أندريه بلاتونوف: السخرية المُرّة من ظاهرة ستالين وأشباهه
جمال شحيّد 2 فبراير 2023
تغطيات
أندريه بلاتونوف
شارك هذا المقال
حجم الخط
قال عنه إرنست همنغواي: "(أندريه) بلاتونوف من الكتّاب القلائل الذين ينبغي أن نتعلم على أيديهم". ولكن ستالين نعته بـ"الوغد" و"النغل" و"الخبيث" لأنه - كما قال- تناول نشأة الاشتراكية بكثير من "الخسّة والدناءة"، مع أنه كاتب موهوب. بيد أن غوركي قال له: "أنت رجل موهوب، وتملك لغة مبتكرة، بالتأكيد... العقبة أن عقليتك فوضوية... تأملاتك السوداوية لا تصلح للنشر الآن. أقترح تركها إلى المستقبل". رأى بعضهم أنه يعادل بروست وكافكا وموزيل وفولكنر وبيكيت. فبعد عام 1933 صودرت جميع كتبه التسعة، ولم يُعثر عليها إلا بعد عام 1960؛ وتلقفتها دور النشر الغربية.
تخرّج بلاتونوف (1899-1951) من كلية البوليتكنيك في موسكو، فأدخل الكهرباء في أعمال الزراعة وساهم في حفر العديد من التجمعات المائية والآبار والسدود واستصلاح الأراضي. ولكن أهميته تكمن في الأدب، والرواية تحديدًا. لم يسجنه ستالين ولكنه أرسل ابنه اليافع أفلاطون (15 عامًا) إلى سيبيريا فقضى نحبه بسبب إصابته بالسلّ. عام 1920، انتسب بلاتونوف إلى الحزب الشيوعي، ولكنه كان من العصاة الذين حافظوا على حسهم النقدي وحريتهم في التعبير. واسترشد بمقولة دوستويفسكي (المغضوب عليه ستالينيًا): "إن خلاص العالم يتمّ ليس بالعنف بل بالتضحية". وعانى كبار الكتّاب الروس بعد ثورة أكتوبر من مضايقات المخابرات السوفياتية لهم، ومنهم: ماياكوفسكي وشولوخوف وبولغاكوف وإيتماتوف وأخماتوفا وفالنتين راسبوتين... وتقدّر الإحصائيات الموضوعية أن أعداد الذين قضوا بمجاعة عقد الثلاثينيات في الاتحاد السوفياتي (وبخاصة في منطقة الفولغا) بلغت 25 مليونًا، مع أن ماركس كان يؤكد على أن "الإنسان هو أثمن رأسمال". والواضح في روايات بلاتونوف أن الموت حاضر كثيرًا فيها، إذ ينفق البشر كما الحيوانات.
"تتكلم رواية "الحفرة" عن بناء منشأة سكنية لتكون صرحًا للشيوعية في المستقبل، إلا أن حفر أساس هذه المنشأة يتحوّل إلى قبر جماعي للعمال الحافرين" |
تتكلم الرواية الأولى عن بناء منشأة سكنية لتكون صرحًا للشيوعية في المستقبل، إلا أن حفر أساس هذه المنشأة يتحوّل إلى قبر جماعي للعمال الحافرين. يُفصَل العامل فوشيف من عمله في مصنع الأدوات الميكانيكية، لأن قواه البدنية تدهورت ولأنه صار شارد الذهن، فأصبح جسده "خائرًا مرهَقًا بالفكر واللافكر، بالمعنى واللامعنى" (ص 59). فتداعى إيمانه البروليتاري، وقال: "تدّعون أنكم تعرفون كل شيء في الدنيا، لكنكم لا تفعلون سوى حفر التربة والنوم. الأفضل لي أن أترككم. سأتسوّل في التعاونيات الفلاحية. يخجلني، على أية حال، أن أعيش بينكم بعيدًا عن الحقيقة". فردّ عليه أحد العمال: "يا رفيق، خبّرنا من فضلك بأي شكل تريد الحصول على الحقيقة، بشكل كروي أو سائل؟" (ص 88). وتنداح العبارات الساخرة في الرواية (وهذا ما أزعج الرفيق جوزيف ستالين): "لماذا تفكّر وتعذّب نفسك؟" (ص 55)، "إبان الثورة كانت الكلاب تنبح في كل أرجاء روسيا ليل نهار، لكنها صمتت الآن، فقد آن أوان العمل" (ص 81)، "غدا غوزلوف متيّمًا في حب البروليتاريا"، "إن زرع الصويا مسموح حزبيًا"، "مسح الدبّ بوزه البروليتاري المكدود وبصق في راحته وشرع من جديد في طرق الحديد" (ص 175)، "عانقوا، يا شباب، مملكتنا، دولتنا، فهي غير متزوجة. – هل هي بتول عذراء أم أرملة؟ سأل ضيف من الأطراف وهو يحوّم في رقصته. – عذراء [أوضح له ذاك الرجل] ألا ترى كيف تتغنّج؟ - فلتتغنّج بعض الوقت [قال الضيف] ولتتجمّل وتتزلّف وسنجعل منها امرأة وادعة طيّعة" (ص 186)... وتظهر سخرية سوداء مرّة مرارة العلقم: "لن يبلغ الريفيُ الاشتراكية ويتمتع بها إلا زعيمكم، بينما سيكون الهلاك من نصيب الباقين" (ص 182)، "ربض الذباب فوق الثلج واحتفل الناس في جو رفاقي بهيج" (ص 186)، "هل يتمكن العلم الراقي بمعجزاته الكبيرة من أن يحيي الموتى؟ - كلا"، "تباطأ نمو لحى الفلاحين بسبب الشيوعية"، أجاب بروشيفسكي. – أنت تكذب. الماركسية قادرة على كل شيء" (ص 194)، "لماذا يرقد لينين في موسكو سليمًا حتى الآن؟ إنه ينتظر منجزات العلم، ينتظر البعث والنشور. وبوسعي أن أجد للينين عملًا، أفاد جاشيف" (ص 194).
لم يسجنه ستالين ولكنه أرسل ابنه اليافع أفلاطون (15 عامًا) إلى سيبيريا فقضى نحبه بسبب إصابته بالسلّ (في الصورة بلاتونوف وزوجته وابنه أفلاطون عام 1936) |
وفي رواية "بحر الصِّبا" تناول بلاتونوف مسألة الحلم والواقع في مسيرة الثورة البلشفية، فنقلنا إلى سهوب الجنوب الشرقي من الاتحاد السوفياتي حيث يقع سوفخوز اللحوم والألبان رقم 101. والسوفخوز هو المزرعة الحكومية التي تربّى فيها الحيوانات الداجنة للاستفادة من حليبها ولحمها وجلدها. ويُنفى المغضوب عليهم من الموظفين والمشبوهي العقيدة السوفياتية إلى هذه المزارع لتأديبهم ومراقبتهم. أما الكولخوز فهو المزرعة التعاونية (القطاع الخاص).
إلى السوفخوز يصل الرفيق نيكولاي فيرمو المهندس الكهربائي وخرّيج المعهد الموسيقي المختص بآلات الطرب الشعبي ويقابل المدير أندريان أومريشيف الذي نُفي إلى الريف البعيد لأنه صاحب "قضية غامضة". وكان أصحاب المصائر الغامضة يُنشدون الرباعية التالية التي تعبّر عن كآبتهم: "ما أسرع الأيام/ تجري ولا تعود/ في دوامة الحياة/ اليوم عيدٌ وغدًا وفاةٌ" (ص 14). وتتالى العبارات التشاؤمية: "بلادنا، بلاد السعادة العسيرة" (ص 25)، مثلًا، و"البلشفية عوّدت السكرتير على تحليل الواقع وتجزئته دون رحمة" (ص 46). بيد أن هذه العبارات القاتمة تتواشج مع العبارات الداعية إلى النضال والصراع الطبقي: "ساهم فيرمو في تأجيج حماسة الحياة البروليتارية" (ص 18)، "سأعيش نقيًّا، قال أومريشيف، حتى قيام الشيوعية" (ص 25)، و"حان الوقت يا رفاق لبناء الاشتراكية ليس على الماشي وليس كما اتفق، بل بعناية الملايين وحرصهم" (ص 33)، و"لا بد من القضاء على جميع أعداء الكادحين والمبدعين" (ص 40).
"في رواية "بحر الصِّبا" صوّر لنا بلاتونوف البدايات العسيرة لتطبيق الاشتراكية، كما صوّر الصراعات المحتدمة بين البلاشفة المتناحرين الحالمين "بإبداع الإنسان البروليتاري المعدم"" |
وإلى جانب هذه المماحكات بين المنظّرين والتطبيقيين، يبرع بلاتونوف في وصف السمات الجسمية للرفيق سفياشيني، المسؤول عن محاصيل الأشجار المثمرة، قال: "جلس سفياشيني على المصطبة يلهث من ثقل جسمه الذي لم يكن بدينًا على أية حال، بل هو ضخم في مواضع العظام البارزة وفي جميع التجاويف المقعّرة والنتوءات المحدّبة المكيّفة لتحسس كل ما هو خارجي وغريب عليها. كان يبدو، وهو جالس، أضخم من جميع الواقفين، فيما كان مقاسه متوسط الحجم على وجه التقريب. نبضات قلبه مسموعة من بعيد، وأنفاسه متلاحقة، وعيناه تسلّطان على الآخرين نظرات رطبة بليلة تثير الانتباه" (ص 109).
وفي رواية "بحر الصِّبا" صوّر لنا بلاتونوف البدايات العسيرة لتطبيق الاشتراكية، كما صوّر الصراعات المحتدمة بين البلاشفة المتناحرين (ص 125) الحالمين "بإبداع الإنسان البروليتاري المعدم" (ص 139).
وفي رواية "الأشباح" (1935)، التي كان عنوانها الأصلي "الجان" (وهو لقب ساخر أطلقه الأغنياء على الفقراء)، ينقلنا بلاتونوف إلى تركمانستان أو تركمانيا التي ضمّها السوفيات إلى اتحادهم إبّان العشرينيات من القرن العشرين. ويصوّر لنا – كما قال عنها الشاعر يفتوشنكو – تطلّع شعب متخلف جدا ويتيم فقدَ الحياة والنور.
وُلد نزار شاغاتايف في فيافي تركمانيا. مات أبوه دون أن يعرفه. أمّه جولشتاي (أي زهرة الجبل) تركته، فهام على وجهه ولجأ إلى أحد الرعاة الذي سلّمه للسلطة السوفياتية التي كانت تجمع المتشردين والمنبوذين، فأخذته إلى موسكو وعلّمته إلى أن تخرّج من معهد الاقتصاد في العاصمة. فحنّ نزار إلى بلدته "وادي القصب" وإلى أمه التي ربما قضت نحبها. وفي حفلة التخرّج تعرّف على امرأة شابة اسمها فيرا صرّحت له بأنها حامل من رجل مقتول. ولكن نزار أصرّ على الزواج منها. وفي كلمة مدير مكتب الأحوال الشخصية نصحهما "بأن ينجبا أطفالًا كثيرين لكي يبقى جيل الثورة إلى الأبد" (ص 15). ثم استقل نزار القطار وعاد إلى تركمانيا، التي تُنعت ببلاد الجان أو الأشباح، كما يشير عنوان الرواية. "وتعني هذه الكلمة عندهم الروح أو الحياة العزيزة". وبما أن أصل نزار من منطقة وادي القصب التركمانية قررت لجنة الحزب المركزية إرساله إلى مسقط رأسه، أي إلى دلتا نهر أموداريا (جيحون) حيث يعيش خليط من التركمان والقرة قلباق والأوزبك والكازاخ والفرس والأكراد والبلوش وأشخاص آخرون نسوا أصلهم (ص 33). وكلّفته اللجنة بتحسين أوضاع سكان هذه المنطقة المتضورين جوعًا والمعدمين، ووصل إلى وادي القصب الواقعة على أطراف الصحراء وبدأ يستعيد ذكريات طفولته. والتقى بعجوز يعيش وحده في كوخ واسمه سفيان فعرفه. وسأله نزار: "هل تعرف لينين؟ - كلا، سمعت هذه الكلمة من عابر سبيل قال إن معناها جيّد" (ص 44). وقاد سفيان ضيفه الشاب إلى كوخ عجوز ضرير اسمه شيركيزوف يعيش مع ابنته الصغيرة أيديم التي ترعاه وتعدّ له الطعام، إن وُجد. فاصطحبها نزار وترك سفيان عند شيركيزوف، فقادته إلى أمه جولشتاي التي كانت تقيم وحيدة في كوخ قصبي محاط بعشرين كوخًا: "عيناها شاحبتان فاترتان لم تبقَ فيهما قوة البصر، وليس فيهما أي تعبير، كما في عينين ضريرتين صامتتين. فيما تدلّ قدماها الكبيرتان المتخشفتان على أنها عاشت كل هذه المدة حافية" (ص 63). وتعرّف نزار على جيران أمه الذين يعيشون من قلة الموت. "أحصى نزار أبناء قومه فوجدهم سبعة وأربعين شخصًا، والمرضى منهم عشرون... وكان الموت يختطف النساء قبل غيرهن، فهن يكدحن أكثر من الجميع" (ص 73). وقال له ممثل اللجنة التنفيذية في الناحية نور محمد إن عدد السكان كان مئة وعشرة أشخاص: "أنا أحفر القبور للموتى... سأظل أدفنهم حتى يموت آخرهم، وعندذاك سأذهب وأقول إنني أديت واجبي" (ص 74).
"رواية "الأشباح" هي رواية البؤس والغيبوبة والنسيان، رواية لا يعرف بطلها نزار "أن يفعل ليعلّم هذا الشعب الصغير الاشتراكية". ولكنه استطاع أن ينقذ تلك الهياكل العظمية التي تصطك ببعضها" |
وذهب إلى بلدة شيمهاي واشترى بعض الأدوية بمساعدة اللجنة الحزبية، وعرّج على مكتب البريد فاستلم رسالة من كسينيا ابنة فيرا تخبره فيها بأن أمها توفيت. واشترى أيضًا بضعة أرغفة من خبز الشعير وأسرع نحو ديار قومه. ولمح نور محمد يقود ما تبقّى من سكان قريته. وجمع نزار عددًا من الغنم الهائمة وأطعم قومه. ولكن الموت كان يحصد كل يوم عددًا من السكان. "لم يكن نزار يأسف على نفسه، فالشعب السوفياتي الكبير حي، وسوف يؤمّن على أية حال السعادة عمومًا للتعساء. لكن المؤسف أن شعب الجان الذي هو أكثر شعوب الاتحاد السوفياتي حاجة إلى الحياة والسعادة سيهلك" (ص 102).
وفتك الجوع والعطش بالقافلة الصغيرة المرتحلة ونشأ صراع بين نور محمد الانتهازي المصمم على الهرب إلى أفغانستان وبين نزار الذي آل على نفسه أن يطعم شعبه الشبحي من النسور التي كان يقتلها. وهاجمته النسور الجائعة فقتل خمسة منها تغذى بها قومه. ووصلوا منهكين إلى موقع بلدتهم الأصلية وراحوا يعجنون الطين ليبنوا أكواخهم. فبنوا أربعة منازل سكنها الجميع متراصّين على بعضهم بعضًا. وسافر نزار إلى "حيوى ليحصل على قرض غذائي لشعبه يكفيه لفصل الشتاء. وفعلًا عاد بشاحنتين محملتين بالأغذية والفوانيس والكيروسين والفؤوس والمعاول والثياب والكتب. وتوردت الخدود وعادت إليها الروح. ولكن جولشتاي ماتت. انتعشت القرية الصغيرة وانضافت ثلاثة دور إلى بيوتها.
قرر نزار العودة إلى موسكو مع أيديم ليعلّمها هناك. وبقيا في طشقند يومين تلقى نزار فيهما من اللجنة المركزية للحزب شكرًا وتقديرًا لعمله على إنقاذ القبيلة المتجولة. وحلق نزار ذقنه الكثة وارتدى بدلة جديدة وألبس أيديم ثيابًا أوزبكية اشتراها من طشقند. وأرسل برقية إلى كسينيا في موسكو يخبرها بقدومه. فاستقبلته في محطة القطارات وسلّمته مفاتيح شقة المرحومة أمها فيرا فسكنها مع أيديم.
رواية "الأشباح" هي رواية البؤس والغيبوبة والنسيان، رواية لا يعرف بطلها نزار "أن يفعل ليعلّم هذا الشعب الصغير الاشتراكية". ولكنه استطاع أن ينقذ تلك الهياكل العظمية التي تصطك ببعضها، كما يقول النص. هي رواية تلعب فيها الحياة البيولوجية البدائية دورًا كبيرًا: "لا طموحات سياسية أمام هذا الشعب المتخلف. ومع ذلك لن يهلك من الجوع والانقراض".
هي رواية برع فيها بلاتونوف في توصيف الإطار الجغرافي لتركمانستان وإثنياتها العديدة، وتعبّر خير تعبير عن "أحداث الواقع السوفياتي في العشرينيات والثلاثينيات، وتجسد مسيرة شعوب آسيا الوسطى المتخلفة آنذاك نحو الاشتراكية الموهومة ونحو الحياة والنور"، كما قال يفتوشنكو.
*****
لقد انتقد بلاتونوف النظام الستاليني من داخل المؤسسة الحزبية، فضيّق ستالين الخناق عليه، فلم تنشر أعماله إلا في عقد الستينيات خارج الاتحاد السوفياتي أولًا ثمّ فيه، ولكن النظام الستاليني، كما ذكرنا، اعتقل ابنه (البالغ 15 عامًا) بتهمه ملفقة تقول إن هذا الغلام سعى لإسقاط النظام السوفياتي فأمضى ثلاثة أعوام في سيبيريا عاد بعدها مصابًا بالسلّ وتوفي بعد الاعتقال بسنة.
يعدّ بلاتونوف من كبار الكتّاب الروس الذين انتقدوا النظام السوفياتي القمعي، من أمثال شولوخوف وبولغاكوف وماياكوفسكي وبلوك. وتتميّز أعماله بالسخرية المرّة التي لم يهضمها ستالين فاستوغده.