يقظه عربيه
Arab awakening - Eveil arabe
اليقظة العربية
بلغت الحضارة العربية الإسلامية ذروتها في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، ثم مالبثت أن توقفت عن مسيرة العطاء، ربما بسبب غربة السلطة العسكرية التي تعرض لها الوطن العربي في العصرين المملوكي والعثماني حين وقف الجهد المعرفي بمختلف الفنون والعلوم عند حدود الجمع والتعليق وكتابة الحواشي والمختصرات، وتحولت المدارس والمراكز العلمية الأصلية إلى تكايا وزوايا يرتادها الدراويش والمبروكون بعد أن كانت عامرة بمجالس العلم والمناظرات بمختلف الفنون والعلوم التي نهل منها الغرب أسباب قوته وحضارته.
مع أن المماليك والعثمانيين حققوا كثيراً من الانتصارات العسكرية تحت راية الإسلام فإنهم فرطوا بالحضارة العربية والإسلامية؛ لأنهم كانوا غرباء عنها روحاً وفكراً. فغاب العرب عن المشاركة في الأنشطة الحضارية، وعاشوا على هامش الزمن قروناً طويلة امتدت حتى بداية النصف الثاني من القرن الثامن عشر حيث أفقدتهم هذه المدة الصلة بالقيم الخلاّقة حتى في تراثهم. في هذه الأثناء بدأت الحضارة الغربية تتسلل إلى الأوساط العربية بحكم الاحتكاك المباشر ما بين الدولة العثمانية والدول الغربية، إما عن طريق الامتيازات التي حصل عليها رعايا تلك الدول وإما عن طريق العاملين في مجال التبشير والخبراء والعلماء الذين استقدمتهم الدولة العثمانية للإفادة من خبرتهم في بناء مؤسساتها، الأمر الذي نبّه العرب على حالة الجمود والتخلف التي كان عليها واقع الحال، ومنذئذ بدؤوا يتململون جزئياً من غفوتهم إذ أخذت مظاهر يقظتهم تلوح في الأفق من خلال تيارات متعددة، كان من أبرزها التيار الديني الذي استهدف إصلاح العقيدة الإسلامية التي ذوى بريقها تحت غشاء كثيف من الجمود والتقليد، وبدت صورة هذا الاتجاه تتضح شيئاً فشيئاً من خلال أفكار عدد من العلماء المتنورين كان لصيحاتهم الجريئة أثر كبير في نشأة الحركات الدينية التي عرفت لاحقاً باسم الحركات السلفية، ومن هؤلاء العلماء صالح بن مهدي المقبلي (1637ـ1696)، والحسن بن أحمد الجلال (1605ـ1673)، ومحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني (1688ـ1768) ومحمد بن عبد الوهاب (1703ـ1792) ومحمد بن علي السنوسي (1787ـ1859) ومحمد بن أحمد المهدي (1844ـ1883) وغيرهم، على الرغم من أن دعوة الثلاثة الآخرين من هؤلاء كانت ذات طابع محافظ لا انحراف عنه فإنها مهدت لظهور جيل آخر كان أكثر جرأة لأنه واءم بين الدين والعلمنة حينما دعا رواده إلى فتح باب الاجتهاد وتحرير العقل من قيود بعض الأفهام المغلوطة لحرفية النص المقدس عند ضعاف العقول من العلماء الراغبين في التقبل الأعمى لكل ما جاء به السلف. وقد عبر عن هذه الرؤية جمال الدين الأفغاني (1839ـ1897) حينما ذكر في أحد مجالسه قولاً للقاضي عياض (1083ـ1149)، وتعصب له أحد الحاضرين، فقال الأفغاني: «يا سبحان الله إن القاضي عياض قال ما قاله على قدر ما وسعه عقله، وتناوله فهمه، وناسب زمانه، فهل لا يحق لغيره أن يقول ما هو أقرب للحق وأوجه وأصح من قول القاضي عياض أوغيره من الأئمة؟؟ وهل يجب الجمود والوقوف عند أقوال أناس هم أنفسهم لم يقفوا عند حد أقوال من تقدمهم، فأطلقوا لعقولهم صراطها، فاستنبطوا وأتوا بما ناسب زمانهم، وتقارب مع عقولهم؟». وقد مثل هذا الجيل إلى جانب الأفغاني نخبة من العلماء المجددين مثل محمد عبده (1849ـ1905) ومحمود شكري الألوسي (1857ـ1924). وعلى خطا هؤلاء سار علماء آخرون كانوا أكثر (تفتحاً) حينما دعوا إلى تعميم الثقافة العربية وإيقاظ الفكر العربي بوساطة حث الناس على التعلم ونهل الثقافة العربية بمختلف فنونها، وطرحوا شعار إصلاح النظام التعليمي واعتماد اللغة العربية لغة رسمية على الأقل في البلاد العربية، فمزج هؤلاء بدعوتهم بين مفهومي الدين والقومية، ومن رموز الاتجاه العروبي هذا عبد الحميد بن باديس (1887ـ1940) وعبد الرحمن الكواكبي (1849ـ1902) ومحمد رشيد رضا (1865ـ1935)، وعن هؤلاء جميعاً يمكن القول: إن الدين قدّم أول الحوافز لبعث المجتمع من جديد، وأخذت الأمة كل أسباب التجديد (السلفي المستنير) في العصر الحديث.
أما التيار الثاني الذي استوحى منه رواد اليقظة العربية أفكارهم وثقافتهم فهو التيار المقتبس من الثقافات والعلوم الغربية نتيجة الانفتاح على الغرب في أعقاب الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798، حين اطلع بعض من علماء مصر ـ كالشيخ حسن العطار (1776ـ1835) الذي كان قريباً من علماء الحملة الفرنسية ـ المكلفين دراسة مصر ومناخها وتاريخها وطبغرافيتها، واطلع منهم على بعض المفاهيم الجديدة كالحرية والمساواة والديمقراطية والأمة ونحو ذلك من الشعارات التي جاءت بها الثورة الفرنسية، فكان لهذه الأفكار أثر ساحر في النفوس المتعطشة لتلك المعاني، ثم أتيح فيما بعد لطالب أزهري آخر هو رفاعة الطهطاوي (1801ـ1873) من طلاب الشيخ حسن العطار أن يغادر إلى فرنسا مع إحدى البعثات العلمية المصرية حيث التقى هذا الشاب في باريس العديد من مفكريها البارزين، وزار مختلف المؤسسات، ودوّن ملاحظاته في وصف دقيق، وكان مثلاً للطالب الذي يريده محمد علي باشا، وعند عودته إلى مصر وضع كتابه المعروف «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» الذي تحدث فيه عن أسرار تقدم الأمة الفرنسية وما أحدثته ثورتها الكبرى عام 1789 من تغيير في الرؤى والمفاهيم في المجتمع الفرنسي، وقد عد بعض المؤرخين هذا الكتاب أول نافذة أطل منها العقل العربي على الحضارة الأوربية في العصر الحديث. وكان الطهطاوي بمنزلة مدرسة فكرية حديثة أنتجت العديد من المؤلفات المترجمة والمحققة عبر فيها عن أفكاره التنويرية الحديثة ودعوته إلى مخالطة الأوربيين وحثه على التعامل مع حضارتهم والاقتداء بهم والأخذ عنهم فيما لايخالف الشريعة والدين، ويذكر أن الطهطاوي كان من أوائل الذين طالبوا بمساواة المرأة مع الرجل في العصر الحديث. ومن أبرز الداعين إلى تعليمها وإشراكها في العمل الذي من شأنه أن يصون عفافها وكرامتها، ويقربها من الفضيلة. وذهب إلى أبعد من ذلك حينما عدّ المرأة في المجتمع مقياساً حقيقياً لتقدمه، وقد سار على نهج الطهطاوي كل من الشيخ علي مبارك (1824ـ1893) الذي كان له الفضل في إنشاء دار العلوم ودار الكتب المصرية، وعبد الله أبو السعود (1820ـ1878) الصحفي والمؤرخ قاضي محكمة الاستئناف في القاهرة، وعبد الله فكري (1834ـ1889) وكيل نظارة المعارف ورئيس الوفد المصري إلى استوكهولم، وعبد الله بن مصباح نديم (1845ـ1896) وغيرهم. أما في المغرب فقد كان خير الدين التونسي (1810ـ1890) أشهر دعاة كسر حاجز العزلة عن الحضارة الحديثة، وهو الذي زار باريس، وأمضى فيها أربع سنوات 1852ـ1856 موفداً من قبل أحمد باي، وعند عودته وضع كتابه المشهور «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» الذي ضمنه كل ما شاهده في فرنسا من تقدم وحداثة مظهراً جوانبها الإيجابية مشيراً إلى أن غالبها لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، لكن الفرق بين دعوتي الطهطاوي وخير الدين أن الأول حصر اهتمامه بإصلاح مصر، في حين كانت رؤية خير الدين منصبة على إصلاح الأوضاع في العالم الإسلامي وعلى وجه الخصوص الدولة العثمانية. وينسب لخير الدين القيام بكثير من الإصلاحات في تونس بعد أن قلده باي تونس منصب الوزارة خاصة في مجال إصلاح التعليم والاقتصاد والأوقاف والصحة، وهو صاحب المدرسة الصادقية ومكتبتها، وهو أول من أنشأ محجراً صحياً في تونس العاصمة، وعند حديثه عن سر تفوق الدول الأوربية أشار خير الدين إلى أن ذلك يكمن في قوة البلدان في المجالات الاقتصادية والعسكرية، إضافة إلى تطبيق مبادئ العدل والحرية واحترام حق الإنسان في التعبير عن رأيه، وكثيراً ما كان خير الدين يقارن ذلك بماهو موجود في القرآن الكريم والسنة النبوية، وذهب إلى أبعد من ذلك حينما كان يوائم بين آراء مفكرين كبار من العالم الإسلامي كالغزالي والماوردي وابن خلدون وابن القيم وآراء مفكرين غربيين مثل تيير Thiers ومونتسكيو Montesquieu وبوليبوس Polybus. أما في بلاد الشام فقد شهد القرن التاسع عشر حركة ثقافية وعلمية نشطة قامت بها الإرساليات المسيحية الغربية، وكان لها دور حيوي في تأسيس المدارس والجمعيات العلمية والفكرية كمدرسة عينطورة (1834) والكلية السورية (1847) ومدرسة عبية وغيرها، ورافق نشاط هذه الإرساليات نشاط مماثل في الأوساط المسلمة حيث تأسست مجموعة من الجمعيات الإصلاحية بترخيص من الدولة العثمانية (جمعية زهرة الآداب والمجمع العلمي الشرقي في بيروت ـ وجمعية الفنون الطبية والجمعية الخيرية في دمشق) أسهمت جميعها في بث روح النهضة الأدبية والثقافية في أوساط الشباب من الجيل الصاعد الذي اتخذ مثقفوه لأنفسهم منبراً على صفحات المجلات والمؤتمرات التي كانت تعقد بين الحين والآخر تعبر عن اتجاهاتهم السياسية والاجتماعية، وفي لبنان ظهر كثير من المثقفين، كان منهم فرنسيس مراش (1836ـ1873) وبطرس البستاني (1819ـ1883) وشبلي شميل (1853ـ1917) وفرح أنطون (1874ـ1922) وأديب إسحاق الدمشقي الأصل (1856ـ1885) وكان من أهداف دعوة هؤلاء السعي إلى إقامة حكم ديمقراطي يتساوى فيه الجميع أمام قانون واحد لافرق فيه بين أبناء الملل والطوائف المختلفة، ومما ساعد على تنامي هذه الأفكار ظهور المطابع في كل من حلب وبيروت والقاهرة التي سرعت من وتيرة نشر الكتب والمجلات على نطاق واسع في كل من مصر وبلاد الشام،إذ شحذت هذه الإصدارات أذهان الناس وحملت إلى قرائها أخبار ما يجري من أحداث سياسية في جميع أنحاء البلاد العربية، وبدأت مصطلحات (الوطنية ـ التجزئة ـ الإقليمية ـ الحرية) تجد طريقها إلى تكوين آراء جديدة في أوساط المثقفين العرب، ورافق حركة التأليف والنشر هذه حركة ترجمة عمل في حقلها مجموعة من الكتّاب والأدباء فتحت الأبواب أمام الثقافة الغربية وعلومها، وأصبح من اليسير الاطلاع عن كثب على آراء الغربيين ولاسيما ما يتعلق منها بالقضايا السياسية والاقتصادية. من جهة أخرى نشطت حركة الاستشراق التي اهتمت بالثقافة الإسلامية والفكر العربي، وكان للجيل الأول من المستشرقين دور كبير في دراسة المخطوطات العربية والعناية باللغات الشرقية، وفي مقدمة هؤلاء المستشرقين الفرنسيان البارون دوساسي Baron de Sacy ودو لاغرانج De Lagrange والألماني فون كريمر von Kremer والهولندي فبول دي يونغ P.de Jong والإنكليزيان إدوارد بالمر E.Palmer ووليم رايت W.Wright وغيرهم. وربما تنبه العرب بوساطة أفكار هؤلاء ونظرائهم المثقفين والفلاسفة إلى الغرض الذي قامت من أجله الثورات في أوربا منذ أواخر القرن الثامن عشر، وهي بالمجمل ثورات ذات مضامين سياسية واجتماعية وفكرية كالثورة الفرنسية (1789) والثورة الإيطالية (1870) والثورة الألمانية (1871)، لامست بطريق أو بآخر الوجدان العربي في تطلعه إلى تقرير مصيره وحقه في السعي إلى توحيد أقطاره، من جهة أخرى فإن من الدوافع التي جعلت العرب يجهدون في الخروج عن الروتينية التقليدية التي عاشوها قروناً طويلة في ظل الدولة العثمانية شعورهم بالخوف على مصيرهم نتيجة حالة الضعف التي كان عليها واقع الدولة العثمانية بدءاً من القرن السابع عشر، إذ بدأت الهزائم تلحق بها في ساحات المعارك أمام الدول الأوربية، وأصبحت الحكومة برمتها موضع ابتزاز سياسي من قبل الدول الغربية نتيجة الضغوط التي كانت تفرض عليها، حتى إن سياسة الدول نفسها كانت تُرسم داخل أكثر سفارة نفوذاً في العاصمة الامبراطورية إصطنبول. ومما زاد الطين بلة فساد المؤسسات الحكومية في الداخل وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، الأمر الذي ألقى بثقله على الواقع الاجتماعي والاقتصادي، ونجم عنه سوء أحوال الشعوب الخاضعة للدولة، ومن ضمنها الشعب العربي الذي ساده شعور بأن الدولة غير قادرة على حمايته، ولاسيما أن أوربا في هذه الآونة شرعت تطرق أبواب المنطقة العربية. وكان أول تحدٍ واجهته الحملة سالفة الذكر التي قادها نابليون بونابرت إلى مصر سنة 1798 للسيطرة على البحرين المتوسط والأحمر، إذ كانت تلك الحملة بمنزلة صدمة هزت المجتمع العربي، فنقلته من مرحلة الخمود إلى مرحلة الحركة والحيوية، وفتحت عينيه على نوايا العالم، ودفعته إلى التأمل في أحواله المنهارة، فأخذ يبحث عن الحلول المناسبة من أجل أن يبقى قوياً ومتماسكاً، ثم جاءت بعدها حملة إكسماوث Exmouth الإنكليزية التي حاولت الاستيلاء على الجزائر سنة 1816 بحجة القضاء على ما سمي في حينه بقرصنة المغاربة، وفي الفترة ذاتها كانت السفن الإسبانية والبرتغالية تطوف حول النيابات العثمانية في شمالي إفريقيا في ظل عجز الدولة العثمانية عن حماية تلك الأجزاء، وانتهى الأمر باحتلال الجزائر من قبل فرنسا سنة 1830، فكان ذلك الحدث الشرارة التي أيقظت الضمير العربي الإسلامي إذ هبّ المتنورون من رقدتهم، وأدركوا أنهم أمام أوضاع لاتختلف كثيراً عن تلك التي كانت عليها حال الأمة عشية الحملات الصليبية على الشرق الإسلامي، وهو ما دفعهم إلى البحث في مصير أمتهم للخروج بحلول مناسبة تساعدهم على استئصال الأسباب التي أدت إلى فقدان هيبتهم إزاء الأمم الأخرى. واتجه قادة الفكر بخطابهم العربي إلى تذكية مشاعر الأفراد والجماعات بالتذكير بماضي العرب المجيد ومقارنة ذلك مع ما أصبح عليه واقعهم المترهل الذي لايربطهم فيه بالدولة العثمانية سوى رباط التبعية والخضوع لسلطة الاستبداد. لكن من جهة أخرى ـ وعلى النقيض من ذلك تماماًـ ثمة متغيرات شهدتها الساحة العثمانية منذ مطلع القرن التاسع عشر دفعت باتجاه تكوين وعي زاد من يقظة العرب، وبدا في الأفق حراك علمي واجتماعي واقتصادي جعل الناس يشعرون بذواتهم نتيجة لعاملين أساسيين: أما الأول فمرده إلى سعي محمد علي باشا والي مصر إلى بسط نفوذه على المشرق العربي بعد رحيل الفرنسيين عن مصر، وما أدخله من إصلاحات على مختلف الصعد سواء في مصر أم بلاد الشام مكنته في مجملها من بناء دولة عصرية قطعت أشواطاً بعيدة في بناء نهضة فكرية وأدبية عربية آتت أكلها بعد حين، وقد ساعده على ذلك ابنه إبراهيم باشا الذي عاش في بيئة عربية، وتأثر بمحيطها، فكان من ضمن أهدافه ـ قبل أن يختطفه الموت ـ بناء دولة عربية تستلهم فكرها من تراثها الحضاري والإنساني، لكن حينما شرع الأب وابنه في بناء دولتهما المنبعثة من ظلام العصور الوسطى تنبهت الدول الغربية إلى مخاطر هذا المشروع الذي كان من أولوياته توحيد مصر مع بلاد الشام، فقامت تلك الدول بالحيلولة دون بلوغ هذا الهدف تحت يافطة (حماية الشرعية الدولية) والمحافظة على أملاك السلطان العثماني، وأجبرت محمد علي وولده إبراهيم على الخروج من بلاد الشام سنة 1841. وأما العامل الثاني فيعود لحركة الإصلاح التي شرعت الدولة نفسها في تنفيذها منذ عهد السلطان سليم الثالث (1789ـ1807) إذ افتتحت المدارس العسكرية والمدنية، واستقدمت الخبراء والعلماء الأوربيين من مختلف الاختصاصات لتدريس العلوم العصرية، وقد بلغت هذه الحركة ذروة عطائها في عهد السلطان محمود الثاني (1808ـ1839) وولديه السلطان عبد المجيد وعبد العزيز (1839ـ1876) فقد تخرج في هذه الآونة الرعيل الأول من رواد النهضة الفكرية والثقافية على مستوى الدولة عموماً، ثم توالت مراسيم الإصلاح في عهد السلطان عبد المجيد وأخيه لتشمل جميع المؤسسات الحكومية وتطوير أجهزة الدولة وفق المفهوم الأوربي، وصدرت القوانين الجديدة التي نصت على المحافظة على حقوق رعايا الدولة ومعاملة الجميع معاملة متساوية دون النظر إلى الدين أو المذهب، واستحدثت المحاكم النظامية. كل ذلك فتح أمام العرب آفاقاً فكرية جديدة دفعتهم إلى التطلع نحو الأمام بدلاً من التشبث بكل ما كان من القديم، وصدرت الدعوات من كل مكان تحث الجميع على التعلم ونبذ الجهل لمواجهة المخاطر والوقوف جبهة واحدة تجاه التحديات التي على الجميع أن يتصدوا لها بمسؤولية، وفي هذا المعنى يقول بطرس البستاني في إحدى مقالاته على خلفية الفتنة الطائفية في بلاد الشام 1860: «على سكان بلاد الشام أن يستيقظوا من خدرهم، ويعوا ما يبيت لهم، وأن يتعلموا ويفتحوا أذهانهم للعلم لأن الجهل الذي يعيشون فيه هو سبب النكبات المحيطة بهم، ومنها ذلك التناحر الطائفي».
وعلى العموم كان للتحدي الغربي ردود أفعال عنيفة في الأوساط العربية شجعت النجباء منهم على بث الأفكار والثقافات التي كونت فيما بعد رأياً عاماً وواعياً، ولّد عند الغالبية منهم بعض الاستجابات الثورية، لكن تلك الاستجابات لم تصل بهم إلى الأهداف التي كانوا يتطلعون إليها لأنهم كانوا متفرقين في موالاتهم، ولايملكون من أمرهم ما يجعلهم قادرين على بناء حلمهم في النهوض والارتقاء، فبقيت تلك المحاولات مجرد أمنيات، وبعد الحرب العالمية الأولى وزوال الدولة العثمانية ارتبطت مفاهيم اليقظة العربية أيديولوجياً بمفهوم القومية العربية ارتباطاً وثيقاً، وأخذت تظهر أحزاب جديدة هيمن عليها مفهوم التيار القومي الحديث. ففي مصر تشكل حزب الوفد الذي ركز نضاله على أساس تحرير مصر والسودان من السيطرة البريطانية والسعي إلى توحيد وادي النيل ضمن دولة برلمانية «ليبرالية»، وبالوقت نفسه تشكلت جمعيات إسلامية (جمعية الإخوان المسلمين ـ جمعية الشبان المسلمين) هدفها الدعوة إلى إقامة وحدة إسلامية والعودة إلى نظام الخلافة، ومنذ مطلع ثلاثينيات القرن العشرين حتى قيام الثورة سنة 1952 ظهرت شخصيات فكرية وسياسية أسهمت إسهاماً بارزاً في تنمية التيارات السياسية بمختلف أطيافها مهدت إلى قيام ثورة تموز/يوليو 1952 ذات الطابع القومي. أما في بلاد الشام فبعد رحيل فيصل وقعت البلاد تحت نير الانتداب الفرنسي ـ البريطاني، وتشكلت بعض الأحزاب والهيئات على يد نخبة من قادة الفكر السياسي كان من أبرزهم أعضاء الكتلة الوطنية التي انبثق منها فيما بعد أكثر الأحزاب السياسية، أجمعت كلها على المطالبة باستقلال سورية ولبنان، وقد أدّت هذه الأحزاب دوراً فاعلاً في مسيرة التحرير وبناء الفكر القومي الذي سارت على نهجه البلاد بعد الاستقلال. أما العراق الذي رحل إليه فيصل بعد الحرب العالمية الأولى فقد شهد هو الآخر قيام عدة حركات وطنية أجمعت على المطالبة باستقلال البلاد وإقامة حكم وطني ديمقراطي، لكن مع وجود بعض الخلافات في وجهات النظر بين قادة تلك الحركات (نوري السعيد ـ بكري صدقي ـ رشيد عالي الكيلاني) الأمر الذي عرّض العراق إلى أحداث كانت في الغالب دموية. دفع كثير من الأحرار حياتهم ثمناً لها إلى أن انتهى الأمر بسقوط النظام الملكي. وفي المغرب العربي أدّت القوى الدينية التي من أبرزها جمعية العلماء المسلمين دوراً رائداً في الحركات الوطنية ومعها حركات أخرى (حزب الشعب الجزائري ـ جماعة أصدقاء البيان والحرية) تبنت مجتمعة مسيرة التحرر من الاستعمار الفرنسي على أن يعقب ذلك إنشاء اتحاد شمال إفريقي يضم تونس والجزائر والمغرب. وقد لاقت هذه الحركات تأييداً جماهيرياً ترافق مع حرب الاستقلال مطلع خمسينيات القرن العشرين. من هنا يمكن القول: إن اليقظة العربية بعد الحرب العالمية الأولى انتقلت من الاهتمام بأعباء النهوض من أجل اللحاق بركب الحضارة وتخطي حواجز التخلف إلى الاهتمام بقضايا الكفاح والنضال للحصول على الاستقلال وطرد الاستعمار من المنطقة العربية.
مصطفى الخطيب
Arab awakening - Eveil arabe
اليقظة العربية
بلغت الحضارة العربية الإسلامية ذروتها في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، ثم مالبثت أن توقفت عن مسيرة العطاء، ربما بسبب غربة السلطة العسكرية التي تعرض لها الوطن العربي في العصرين المملوكي والعثماني حين وقف الجهد المعرفي بمختلف الفنون والعلوم عند حدود الجمع والتعليق وكتابة الحواشي والمختصرات، وتحولت المدارس والمراكز العلمية الأصلية إلى تكايا وزوايا يرتادها الدراويش والمبروكون بعد أن كانت عامرة بمجالس العلم والمناظرات بمختلف الفنون والعلوم التي نهل منها الغرب أسباب قوته وحضارته.
مع أن المماليك والعثمانيين حققوا كثيراً من الانتصارات العسكرية تحت راية الإسلام فإنهم فرطوا بالحضارة العربية والإسلامية؛ لأنهم كانوا غرباء عنها روحاً وفكراً. فغاب العرب عن المشاركة في الأنشطة الحضارية، وعاشوا على هامش الزمن قروناً طويلة امتدت حتى بداية النصف الثاني من القرن الثامن عشر حيث أفقدتهم هذه المدة الصلة بالقيم الخلاّقة حتى في تراثهم. في هذه الأثناء بدأت الحضارة الغربية تتسلل إلى الأوساط العربية بحكم الاحتكاك المباشر ما بين الدولة العثمانية والدول الغربية، إما عن طريق الامتيازات التي حصل عليها رعايا تلك الدول وإما عن طريق العاملين في مجال التبشير والخبراء والعلماء الذين استقدمتهم الدولة العثمانية للإفادة من خبرتهم في بناء مؤسساتها، الأمر الذي نبّه العرب على حالة الجمود والتخلف التي كان عليها واقع الحال، ومنذئذ بدؤوا يتململون جزئياً من غفوتهم إذ أخذت مظاهر يقظتهم تلوح في الأفق من خلال تيارات متعددة، كان من أبرزها التيار الديني الذي استهدف إصلاح العقيدة الإسلامية التي ذوى بريقها تحت غشاء كثيف من الجمود والتقليد، وبدت صورة هذا الاتجاه تتضح شيئاً فشيئاً من خلال أفكار عدد من العلماء المتنورين كان لصيحاتهم الجريئة أثر كبير في نشأة الحركات الدينية التي عرفت لاحقاً باسم الحركات السلفية، ومن هؤلاء العلماء صالح بن مهدي المقبلي (1637ـ1696)، والحسن بن أحمد الجلال (1605ـ1673)، ومحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني (1688ـ1768) ومحمد بن عبد الوهاب (1703ـ1792) ومحمد بن علي السنوسي (1787ـ1859) ومحمد بن أحمد المهدي (1844ـ1883) وغيرهم، على الرغم من أن دعوة الثلاثة الآخرين من هؤلاء كانت ذات طابع محافظ لا انحراف عنه فإنها مهدت لظهور جيل آخر كان أكثر جرأة لأنه واءم بين الدين والعلمنة حينما دعا رواده إلى فتح باب الاجتهاد وتحرير العقل من قيود بعض الأفهام المغلوطة لحرفية النص المقدس عند ضعاف العقول من العلماء الراغبين في التقبل الأعمى لكل ما جاء به السلف. وقد عبر عن هذه الرؤية جمال الدين الأفغاني (1839ـ1897) حينما ذكر في أحد مجالسه قولاً للقاضي عياض (1083ـ1149)، وتعصب له أحد الحاضرين، فقال الأفغاني: «يا سبحان الله إن القاضي عياض قال ما قاله على قدر ما وسعه عقله، وتناوله فهمه، وناسب زمانه، فهل لا يحق لغيره أن يقول ما هو أقرب للحق وأوجه وأصح من قول القاضي عياض أوغيره من الأئمة؟؟ وهل يجب الجمود والوقوف عند أقوال أناس هم أنفسهم لم يقفوا عند حد أقوال من تقدمهم، فأطلقوا لعقولهم صراطها، فاستنبطوا وأتوا بما ناسب زمانهم، وتقارب مع عقولهم؟». وقد مثل هذا الجيل إلى جانب الأفغاني نخبة من العلماء المجددين مثل محمد عبده (1849ـ1905) ومحمود شكري الألوسي (1857ـ1924). وعلى خطا هؤلاء سار علماء آخرون كانوا أكثر (تفتحاً) حينما دعوا إلى تعميم الثقافة العربية وإيقاظ الفكر العربي بوساطة حث الناس على التعلم ونهل الثقافة العربية بمختلف فنونها، وطرحوا شعار إصلاح النظام التعليمي واعتماد اللغة العربية لغة رسمية على الأقل في البلاد العربية، فمزج هؤلاء بدعوتهم بين مفهومي الدين والقومية، ومن رموز الاتجاه العروبي هذا عبد الحميد بن باديس (1887ـ1940) وعبد الرحمن الكواكبي (1849ـ1902) ومحمد رشيد رضا (1865ـ1935)، وعن هؤلاء جميعاً يمكن القول: إن الدين قدّم أول الحوافز لبعث المجتمع من جديد، وأخذت الأمة كل أسباب التجديد (السلفي المستنير) في العصر الحديث.
أما التيار الثاني الذي استوحى منه رواد اليقظة العربية أفكارهم وثقافتهم فهو التيار المقتبس من الثقافات والعلوم الغربية نتيجة الانفتاح على الغرب في أعقاب الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798، حين اطلع بعض من علماء مصر ـ كالشيخ حسن العطار (1776ـ1835) الذي كان قريباً من علماء الحملة الفرنسية ـ المكلفين دراسة مصر ومناخها وتاريخها وطبغرافيتها، واطلع منهم على بعض المفاهيم الجديدة كالحرية والمساواة والديمقراطية والأمة ونحو ذلك من الشعارات التي جاءت بها الثورة الفرنسية، فكان لهذه الأفكار أثر ساحر في النفوس المتعطشة لتلك المعاني، ثم أتيح فيما بعد لطالب أزهري آخر هو رفاعة الطهطاوي (1801ـ1873) من طلاب الشيخ حسن العطار أن يغادر إلى فرنسا مع إحدى البعثات العلمية المصرية حيث التقى هذا الشاب في باريس العديد من مفكريها البارزين، وزار مختلف المؤسسات، ودوّن ملاحظاته في وصف دقيق، وكان مثلاً للطالب الذي يريده محمد علي باشا، وعند عودته إلى مصر وضع كتابه المعروف «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» الذي تحدث فيه عن أسرار تقدم الأمة الفرنسية وما أحدثته ثورتها الكبرى عام 1789 من تغيير في الرؤى والمفاهيم في المجتمع الفرنسي، وقد عد بعض المؤرخين هذا الكتاب أول نافذة أطل منها العقل العربي على الحضارة الأوربية في العصر الحديث. وكان الطهطاوي بمنزلة مدرسة فكرية حديثة أنتجت العديد من المؤلفات المترجمة والمحققة عبر فيها عن أفكاره التنويرية الحديثة ودعوته إلى مخالطة الأوربيين وحثه على التعامل مع حضارتهم والاقتداء بهم والأخذ عنهم فيما لايخالف الشريعة والدين، ويذكر أن الطهطاوي كان من أوائل الذين طالبوا بمساواة المرأة مع الرجل في العصر الحديث. ومن أبرز الداعين إلى تعليمها وإشراكها في العمل الذي من شأنه أن يصون عفافها وكرامتها، ويقربها من الفضيلة. وذهب إلى أبعد من ذلك حينما عدّ المرأة في المجتمع مقياساً حقيقياً لتقدمه، وقد سار على نهج الطهطاوي كل من الشيخ علي مبارك (1824ـ1893) الذي كان له الفضل في إنشاء دار العلوم ودار الكتب المصرية، وعبد الله أبو السعود (1820ـ1878) الصحفي والمؤرخ قاضي محكمة الاستئناف في القاهرة، وعبد الله فكري (1834ـ1889) وكيل نظارة المعارف ورئيس الوفد المصري إلى استوكهولم، وعبد الله بن مصباح نديم (1845ـ1896) وغيرهم. أما في المغرب فقد كان خير الدين التونسي (1810ـ1890) أشهر دعاة كسر حاجز العزلة عن الحضارة الحديثة، وهو الذي زار باريس، وأمضى فيها أربع سنوات 1852ـ1856 موفداً من قبل أحمد باي، وعند عودته وضع كتابه المشهور «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» الذي ضمنه كل ما شاهده في فرنسا من تقدم وحداثة مظهراً جوانبها الإيجابية مشيراً إلى أن غالبها لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، لكن الفرق بين دعوتي الطهطاوي وخير الدين أن الأول حصر اهتمامه بإصلاح مصر، في حين كانت رؤية خير الدين منصبة على إصلاح الأوضاع في العالم الإسلامي وعلى وجه الخصوص الدولة العثمانية. وينسب لخير الدين القيام بكثير من الإصلاحات في تونس بعد أن قلده باي تونس منصب الوزارة خاصة في مجال إصلاح التعليم والاقتصاد والأوقاف والصحة، وهو صاحب المدرسة الصادقية ومكتبتها، وهو أول من أنشأ محجراً صحياً في تونس العاصمة، وعند حديثه عن سر تفوق الدول الأوربية أشار خير الدين إلى أن ذلك يكمن في قوة البلدان في المجالات الاقتصادية والعسكرية، إضافة إلى تطبيق مبادئ العدل والحرية واحترام حق الإنسان في التعبير عن رأيه، وكثيراً ما كان خير الدين يقارن ذلك بماهو موجود في القرآن الكريم والسنة النبوية، وذهب إلى أبعد من ذلك حينما كان يوائم بين آراء مفكرين كبار من العالم الإسلامي كالغزالي والماوردي وابن خلدون وابن القيم وآراء مفكرين غربيين مثل تيير Thiers ومونتسكيو Montesquieu وبوليبوس Polybus. أما في بلاد الشام فقد شهد القرن التاسع عشر حركة ثقافية وعلمية نشطة قامت بها الإرساليات المسيحية الغربية، وكان لها دور حيوي في تأسيس المدارس والجمعيات العلمية والفكرية كمدرسة عينطورة (1834) والكلية السورية (1847) ومدرسة عبية وغيرها، ورافق نشاط هذه الإرساليات نشاط مماثل في الأوساط المسلمة حيث تأسست مجموعة من الجمعيات الإصلاحية بترخيص من الدولة العثمانية (جمعية زهرة الآداب والمجمع العلمي الشرقي في بيروت ـ وجمعية الفنون الطبية والجمعية الخيرية في دمشق) أسهمت جميعها في بث روح النهضة الأدبية والثقافية في أوساط الشباب من الجيل الصاعد الذي اتخذ مثقفوه لأنفسهم منبراً على صفحات المجلات والمؤتمرات التي كانت تعقد بين الحين والآخر تعبر عن اتجاهاتهم السياسية والاجتماعية، وفي لبنان ظهر كثير من المثقفين، كان منهم فرنسيس مراش (1836ـ1873) وبطرس البستاني (1819ـ1883) وشبلي شميل (1853ـ1917) وفرح أنطون (1874ـ1922) وأديب إسحاق الدمشقي الأصل (1856ـ1885) وكان من أهداف دعوة هؤلاء السعي إلى إقامة حكم ديمقراطي يتساوى فيه الجميع أمام قانون واحد لافرق فيه بين أبناء الملل والطوائف المختلفة، ومما ساعد على تنامي هذه الأفكار ظهور المطابع في كل من حلب وبيروت والقاهرة التي سرعت من وتيرة نشر الكتب والمجلات على نطاق واسع في كل من مصر وبلاد الشام،إذ شحذت هذه الإصدارات أذهان الناس وحملت إلى قرائها أخبار ما يجري من أحداث سياسية في جميع أنحاء البلاد العربية، وبدأت مصطلحات (الوطنية ـ التجزئة ـ الإقليمية ـ الحرية) تجد طريقها إلى تكوين آراء جديدة في أوساط المثقفين العرب، ورافق حركة التأليف والنشر هذه حركة ترجمة عمل في حقلها مجموعة من الكتّاب والأدباء فتحت الأبواب أمام الثقافة الغربية وعلومها، وأصبح من اليسير الاطلاع عن كثب على آراء الغربيين ولاسيما ما يتعلق منها بالقضايا السياسية والاقتصادية. من جهة أخرى نشطت حركة الاستشراق التي اهتمت بالثقافة الإسلامية والفكر العربي، وكان للجيل الأول من المستشرقين دور كبير في دراسة المخطوطات العربية والعناية باللغات الشرقية، وفي مقدمة هؤلاء المستشرقين الفرنسيان البارون دوساسي Baron de Sacy ودو لاغرانج De Lagrange والألماني فون كريمر von Kremer والهولندي فبول دي يونغ P.de Jong والإنكليزيان إدوارد بالمر E.Palmer ووليم رايت W.Wright وغيرهم. وربما تنبه العرب بوساطة أفكار هؤلاء ونظرائهم المثقفين والفلاسفة إلى الغرض الذي قامت من أجله الثورات في أوربا منذ أواخر القرن الثامن عشر، وهي بالمجمل ثورات ذات مضامين سياسية واجتماعية وفكرية كالثورة الفرنسية (1789) والثورة الإيطالية (1870) والثورة الألمانية (1871)، لامست بطريق أو بآخر الوجدان العربي في تطلعه إلى تقرير مصيره وحقه في السعي إلى توحيد أقطاره، من جهة أخرى فإن من الدوافع التي جعلت العرب يجهدون في الخروج عن الروتينية التقليدية التي عاشوها قروناً طويلة في ظل الدولة العثمانية شعورهم بالخوف على مصيرهم نتيجة حالة الضعف التي كان عليها واقع الدولة العثمانية بدءاً من القرن السابع عشر، إذ بدأت الهزائم تلحق بها في ساحات المعارك أمام الدول الأوربية، وأصبحت الحكومة برمتها موضع ابتزاز سياسي من قبل الدول الغربية نتيجة الضغوط التي كانت تفرض عليها، حتى إن سياسة الدول نفسها كانت تُرسم داخل أكثر سفارة نفوذاً في العاصمة الامبراطورية إصطنبول. ومما زاد الطين بلة فساد المؤسسات الحكومية في الداخل وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، الأمر الذي ألقى بثقله على الواقع الاجتماعي والاقتصادي، ونجم عنه سوء أحوال الشعوب الخاضعة للدولة، ومن ضمنها الشعب العربي الذي ساده شعور بأن الدولة غير قادرة على حمايته، ولاسيما أن أوربا في هذه الآونة شرعت تطرق أبواب المنطقة العربية. وكان أول تحدٍ واجهته الحملة سالفة الذكر التي قادها نابليون بونابرت إلى مصر سنة 1798 للسيطرة على البحرين المتوسط والأحمر، إذ كانت تلك الحملة بمنزلة صدمة هزت المجتمع العربي، فنقلته من مرحلة الخمود إلى مرحلة الحركة والحيوية، وفتحت عينيه على نوايا العالم، ودفعته إلى التأمل في أحواله المنهارة، فأخذ يبحث عن الحلول المناسبة من أجل أن يبقى قوياً ومتماسكاً، ثم جاءت بعدها حملة إكسماوث Exmouth الإنكليزية التي حاولت الاستيلاء على الجزائر سنة 1816 بحجة القضاء على ما سمي في حينه بقرصنة المغاربة، وفي الفترة ذاتها كانت السفن الإسبانية والبرتغالية تطوف حول النيابات العثمانية في شمالي إفريقيا في ظل عجز الدولة العثمانية عن حماية تلك الأجزاء، وانتهى الأمر باحتلال الجزائر من قبل فرنسا سنة 1830، فكان ذلك الحدث الشرارة التي أيقظت الضمير العربي الإسلامي إذ هبّ المتنورون من رقدتهم، وأدركوا أنهم أمام أوضاع لاتختلف كثيراً عن تلك التي كانت عليها حال الأمة عشية الحملات الصليبية على الشرق الإسلامي، وهو ما دفعهم إلى البحث في مصير أمتهم للخروج بحلول مناسبة تساعدهم على استئصال الأسباب التي أدت إلى فقدان هيبتهم إزاء الأمم الأخرى. واتجه قادة الفكر بخطابهم العربي إلى تذكية مشاعر الأفراد والجماعات بالتذكير بماضي العرب المجيد ومقارنة ذلك مع ما أصبح عليه واقعهم المترهل الذي لايربطهم فيه بالدولة العثمانية سوى رباط التبعية والخضوع لسلطة الاستبداد. لكن من جهة أخرى ـ وعلى النقيض من ذلك تماماًـ ثمة متغيرات شهدتها الساحة العثمانية منذ مطلع القرن التاسع عشر دفعت باتجاه تكوين وعي زاد من يقظة العرب، وبدا في الأفق حراك علمي واجتماعي واقتصادي جعل الناس يشعرون بذواتهم نتيجة لعاملين أساسيين: أما الأول فمرده إلى سعي محمد علي باشا والي مصر إلى بسط نفوذه على المشرق العربي بعد رحيل الفرنسيين عن مصر، وما أدخله من إصلاحات على مختلف الصعد سواء في مصر أم بلاد الشام مكنته في مجملها من بناء دولة عصرية قطعت أشواطاً بعيدة في بناء نهضة فكرية وأدبية عربية آتت أكلها بعد حين، وقد ساعده على ذلك ابنه إبراهيم باشا الذي عاش في بيئة عربية، وتأثر بمحيطها، فكان من ضمن أهدافه ـ قبل أن يختطفه الموت ـ بناء دولة عربية تستلهم فكرها من تراثها الحضاري والإنساني، لكن حينما شرع الأب وابنه في بناء دولتهما المنبعثة من ظلام العصور الوسطى تنبهت الدول الغربية إلى مخاطر هذا المشروع الذي كان من أولوياته توحيد مصر مع بلاد الشام، فقامت تلك الدول بالحيلولة دون بلوغ هذا الهدف تحت يافطة (حماية الشرعية الدولية) والمحافظة على أملاك السلطان العثماني، وأجبرت محمد علي وولده إبراهيم على الخروج من بلاد الشام سنة 1841. وأما العامل الثاني فيعود لحركة الإصلاح التي شرعت الدولة نفسها في تنفيذها منذ عهد السلطان سليم الثالث (1789ـ1807) إذ افتتحت المدارس العسكرية والمدنية، واستقدمت الخبراء والعلماء الأوربيين من مختلف الاختصاصات لتدريس العلوم العصرية، وقد بلغت هذه الحركة ذروة عطائها في عهد السلطان محمود الثاني (1808ـ1839) وولديه السلطان عبد المجيد وعبد العزيز (1839ـ1876) فقد تخرج في هذه الآونة الرعيل الأول من رواد النهضة الفكرية والثقافية على مستوى الدولة عموماً، ثم توالت مراسيم الإصلاح في عهد السلطان عبد المجيد وأخيه لتشمل جميع المؤسسات الحكومية وتطوير أجهزة الدولة وفق المفهوم الأوربي، وصدرت القوانين الجديدة التي نصت على المحافظة على حقوق رعايا الدولة ومعاملة الجميع معاملة متساوية دون النظر إلى الدين أو المذهب، واستحدثت المحاكم النظامية. كل ذلك فتح أمام العرب آفاقاً فكرية جديدة دفعتهم إلى التطلع نحو الأمام بدلاً من التشبث بكل ما كان من القديم، وصدرت الدعوات من كل مكان تحث الجميع على التعلم ونبذ الجهل لمواجهة المخاطر والوقوف جبهة واحدة تجاه التحديات التي على الجميع أن يتصدوا لها بمسؤولية، وفي هذا المعنى يقول بطرس البستاني في إحدى مقالاته على خلفية الفتنة الطائفية في بلاد الشام 1860: «على سكان بلاد الشام أن يستيقظوا من خدرهم، ويعوا ما يبيت لهم، وأن يتعلموا ويفتحوا أذهانهم للعلم لأن الجهل الذي يعيشون فيه هو سبب النكبات المحيطة بهم، ومنها ذلك التناحر الطائفي».
وعلى العموم كان للتحدي الغربي ردود أفعال عنيفة في الأوساط العربية شجعت النجباء منهم على بث الأفكار والثقافات التي كونت فيما بعد رأياً عاماً وواعياً، ولّد عند الغالبية منهم بعض الاستجابات الثورية، لكن تلك الاستجابات لم تصل بهم إلى الأهداف التي كانوا يتطلعون إليها لأنهم كانوا متفرقين في موالاتهم، ولايملكون من أمرهم ما يجعلهم قادرين على بناء حلمهم في النهوض والارتقاء، فبقيت تلك المحاولات مجرد أمنيات، وبعد الحرب العالمية الأولى وزوال الدولة العثمانية ارتبطت مفاهيم اليقظة العربية أيديولوجياً بمفهوم القومية العربية ارتباطاً وثيقاً، وأخذت تظهر أحزاب جديدة هيمن عليها مفهوم التيار القومي الحديث. ففي مصر تشكل حزب الوفد الذي ركز نضاله على أساس تحرير مصر والسودان من السيطرة البريطانية والسعي إلى توحيد وادي النيل ضمن دولة برلمانية «ليبرالية»، وبالوقت نفسه تشكلت جمعيات إسلامية (جمعية الإخوان المسلمين ـ جمعية الشبان المسلمين) هدفها الدعوة إلى إقامة وحدة إسلامية والعودة إلى نظام الخلافة، ومنذ مطلع ثلاثينيات القرن العشرين حتى قيام الثورة سنة 1952 ظهرت شخصيات فكرية وسياسية أسهمت إسهاماً بارزاً في تنمية التيارات السياسية بمختلف أطيافها مهدت إلى قيام ثورة تموز/يوليو 1952 ذات الطابع القومي. أما في بلاد الشام فبعد رحيل فيصل وقعت البلاد تحت نير الانتداب الفرنسي ـ البريطاني، وتشكلت بعض الأحزاب والهيئات على يد نخبة من قادة الفكر السياسي كان من أبرزهم أعضاء الكتلة الوطنية التي انبثق منها فيما بعد أكثر الأحزاب السياسية، أجمعت كلها على المطالبة باستقلال سورية ولبنان، وقد أدّت هذه الأحزاب دوراً فاعلاً في مسيرة التحرير وبناء الفكر القومي الذي سارت على نهجه البلاد بعد الاستقلال. أما العراق الذي رحل إليه فيصل بعد الحرب العالمية الأولى فقد شهد هو الآخر قيام عدة حركات وطنية أجمعت على المطالبة باستقلال البلاد وإقامة حكم وطني ديمقراطي، لكن مع وجود بعض الخلافات في وجهات النظر بين قادة تلك الحركات (نوري السعيد ـ بكري صدقي ـ رشيد عالي الكيلاني) الأمر الذي عرّض العراق إلى أحداث كانت في الغالب دموية. دفع كثير من الأحرار حياتهم ثمناً لها إلى أن انتهى الأمر بسقوط النظام الملكي. وفي المغرب العربي أدّت القوى الدينية التي من أبرزها جمعية العلماء المسلمين دوراً رائداً في الحركات الوطنية ومعها حركات أخرى (حزب الشعب الجزائري ـ جماعة أصدقاء البيان والحرية) تبنت مجتمعة مسيرة التحرر من الاستعمار الفرنسي على أن يعقب ذلك إنشاء اتحاد شمال إفريقي يضم تونس والجزائر والمغرب. وقد لاقت هذه الحركات تأييداً جماهيرياً ترافق مع حرب الاستقلال مطلع خمسينيات القرن العشرين. من هنا يمكن القول: إن اليقظة العربية بعد الحرب العالمية الأولى انتقلت من الاهتمام بأعباء النهوض من أجل اللحاق بركب الحضارة وتخطي حواجز التخلف إلى الاهتمام بقضايا الكفاح والنضال للحصول على الاستقلال وطرد الاستعمار من المنطقة العربية.
مصطفى الخطيب