تاريخ جديد للكذب خال من الدسم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تاريخ جديد للكذب خال من الدسم



    تاريخ جديد للكذب خال من الدسم
    سناء عبد العزيز 12 يناير 2023
    تغطيات
    خوان جاسينتو مونوز رينجيل
    شارك هذا المقال
    حجم الخط


    نشرت صحيفة في رومانيا خبرًا عن انهيار سقف إحدى محطات السكة الحديد أفضى إلى مقتل عشرات المسافرين وإصابة المئات، وقد سبب هذا الخبر المفزع الذي لم تتحرَّ الصحيفة قبل نشره في ذعر شديد بين المواطنين ودفع المسؤولين إلى المطالبة بمحاكمة رئيس تحرير الصحيفة فما كان منه إلا أن تدارك الموقف بذكاء يُحسد عليه، فنشر تكذيبًا سريعًا جاء فيه: "كان يجب على المسؤولين قبل أن يطالبوا بمحاكمتي أن يدققوا في قراءة صدور العدد الذي نشر فيه هذا الخبر فقد كان في الأول من أبريل/ نيسان"، ومن يومها دأبت الجريدة على نشر كذبة مماثلة في أول أبريل من كل عام في محاولة لتأكيد مصداقيتها، مستفيدة من اليوم الذي اعتاد الناس فيه إطلاق النكات وخداع بعضهم البعض... فهل سمحت البشرية لنفسها بيوم واحد في السنة لممارسة الكذب كنوع من التنفيس عن طبيعتها المجبولة على الخداع، أم أن للكذب دورًا آخر أغفلته الأديان عمدًا وعميت عنه مبادئ الأخلاق الحميدة؟!



    "أنا أكذب إذًا أنا موجود"...

    في كتابه "تاريخ الكذب"، الذي صدرت ترجمته الإنكليزية مع نهاية عام 2022 الفائت عن "بوليتي برس" المختصة بنشر الكتب الاجتماعية والإنسانية، يأخذنا الكاتب الأسباني خوان جاسينتو مونوز رينجيل في جولة فلسفية مثيرة للبهجة والقلق معًا، ما يجعلنا نفكر طويلًا كيف يمكن للحالتين أن تجتمعا في الآن ذاته؟ فالشعور بالقلق يعكر البهجة لا محالة، والبهجة بدورها لا تقبل أن يشوبها نغز من قلق، غير أن قصص الكذابين وألمعية المحتالين، لا سيما المحترفين منهم، كثيرًا ما أوقعتنا في تلك البلبلة منها مثلًا قصة الرجل الذي باع برج إيفل مرتين والملقب بأكثر المحتالين فى التاريخ، وبوريس جونسون الذي وصفه أحد أعضاء حزب المحافظين السابق بأنه "أفضل كاذب على الإطلاق" وهو ما يجعل مونوز رينجيل ينظر إلى الكذب باعتباره "أوضح علامة على الذكاء البشري"، حاشدًا أمثلة لا حصر لها لتبرير وجهة نظره الغامضة، بدءًا من نموذج الشاعر والفيلسوف الكريتي إبيميندس، الذي استيقظ من نوم عميق في القرن السادس قبل الميلاد ليعلن أن "جميع الكريتيين كاذبون"، وحتى عصرنا هذا بكل ما ينطوي عليه من مظاهر زائفة فاقت ما أفرزته البشرية عبر تاريخها كاملًا.

    ينطلق مونوز رينجيل في سرد تاريخه من مسلمة مثيرة للرعب، وهي أن الكذب غريزة فطرية لا يمكن الفكاك منها، فهي ليست بممارسة ينبغي علينا تجنبها كلما أمكن ذلك وفق ما تعلمناه من خلال التجربة، بل بالأحرى سلوك حتمي يمكن تبينه في كل من العلم والدين والسياسة وكذلك الفن والحب واللغة، ما يجعل تاريخ البشرية الموثق بعناية، ليس إلا ضربًا من الأفانين المختلقة والحيل البارعة!

    هذه الفرضية ليست بجديدة على الطرح، وسبق أن طلب المتشكك الفرنسي بيير شارون في أواخر القرن السادس عشر من قرائه أن يلاحظوا كيف تتكون البشرية جمعاء من الباطل والخداع، والحيل والأكاذيب، ومدى عدم الإخلاص والخطورة، ومدى التنكر ووضوح النفاق والرياء في بلاط الأمراء. في هذا الصدد يقول مونوز رينجيل: "كل ما نملكه من معلومات يستند إلى أكاذيب من شأنها أن تجعل "المعرفة" تسمية خاطئة أو مضللة، طالما أن كل شيء قد تأثر بميلنا للكذب، فتحول بدوره إلى كذبة، وما نسميه الحقيقة فهو شيء غير موجود، باستثناء بديهية ديكارت الشهيرة".

    كتاب "تاريخ الكذب" بالإنكليزية
    نزع القداسة عن العالم

    ولد مونوز رينجيل عام 1974 في ملقة واشتهر برواياته الفلسفية الساخرة مثل "المتخيل العظيم" و"حلم الآخر"، و"القاتل المراقي" التي وصفها النقاد بـالكوميديا المبهجة، وتظهر فيها أشباح آلان بو، وبروست، وفولتير، وتولستوي، وموليير، وغيرهم من المصابين بالوسواس المرضي في تاريخ الأدب والفلسفة. عرف أيضًا بقصصه القصيرة التي نال عنها أكثر من خمسين جائزة أدبية وطنية ودولية وترجمت أعماله إلى الإنكليزية والفرنسية والإيطالية واليونانية والفنلندية والتركية والعربية والروسية، ونشرت في أكثر من اثنتي عشرة دولة، ويعتبره النقاد أكثر أتباع تقليد إيتالو كالفينو وخورخي لويس بورخس.

    ولعل طابعه الأكاديمي ورغبته في إضفاء لمسات علمية على كتابه الجديد، على الرغم من عدم سعيه خلف مفهوم الكذب وعدم تطرقه إلى أساليب الخدع والحيل تاريخيًا كما نتوقع من هذا اللون من الكتب، بل هو بالأحرى يتناول الكذب "بالمعنى غير الأخلاقي"، فلا حاجة لنا هنا للاحتكام إلى الأخلاق وإلا أثقل كتابه بكثير من الدسم، بدلًا من ذلك، يبدو الكذب من منظور مؤلفه وسيلة حتمية للبقاء وضمانا للاندماج والتكيف وبالتالي "يجب تقديره كأداة لتمكين الناس من فهم الواقع"، لعل هذا كله ما جعله يستشهد على طول كتابه بشذرات من علم الأحياء التطوري وأمثلة من الحيوانات التي لديها القدرة على التنكر وتزخر بها الطبيعة وكأنها تقدم لنا نماذج جاهزة، كما حال الحبَّار، الذي يعتبر الخداع بالنسبة له استراتيجية بيولوجية، تتيح له تغيير لونه وتعديل أنسجته، وكامل هيكله الخارجي، وحتى إنشاء أنماط مشابهة لقاع البحر المتغير، حيث يمكنه بعد ذلك تحريكها على طول جسمه في الاتجاه المعاكس لذلك، "الذي يتحرك فيه بالفعل".
    "يأخذنا الكاتب الأسباني خوان جاسينتو مونوز رينجيل في جولة فلسفية مثيرة للبهجة والقلق معًا، ما يجعلنا نفكر طويلًا كيف يمكن للحالتين أن تجتمعا في الآن ذاته؟"
    يرى مونوز رينجيل أن التعامل مع أشخاص آخرين يعني البقاء في حالة دائمة من التخفي: "أنت تكذب كلما كنت مهذبًا"، وهو ما ذهب إليه كتّاب العصور الوسطى في إباحة الكذب بغرض حماية أنفسنا وحماية الدولة، وصكه الفيلسوف اليونانى أفلاطون تحت عنوان "الكذب النبيل"، لأنه يهدف إلى تدعيم العدالة والفضيلة. كما أباحه الإسلام في ثلاث حالات هي الإصلاح بين المتخاصمين، وخداع الأعداء في المعركة، وإرضاء الزوجة. وليس أدل على ذلك من حصان طروادة باعتباره أبرز خدعة حسمت المعركة بعد عشر سنين. على النقيض، رفض اللاهوتيون تلك الصيغة البراغماتية وجادلوا بأن المجتمع المدني يعتمد على افتراض أننا نتعامل بصدق وأمانة مع بعضنا البعض، وجادل الأسقف أوغسطينوس في أوائل القرن الخامس بأن كل كذبة هي خطيئة يجب تجنبها. لا يمكن أن يأتي الخير من الشر، وحتى الكذب الذي يقال بحسن النية هو خطايا مع ذلك.



    ألف وجه للحقيقة

    وصف النقاد عدسة مونوز رينجيل بأنها واسعة للغاية لدرجة أن الأشخاص الذين أسرهم الفينيقيون واستعبدوهم يوصفون بأنهم "يثقون بشكل مفرط في الأجانب - النوع الأكثر سذاجة، الذين ربما يتسكعون حول الطُعم، بدلًا من الانسحاب في مكان آمن". على الطرف الآخر، يمتدح نيتشه وفرويد وفرديناند دي سوسور وما بعد البنيويين لاتباعهم المنهج الشكي. غير أن الأكثر إثارة للجدل في رؤية مونوز رينجيل، نظرته إلى اللغة بوصفها تمثيلًا للواقع كنوعٍ من الكذب كما الاستعارة والفن والإبداع، فهل يحق لنا إدراج القصص والشعر تحت مفهوم الكذب؟ وكيف نفسر قول العرب الشهير "أجمل الشعر أكذبه"!

    شتان بين تعمد الكذب لأغراض مختلفة كالشهرة والمال واكتساب القوة والإعجاب وبين تحريفات الخيال للواقع بغرض الإبداع، يقول جان جاك روسو: "أن تكذب لمصلحة نفسك فهذا مستحيل، وأن تكذب لمصلحة الغير فهذا تدليس، وأن تكذب قصد إلحاق الأذى بالغير فهذا افتراء، وهذا هو أسوأ أصناف الكذب. وأن تكذب من دون أن تقصد مصلحة أو إلحاق الأذى بك أو بغيرك فأنت لا تعتبر كاذبًا، وما تقول ليس بكذب، بل مجرد تخيّل". فماذا لو كنت تتخيل بالفعل كما الحال مع الإبداع؟ هذا ما أغفله مونوز رينجيل في كتابه بلا شك، مثلما غابت عنه الفروق الكثيرة بين الكذب وعدم قول الحقيقة، أو حتى عدم التيقن منها في معظم الأمثلة، كأنه لم يطلع على كتاب "تاريخ الكذب" للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا الذي يوضح فيه استنادًا إلى قول مونتانى مدى زئبقية الكذب، وقدرته على المراوغة. يقول دريدا: "لو كان للكذب - كما هو شأن الحقيقة - وجه واحد لكانت العلاقات بيننا أحسن ممّا عليه، فيكفي أن نحمل على محمل صدق نقيض ما ينطق به الكاذب منّا. إلا أنّ نقيض الحقيقة له مئة ألف وجه ولا يمكن الإلمام كليًا بالمجال الذي يشغله".


يعمل...
X