سينما العالم في 2022: من المنصات ودور العرض
وائل سعيد
تغطيات
(Getty Images)
شارك هذا المقال
حجم الخط
لم تعد قاعات السينما هي الوسيلة الوحيدة لعرض فيلم سينمائي؛ فقد شهدت السنوات الأخيرة صراعًا في طريقه إلى التفاقم بين دور العرض السينمائي ومنصات العرض الرقمية، وبدأت أفلام كثيرة تتجه للعرض الأول من خلال المنصات، لتتفاقم إشكالية أخرى على مستوى فلسفة الفُرجة والمفاضلة بين برودة العالم الرقمي ودفء قاعات العرض الضاجة بالجمهور.
في كتابه الشهير "فن الفرجة على الأفلام" يُقارن المؤلف جوزيف م. بوجز بين فرجة قاعة السينما ومشاهدة المنزل عبر جهاز تلفاز 19 بوصة، وبرغم أن المقارنة عقدت في منتصف التسعينيات، قبل ظهور شاشات العرض العملاقة وأنظمة الـ "هوم سينما" الحديثة، إلا أن الفكرة الأكثر إلحاحًا الآن: "الأحداث الجارية على شاشة جهاز التلفزيون بعيدة بكثير، محبوسة في أمان شاشة 19 بوصة، غير قادرة على تهديدنا بحق، على جذبنا إلى حافة كراسينا المريحة، في دار العرض، الصورة أكبر حجمًا من الحياة".
عنكبوت إيران غير المقدس
في أواخر الستينيات انطلقت موجة جديدة من السينما الإيرانية كرد فعل على السينما الشائعة أو الشعبية آنذاك، التي لم يكن بوسعها أن تعكس الثقافة والذوق الفني الخاص بالمجتمع الإيراني، واحتفت هذه الموجه بعدد من الحركات السينمائية العالمية كالموجة الفرنسية أو الواقعية الايطالية الجديدة - وهما من أكثر الحركات تأثيرًا وتأثرًا في تاريخ السينما- وخلال عقد من الزمان وحتى الثورة الإسلامية سنة 1979، ظهرت أفلام لعدد من المخرجين شكلوا ملامح مغايرة وحديثة في تاريخ السينما الإيرانية مثل داريوش مهرجي وناصر تقفاي ومسعود كيمياي وبهرام بيزاي، وسرعان ما انضم إليهم محسن مخملباف وأمير نادري وعباس كيارستمي وجعفر بناهي.
يُعتبر علي عباسي من الجيل اللاحق على هؤلاء - مواليد 1981- وفي فيلمه الأخير "عنكبوت مقدس" يسير عباسي على نهج الواقعية الجديدة في السينما الإيرانية، لكنها واقعية مختلفة تفضح جوانب مظلمة لهيمنة السلطة، ربما هي واقعية أقسى من الواقع نفسه حيث يتم تسليط الضوء كمشرط الجراح على مشكلة مجتمعية قوامها الرجعية الفكرية والظلم المجتمعي الذي يُمارسه الأفراد على بعضهم البعض وهو العنكبوت الحقيقي الذي يُعشش في البيوت والحواري.
يتخذ الفيلم مادته من قصة حقيقية لأحد المهووسين بالفضيلة "سعيد حناي" القاتل الذي استهدف بائعات الهوى وبنات الليل موديًا بحياة 16 امرأة، يتحول القاتل في الفيلم إلي بطل قومي بعد القبض عليه فالأهالي والجيران يفتخرون بما فعل في سبيل حياة نظيفة بدون رذيلة، حتى أن الشرطة تتواطأ بدورها. يطرح الفيلم قسوة الحياة السفلية لمجموعة من المقهورات اللاتي لجأن لبيع أجسادهن جراء العوز والفقر المدقع، ولا ينسى أن يوثق ذلك في عدد من المشاهد القاسية والجريئة في نفس الوقت على السينما الإيرانية. حصلت بطلة الفيلم زهرا إبراهيمي على جائزة أفضل ممثلة خلال فعاليات النسخة الأخيرة من مهرجان "كان"، كما رشح الفيلم في نفس الدورة لعدة جوائز أخرى وعلى رأسها السعفة الذهبية.
عن النساء
في فيلمها الأول "بما أنهم صنعونا" تُقدم المخرجة مايم بياليك من تأليفها قصة عائلية عن فتاة تقضي الأيام الأخيرة مع والدها المحتضر، وفي فيلم "سام وكايت" يطرح المخرج دارين لو غالو قصة مُشابهة - من تأليفه أيضًا- عن شاب ينتقل للعيش مع والده المسن لرعايته، صلة التشابه في الفيلمين هو الأب الذي قام به الفنان داستن هوفمان، وبرغم أن الفيلمين من نوعية السينما التجارية الخفيفة إلا أنهما كانا بمثابة عودة للنجم القدير لجمهوره العريض، وما أكثر الأفلام الخفيفة في مسيرته.
حول فكرة الأب أيضًا تُقدم المخرجة الشابة شارلوت ويلس في فيلمها "بعد الشمس" مشاعر متقلبة للبطلة "صوفي" تتأرجح بين الفرح والحزن، حين تستعيد عطلة قديمة قضتها مع والدها وهي تحاول التوفيق بين الأب الذي تعرفه والرجل القابع داخل الصور الفوتوغرافية. في سياق مشابه من الرومانسية، تتجول المخرجة أوليفيا وايلد في فيلمها "لا تقلق يا حبيبي" داخل المشاعر الدفينة لربة منزل تتوجس من شر قادم، وكان التصوير السينمائي من أبرز العناصر الناجحة في الفيلم، أما عن السيناريو فهناك بعض أوجه التشابه مع أفلام سابقة مثل "زوجات ستيبفورد، 2004" على سبيل المثال.
بطلة أخرى تطالعنا من خلال فيلمين عن عالم الغموض والخيال هي الممثلة المميزة تيلدا سوينتون بطلة الفيلمين، الأول "الابنة الخالدة" إخراج البريطانية جوانا هوغ، وفيه نعيش مع فنانة تواجه هي وأمها المُسنة الماضي الغامض لعائلتهما في فندق مسكون. أما الفيلم الآخر "ثلاثة آلاف عام من الشوق" من تأليف وإخراج جورج ميلر فتقوم فيه تيلدا بدور باحثة وحيدة أثناء رحلتها لأسطنبول يظهر لها جني عملاق داخل حجرتها في الفندق عارضًا عليها تحقيق الأمنيات، ومن خلالها تتم مناقشة الرغبات والاحتياجات الإنسانية.
من الأفلام المختلفة أيضًا هذا العام الفيلم الأسباني "ألكاراس، كارلا سيمون" وفيه استعانت المخرجة بأشخاص حقيقيين لا ممثلين يُصارعون من أجل الحفاظ على أرضهم مما أضفى واقعية مميزة على أداء الفريق. وفي فيلمها "التوأم الصامت" تستند المخرجة البولندية أجنيسزكا سموكزينسكا لقصة حياة "جون وجنيفر جيبونز"؛ أحد أشهر التوائم في التاريخ البشري، عُرف عنهما الميل لعدم التواصل مع الأشخاص حتى أنهما امتنعا عن الكلام نهائيًا وصنعا لغة خاصة لا يفهمها سواهما، ورغم القصة المغرية إلا أن الفيلم يعتبر من أضعف أفلام هذا العام. فكرة ضعيفة أخرى تقدمها المخرجة كلير دينيس في فيلمها "كلا جانبي النصل" حول ثالوث "المرأة- الزوج- العشيق" وهو من أكثر التيمات الفرنسية استهلاكًا، رغم أن البطولة كانت للنجمة الجميلة جولييت بينوش إلا أنها لم تكن بوهجها المعهود سابقًا، ومن جانبها لم تقدم المخرجة جديدًا يُذكر، بالإضافة إلى فشلها في توظيف الجرعات الجنسية - الزائدة- في الفيلم بشكل فني أو درامي.
"التلاميذ" فيلم قصير تأليف وإخراج الايطالية أليس رورفاكر شارك في عدد من المهرجانات من ضمنها مهرجان تورونتو السينمائي الدولي. على مدار نصف ساعة ليس إلا، تطرح المخرجة تساؤلاتها حول بعض النزعات البشرية كالأنانية والتفاني، البراءة والجشع، الرغبة في الحرية والجمود الفكري وما شابه، من خلال يوم عيد الميلاد في إحدى المدارس الدينية لليتيمات اللاتي يعيشن في الدير بصحبة مجموعة من الراهبات. إنها قصة قديمة عن الحرب وويلاتها إلا أن المخرجة تنسج قصتها برهافة بعيدًا عن صوت البنادق والمدافع، وبحس فكاهي تُشير إلى السلبيات الفكرية والمجتمعية أوقات الحروب؛ حين يكون التضحية بكعكة كبيرة كتضحية صغيرة في سبيل الرب، وإيهام الفتيات أن كل من تتنازل عن نصيبها تنال الخلاص؛ وهي مجرد خدعة من رئيسة الدير للتقرب من الأسقف الكبير بإهدائه الكعكة، علمًا بأن مؤونة الدير تنفد في نفس الوقت التي تعاني فيه البلد من مجاعة؛ حتى الأهالي لا يمتلكون للتضرع يوم الميلاد سوى بعض ثمرات الجوافة أو زجاجة من الزيت.
يحمل الفيلم حسًا نسويًا مميزًا وسخرية لاذعة حول السلطة الكنسية التي هيمنت طويلًا في تشكيل وعي وفكر الأجيال الجديدة من الشباب، وقد اختارت العينة المطروحة أن تكون أنثى كونها الجانب الأكثر ضعفًا في المجتمع وبجانب ذلك فهي يتيمة ليس هناك سوى الفكر الصارم للدير لتشكيل وعيها. وتتمادى المخرجة في السخرية فتنهي فيلمها بفانتازيا مثلما بدأته في التتر واصفة الفيلم بـ "الأخرق"، حين تُخبرنا الفتيات بعدم معرفتهن بمغزى قصة الفيلم وعلى من يتعرف على ذلك المغزى أن يُخبرهن!
الإيرادات وشباك التذاكر
تراهن شركات عرض وتوزيع الأفلام على موسم أعياد الميلاد من كل عام، فهي فترة سانحة لاجتماع أفراد الأسرة لتوديع سنة واستقبال أخرى جديدة، ودائمًا ما كان طقس مشاهدة فيلم أحد أهم الطقوس لاحتفالات الكريسماس، ومن ثم فالطريق ممهد لدور العرض السينمائي أو للمنصات الرقمية نظرًا لارتفاع درجات البرودة في العديد من الأماكن. بحسب تقرير لمجلة فارايتي فإن ثلاثة أفلام استطاعت التغلب على الظروف الجوية وتحقيق إيرادات مرتفعة للغاية وكلها إصدار الشهر الجاري.
في المركز الثالث يأتي فيلم "أود الرقص مع شخص ما" عن السيرة الذاتية لمغنية البوب الشهيرة ويتني هيوستن التي وبرغم وفاتها منذ عقد تقريبًا ما تزال ألبوماتها تحقق أعلى المبيعات حتى الآن، والفيلم من إخراج كاسى ليمونز وبطولة الممثلة الشابة ناعومي آكي ويحملان نفس البشرة السمراء للشخصية الأصلية، رغم أنه قديمًا عانت هيوستن في حياتها من عدة أشياء كان من بينها أنها "ليست سمراء تمامًا"، نلمح في قصة حياتها مأساوية صنعت الفصل الأخير بوفاتها غارقة في بانيو الاستحمام إثر جرعة مخدرات.
رغم ذلك نسجت المخرجة بعض المحطات الشائعة في حياة البطلة بحس لا يخلو من الفكاهة، بداية من التحاق هيوستن كمغنية بجوقة الكنيسة، ثم علاقتها الحزينة بمغني البوب الشهير بوبي براون وتعاطي المخدرات، ولا مانع من بعض الإشارات لمثليتها أيضًا التي تحدثت عنها بعض الصحف الصفراء، مُتجاهلة تفاصيل كثيرة ربما لا تخدم سيناريو الفيلم الذي يُعد سيرة غنائية أو فنية أكثر منه سيرة ذاتية.
من سير المشاهير أيضًا فيلم "إلفيس" عن حياة المغني الأميركي إلفيس بريسلي، إخراج الأسترالي باز لورمان ويُشارك بطولة الفيلم النجم توم هانكس وشارك عرضه العالمي الأول بمهرجان كان في مايو/ أيار الماضي. أما الفيلم الأقل حظًا فكان "الشقراء" من إخراج النيوزلندي أندرو دومينيك، ويتناول قصة حياة أيقونة الإغراء العالمي مارلين مونرو، استضافت منصة نتفليكس العرض الأول للفيلم منذ شهرين ليواجه الفيلم عقب ذلك انتقادات عنيفة من جمهور مونرو، رغم أن بطلة الفيلم آنا دي أرماس صرحت في أكثر من مرة أن روح مونرو كانت مُصاحبة لهم أثناء تصوير الفيلم، حتى أنها كانت تُحرك الأشياء من حولهم اعتراضًا على مشاهد لا تروق لها.
في المركز الثاني يأتي فيلم التحريك "القط ذو الحذاء" إخراج جويل كروفورد وتذهب البطولة الصوتية للنجمين سلمى حايك وأنتونيو بانديراس. ولم يكن من الغريب أن يحتل الجزء الثاني من فيلم "أفاتار" المركز الأول في الإيرادات التي تجاوزت نصف مليار دولار حتى الآن، لما قدمه من وجبة بصرية مُبهرة وتقنيات عالية الجودة للمؤثرات المُجسمة وهو ما يجعلك في حاجة إلى ارتداء نظارة ثلاثية الأبعاد أثناء المُشاهدة. يعتبر الفيلم من أحدث الأفلام المعروضة لهذا العام، حيث لم تمضِ سوى أيام على عرضه الأول سواء عربيًا أو داخل الولايات المتحدة، وفيه يتفوق المخرج جيمس كاميرون على نفسه فيما قدمه في الجزء الأول من الفيلم في 2009، بداية من قصة السيناريو وهي أكثر تماسكًا عن ذي قبل كما أنها أكثر مرونة؛ حيث تركت مساحات درامية مفتوحة يمكن البناء عليها لاحقًا في السلسلة، وبالطبع يأتي التفوق التقني في المقدمة؛ ولا ننسى أن عقدًا من الزمن ويزيد قد مر على الجزء الأول تطورت فيه التقنيات والمؤثرات الرقمية للسينما تطورات سحرية.
ورغم طول مدة الفيلم - ما يزيد عن ثلاث ساعات، استطاع كاميرون تقييد المشاهد داخل مقعده في دار العرض، يخشى أن ترمش عينه فيفوته لمحة من المغامرة، وهي مغامرة حقيقية بكل المقاييس فالصوت على سبيل المثال لا يصدر عن سماعات القاعة بل يأتي من مكانه الدرامي الحقيقي داخل الفيلم، سيتحرك كفك لا إراديًا كي تصد سهمًا مطلوقًا أو رذاذا لمياه البحر، وفي الأعماق ستشعر بالمياه من حولك. بالاختصار تمكن المخرج من نقل المُشاهد من مقعده لداخل المشهد السينمائي، وهي رغبة قديمة قِدم الفن السينمائي ولا يوجد مُخرج في العالم لا يرغب في تأثير كهذا، ولكن حين فرغت من الفيلم وجدت أن ثمة مساحة - كبيرة- بين السينما كفن وبين حالة الإبهار الفائقة التي قدمها كاميرون، فالعقد المبرم سابقًا بين الفيلم والمُشاهد هناك الكثير من الأمور التي بوسعها أن تُغير بنوده.
وائل سعيد
تغطيات
(Getty Images)
شارك هذا المقال
حجم الخط
لم تعد قاعات السينما هي الوسيلة الوحيدة لعرض فيلم سينمائي؛ فقد شهدت السنوات الأخيرة صراعًا في طريقه إلى التفاقم بين دور العرض السينمائي ومنصات العرض الرقمية، وبدأت أفلام كثيرة تتجه للعرض الأول من خلال المنصات، لتتفاقم إشكالية أخرى على مستوى فلسفة الفُرجة والمفاضلة بين برودة العالم الرقمي ودفء قاعات العرض الضاجة بالجمهور.
في كتابه الشهير "فن الفرجة على الأفلام" يُقارن المؤلف جوزيف م. بوجز بين فرجة قاعة السينما ومشاهدة المنزل عبر جهاز تلفاز 19 بوصة، وبرغم أن المقارنة عقدت في منتصف التسعينيات، قبل ظهور شاشات العرض العملاقة وأنظمة الـ "هوم سينما" الحديثة، إلا أن الفكرة الأكثر إلحاحًا الآن: "الأحداث الجارية على شاشة جهاز التلفزيون بعيدة بكثير، محبوسة في أمان شاشة 19 بوصة، غير قادرة على تهديدنا بحق، على جذبنا إلى حافة كراسينا المريحة، في دار العرض، الصورة أكبر حجمًا من الحياة".
عنكبوت إيران غير المقدس
في أواخر الستينيات انطلقت موجة جديدة من السينما الإيرانية كرد فعل على السينما الشائعة أو الشعبية آنذاك، التي لم يكن بوسعها أن تعكس الثقافة والذوق الفني الخاص بالمجتمع الإيراني، واحتفت هذه الموجه بعدد من الحركات السينمائية العالمية كالموجة الفرنسية أو الواقعية الايطالية الجديدة - وهما من أكثر الحركات تأثيرًا وتأثرًا في تاريخ السينما- وخلال عقد من الزمان وحتى الثورة الإسلامية سنة 1979، ظهرت أفلام لعدد من المخرجين شكلوا ملامح مغايرة وحديثة في تاريخ السينما الإيرانية مثل داريوش مهرجي وناصر تقفاي ومسعود كيمياي وبهرام بيزاي، وسرعان ما انضم إليهم محسن مخملباف وأمير نادري وعباس كيارستمي وجعفر بناهي.
يُعتبر علي عباسي من الجيل اللاحق على هؤلاء - مواليد 1981- وفي فيلمه الأخير "عنكبوت مقدس" يسير عباسي على نهج الواقعية الجديدة في السينما الإيرانية، لكنها واقعية مختلفة تفضح جوانب مظلمة لهيمنة السلطة، ربما هي واقعية أقسى من الواقع نفسه حيث يتم تسليط الضوء كمشرط الجراح على مشكلة مجتمعية قوامها الرجعية الفكرية والظلم المجتمعي الذي يُمارسه الأفراد على بعضهم البعض وهو العنكبوت الحقيقي الذي يُعشش في البيوت والحواري.
يتخذ الفيلم مادته من قصة حقيقية لأحد المهووسين بالفضيلة "سعيد حناي" القاتل الذي استهدف بائعات الهوى وبنات الليل موديًا بحياة 16 امرأة، يتحول القاتل في الفيلم إلي بطل قومي بعد القبض عليه فالأهالي والجيران يفتخرون بما فعل في سبيل حياة نظيفة بدون رذيلة، حتى أن الشرطة تتواطأ بدورها. يطرح الفيلم قسوة الحياة السفلية لمجموعة من المقهورات اللاتي لجأن لبيع أجسادهن جراء العوز والفقر المدقع، ولا ينسى أن يوثق ذلك في عدد من المشاهد القاسية والجريئة في نفس الوقت على السينما الإيرانية. حصلت بطلة الفيلم زهرا إبراهيمي على جائزة أفضل ممثلة خلال فعاليات النسخة الأخيرة من مهرجان "كان"، كما رشح الفيلم في نفس الدورة لعدة جوائز أخرى وعلى رأسها السعفة الذهبية.
عن النساء
في فيلمها الأول "بما أنهم صنعونا" تُقدم المخرجة مايم بياليك من تأليفها قصة عائلية عن فتاة تقضي الأيام الأخيرة مع والدها المحتضر، وفي فيلم "سام وكايت" يطرح المخرج دارين لو غالو قصة مُشابهة - من تأليفه أيضًا- عن شاب ينتقل للعيش مع والده المسن لرعايته، صلة التشابه في الفيلمين هو الأب الذي قام به الفنان داستن هوفمان، وبرغم أن الفيلمين من نوعية السينما التجارية الخفيفة إلا أنهما كانا بمثابة عودة للنجم القدير لجمهوره العريض، وما أكثر الأفلام الخفيفة في مسيرته.
حول فكرة الأب أيضًا تُقدم المخرجة الشابة شارلوت ويلس في فيلمها "بعد الشمس" مشاعر متقلبة للبطلة "صوفي" تتأرجح بين الفرح والحزن، حين تستعيد عطلة قديمة قضتها مع والدها وهي تحاول التوفيق بين الأب الذي تعرفه والرجل القابع داخل الصور الفوتوغرافية. في سياق مشابه من الرومانسية، تتجول المخرجة أوليفيا وايلد في فيلمها "لا تقلق يا حبيبي" داخل المشاعر الدفينة لربة منزل تتوجس من شر قادم، وكان التصوير السينمائي من أبرز العناصر الناجحة في الفيلم، أما عن السيناريو فهناك بعض أوجه التشابه مع أفلام سابقة مثل "زوجات ستيبفورد، 2004" على سبيل المثال.
بطلة أخرى تطالعنا من خلال فيلمين عن عالم الغموض والخيال هي الممثلة المميزة تيلدا سوينتون بطلة الفيلمين، الأول "الابنة الخالدة" إخراج البريطانية جوانا هوغ، وفيه نعيش مع فنانة تواجه هي وأمها المُسنة الماضي الغامض لعائلتهما في فندق مسكون. أما الفيلم الآخر "ثلاثة آلاف عام من الشوق" من تأليف وإخراج جورج ميلر فتقوم فيه تيلدا بدور باحثة وحيدة أثناء رحلتها لأسطنبول يظهر لها جني عملاق داخل حجرتها في الفندق عارضًا عليها تحقيق الأمنيات، ومن خلالها تتم مناقشة الرغبات والاحتياجات الإنسانية.
"يطرح فيلم "عنكبوت مقدس" قسوة الحياة السفلية لمجموعة من المقهورات اللاتي لجأن لبيع أجسادهن جراء العوز والفقر المدقع، ولا ينسى أن يوثق ذلك في عدد من المشاهد القاسية والجريئة في نفس الوقت على السينما الإيرانية" |
"التلاميذ" فيلم قصير تأليف وإخراج الايطالية أليس رورفاكر شارك في عدد من المهرجانات من ضمنها مهرجان تورونتو السينمائي الدولي. على مدار نصف ساعة ليس إلا، تطرح المخرجة تساؤلاتها حول بعض النزعات البشرية كالأنانية والتفاني، البراءة والجشع، الرغبة في الحرية والجمود الفكري وما شابه، من خلال يوم عيد الميلاد في إحدى المدارس الدينية لليتيمات اللاتي يعيشن في الدير بصحبة مجموعة من الراهبات. إنها قصة قديمة عن الحرب وويلاتها إلا أن المخرجة تنسج قصتها برهافة بعيدًا عن صوت البنادق والمدافع، وبحس فكاهي تُشير إلى السلبيات الفكرية والمجتمعية أوقات الحروب؛ حين يكون التضحية بكعكة كبيرة كتضحية صغيرة في سبيل الرب، وإيهام الفتيات أن كل من تتنازل عن نصيبها تنال الخلاص؛ وهي مجرد خدعة من رئيسة الدير للتقرب من الأسقف الكبير بإهدائه الكعكة، علمًا بأن مؤونة الدير تنفد في نفس الوقت التي تعاني فيه البلد من مجاعة؛ حتى الأهالي لا يمتلكون للتضرع يوم الميلاد سوى بعض ثمرات الجوافة أو زجاجة من الزيت.
يحمل الفيلم حسًا نسويًا مميزًا وسخرية لاذعة حول السلطة الكنسية التي هيمنت طويلًا في تشكيل وعي وفكر الأجيال الجديدة من الشباب، وقد اختارت العينة المطروحة أن تكون أنثى كونها الجانب الأكثر ضعفًا في المجتمع وبجانب ذلك فهي يتيمة ليس هناك سوى الفكر الصارم للدير لتشكيل وعيها. وتتمادى المخرجة في السخرية فتنهي فيلمها بفانتازيا مثلما بدأته في التتر واصفة الفيلم بـ "الأخرق"، حين تُخبرنا الفتيات بعدم معرفتهن بمغزى قصة الفيلم وعلى من يتعرف على ذلك المغزى أن يُخبرهن!
الإيرادات وشباك التذاكر
تراهن شركات عرض وتوزيع الأفلام على موسم أعياد الميلاد من كل عام، فهي فترة سانحة لاجتماع أفراد الأسرة لتوديع سنة واستقبال أخرى جديدة، ودائمًا ما كان طقس مشاهدة فيلم أحد أهم الطقوس لاحتفالات الكريسماس، ومن ثم فالطريق ممهد لدور العرض السينمائي أو للمنصات الرقمية نظرًا لارتفاع درجات البرودة في العديد من الأماكن. بحسب تقرير لمجلة فارايتي فإن ثلاثة أفلام استطاعت التغلب على الظروف الجوية وتحقيق إيرادات مرتفعة للغاية وكلها إصدار الشهر الجاري.
في المركز الثالث يأتي فيلم "أود الرقص مع شخص ما" عن السيرة الذاتية لمغنية البوب الشهيرة ويتني هيوستن التي وبرغم وفاتها منذ عقد تقريبًا ما تزال ألبوماتها تحقق أعلى المبيعات حتى الآن، والفيلم من إخراج كاسى ليمونز وبطولة الممثلة الشابة ناعومي آكي ويحملان نفس البشرة السمراء للشخصية الأصلية، رغم أنه قديمًا عانت هيوستن في حياتها من عدة أشياء كان من بينها أنها "ليست سمراء تمامًا"، نلمح في قصة حياتها مأساوية صنعت الفصل الأخير بوفاتها غارقة في بانيو الاستحمام إثر جرعة مخدرات.
رغم ذلك نسجت المخرجة بعض المحطات الشائعة في حياة البطلة بحس لا يخلو من الفكاهة، بداية من التحاق هيوستن كمغنية بجوقة الكنيسة، ثم علاقتها الحزينة بمغني البوب الشهير بوبي براون وتعاطي المخدرات، ولا مانع من بعض الإشارات لمثليتها أيضًا التي تحدثت عنها بعض الصحف الصفراء، مُتجاهلة تفاصيل كثيرة ربما لا تخدم سيناريو الفيلم الذي يُعد سيرة غنائية أو فنية أكثر منه سيرة ذاتية.
"يحمل فيلم "التلاميذ" حسًا نسويًا مميزًا وسخرية لاذعة حول السلطة الكنسية التي هيمنت طويلًا في تشكيل وعي وفكر الأجيال الجديدة من الشباب" |
في المركز الثاني يأتي فيلم التحريك "القط ذو الحذاء" إخراج جويل كروفورد وتذهب البطولة الصوتية للنجمين سلمى حايك وأنتونيو بانديراس. ولم يكن من الغريب أن يحتل الجزء الثاني من فيلم "أفاتار" المركز الأول في الإيرادات التي تجاوزت نصف مليار دولار حتى الآن، لما قدمه من وجبة بصرية مُبهرة وتقنيات عالية الجودة للمؤثرات المُجسمة وهو ما يجعلك في حاجة إلى ارتداء نظارة ثلاثية الأبعاد أثناء المُشاهدة. يعتبر الفيلم من أحدث الأفلام المعروضة لهذا العام، حيث لم تمضِ سوى أيام على عرضه الأول سواء عربيًا أو داخل الولايات المتحدة، وفيه يتفوق المخرج جيمس كاميرون على نفسه فيما قدمه في الجزء الأول من الفيلم في 2009، بداية من قصة السيناريو وهي أكثر تماسكًا عن ذي قبل كما أنها أكثر مرونة؛ حيث تركت مساحات درامية مفتوحة يمكن البناء عليها لاحقًا في السلسلة، وبالطبع يأتي التفوق التقني في المقدمة؛ ولا ننسى أن عقدًا من الزمن ويزيد قد مر على الجزء الأول تطورت فيه التقنيات والمؤثرات الرقمية للسينما تطورات سحرية.
ورغم طول مدة الفيلم - ما يزيد عن ثلاث ساعات، استطاع كاميرون تقييد المشاهد داخل مقعده في دار العرض، يخشى أن ترمش عينه فيفوته لمحة من المغامرة، وهي مغامرة حقيقية بكل المقاييس فالصوت على سبيل المثال لا يصدر عن سماعات القاعة بل يأتي من مكانه الدرامي الحقيقي داخل الفيلم، سيتحرك كفك لا إراديًا كي تصد سهمًا مطلوقًا أو رذاذا لمياه البحر، وفي الأعماق ستشعر بالمياه من حولك. بالاختصار تمكن المخرج من نقل المُشاهد من مقعده لداخل المشهد السينمائي، وهي رغبة قديمة قِدم الفن السينمائي ولا يوجد مُخرج في العالم لا يرغب في تأثير كهذا، ولكن حين فرغت من الفيلم وجدت أن ثمة مساحة - كبيرة- بين السينما كفن وبين حالة الإبهار الفائقة التي قدمها كاميرون، فالعقد المبرم سابقًا بين الفيلم والمُشاهد هناك الكثير من الأمور التي بوسعها أن تُغير بنوده.