بيزنطه(موسيقي)
Byzantium - Byzantium
الموسيقى في بيزنطة
استقت الموسيقى البيزنطية أصولها من الموسيقى اليونانية والسورية، فعند انتشار الديانة المسيحية في بلاد حوض البحر المتوسط كانت معالمها الأساسية قد استقرت في بلاد اليونان. وهكذا تأثرت الطقوس الدينية الشرقية بالموسيقى اليونانية، وتناولت من مقاماتها [ر.الموسيقى العربية] الموسيقية الثمانية ألوانها التعبيرية. وكان كهنة مدينة أنطاكية يعتقدون أن الشيطان يهاب الموسيقى والتراتيل الدينية، ورش الماء المقدس، لهذا، صار للموسيقى الدينية عندهم دور وثيق الصلة بالكنيسة، وسعى أولئك الكهنة إلى تنقية موسيقاهم من الوثنية، فعارضوا الموسيقى الدنيوية، وحرّموا أداء التمثيل والعزف على الآلات الموسيقية التي كانت من العناصر الأساسية في الطقوس اليونانية والرومانية (نسبة إلى مدينة رومة)، واستعاضوا عنها بجوقة المرتلين التي اعتمدتها بيزنطة. واتسع الغناء الديني فشمل الكنائس المسيحية في الشرق والجنوب الشرقي من أوربة مثل روسية والبلاد البلقانية، وتركز في مدينة بيزنطة التي سميت فيما بعد «القسطنطينية» ثم لقّبها العثمانيون بـ «استنبول» (اصطنبول). ومع أن الحروب المتعاقبة أدت إلى سقوط بيزنطة على يد الأتراك عام 1453، فقد استطاعت بيزنطة ابتكار حياة روحية وفنية ساميتين نقلتهما مع طابعها المميز إلى الغرب.
كان الامبراطور البيزنطي يُعدُّ «ظل الله في الأرض»، ولهذا كان حاكماً مقدساً يتطلب مركزه أداء احتفالات دينية ودنيوية معاً، فكان الغناء يعتمد نصوصاً شعرية في مديح الامبراطور وتمجيد الرب. ثم ظهرت أناشيد أخرى في تمجيد القديسين ابتكرها بارديسان (154-222) Bardisane، والقديس أفرام السرياني، بطريرك أنطاكية (309-373) الذي ألّف 150 نشيداً معظمهم في مديح السيدة العذراء.
يرتبط التطور الموسيقي الغنائي البيزنطي بالشعائر الأرثوذكسية منذ عهد القديسين باسيليوس (329-379) Basile، ويوحنا «فم الذهب» (خريزوستوم) (347-407) J.Chrysostome، أسقف القسطنطينية عام 390، وقد أحدث هذان القديسان نوعين من الغناء الديني، يخص الأول منهما طقوس السنة الجديدة وبعض الأيام المقدسة، والآخر خاص بقداسات أيام الأحد والمواسم العادية الأخرى. واستمر هذان النوعان من الغناء الديني دون تغيير لقرون عدة، ولاسيما في شرقي أوربة وشمالي إفريقية وعند الشعوب السلافية في البلقان.
ارتكز الغناء البيزنطي على «اللحن الموحد»، أي المفرد monodic دون تعدد التصويت، في جوقتين غنائيتين: الأولى من الرجال، والثانية من النساء والصبية معاً. وكان يقوم بترتيل اللحن الأساس مغنٍ منفرد ترد عليه الجوقتان معاً أو بالتناوب بأداء «اللازمة» (أي المقطع الذي يتكرر باستمرار). وكانت هذه الطريقة تسمى «أنتيفونال» antiphonal، أي الغناء بالتجاوب، وصار هذا النظام سائداً في التقاليد الشعائرية البيزنطية، واستمر مدّة طويلة من الزمن. وكان كثير من الشعراء يلحنون أناشيدهم أيضاً، وقد أُطلق عليهم «الشعراء الملحنون أو الموسيقيون». وكان القديس يوحنا الدمشقي (نحو 676-754)، أحد أولئك الشعراء الملحنين، إذ قام بجمع وتصنيف أناشيد الشعائر الدينية في كتاب «الأصوات الكنسية الثمانية» التي صارت القانون الأساس للإنشاد البيزنطي، ففي كل أسبوع كانت تؤدى أناشيد متقاربة في ألحانها المقامية في جوقات غنائية، وعُدّت دورة الأسابيع الثمانية (بعدد المقامات) هذه، فرضاً طقسياً ثابتاً في الكنيسة الأرثوذكسية، ثم امتزجت مع طقوس الكنائس الشرقية المحلية.
تميز الغناء البيزنطي بإطالة النغمة الأخيرة من الجملة اللحنية الغنائية، فلم تكن ثمة كتابة موسيقية خاصة بذلك. تعد نهاية القرن الرابع بداية للتدوين الموسيقي البيزنطي الذي أتى على مراحل، فقد استخدمت إشارات صوتية خاصة تدل على حدة ارتفاع اللحن وانخفاضه، وتطورت الكتابة الموسيقية البيزنطية فيما بعد إلى نوعين، يستخدم الأول منهما في التراتيل الكنسية، ويستعمل الثاني في الغناء الدنيوي، ثم أضيفت إشارات وعلامات أخرى مكنت التعبير الموسيقي من الظهور بصورة أفضل. وفي القرنين الخامس والسادس شاع استخدام العلامات الموسيقية البيزنطية التي سُميت «إكفونيزيس» ekphonesis في إنشاد التراتيل بصوت عال. وكانت توضع هذه العلامات فوق أو تحت النص المرتل بدلاً من الحروف الهجائية التي كان يستعملها اليونانيون، وانتشرت الأناشيد الدينية البيزنطية في جميع الكنائس الشرقية. وتعد المدة ما بين القرنين السادس والتاسع عصر الموسيقى البيزنطية الذهبي.
كانت الموسيقى في بيزنطة أوثق ارتباطاً بالكلام وأكثر اقتصاراً على الغناء الذي لم تكن القيم الإيقاعية ـ الزمنية فيه معتمدة، وقد نقل البيزنطيون هذه السمات الموسيقية، التي ترتكز على النبرات، عن أساتذتهم السوريين. وكان كل من البابا غريغوار الكبير (من عام 590 إلى عام 604) والبابا سرجيوس الأول (من عام 687 إلى عام 701) وهو من أصل سوري يوناني، قد أقرا كثيراً من الشعائر الدينية البيزنطية في الغناء الديني اللاتيني في كنيسة رومة. وبقيت هذه الكنيسة تستخدم الشعائر البيزنطية حتى القرن التاسع، كما أن بعض الشعوب السلافية التي تحولت إلى المذهب المسيحي اللاتيني لم تنقطع عن ممارسة الطقوس البيزنطية. وصارت هذه الظاهرة أساساً في شعائر الكنيسة الغربية، إذ إن الجزء الأول من القداس اللاتيني الذي يُستهل بنشيد «رحماك يا رب»، والذي شَعَّ من الكنيسة البيزنطية إبان حكم الباباوات في رومة من أصول سورية ويونانية، ولكن هذا التأثير الشعائري توقف بعد انفصال الكنيستين الشرقية والغربية.
شهد الإنشاد الديني البيزنطي، في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، انطلاقة حثيثة أرهصت شكلاً من الإنشاد جديداً صار رمز كنائس البطاركة في أنطاكية والقدس والاسكندرية وأساسها، وصارت التراتيل تُدوَّن بتقانة أفضل، إذ كان التدوين الموسيقي ذاكرة المنشدين في سير اللحن الموسيقي. وتطور أسلوب هذا التدوين عام 1821، على يد العالم اليوناني كريسانتوس Chrysantos الذي اختصر كثيراً عدد الإشارات الصوتية التسعين، ووضع لها نظماً موسيقية أسهل، وسُمي هذا التدوين باسمه «التدوين الكريسانتي».
استخدمت آلة الأرغن argon، التي كان السوريون واليونانيون أمهر صانعيها، دون بقية الآلات الموسيقية في مرافقة الغناء البيزنطي الذي كان يؤدى في البلاط الامبراطوري، وقد شُغف الحكام البيزنطيون باستعراض حفلاتهم الموسيقية أمام الزوار، وارتقت على أيديهم صناعة بعض الآلات الموسيقية، كما فخروا باقتناء الآلات الموسيقية ذاتية الحركة مثار الإعجاب، مثل الآلات المصنوعة على شكل الأسود، والتي يقلد أداؤها، عند العزف عليها، زئير الأسود.
حسني الحريري
Byzantium - Byzantium
الموسيقى في بيزنطة
استقت الموسيقى البيزنطية أصولها من الموسيقى اليونانية والسورية، فعند انتشار الديانة المسيحية في بلاد حوض البحر المتوسط كانت معالمها الأساسية قد استقرت في بلاد اليونان. وهكذا تأثرت الطقوس الدينية الشرقية بالموسيقى اليونانية، وتناولت من مقاماتها [ر.الموسيقى العربية] الموسيقية الثمانية ألوانها التعبيرية. وكان كهنة مدينة أنطاكية يعتقدون أن الشيطان يهاب الموسيقى والتراتيل الدينية، ورش الماء المقدس، لهذا، صار للموسيقى الدينية عندهم دور وثيق الصلة بالكنيسة، وسعى أولئك الكهنة إلى تنقية موسيقاهم من الوثنية، فعارضوا الموسيقى الدنيوية، وحرّموا أداء التمثيل والعزف على الآلات الموسيقية التي كانت من العناصر الأساسية في الطقوس اليونانية والرومانية (نسبة إلى مدينة رومة)، واستعاضوا عنها بجوقة المرتلين التي اعتمدتها بيزنطة. واتسع الغناء الديني فشمل الكنائس المسيحية في الشرق والجنوب الشرقي من أوربة مثل روسية والبلاد البلقانية، وتركز في مدينة بيزنطة التي سميت فيما بعد «القسطنطينية» ثم لقّبها العثمانيون بـ «استنبول» (اصطنبول). ومع أن الحروب المتعاقبة أدت إلى سقوط بيزنطة على يد الأتراك عام 1453، فقد استطاعت بيزنطة ابتكار حياة روحية وفنية ساميتين نقلتهما مع طابعها المميز إلى الغرب.
كان الامبراطور البيزنطي يُعدُّ «ظل الله في الأرض»، ولهذا كان حاكماً مقدساً يتطلب مركزه أداء احتفالات دينية ودنيوية معاً، فكان الغناء يعتمد نصوصاً شعرية في مديح الامبراطور وتمجيد الرب. ثم ظهرت أناشيد أخرى في تمجيد القديسين ابتكرها بارديسان (154-222) Bardisane، والقديس أفرام السرياني، بطريرك أنطاكية (309-373) الذي ألّف 150 نشيداً معظمهم في مديح السيدة العذراء.
يرتبط التطور الموسيقي الغنائي البيزنطي بالشعائر الأرثوذكسية منذ عهد القديسين باسيليوس (329-379) Basile، ويوحنا «فم الذهب» (خريزوستوم) (347-407) J.Chrysostome، أسقف القسطنطينية عام 390، وقد أحدث هذان القديسان نوعين من الغناء الديني، يخص الأول منهما طقوس السنة الجديدة وبعض الأيام المقدسة، والآخر خاص بقداسات أيام الأحد والمواسم العادية الأخرى. واستمر هذان النوعان من الغناء الديني دون تغيير لقرون عدة، ولاسيما في شرقي أوربة وشمالي إفريقية وعند الشعوب السلافية في البلقان.
ارتكز الغناء البيزنطي على «اللحن الموحد»، أي المفرد monodic دون تعدد التصويت، في جوقتين غنائيتين: الأولى من الرجال، والثانية من النساء والصبية معاً. وكان يقوم بترتيل اللحن الأساس مغنٍ منفرد ترد عليه الجوقتان معاً أو بالتناوب بأداء «اللازمة» (أي المقطع الذي يتكرر باستمرار). وكانت هذه الطريقة تسمى «أنتيفونال» antiphonal، أي الغناء بالتجاوب، وصار هذا النظام سائداً في التقاليد الشعائرية البيزنطية، واستمر مدّة طويلة من الزمن. وكان كثير من الشعراء يلحنون أناشيدهم أيضاً، وقد أُطلق عليهم «الشعراء الملحنون أو الموسيقيون». وكان القديس يوحنا الدمشقي (نحو 676-754)، أحد أولئك الشعراء الملحنين، إذ قام بجمع وتصنيف أناشيد الشعائر الدينية في كتاب «الأصوات الكنسية الثمانية» التي صارت القانون الأساس للإنشاد البيزنطي، ففي كل أسبوع كانت تؤدى أناشيد متقاربة في ألحانها المقامية في جوقات غنائية، وعُدّت دورة الأسابيع الثمانية (بعدد المقامات) هذه، فرضاً طقسياً ثابتاً في الكنيسة الأرثوذكسية، ثم امتزجت مع طقوس الكنائس الشرقية المحلية.
تميز الغناء البيزنطي بإطالة النغمة الأخيرة من الجملة اللحنية الغنائية، فلم تكن ثمة كتابة موسيقية خاصة بذلك. تعد نهاية القرن الرابع بداية للتدوين الموسيقي البيزنطي الذي أتى على مراحل، فقد استخدمت إشارات صوتية خاصة تدل على حدة ارتفاع اللحن وانخفاضه، وتطورت الكتابة الموسيقية البيزنطية فيما بعد إلى نوعين، يستخدم الأول منهما في التراتيل الكنسية، ويستعمل الثاني في الغناء الدنيوي، ثم أضيفت إشارات وعلامات أخرى مكنت التعبير الموسيقي من الظهور بصورة أفضل. وفي القرنين الخامس والسادس شاع استخدام العلامات الموسيقية البيزنطية التي سُميت «إكفونيزيس» ekphonesis في إنشاد التراتيل بصوت عال. وكانت توضع هذه العلامات فوق أو تحت النص المرتل بدلاً من الحروف الهجائية التي كان يستعملها اليونانيون، وانتشرت الأناشيد الدينية البيزنطية في جميع الكنائس الشرقية. وتعد المدة ما بين القرنين السادس والتاسع عصر الموسيقى البيزنطية الذهبي.
كانت الموسيقى في بيزنطة أوثق ارتباطاً بالكلام وأكثر اقتصاراً على الغناء الذي لم تكن القيم الإيقاعية ـ الزمنية فيه معتمدة، وقد نقل البيزنطيون هذه السمات الموسيقية، التي ترتكز على النبرات، عن أساتذتهم السوريين. وكان كل من البابا غريغوار الكبير (من عام 590 إلى عام 604) والبابا سرجيوس الأول (من عام 687 إلى عام 701) وهو من أصل سوري يوناني، قد أقرا كثيراً من الشعائر الدينية البيزنطية في الغناء الديني اللاتيني في كنيسة رومة. وبقيت هذه الكنيسة تستخدم الشعائر البيزنطية حتى القرن التاسع، كما أن بعض الشعوب السلافية التي تحولت إلى المذهب المسيحي اللاتيني لم تنقطع عن ممارسة الطقوس البيزنطية. وصارت هذه الظاهرة أساساً في شعائر الكنيسة الغربية، إذ إن الجزء الأول من القداس اللاتيني الذي يُستهل بنشيد «رحماك يا رب»، والذي شَعَّ من الكنيسة البيزنطية إبان حكم الباباوات في رومة من أصول سورية ويونانية، ولكن هذا التأثير الشعائري توقف بعد انفصال الكنيستين الشرقية والغربية.
شهد الإنشاد الديني البيزنطي، في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، انطلاقة حثيثة أرهصت شكلاً من الإنشاد جديداً صار رمز كنائس البطاركة في أنطاكية والقدس والاسكندرية وأساسها، وصارت التراتيل تُدوَّن بتقانة أفضل، إذ كان التدوين الموسيقي ذاكرة المنشدين في سير اللحن الموسيقي. وتطور أسلوب هذا التدوين عام 1821، على يد العالم اليوناني كريسانتوس Chrysantos الذي اختصر كثيراً عدد الإشارات الصوتية التسعين، ووضع لها نظماً موسيقية أسهل، وسُمي هذا التدوين باسمه «التدوين الكريسانتي».
استخدمت آلة الأرغن argon، التي كان السوريون واليونانيون أمهر صانعيها، دون بقية الآلات الموسيقية في مرافقة الغناء البيزنطي الذي كان يؤدى في البلاط الامبراطوري، وقد شُغف الحكام البيزنطيون باستعراض حفلاتهم الموسيقية أمام الزوار، وارتقت على أيديهم صناعة بعض الآلات الموسيقية، كما فخروا باقتناء الآلات الموسيقية ذاتية الحركة مثار الإعجاب، مثل الآلات المصنوعة على شكل الأسود، والتي يقلد أداؤها، عند العزف عليها، زئير الأسود.
حسني الحريري