل تولد مع الطفل. إنها موجودة في عقله سلفًا.
حزين كتاب إيما رييس، ولكنه يبقي باب الأمل مشرعًا، مقدمًا نموذجًا ساطعًا على قوة الإرادة والطموح والإيمان بالذات. وهو ما يسعد أولئك القراء الباحثين عن تجارب ناجحة يقتدون بها
إيما رييس ظلت أمية لا تجيد القراءة والكتابة حتى التاسعة عشرة من عمرها.. فمن أين لها هذا الأسلوب الرشيق في الكتابة، وهذا القاموس الزاخر بالصور والمعاني والمجازات؟!
حزين كتاب إيما رييس، ولكنه يبقي باب الأمل مشرعًا، مقدمًا نموذجًا ساطعًا على قوة الإرادة والطموح والإيمان بالذات. وهو ما يسعد أولئك القراء الباحثين عن تجارب ناجحة يقتدون بها، دون أن يكون "بريد الذكريات" واحدًا من هذه الكتب التعليمية الوعظية، التي تصور الحياة كتجربة مضمونة ومؤكدة قابلة للنقل والتكرار.
"بريد الذكريات"، خلافًا لذلك، يستعير النظرة الروائية للعالم، فيستبعد اليقين السطحي والاستنتاج القسري والحكمة الساذجة، معتمدًا، عوض ذلك، التأمل العميق والتساؤل الجريء واستكشاف الأفق وملاحظة الإمكانات..
من هي هذه المرأة وما حكايتها؟
استيقظ وعي إيما، وهي في الرابعة من العمر، على شقيقة لها تكبرها سنتين أو ثلاثة، وطفل صغير بائس، وامرأة شابة تحكم الثلاثة وتقودهم بقسوة، ولن تعرف إيما أبدًا من كانت هذه الراعية المتسلطة، وما صلة القرابة معها. هل كانت أمها.. شقيقتها الكبرى.. قريبة ما لها؟! كما لن تعرف من هو هذا الطفل بالضبط، وكيف وصل الأربعة إلى هذه الغرفة الأشبه بسجن في بوغوتا (كولومبيا).
كانت المرأة تخرج كل يوم بعد أن تقفل على الأطفال باب الغرفة التي بلا نوافذ، ولنا أن نتخيل أي حياة عاشتها إيما وصحبها في ظل الضجر والخوف والوحشة.
تبدو إيما رييس وكأنها شخصية روائية. حياتها رواية مثيرة، مادة خصبة وجاهزة لا تحتاج من الروائي إلا تدوين الوقائع
فجأة وصل رجل ذو ملامح أرستقراطية. جلس في الغرفة قليلًا ثم أخذ الطفل المسكين وانصرف. أما المرأة فسرعان ما لملمت حوائجها القليلة وقادت الطفلتين في رحلة بلا نهاية عبر جبال ووديان ومسالك وعرة، وصولًا إلى قرية نائية. ويبدو أن المقام هناك لم يطب للشابة غريبة الأطوار، فعادت بالطفلتين إلى بوغوتا، ثم بعد قليل أخذتهما في رحلة معذبة أخرى إلى قرية نائية في اتجاه آخر من البلاد. ثم، أخيرًا، تركتهما في محطة قطار وهربت. وعندما تحلق الناس حولهما كانت الطفلتان لا تعرفان، باستثناء اسميهما، شيئًا عن نفسيهما وعن العالم.
الشطر الثاني من الحكاية كان في دير الراهبات، وهو الشطر الذي انتهى عندما بلغت إيما رييس التاسعة عشرة من عمرها، ذلك أن الشابة الذكية فرت من الدير وهامت على وجهها ردحًا، ثم ركبت سفينة ووصلت إلى فرنسا، حيث فجرت موهبتها الفنية التشكيلية. لقد صارت فنانة من نوع خاص، ونجمة في الوسط الثقافي، مع شبكة صداقات عميقة جمعتها برموز الفكر والأدب والفن في فرنسا والعالم.
رفضت ايما كتابة سيرتها، وظلت عنيدة إزاء كل الأصدقاء الذين حثوها على فعل ذلك، إلى أن أقنعها المؤرخ والناقد الكولومبي خيرمان ارسينييغاس، مقترحًا أسلوبًا يسهل الأمر: أن ترسل له إيما رسالة كلما عنّ لها تحكي فيها جانبًا من القصة. واظبت الفنانة على المراسلة ابتداء من سنة 1967، غير أن خيرمان اقترف خطأ، إذ أطلع غابرييل غارسيا ماركيز على الرسائل، فما كان من الكاتب الكولومبي الكبير إلا أن اتصل بإيما معربًا عن إعجابه الشديد وتشجيعه. غضبت رييس وعاقبت المؤرخ بأن امتنعت عن الكتابة إليه. وفقط بعد عشرين عامًا استأنفت المراسلة. توفيت إيما رييس عام 2003 عن عمر 84 عامًا، أما رسائلها فلم تصدر في كتاب حتى عام 2012. ولكن حالما صدر صار حدثًا أدبيًا بارزًا، أحدث أصداء واسعة وأحيط بحفاوة بالغة.
بريد الذكريات"، (دار التنوير، ترجمة مارك جمال)، كتاب فريد، ليس فقط لأنه يروي قصة شيقة وغريبة، ولكن لأنه ينطوي على أسلوب خاص في السرد، والأهم لأنه مكتوب وفق رؤية استثنائية.
إيما كانت في أواخر الأربعينات من عمرها عندما شرعت في مراسلة صديقها خيرمان، ولكن ما ترويه في القسم الأكبر من الكتاب يأتي من منظور طفلة في الرابعة. لا نقول إن الكاتبة نجحت في تقمص شخصية طفلة أو في استعادة ذاكرتها، بل إن الراوي هنا هو طفلة فعلًا. الأمكنة، البشر، الأبعاد، المسافات، المساحات، الوجوه.. كلها تحضر هنا كما تجسدت ذات مرة في عيني إيما الطفلة.
وهذه معضلة قديمة في الكتابة الأدبية: قلما ينجح الكاتب في اعتماد منظور طفولي دون أن يثير احتجاجًا أو يترك ثغرة ما.. وهي معضلة تخطتها رييس بنجاح، ربما لأنها تروي سيرة حقيقية وهي لا تزال تحتفظ بصورها القديمة طازجة، وربما لأنها لا تزال هي نفسها تلك الطفلة المعذبة المستهجنة المتسائلة.
منظور الطفلة هو ما يمنح الكتاب هذا التأثير القوي الآسر، وهذه الطزاجة وهذه الطرافة..
مسالة أخرى يثيرها الكتاب، وهي علاقتنا باللغة، علاقة اللغة بالعقل البشري. ونتذكر أن لغويين بارزين قالوا بأن المهارة اللغوية لا تكتسب في المجتمع بل تولد مع الطفل. إنها موجودة في عقله سلفًا.
حزين كتاب إيما رييس، ولكنه يبقي باب الأمل مشرعًا، مقدمًا نموذجًا ساطعًا على قوة الإرادة والطموح والإيمان بالذات. وهو ما يسعد أولئك القراء الباحثين عن تجارب ناجحة يقتدون بها
إيما رييس ظلت أمية لا تجيد القراءة والكتابة حتى التاسعة عشرة من عمرها.. فمن أين لها هذا الأسلوب الرشيق في الكتابة، وهذا القاموس الزاخر بالصور والمعاني والمجازات؟!
حزين كتاب إيما رييس، ولكنه يبقي باب الأمل مشرعًا، مقدمًا نموذجًا ساطعًا على قوة الإرادة والطموح والإيمان بالذات. وهو ما يسعد أولئك القراء الباحثين عن تجارب ناجحة يقتدون بها، دون أن يكون "بريد الذكريات" واحدًا من هذه الكتب التعليمية الوعظية، التي تصور الحياة كتجربة مضمونة ومؤكدة قابلة للنقل والتكرار.
"بريد الذكريات"، خلافًا لذلك، يستعير النظرة الروائية للعالم، فيستبعد اليقين السطحي والاستنتاج القسري والحكمة الساذجة، معتمدًا، عوض ذلك، التأمل العميق والتساؤل الجريء واستكشاف الأفق وملاحظة الإمكانات..