حصاد 2022 في القصة والشعر: ثورة شبابية؟
سناء عبد العزيز
تغطيات
شارك هذا المقال
حجم الخط
تتعرض القصة القصيرة منذ ردح إلى كثير من التجاهل مقارنة بالرواية، بالرغم من إمكاناتها الفائقة على التكثيف والاختزال، ودورها المشهود في تشييد أبرز الروايات تأثيرًا في الأدب، كما "عوليس" جويس التي ظهرت بذرتها في مجموعته "الدبلانيون" وكذلك "السيدة دالاوي" لفرجينيا وولف، لكن القصة التي ازدهرت أيما ازدهار قبل قرن تقريبًا، وفتحت شهية الصحف الكبرى على نشرها بشكل دوري لقراء متحمسين، باتت اليوم عرضة لاستنكاف الجميع، مع المد الكاسح للرواية، الأكثر حظًا ورواجًا في النشر والجوائز والتوزيع. مع كل ذلك، نلمح بارقة أمل في استقراء النتاج القصصي عبر العالم هذا العام، سيما وأن معظمه لشباب من جيل استثنائي تشبع بثقافات عدة، واضطر لخوض غمار التجربة بكل قسوتها في وقت مبكر للغاية.
من حضن الأسرة وإليها
ظهرت استحالة الولوج إلى عالم المراهقات مع انخراطهن التام في عوالم افتراضية يمكن تأمينها بوسائل يتعذر اختراقها، لكن الكاتبة الشابة سابا سامز أتاحت لنا عبر مجموعتها القصصية الجديدة "أرسل لي صورتك بملابسك الداخلية/ Send Nudes" صورًا لبعض ما يدور داخل تلك العوالم الموصدة بشيفرات سرية. في عشر قصص مبهرة، تغوص سابا في عالم الطفولة بكل تناقضاته لترصد هذه الفوضى غير المسبوقة بحكايات المراهقين الصغار ومزاجهم المضطرب والنساء اللائي يحاولن الغرق في الحياة العصرية بقواعدها المراوغة، فضلا عن قصص الغموض والصداقات السامة والغيرة والإجهاض، وتقليعة إرسال صور عارية، والإغواء، والرغبة، والعلاقة التي أصبحت أكثر تعقيدا مع الأم، واعتبارها ضالعة في جريمة القمع عبر التاريخ إلى جانب المكائد والحزن والفكاهة. هذه القصص القصيرة المرعبة والمبهرة التي تدور بين النوادي في فترة الإغلاق، ومراحيض الحانات، والمهرجانات الموسيقية المليئة بالحيوية والعطلات على الشواطئ، ترسم ببراعة "التضاريس الغادرة للنمو" فتبدو الشابات المتمردات في منتهى الهشاشة رغم شراستهن البادية.
داخل دهاليز العالم الافتراضي نفسها، يلقي الكاتب الواعد جيم كالدر ضوءًا باهرًا على الطريقة التي نعيش بها الآن في مجموعته "نظام المكافآت/ Reward System" من خلال شخصين تهيمن الوسائط المتعددة لهواتفهما الذكية ومتصفحاتهما ومنصة زووم على حياتهما؛ جوليا التي تعمل طاهية في مطعم عصري وتعاني من الشك الذاتي والتردد؛ وصديقها الجامعي نيك. هاتان الشخصيتان ينتقلان عبر المجموعة بأكملها ما يجعل تراكم القصص يكاد أن يشكل رواية مشظاة عن القرن الواحد والعشرين بكل ما يميزه من تكنولوجيا المعلومات وتجربة المستخدم وقوس العلاقة بين الرجل والمرأة عبر مواقع المواعدة وتدني الأجور وارتفاع تكاليف السكن والرغبة المكبوتة في العودة مرة أخرى لكنف الأسرة الآمن.
يكمن الهروب من الأسرة في فكرة الالتزام الذي بقدر ما يعد بكثير من الدعم والحب والأمان فإنه يفضي في كثير من الأحيان إلى تغيير المسار، وهو ما تدور حوله مجموعة الكاتب الأميركي مانويل مونيوز "العواقب/ Consequences" النابضة بالحياة، والتي ترسم صورة فريسنو في فترة الثمانينيات، وتصور حياة عمال المزارع المكسيكيين والمكسيكيين الأميركيين الذين يبذلون حياتهم في زراعة ما نضعه على طاولاتنا ولكنهم يعاملون على نحوٍ مخز حيث تقوم منظمات التهجير بجمعهم بلا رحمة، بالإضافة إلى النضالات اليومية والتحديات الهائلة التي تواجه عائلاتهم. تشمل المجموعة أيضا قصصا عن المثلية وأخرى عن الأسرة؛ كبارها وصغارها، وهم يواجهون تحديات صعبة أثناء استكشافهم لحياتهم، والضريبة المدفوعة في بند الالتزام، وما تدره من ربح لم يعد مضمونا في نهاية المطاف.
في معرض البحث عن لغة مشتركة
تقدم سينديا بانو في مجموعتها الأولى "بحثًا عن الثروة في مكان آخر/ Seeking Fortune Elsewhere" ثماني قصص مدهشة وحميمية عن أولئك الذين تركوا موطنهم الأصلي وعائلاتهم ونزحوا إلى أرض جديدة، مع التركيز على المهاجرين الهنود، وخاصة نساء التاميل وأطفالهن. وتستكشف هذه الحكايات، التي تدور أحداثها في أميركا وجنوب الهند، الانقسامات بين الأجيال والثقافات، والوحدة والترابط، والأسرة والانتماء والتجارب المعقدة والمتنوعة للمهاجرين من جنوب آسيا، بأسلوب حساس ينتهي دائما بنهايات صفرية على طريقة أنطون تشيخوف، وصفتها صحيفة التايمز بأنها قصص "ترتج من وجع الانفصال، ما يجعل القرارات الصغيرة في عالمنا الصغير ملموسة للغاية".
ويكرر جورنيك جوهال العبور الحتمي للغة في الكتابة من الشتات في مجموعته الأولى "نحن نتحرك/ We Move" حيث تتوافر الكلمات والتعابير الهندية والبنجابية والماراثية بغزارة عبر قصصه المقتطعة من الحياة البريطانية البنجابية ليتتبع فكرة التواصل والانفصال في مجتمعه الهجين بأسلوبه البسيط المخادع الذي يتحدى الصور النمطية الثقافية والتوقعات ونكهاته المتنوعة بين الحار واللاذع والفوار بما يشبه خلطات الأطباق الهندية. بريتي تتحدث الإنكليزية وجدتها تتحدث البنجابية، ولولا وجود الأم كوسيط بينهما ما استطاعا التواصل عبر لغة مشتركة. ترسم هذه القصص سردًا أوسع حول حركة أجيال متعددة من المهاجرين وتجمع بين الماضي والحاضر، المحلي والعالمي، لتوضيح الطرق المدهشة التي تحقق التواصل بيننا.
ساياكا موراتا واحدة من أكثر الكتاب الصاعدين ذيوعًا في اليابان اليوم. حصلت على عدة جوائز في بلدها قبل أن تترجم مجموعتها القصصية "الاحتفال بالحياة/ Life Ceremony" إلى الإنكليزية منتصف هذا العام. وهي مزيج مذهل من الغريب والشاذ والمقشعر للأبدان وهو ما ليس بغريب على المخيلة اليابانية، لكن هذه القصص الاثنتي عشرة التي تدور في اليابان الحديثة، أو المستقبل، أو في واقع بديل، تبدو شخصياتها شديدة الغرابة في عالم مخيف غير طبيعي لتحدثنا عن أشياء ملموسة وواقعية مثل الانتماء والأسرة والصداقة والجنس والعلاقات الحميمة، غير أن فكرة أن تكون إنسانًا على سجيتك تمامًا في عالمنا هي بالفعل جوهر هذه الحكايات التي فتنت القراء، حد أن تساءل أحدهم في مراجعة على جودريدز باستنكار شديد إثر قراءته هذه المجموعة "أنا مستغرب جدًا كيف أن الكاتبة ساياكا موراتا ما تمت ترجمة أي رواية لها إلى العربية حتى الآن؟!"
بين ندرة الشعر وغربته
قبل أن يحكم على الشاعر والقائد الصيني لوتشي بالموت في سنة 303م جراء خسارته في معركة، أرسى في مقطع شعري مؤثر مراحل ولادة قصيدة لا تتضمن قطبًا كهربائيًا واحدًا مغروزًا في أعماق حوامض الذات، بل قطبين اثنين؛ هما الإنسان والعالم إزاءه. فالقصيدة في رأيه لا تبدأ في العزلة بل في نطاق العلاقات، كما ورد في كتاب "التجربة والشعر" لأرشيبالد ماكليش، ترجمة سلمى الجيوسي، وهو ما يتضح جليًا في معظم الدواوين الصادرة هذا العام، منها ديوان "مانورالية/ Manorialism" للكاتب النيجيري يومي سود الذي تتراوح قصائده بين اللغة الإنكليزية واليوروبا وهي لغة رسمية في نيجيريا، أما المانورالية فتشير إلى المجتمع الهرمي الرأسمالي، على الرغم من تصريح الشاعر في حوار نشرته الغارديان البريطانية بأنها كلمة من قاموسه المخترع لأجل قصائده المعنية بفضح الاختلافات في معاملة القانون للبيض والسود في بريطانيا، وكشف الجانب العاطفي والهش للذكورة السوداء التي غالبًا ما تتآكل وتمحوها القوالب النمطية الثقافية. إنها مجموعة من قصائد الغضب كتبت كي تقرأ بصوت مسموع ومباشر دون توريات أو زخارف كلامية، لكن قوتها تكمن في أجوائها المشحونة بالعاطفة والشغف والقلق من لحظتنا التاريخية، كالخوف من المواجهات غير المبررة مع الشرطة، وعنصرية النظام، والإساءات التي عانت منها شخصيات سوداء عامة. وهو ما أغراه بالاقتباس من لغة الأخبار كتعليق عن الإبادة الجماعية وغيرها من الانتهاكات. إلى جانب السياسة، هناك مجموعة من قصائد الحزن والحداد عن الأمهات اللاتي علمن أن أبناءهن السود الصغار قد قُتلوا في الحجز، ومشاعر يومي المفرطة تجاه وفاة عمته الكبرى بسبب السرطان، والتي يطلق عليها في ديوانه "مامي الكبرى".
يتذكرك الشهود مرهقًا وملطخًا بالدماء
ينظرون إلى مفاصل أصابعك المتورمة قائلين
ماذا حدث؟ بشكل متكرر
وكأنك لعبة جرحت بغرض الترفيه...
نساء موشومات عبر التاريخ
تستخدم البريطانية هيلين مورت في ديوانها الثالث "المرأة الموضحة بالرسم/ The Illustrated Woman"، الذي رشح في قائمة جائزة فوروارد القصيرة، فن الجسد لرصد تداعيات النظرة الذكورية من خلال استكشاف الوشم عبر التاريخ، ولكن بشكل مختلف، فأحيانا يمثل تذكارًا لأحداث مؤلمة وأحيانًا محببة، في قصيدة حب، شبهت حبها بالمناظر الطبيعية التي تقف فيها الأشجار على حافة المياه مثل غواصين مترددين. في مطر ليلي، قالت إنها عندما تدخل الغرفة، تكون "شبيهة بالغزلان، مترددة/ ثم حاسمة". هناك حس خجول يسري في هذه الكتابة قبل أن تتحول إلى مقاطع حاسمة وأكيدة، تستكنه اختيار بعض النساء لبس قلوبهن على بشرتهن. تجعل هيلين مورت الجسد في حالة من الرغبة والخزي والحب والألم عبر المناظر الطبيعية لخلق صورة مبهرة لبشرتنا كشيء يخصنا فقط ويتبدى في أجساد النساء، وأجساد المراهقين المفعمة بالشهوة، أجسام الحوامل المتقلبة، أجسام الشيخوخة المتعثرة.
"الشكل الحبري المنزوع من مفصل
عمودي الفقري، كان أول وشم لي
قصدت أن يصبح بابًا مغلقًا
حين أدير لك ظهري"...
في سلسلة من الشذرات الفلسفية التي تقرأ كقطع موسيقية يتشكل الديوان الثالث للشاعرة البريطانية إميلي بيري، "وقت لا يطاله الإنهاك"، تلك الفترة الزمنية ذات الغشاء شديد المسامية بين الحلم واليقظة مع تباشير الفجر حيث يتبدد كل شيء في نصف الضوء ولكنه لا يضيع مطلقا "لا توجد حياة أخرى، بيد أن هناك الكثير من حيوات عدة... شكرا لك/ أنقذتني بتلك الكلمات"...
"أتوقع شيئا ما
كمن يرتدي قميصًا من الحرير
اللغة حرونة جدًا، تماما مثل الألم".
في قصيدة أخرى، تنظر إلى مشكلة اللغة التي تتعثر في التعبير عن الحقيقة بشكل مختلف: "سأخبرك بالتفصيل عمَّ اعتراني./ كيف يمكن لهذا الفيض من الكلمات/ أن يكون مقفرًا إلى هذا الحد"...
من بين الدواوين الأولى الجديرة بالملاحظة "هدوء/ Quiet"، للشاعرة الأفريقية، بريطانية المولد، فيكتوريا أدوكوي بولي، التي تمزج بين التفكير النسوي للمرأة الملونة والنبرة الحاسمة في قصائد تتميز ببصيرة ثاقبة حول دور الصمت في العالم، وأهمية "الهدوء" في إنتاج أشكال من المجتمع والمقاومة والحب:
لا أحد محصن ضد غروره يتولى القيادة
الحلم شكل من إنتاج المعرفة
ولا يريدوننا أن نحصل عليه بهذه السهولة
رغم كون رأسك وأنت فيه
تستلقي على وسادة!
صدرت هذا العام أيضًا أنطولوجيا شعرية من تحرير ماري جان تشان وأندرو ماكميلان بعنوان "100 قصيدة غريبة/ 100 Queer Poems"، وهي احتفال بأصوات معاصرة مثيرة وشعراء حالمين من الماضي، بمن فيهم إليزابيث بيشوب، ولانجستون هيوز، وأوشن فونج، وكارول آن دافي، وكاي تيمبيست، وغيرهم الكثير. توفر هذه المختارات المنتقاة بعناية من قبل شاعرين معروفين، نطاقًا عريضًا عن الشعر والحياة بدءًا من القرن العشرين حتى يومنا هذا عبر قصائدها المائة التي تتطرق إلى الطفولة والمراهقة وإقامة منازل وعلاقات جديدة، وتنتقل من الحياة الحضرية إلى العالم الطبيعي، ومن استكشاف الماضي إلى كيفية إيجاد ذواتنا واكتساب القدرة على إعادة تشكيلها في المستقبل.
سناء عبد العزيز
تغطيات
شارك هذا المقال
حجم الخط
تتعرض القصة القصيرة منذ ردح إلى كثير من التجاهل مقارنة بالرواية، بالرغم من إمكاناتها الفائقة على التكثيف والاختزال، ودورها المشهود في تشييد أبرز الروايات تأثيرًا في الأدب، كما "عوليس" جويس التي ظهرت بذرتها في مجموعته "الدبلانيون" وكذلك "السيدة دالاوي" لفرجينيا وولف، لكن القصة التي ازدهرت أيما ازدهار قبل قرن تقريبًا، وفتحت شهية الصحف الكبرى على نشرها بشكل دوري لقراء متحمسين، باتت اليوم عرضة لاستنكاف الجميع، مع المد الكاسح للرواية، الأكثر حظًا ورواجًا في النشر والجوائز والتوزيع. مع كل ذلك، نلمح بارقة أمل في استقراء النتاج القصصي عبر العالم هذا العام، سيما وأن معظمه لشباب من جيل استثنائي تشبع بثقافات عدة، واضطر لخوض غمار التجربة بكل قسوتها في وقت مبكر للغاية.
من حضن الأسرة وإليها
ظهرت استحالة الولوج إلى عالم المراهقات مع انخراطهن التام في عوالم افتراضية يمكن تأمينها بوسائل يتعذر اختراقها، لكن الكاتبة الشابة سابا سامز أتاحت لنا عبر مجموعتها القصصية الجديدة "أرسل لي صورتك بملابسك الداخلية/ Send Nudes" صورًا لبعض ما يدور داخل تلك العوالم الموصدة بشيفرات سرية. في عشر قصص مبهرة، تغوص سابا في عالم الطفولة بكل تناقضاته لترصد هذه الفوضى غير المسبوقة بحكايات المراهقين الصغار ومزاجهم المضطرب والنساء اللائي يحاولن الغرق في الحياة العصرية بقواعدها المراوغة، فضلا عن قصص الغموض والصداقات السامة والغيرة والإجهاض، وتقليعة إرسال صور عارية، والإغواء، والرغبة، والعلاقة التي أصبحت أكثر تعقيدا مع الأم، واعتبارها ضالعة في جريمة القمع عبر التاريخ إلى جانب المكائد والحزن والفكاهة. هذه القصص القصيرة المرعبة والمبهرة التي تدور بين النوادي في فترة الإغلاق، ومراحيض الحانات، والمهرجانات الموسيقية المليئة بالحيوية والعطلات على الشواطئ، ترسم ببراعة "التضاريس الغادرة للنمو" فتبدو الشابات المتمردات في منتهى الهشاشة رغم شراستهن البادية.
"القصة التي ازدهرت أيما ازدهار قبل قرن تقريبًا، وفتحت شهية الصحف الكبرى على نشرها بشكل دوري لقراء متحمسين، باتت اليوم عرضة لاستنكاف الجميع، مع المد الكاسح للرواية، الأكثر حظًا ورواجًا في النشر والجوائز والتوزيع" |
يكمن الهروب من الأسرة في فكرة الالتزام الذي بقدر ما يعد بكثير من الدعم والحب والأمان فإنه يفضي في كثير من الأحيان إلى تغيير المسار، وهو ما تدور حوله مجموعة الكاتب الأميركي مانويل مونيوز "العواقب/ Consequences" النابضة بالحياة، والتي ترسم صورة فريسنو في فترة الثمانينيات، وتصور حياة عمال المزارع المكسيكيين والمكسيكيين الأميركيين الذين يبذلون حياتهم في زراعة ما نضعه على طاولاتنا ولكنهم يعاملون على نحوٍ مخز حيث تقوم منظمات التهجير بجمعهم بلا رحمة، بالإضافة إلى النضالات اليومية والتحديات الهائلة التي تواجه عائلاتهم. تشمل المجموعة أيضا قصصا عن المثلية وأخرى عن الأسرة؛ كبارها وصغارها، وهم يواجهون تحديات صعبة أثناء استكشافهم لحياتهم، والضريبة المدفوعة في بند الالتزام، وما تدره من ربح لم يعد مضمونا في نهاية المطاف.
في معرض البحث عن لغة مشتركة
تقدم سينديا بانو في مجموعتها الأولى "بحثًا عن الثروة في مكان آخر/ Seeking Fortune Elsewhere" ثماني قصص مدهشة وحميمية عن أولئك الذين تركوا موطنهم الأصلي وعائلاتهم ونزحوا إلى أرض جديدة، مع التركيز على المهاجرين الهنود، وخاصة نساء التاميل وأطفالهن. وتستكشف هذه الحكايات، التي تدور أحداثها في أميركا وجنوب الهند، الانقسامات بين الأجيال والثقافات، والوحدة والترابط، والأسرة والانتماء والتجارب المعقدة والمتنوعة للمهاجرين من جنوب آسيا، بأسلوب حساس ينتهي دائما بنهايات صفرية على طريقة أنطون تشيخوف، وصفتها صحيفة التايمز بأنها قصص "ترتج من وجع الانفصال، ما يجعل القرارات الصغيرة في عالمنا الصغير ملموسة للغاية".
ويكرر جورنيك جوهال العبور الحتمي للغة في الكتابة من الشتات في مجموعته الأولى "نحن نتحرك/ We Move" حيث تتوافر الكلمات والتعابير الهندية والبنجابية والماراثية بغزارة عبر قصصه المقتطعة من الحياة البريطانية البنجابية ليتتبع فكرة التواصل والانفصال في مجتمعه الهجين بأسلوبه البسيط المخادع الذي يتحدى الصور النمطية الثقافية والتوقعات ونكهاته المتنوعة بين الحار واللاذع والفوار بما يشبه خلطات الأطباق الهندية. بريتي تتحدث الإنكليزية وجدتها تتحدث البنجابية، ولولا وجود الأم كوسيط بينهما ما استطاعا التواصل عبر لغة مشتركة. ترسم هذه القصص سردًا أوسع حول حركة أجيال متعددة من المهاجرين وتجمع بين الماضي والحاضر، المحلي والعالمي، لتوضيح الطرق المدهشة التي تحقق التواصل بيننا.
ساياكا موراتا واحدة من أكثر الكتاب الصاعدين ذيوعًا في اليابان اليوم. حصلت على عدة جوائز في بلدها قبل أن تترجم مجموعتها القصصية "الاحتفال بالحياة/ Life Ceremony" إلى الإنكليزية منتصف هذا العام. وهي مزيج مذهل من الغريب والشاذ والمقشعر للأبدان وهو ما ليس بغريب على المخيلة اليابانية، لكن هذه القصص الاثنتي عشرة التي تدور في اليابان الحديثة، أو المستقبل، أو في واقع بديل، تبدو شخصياتها شديدة الغرابة في عالم مخيف غير طبيعي لتحدثنا عن أشياء ملموسة وواقعية مثل الانتماء والأسرة والصداقة والجنس والعلاقات الحميمة، غير أن فكرة أن تكون إنسانًا على سجيتك تمامًا في عالمنا هي بالفعل جوهر هذه الحكايات التي فتنت القراء، حد أن تساءل أحدهم في مراجعة على جودريدز باستنكار شديد إثر قراءته هذه المجموعة "أنا مستغرب جدًا كيف أن الكاتبة ساياكا موراتا ما تمت ترجمة أي رواية لها إلى العربية حتى الآن؟!"
بين ندرة الشعر وغربته
قبل أن يحكم على الشاعر والقائد الصيني لوتشي بالموت في سنة 303م جراء خسارته في معركة، أرسى في مقطع شعري مؤثر مراحل ولادة قصيدة لا تتضمن قطبًا كهربائيًا واحدًا مغروزًا في أعماق حوامض الذات، بل قطبين اثنين؛ هما الإنسان والعالم إزاءه. فالقصيدة في رأيه لا تبدأ في العزلة بل في نطاق العلاقات، كما ورد في كتاب "التجربة والشعر" لأرشيبالد ماكليش، ترجمة سلمى الجيوسي، وهو ما يتضح جليًا في معظم الدواوين الصادرة هذا العام، منها ديوان "مانورالية/ Manorialism" للكاتب النيجيري يومي سود الذي تتراوح قصائده بين اللغة الإنكليزية واليوروبا وهي لغة رسمية في نيجيريا، أما المانورالية فتشير إلى المجتمع الهرمي الرأسمالي، على الرغم من تصريح الشاعر في حوار نشرته الغارديان البريطانية بأنها كلمة من قاموسه المخترع لأجل قصائده المعنية بفضح الاختلافات في معاملة القانون للبيض والسود في بريطانيا، وكشف الجانب العاطفي والهش للذكورة السوداء التي غالبًا ما تتآكل وتمحوها القوالب النمطية الثقافية. إنها مجموعة من قصائد الغضب كتبت كي تقرأ بصوت مسموع ومباشر دون توريات أو زخارف كلامية، لكن قوتها تكمن في أجوائها المشحونة بالعاطفة والشغف والقلق من لحظتنا التاريخية، كالخوف من المواجهات غير المبررة مع الشرطة، وعنصرية النظام، والإساءات التي عانت منها شخصيات سوداء عامة. وهو ما أغراه بالاقتباس من لغة الأخبار كتعليق عن الإبادة الجماعية وغيرها من الانتهاكات. إلى جانب السياسة، هناك مجموعة من قصائد الحزن والحداد عن الأمهات اللاتي علمن أن أبناءهن السود الصغار قد قُتلوا في الحجز، ومشاعر يومي المفرطة تجاه وفاة عمته الكبرى بسبب السرطان، والتي يطلق عليها في ديوانه "مامي الكبرى".
يتذكرك الشهود مرهقًا وملطخًا بالدماء
ينظرون إلى مفاصل أصابعك المتورمة قائلين
ماذا حدث؟ بشكل متكرر
وكأنك لعبة جرحت بغرض الترفيه...
نساء موشومات عبر التاريخ
تستخدم البريطانية هيلين مورت في ديوانها الثالث "المرأة الموضحة بالرسم/ The Illustrated Woman"، الذي رشح في قائمة جائزة فوروارد القصيرة، فن الجسد لرصد تداعيات النظرة الذكورية من خلال استكشاف الوشم عبر التاريخ، ولكن بشكل مختلف، فأحيانا يمثل تذكارًا لأحداث مؤلمة وأحيانًا محببة، في قصيدة حب، شبهت حبها بالمناظر الطبيعية التي تقف فيها الأشجار على حافة المياه مثل غواصين مترددين. في مطر ليلي، قالت إنها عندما تدخل الغرفة، تكون "شبيهة بالغزلان، مترددة/ ثم حاسمة". هناك حس خجول يسري في هذه الكتابة قبل أن تتحول إلى مقاطع حاسمة وأكيدة، تستكنه اختيار بعض النساء لبس قلوبهن على بشرتهن. تجعل هيلين مورت الجسد في حالة من الرغبة والخزي والحب والألم عبر المناظر الطبيعية لخلق صورة مبهرة لبشرتنا كشيء يخصنا فقط ويتبدى في أجساد النساء، وأجساد المراهقين المفعمة بالشهوة، أجسام الحوامل المتقلبة، أجسام الشيخوخة المتعثرة.
"الشكل الحبري المنزوع من مفصل
عمودي الفقري، كان أول وشم لي
قصدت أن يصبح بابًا مغلقًا
حين أدير لك ظهري"...
في سلسلة من الشذرات الفلسفية التي تقرأ كقطع موسيقية يتشكل الديوان الثالث للشاعرة البريطانية إميلي بيري، "وقت لا يطاله الإنهاك"، تلك الفترة الزمنية ذات الغشاء شديد المسامية بين الحلم واليقظة مع تباشير الفجر حيث يتبدد كل شيء في نصف الضوء ولكنه لا يضيع مطلقا "لا توجد حياة أخرى، بيد أن هناك الكثير من حيوات عدة... شكرا لك/ أنقذتني بتلك الكلمات"...
"أتوقع شيئا ما
كمن يرتدي قميصًا من الحرير
اللغة حرونة جدًا، تماما مثل الألم".
في قصيدة أخرى، تنظر إلى مشكلة اللغة التي تتعثر في التعبير عن الحقيقة بشكل مختلف: "سأخبرك بالتفصيل عمَّ اعتراني./ كيف يمكن لهذا الفيض من الكلمات/ أن يكون مقفرًا إلى هذا الحد"...
من بين الدواوين الأولى الجديرة بالملاحظة "هدوء/ Quiet"، للشاعرة الأفريقية، بريطانية المولد، فيكتوريا أدوكوي بولي، التي تمزج بين التفكير النسوي للمرأة الملونة والنبرة الحاسمة في قصائد تتميز ببصيرة ثاقبة حول دور الصمت في العالم، وأهمية "الهدوء" في إنتاج أشكال من المجتمع والمقاومة والحب:
لا أحد محصن ضد غروره يتولى القيادة
الحلم شكل من إنتاج المعرفة
ولا يريدوننا أن نحصل عليه بهذه السهولة
رغم كون رأسك وأنت فيه
تستلقي على وسادة!
صدرت هذا العام أيضًا أنطولوجيا شعرية من تحرير ماري جان تشان وأندرو ماكميلان بعنوان "100 قصيدة غريبة/ 100 Queer Poems"، وهي احتفال بأصوات معاصرة مثيرة وشعراء حالمين من الماضي، بمن فيهم إليزابيث بيشوب، ولانجستون هيوز، وأوشن فونج، وكارول آن دافي، وكاي تيمبيست، وغيرهم الكثير. توفر هذه المختارات المنتقاة بعناية من قبل شاعرين معروفين، نطاقًا عريضًا عن الشعر والحياة بدءًا من القرن العشرين حتى يومنا هذا عبر قصائدها المائة التي تتطرق إلى الطفولة والمراهقة وإقامة منازل وعلاقات جديدة، وتنتقل من الحياة الحضرية إلى العالم الطبيعي، ومن استكشاف الماضي إلى كيفية إيجاد ذواتنا واكتساب القدرة على إعادة تشكيلها في المستقبل.