ارتباط الشاعر أحمد شوقي بالخديوي عباس كان واضحاً وجعله ذلك الارتباط يقف ضد بعض الرموز الوطنية التي كانت مخالفة للقصر، مثل أحمد عرابي الذي قام شوقي بهجائه هجاء موجعاً، أما القائد الوطني مصطفى كامل وقد كان صديقاً لأحمد شوقي فلم يستطع هجاءه إلا بعد مرور فترة زمنية تم خلالها توقف الخديوي عن مساندة الحركة الوطنية وأصبح هناك صداقة ووفاق بينه وبين الإنجليز.
نكمل حوارنا - المتفرض - مع الشاعر، في هذه الحلقة الجديدة، حيث نضيء فيه على سيرته ونتخيل أجوبته فيه والمعلومات التي يدلي بها، بناء على استقائنا مكنونها من تصريحاته ومواقفه المتنوعة.
* قصيدتك في رثاء مصطفى كامل حملت مشاعرك الصادقة.
-: صحيح.. ولعلّ ذلك يرجع إلى تأخري في رثائه مخافة إغضاب القصر، فلما سمحت الظروف جاء الرثاء صادق العاطفة شديد الحزن.
* وماذا قلت؟
-: قلت:
المَشْرِقَـانِ عَلَيْـكَ يَنتَحِبَـــانِ
قاصيهُمــا في مَـــأتَــمٍ وَالــداني
يا خادِمَ الإِسلامِ أَجرُ مُجـاهِــدٍ
في اللَهِ مِن خُلــدٍ وَمِن رِضـــوانِ
لَمّا نُعيتَ إِلى الحِجازِ مَشى الأَسى
في الزائِريــنَ وَرُوِّعَ الحَـرَمــانِ
كانت إجابات الشاعر أحمد شوقي تميل إلى الدبلوماسية، ولعلمي أنه كان قليل الغضب في حياته تجرأت بطرح سؤال قد يكون بمنزلة رفع أصبع الاتهام له).
* أستاذ أحمد شوقي.. أنت شاعر عظيم بلا شكّ، وكانت قصائدك تلقى الاهتمام وينتظرها الشعب العربي كله، ولكن السؤال الذي لم تجب عنه حتى الآن هو: هل كنت شاعر الشعب أم شاعر القصر؟
(على غير ما توقعت وجدت أنه تغير، فقطب جبينه ونظر إليّ بغضب واضح، ولكنه رغم ذلك جاء صوته هادئاً وعميقاً ).
أدرك مدى ما في هذا السؤال من اتهام بأنني ابتعدت عن الشعب وعن قضاياه الوطنية، ولكن هذا اتهام ظالم فأنا كنت مع القصر لأن القصر كان مع الشعب، والشعب كان يؤيد ويدعم القصر.
* عفواً أيها الأمير.. أنا لم أقصد الاتهام بقدر ما أردت أن أعرف حقيقة موقفك.
: لو درست شعري لوجدت أنني لم أتخلَ عن شعبي وكانت مصر وطني الحبيب الذي نال من شعري الكثير.
* ولكنك كنت تؤيد الخلافة العثمانية.
-: كانت الخلافة في ذلك الوقت محل تأييد الشعب لأننا لم نكن ننظر إليها كخلافة عثمانية بل كخلافة إسلامية.
* أذكر يا أمير الشعراء أنك قلت:
أَمّا الخِلافَةُ فَهِيَ حائِطُ بَيْتِكُـم
حَتّى يُبِينَ الحَشرُ عَنْ أَهْوَالِهِ
لا تَسمَعُوا لِلْمُرْجِفِينَ وَجَهْلِهِمْ
فَمُصِيبَةُ الإِسْــلاَمِ مِنْ جُهَّـالِهِ
لا أنكر تعلقي بسلاطين الخلافة العثمانية حتى إنني وقفت مع السلطان عبد الحميد الثاني عندما انقلب عليه جماعة الاتحاد والترقي وأسقطوه.
* ولكن السلطان عبد الحميد له تاريخ دموي مع حركة النهضة العربية، وكم من المجازر ارتكب ضد العرب.
-: قد يكون ما تقوله صحيحاً، ولكن تأييدنا له كان نابعاً من مشاعر دينية ووطنية، وفيه قلت:
سَل يَلدِزاً ذاتَ القُصُورِ
هَلْ جَاءَها نَبَأُ البُدُورِ
لَو تَستَطيــعُ إِجَــابَــــةً
لَبَكَتْكَ بِالدَّمْعِ الغَـزِيرِ
ذهب الجميع فلا القصور
ترى ولاَ أهل القُصورِ
سمّوه يلـــدز والأفـــول
نهاية النجــم المغيــر
أَنا إِنْ عَجَــزتُ فَإِنَّ في
بُردَيَّ أَشعَرَ مِن جَـريرِ
تَستَغْـفِـــرُ المَــوْلَـى لَهُ
وَاللَهُ يَعْفُـــو عَنْ كَثِيــرِ
عَبدَ الحَميدِ حِسابُ مِثلِكَ
في يَــدِ المَلِكِ الغَفُـــورِ
قالُوا: اِعتَزِلْ قُلتَ: اِعتَزَلْتُ
وَالحُكْـــمُ لِلَّهِ القَـدِيــــرِ
لا شكّ أن عاطفتك تجاه سلاطين بني عثمان كانت نابعة من مشاعرك كمسلم متمسك بدينه.
-: وهل تشكّ في ذلك؟
* قصيدتك المشهور في الخمرة تفرض عليّ الشكّ.
-: لكل شاعر هفوة ولكل سيف نبوة.
* لم يجرؤ أحد قبلك ولا بعدك أن يقول:
رَمَضانُ وَلّى هَاتِها يا سَاقِي
مُشتاقَةً تَسعى إِلى مُشتــــاقِ
اللَهُ غَفّارُ الذُنوبِ جَميعِهــــا
إِن كانَ ثَمَّ مِنَ الذُّنُوبِ بَوَاقِي
بِالأَمسِ قَد كُنّا سَجيني طاعَةٍ
وَاليَومَ مَنَّ العيدُ بِالإِطــــلاقِ
ضَحِكَت إِلَيَّ مِنَ السُّرورِ وَلَم تَزَل
بِنتُ الكُرومِ كَريمَةَ الأَعـراقِ
حَمراءَ أَو صَفراءَ إِنَّ كَريمَها
كَالغيـــدِ كُلُّ مَليحَــةٍ بِمَــذاقِ