جائزة إليوت 2023: احتفاء بسوناتات عن الإنسانية بكل تناقضاتها
سناء عبد العزيز 19 يناير 2023
تغطيات
أنتوني جوزيف
شارك هذا المقال
حجم الخط
في حفل توزيع جوائز تي. إس. إليوت، الذي أقيم في مجموعة والاس بلندن، مساء الاثنين 16 يناير/ كانون الثاني 2023، أعلن رئيس لجنة التحكيم، جان سبراكلاند، عن الفائز النهائي من بين قائمة قصيرة ضمت 10 مجموعات شعرية، وصفها سبراكلاند بـأنها تتحدث إلينا "بقوة وبأصوات مميزة... ورغم قوة المنافسة، استقر اختيارنا على ديوان ’سوناتات من أجل ألبرت/ Sonnets for Albert’ للشاعر والروائي والموسيقي والأكاديمي أنتوني جوزيف، وهو ديوان رائع يحتفل بالإنسانية بجميع تناقضاتها، ويبث حياة جديدة في هذا الشكل المستقر".
كلما غبت أصبحت أكثر حضورًا
أدرج الديوان الصادر عن دار بلومزبري البريطانية في يونيو/ حزيران 2022، في قائمة فوروارد القصيرة قبل فوزه بجائزة إليوت المرموقة، وهو عبارة عن مجموعة مكثفة من السوناتات تتخذ من التجوّل في معرض الذاكرة بكل أروقته المكدسة بمشاهد شتى، وسيلة أخيرة للتصالح مع الذات. لدى جوزيف وفرة من صورٍ متناقضة ومعقدة لم تتآكل بفعل الزمن ما يجعلها مادة ثرية للتفاوض مع الماضي أو على الأقل استكشافه من زوايا متعددة. في هذا الماضي البعيد كان ابنًا لأب ترينيدادي اختار أن يغيب على نحو متعسف من حياة أولاده، فإذا بروح الشاعر تمنحه حضورًا طاغيًا في حياته وبعد رحيله. كتب أنتوني يقول: "كان حضور والدي ساحرًا وغامضًا. لقد كان غائبًا معظم فترة طفولتي، وهذا الغياب هو الذي جعله يحظى بحضور مهم في حياتي وفي تطوري كشاعر". في نفس الصدد يقول ديفيد ويتلي، في صحيفة الغارديان: "بعد كثير من الصمت والغياب في الحياة، يحاول جوزيف استرداد أبيه من الموت في سلسلة من السوناتات بإيقاع كاليبسو"؛ وهو أسلوب للموسيقى الكاريبية التي نشأت في ترينيداد وتوباغو في القرن التاسع عشر وانتشرت إلى بقية جزر الكاريبي الكاريبية وفنزويلا بحلول منتصف القرن العشرين.
وينطلق جوزيف في معرض صوره من هذا النبأ الحزين:
"حين سمعت بموت والدي،
حلقت لعشر ساعات في الشمس.
وفي صباح اليوم التالي، توشحت بالسواد".
جمل لم تكتمل
عبر السوناتات البسيطة والمكثفة إلى أقصى حد ممكن، تتوالى صور الأب في مراحل مختلفة من حياته، سواء تلك المرسومة بالكلمات المدهشة والمؤثرة أو الملتقطة بعدسة الكاميرا وموزعة على طول الديوان لتصاحب القصائد. ومن خلالها نتعرف على ملامح ألبرت الأب المفجر لكل مشاعر الأسى والحرمان، كما نتعرف على لمحات من حياته ونحن نتابع صورة ألبرت وأم جوزيف معًا يوم زفافهما، وألبرت وحده في المطبخ، أو على شاطئ خليج هولو، ثم جوزيف وهو يعانق والده الذي يصفه بمزارع "يقذف بذوره في كل أنحاء الجزيرة"، تاركًا نسله في طور التبرعم في أثناء سفره البعيد، ولا يستشعر خجلًا من وعوده الكاذبة لأطفاله، بل على العكس "تنفجر ضحكته مثل اشتعال عود ثقاب".
"عبر السوناتات البسيطة والمكثفة لأقصى حد ممكن، تتوالى صور الأب في مراحل مختلفة من حياة الشاعر، سواء تلك المرسومة بالكلمات المدهشة والمؤثرة أو الملتقطة بعدسة الكاميرا وموزعة على طول الديوان لتصاحب القصائد" |
تبدو الرؤية من زاوية جوزيف البالغ من العمر 56 عامًا، مماثلة تمامًا لما التقطته عينا الطفل المستديرتان وكأن تجربة الأبوة التي تفترض التسامح لم تتزحزح قيد أنملة عن إدانتها على عكس ما يحدث لنا جميعًا في تلك المرحلة العمرية حيث نلتمس لهما ألف عذر حين نرصد العلاقة من الجانب الآخر، ربما لهذا تشتد رغبته في ترك صورة لأطفاله أكثر إيجابية من صورته عن أبيه، حد التمني أن يتذكره بناته في المستقبل "باعتزاز كما تتذكر المخرجة والدها" ويغفرن له "إخفاقاته البشرية".
وماذا لو لم تكن إخفاقات بشرية
فرق كبير لا يمكننا التغاضي عنه عند طرح التسامح عن الهفوات الصغيرة في إطار الأبوة بمجرد الولوج إلى التجربة التي برغم ما تعدنا به من أواصر جديدة بقدر ما تنبهنا إلى إرثنا المشوش عن الأبوين، وهو ما لم يغفله جوزيف في سوناتاته "لقد سامحناكم طويلًا" لكن جوزيف لم يكن يقصد من ديوانه مجرد إحياء ذكرى علاقته المعقدة مع والده الراحل واستجوابها، بل امتدت رؤيته لتشمل الحدود الأوسع للذكورة الكاريبية والمفهوم الأوسع للأبوة والفقد والضياع وكيف يمكن للإبداع أن يستغل الذكرى كوسيلة للاستشفاء من كوابيس الطفولة بحيث لا نسمح لها بالاستنساخ في الأجيال القادمة:
كلما ذهبت في النوم، انحرفت سيارتي عن الطريق
وحين انفتح النعش على أرض الكنيسة
لم أكن مستعدًا لما رأيته.
في الخارج، استمرت الشمس في لفح الأماكن،
ونهر سان خوان في جريانه تجاه الجنوب.
ليس ثمة من رياح، ولا نسمة هواء في ذلك الوقت الحار،
باستثناء الهواء الدافئ على فمِ أبي...
تقول الناقدة جريس مكجونيغال "إن ’سوناتات من أجل ألبرت’ ستساعد الآخرين على التعامل مع حزنهم وخسارتهم، وهو ما يساعد ليس فقط جوزيف ولكن أيضًا القارئ الذي لا بد في نهاية المطاف من أن يحظى من الفن بيد العون".
طليعة الشتات
ولد جوزيف في بورت أوف سبين، ترينيداد، في نوفمبر/ تشرين الثاني 1966، وبدأ الكتابة عندما كان طفلًا صغيرًا منشغلًا بالسحر الذي تخلقه الكلمات، وكيف يمكنها التحليق من الصفحة، ليتحول الشعر إلى موسيقى، كتب يقول: "كانت مؤثراتي الرئيسية هي الترانيم الروحية للكنيسة المعمدانية التي حضرها أجدادي، وكاليبسو والسريالية الخام لكرنفال ترينيداد. عندما انتقلت إلى لندن في عام 1989، بدأت في دمج أنماط الكلام/ الإيقاعات الترينيدادية مع النظرية الأدبية الأوروبية الأميركية ما بعد الحداثة، وهو ما خلق نوعًا من طليعة للشتات".
في سبتمبر/ أيلول 2004، اختاره مجلس الفنون في إنكلترا كواحد من 50 كاتبًا أسودًا وآسيويًا قدموا مساهمات كبيرة في الأدب البريطاني المعاصر. وهو مؤلف خمسة دواوين منها "غير متناغم/ Desafinado"، "الهيكل/ Teragaton"، "الأوركسترا المطاطية/ Rubber Orchestras"، وثلاث روايات، "الأصول الأفريقية للأطباق الطائرة"، "السحر المتكرر"، "كيتش: سيرة ذاتية خيالية لأيقونة كاليبسو"، التي رشحت لعدة جوائز منها إنكور للجمعية الملكية للآداب. صدرت له ثمانية ألبومات لاقت استحسان النقاد، كما أنه يؤدي دور المغني الرئيسي في فرقته "The Spasm Band"، بالإضافة إلى عمله كمحاضر في الكتابة الإبداعية في كلية الملك بلندن.
حصل جوزيف على جائزة إليوت البالغة 25000 جنيه إسترليني، والتي شهدت هذا العام تسجيل 201 مشاركة، وتضمنت قائمتها القصيرة أعمال قوية لشعراء معروفين منها "الملاك الثالث عشر" لفيليب جروس الفائز السابق بالجائزة، و"سريع الزوال/ Ephemeron" لفيونا بنسون، و"إنكلترا الخضراء" لزافار كونيال، فضلًا عن خمسة دواوين تعد الأولى لأصحابها: "هادئ/ Quiet" لفيكتوريا أدوكوي، "زلاقة/ Slide" لمارك باجاك ، "بلد اللصوص" لجيمس كونور باترسون، "الغرفة بيننا/ The Room Between Us" لدينيس شاول، و"مانورزم/ Manorism" ليومي سودي. ويحصل كل شاعر من الكتاب المختار على 1500 جنيه إسترليني.
جدير بالذكر أن جائزة إليوت انطلقت في عام 1993، على يد فاليري، أرملة تي. إس. إليوت، وتُمنح سنويًا إلى أفضل مجموعة شعرية نُشرت في المملكة المتحدة وأيرلندا. وقد وصفها أندرو موشن بأنها "الجائزة التي يرغب معظم الشعراء في الفوز بها"، ووصفتها صحيفة الإندبندنت بأنها "أفضل جائزة شعر في العالم"، فهي الجائزة الوحيدة التي تتألف لجنة تحكيمها من شعراء فحسب. وقد ضمت لجنة هذا العام، إلى جانب سبراكلاند، الشاعرة هانا لوي، الحائزة على جائزة كوستا لعام 2021، والشاعر روجر روبنسون الحائز على جائزة تي. إس. إليوت لعام 2019.