الفنّ والخلاص الفرديّ في غياب الخلاص الجماعيّ
جورج كعدي
تغطيات
سقوط العمالقة (جاكوب جورداينس)
شارك هذا المقال
حجم الخط
لم يكن الكبير غوته مؤمنًا بالخلاص الجماعيّ، بل بخلاص الفرد. ومثله كثر من الأدباء والفلاسفة والفنانين آمنوا بذلك، نذكر منهم النحّات المشهور أوغست رودان̸ Rodin، القائل "إنّ الفنّ يدلّ البشر على علّة وجودهم، يكشف لهم معنى الحياة، يضيء لهم قدرهم، ويرشدهم بالتالي في الوجود. الفن أسمى المهمّات الإنسانيّة لكونه تمرينًا للفكر الساعي إلى فهم العالم وجعله مفهومًا للآخرين". وترى الرسّامة الأميركية أودري فلاك ̸ Flack "أن الفنّ احتجاج على الموت"، فيما يعتبره الرسام الخالد هنري ماتيس̸ Matisse هربًا من الواقع. ويؤكّد الممثل الأميركي ديمتري مارتن على أنّ العالم بلا فنّ لا يساوي شيئًا، بينما يرى الكاتب المسرحيّ الأميركيّ الكبير إدوارد آلبي̸ Albee بنَفَسه الساخر المرّ "أنّ الحياة تقلّد الفنّ إنّما على نحو سيّئ". وحين سئل العبقريّ الفريد والمجدّد بيكاسو لِمَ بعض لوحاته غير مفهومة؟ أجاب: "العالم بلا معنى. لِمَ تُريدون منّي أن أرسم لوحات ذات معنى؟!". وحسم السينمائيّ الروسيّ المجلّي أندريه تاركوفسكي رؤيته بالقول "إنّ العلم للتفكير، والفنّ للشعور". ومن أجمل ما قرأت تعريف الكاتب والفيلسوف البرتغالي المعروف والفذّ فرناندو بيسوا̸ Pessoa القائل: "لماذا الفنّ بهذا الجمال؟ لأن لا غاية من ورائه. ولماذا الحياة بهذا القبح؟ لأنّها مليئة بالغايات والأغراض والأهداف". أمّا الرائد فرويد فيقول: "لعلّ الاستمتاع بالفنّ هو قمّة اللذّات المتخيّلة. لا يقدّر الناس الفن كمصدر من مصادر السعادة والعزاء في الحياة. الفن يؤثّر فينا، لكنّ تأثيره مخدّر لطيف نلوذ إليه من شقاء الحياة. بيد أنّه ملجأ موقّت وتأثيره فينا ليس بالقَدْر الذي يجعلنا ننسى الشقاء فعلًا". وأختم بهذه الصورة الطريفة المعبّرة للكاتب الفرنسي الكبير أندريه مالرو ̸ Malraux: "إنّ لاجوكوند (موناليزا) تبتسم لأنّ جميع الذين رسموا لها شاربين ماتوا".
يتحدث بيكاسو عن "عالم بلا معنى"، وبيسوا عن جمال الفن وقبح العالم، وفرويد عن الفنّ كعزاء للإنسان من شقاء الوجود، وفلاك عن الفنّ بوصفه احتجاجًا على الموت، من دون أن نغفل قول النحّات الفرنسي رودان عن أن الفنّ يكشف لنا معنى الحياة.
أقوال كهذه (وهنالك كثير منها) تؤكّد على أزمة الإنسان الوجوديّة وقلقه وشكّه وحيرته وافتقاده معنى الوجود وغايته، ما يقودنا إلى ضرورة سعي الكائن إلى إسباغ معنى على هذا الوجود الفاقد المعنى في جوهره، إمّا بالفلسفة، أو بالتأمّل، أو بالكتابة، أو بالفنون، على أنواعها. وهذا ما استدعى تأمّلًا فكريًّا، فلسفيًّا وميتافيزيقيًّا، من فلاسفة كبار يتقدّمهم عبقريّ الفكر "المتشائم" (ولا فكر متفائلًا أكثر منه في نهاية المطاف) آرثر شوبنهاور̸ Schopenhauer (1788 ـ 1860) الذي غاص في منهجه الميتافيزيقي إلى أعماق أزمة الوجود، واضعًا نظريّة مسهبة حول عدد من الفنون كانت شائعة في عصره (لم يسعفه، ولم يسعفنا، الحظ في بقائه حيًّا حتى ولادة السينما عام 1895، كي نحظى برأي عظيم له فيها). نظريّة شوبنهاور حول الفنّ (أو الفنون) نقرأها في كتابه "جمالية وميتافيزيق" (أعتمد هنا ترجمته الفرنسية تحت عنوان Esthetique et Metaphysique الصادرة في سلسلة "كتاب الجيب" ̸ Livre de poche الفرنسية عام 1999 في 222 صفحة).
طبعت النظرة الميتافيزيقية إلى الفن الفلسفة الألمانية بدءًا بكانط وهيغل بلوغًا إلى كمالها وعمقها لدى شوبنهاور الذي ارتبطت فلسفته الجماليّة بنهجه الفلسفيّ الميتافيزيقي، الوجوديّ والعدميّ.
ولا مفرّ من تمهيد شديد الاختصار حول فلسفة شوبنهاور بعامّة، قبل الوصول إلى نظريته الجمالية والميتافيزيقية حول الفنون، وبخاصة الموسيقى التي رأى فيها تجريدًا ميتافيزيقيًّا هو الأكثر تجليًّا وفاعلية، ومن هنا كان تأثّر فاغنر العميق بالفيلسوف الألمانيّ الأشدّ تأثيرًا بمؤلّفين موسيقيين وأدباء وشعراء وفلاسقة أتوا بعده، وعددهم كبير جدًا. وفلسفة شوبنهاور يتضمنّها على النحو الأشمل مؤلّفه الضخم "العالم إرادةً وتمثّلًا" (عنوانه الأصليّ بالألمانيّة die welt als wille und vorstellung، وبالفرنسية Le monde comme volonté et représentation)، ففي هذا المؤلّف الخالد نجد أنّ خطوط منهجه العامة تحدّدت في شكلها النهائيّ. ويجب ألاّ تُفهم كلمة عالم (welt) بكونها تشير إلى عالمنا في معناه المحدود، إذ يستخدمها شوبنهاور لمعنى أشمل يدلّ على الكون كلّه. أمّا كلمة إرادة (wille) فتشير إلى قوّة عمياء غير عاقلة، أو إلى اندفاع أعمى يحرّك كل شيء. لذا كانت الإرادة لدى شوبنهاور أساسًا في فلسفته لكونها قوّة يتبعها العقل، وليست تتبعه، كما أنّها في الوقت عينه أساس النزعة التشاؤمية في فلسفته، فهذا الوجود بالنسبة إليه هو مصدر الألم والمعاناة والشرّ. وكلمة تَمَثُّلْ (vorstellung) تنطوي على دلالة أوسع من كلمتي تصورّ أو فكرة اللتين تعتمدان خطأ في بعض الترجمات العربيّة.
يختلف شوبنهاور عن فلاسفة عصره (فيشته، شيلينغ، وخاصة هيغل عدوّه اللدود)، بل هو مختلف عن سائر الفلاسفة الأوروبيين، فهو متشائم فيما يكاد الفلاسفة الآخرون يكونون متفائلين في معنى ما، إذ كان المزاج التفاؤلي سائدًا بين الفلاسفة آنذاك. صحيح أن شوبنهاور لم يكن المتشائم الكبير الأوحد في زمنه، بل كان هنالك أيضًا الشعراء بايرون، وليوباردي، وبوشكين، والموسيقيّ شوبان، بيد أنهم ليسوا فلاسفة، والفرق بينه وبينهم أنّه منح تشاؤمه أساسًا نظريًّا وميتافيزيقيًا، وبالتالي لم يرَ أنّ الشرّ واقع عارض أو طارئ في العالم، بل هو ذو حضور جوهريّ و"ضروريّ". لذا استحقّ شوبنهاور صفة "أمير التشاؤم"، أو "رسول الشقاء". ولعلّ هذه النزعة التشاؤميّة هي منبع نفوره من التفاؤل اليهوديّ، وكان يردّد على الدوام أنّ اليهود مجموعة مرحة مليئة بالحياة، وأنّ سبينوزا (الفيلسوف اليهودي الذي اعتنق المسيحية) كان دومًا منبسط الأسارير. ورغم إلحاده وعدميته الحاسمتين، تعاطف شوبنهاور مع المسيحية، لأنّ مغزاها الكبير يقوم على التشاؤم (باطلية الحياة الدنيا، والتشديد على ملكوت السماوات).
يعلن شوبنهاور جهارًا عن منابع فلسفته وهي فلسفة أفلاطون أولًا، ثم كانط، ثم الأوبانيشاد الهندية القديمة، فضلًا عن ولعه ببودا (وهو بودا وليس "بوذا" على ما درج عليه لسان العرب القديم والحديث!). إلاّ أن ثمة ما دفعه لاحقًا إلى نقض بعض الجوانب في فلسفة كانط، وهناك اختلاف كبير بين نظرته إلى الفن وتلك التي لأفلاطون، فهو يختلف معهما في نقاط فلسفية وميتافيزيقية كثيرة.
العالم لدى شوبنهاور مكوّن من ظاهر ومن باطن، فلو نظرنا إليه من حيث ظاهرِهِ كان "تمثّلًا" (vorstellung)، ومن حيث باطنه كان "إرادة" (wille). فعالم التجربة هو عالم الظواهر والتمثّلات، والنوع الأوّل لهذه الأخيرة هو التمثّلات الحَدْسيّة (tuitiven vorstellung) التي تشكّل جزءًا من خبرتنا (إشارة جوهرية هنا إلى أنّ فلسفة شوبنهاور تقوم على قوّة الحَدْس التي تتفوّق على قوّة العقل، فالعقل لا يوصل إلى الحقيقة، ومن هنا فشل الفلسفة في إدراك الحقيقة على مرّ العصور إذ أعملت العقل بدلًا من الحَدْس). أمّا النوع الثاني من هذه التمثّلات فيتشكّل من التصوّرات المجرّدة التي يفتقدها الحيوان وينفرد بها الإنسان. والنوع الثالث من التمثّلات هو ذاك الذي يظهر فيه الزمان والمكان بوضعهما حَدْسين خالصين (Intuitions pures)... لذا يقول شوبنهاور في مطلع مؤلّفه الأساسي "العالم إرادةً وتمثلًا": "العالم هو تمثّلي"، فما يدركه الإنسان "ليس شمسًا ولا أرضًا، بل يدرك فحسب عينًا ترى الشمس ويدًا تحسّ بالأرض، والعالم المحيط بنا إنّما هو موجود كتمثّل فقط، أي أنّه موجود بالنسبة إلى شيء آخر فحسب هو الوعي الذي يكون بمثابة الشخص نفسه". معنى ذلك أنّ العالم هو ما يبدو لنا، ويتوقّف علينا، أي على الذات التي تدركه. فالوجود إدراك بحسب باركلي أيضًا، أي أنّ كل موجود، أو موضوع، يفترض على الدوام ذاتًا تدركه، وبالتالي فإنّ العالم هو تمثّل الذات. لا يمكن التحدّث عن الزمان قبل الإقرار بموضوع يمرّ في زمان، وهو موضوع وجود "ذات" في مقابله، وإلاّ لما أمكن أن يسمّى موضوعًا. كما لا يسعنا التحدث عن مكان إلاّ بكونه حاويًا مواضيع تفترض بدورها "ذاتًا" تقابلها. فما هي الذات؟ وما هو الموضوع؟ الذات هي الوعي أو الجزء العارف فينا، والموضوع هو كلّ ما يتمثّل للمعرفة أمام الوعي أو الذات. وتبعًا لذلك، فإنّ كلّ المواضيع الماثلة أمامنا ـ بما في ذلك أجسامنا ـ هي تمثّلات. والحقيقة هذه تسري على الإنسان والحيوان معًا. أمّا التمثّلات المجرّدة فتخصّ الإنسان وحده، والقدرة على استيعابها تسمّى العقل (vernunft). ومن الواضح أنّ معرفة العلّة والمعلول ـ بكونها الصورة العامة للذهن ـ تنتمي إلى سائر الحيوانات على نحو قَبْليّ (a priori)، لأنها بالنسبة إليها ـ كما هي بالنسبة إلينا ـ بمثابة الشرط الأوليّ لكلّ إدراك حسّي للعالم الخارجيّ. ولو رغب أي فرد في برهان إضافيّ فليلاحظ كيف يكون الكلب الصغير خائفًا من القفز فوق منضدة، مهما يكن راغبًا في ذلك، إذ يدرك مسبقًا تأثير ثقل جسمه، علمًا أنّه لم يتلقّن ذلك عن طريق الخبرة.
الذهن لدى شوبنهاور يسمو على العقل، فالإدراك الحسّي، أو الحَدْس (المعنى واحد بالنسبة إلى شوبنهاور) هو وظيفة الذهن، أمّا التمثّلات فهي وظيفة العقل. لنأخذ على سبيل المثال مفهوم "الروح"، ونحلّل محمولاته: موجود، مفكّر، مريد، لا ماديّ، بسيط، غير قابل للفناء، لا يشغل حيّزًا في المكان... مع ذلك، لا شيء من تلك المحمولات يمكن التفكير فيه بوضوح، فعناصر هذه المفاهيم لا يمكن التحقّق منها بواسطة الإدراك الحسّي، فالموجود المفكّر من دون ذهن أشبه بكائن يهضم الطعام من دون معدة، مثل الكائن الموجود عند شيلنغ، وهيغل! لذا يرى شوبنهاور أنّ على الفلسفة ألاّ تبدأ بالتمثّلات والتصوّرات، بل بالإدراك الحسّي، أو الحَدْس، فهذا الإدراك وحده هو المعرفة الصحيحة والمباشرة والأكثر يقينًا.
لكنّ العالم ليس مجرّد تمثّل، إذ ثمة شيء آخر يمثّل حقيقة الوجود الباطنيّة. ولذلك فلنتّجه إلى الباطن لعلّنا نظفر بمفتاح لغز الوجود. ولنبدأ بأنفسنا أوّلًا، فالإنسان متأصّل في هذا العالم كفرد، وجسده ـ وهو نقطة البداية في إدراك هذا العالم ـ هو موضوع من بين المواضيع، وظاهر من بين الظواهر، ولن يصل إلى حقيقة جسده وحقيقة الأشياء لو نظر إليها من الخارج، إذ لن تبدو له في هذه الحال سوى كمواضيع أو تمثّلات. أمّا إذا تحوّل الإنسان إلى ذات عارفة خالصة، وتأمّل نفسه من الباطن، فسوف يعي أنّ حقيقة جسده وأفعاله وحركاته ووجوده الباطنيّ عامّة يمكن اختصارها بكلمة واحدة: الإرادة (wille)، فالإرادة وحدها يمكن أن تهبه مفتاح وجوده الخاص، وتكشف له المغزى والتركيب الداخليّ لوجوده، لأفعاله، لحركاته. وإذا كانت الإرادة جوهر طبيعتنا البشريّة ألا يمكن أن تكون على نحو مماثل جوهرًا للطبيعة بأسرها؟ بلى، الإرادة واحدة في كل مكان، وحين يدرك الإنسان هذه الحقيقة يستطيع القول، بل عليه القول: العالم إرادتي. والإرادة لدى شوبنهاور هي "إرادة الحياة"، أي أنّها اندفاع أعمى لا عاقل نحو الحياة، يشتمل أيضًا على الغريزة اللاواعية وقوى الطبيعة اللاعضويّة.
في إدراك الجميل
نقف عند هذا الحدّ من التمهيد الضروري (الواسع جدًا لو غصنا أكثر في منهج شوبنهاور الفلسفي) للانتقال إلى نظريّة هذا الفيلسوف الألماني الفذِّ، ذي التأثير الهائل، المتعلقة بالفنّ.
إنّ أساس المشكلة لدينا بشرًا أنّنا لا نخال وجود إشباع، أو متعة، من غير استثارة رغبة ما، فكلّ تفكيرنا وأفعالنا وأسماعنا وأبصارنا هي بطبيعتها في خدمة رغباتنا الذاتية، الصغيرة منها والكبيرة. ويرى شوبنهاور أنّ الجميل (das schone) يستثير الإشباع والمتعة لدينا، فلا نرى في المواضيع إلاّ صورها الجوهريّة، أو "مُثُلَها" الأفلاطونية، وبذلك تكون تلك المواضيع "جميلة". بيد أنّ ذلك لن يحدث حقًا إلاّ إذا تحرّرت الذات من كل إرادة، وهكذا تتلاشى الإرادة تمامًا خارج الوعي عند مدخل الإدراك الجماليّ. يقول شوبنهاور موضحًا: "عندما نقول إنّ شيئًا ما جميل، فنحن نؤكد بذلك أنّه موضوع لتأمّلنا الجماليّ، ولهذا معنيان مزدوجان: فهو من ناحية يعني أنّ رؤية الشيء تجعلنا موضوعيين، أعنى أنّنا في تأمّلنا ذاك الشيء لا نبقى واعين أنفسنا كأفراد، بل كذوات عارفة خالية من الإرادة. وهو من ناحية ثانية يعني أنّنا لا ندرك في الموضوع ذاك الشيء الجزئيّ، بل ندرك فيه "مثالًا"، ويحدث ذلك فقط طالما أنّ تأمّلنا في هذا الموضوع لا يتبع مبدأ العلّة الكافية، ولا يقتفي علاقات الموضوع في أي شيء خارجه (يكون دومًا مرتبطًا على نحو قاطع بعلاقات تتصل بإرادتنا)، بل يقوم على الموضوع نفسه". بذلك يقتضي إدراك الجميل لدى شوبنهاور تجريد الموضوع من الزمان والمكان الموجود فيهما، فنجرّده بالتالي من فرديته ويضحي الموضوع "مثالًا"، والفرد المتأملّ يتحوّل ذاتًا عارفة خالصة، وتصير المواضيع الفردية مواضيع جميلة من خلال تثبيت اللحظة العابرة إلى الأبد.
يقدّم شوبنهاور مثلًا على ذلك، فالشجرة تصبح موضوعًا جميلًا حين نتأمّلها بعين الفنان، حينئذٍ يستوي الأمر، سواء كانت تلك الشجرة هي الشجرة التي نتأمَّلها، أو سلالتها القديمة التي تحدّرت منها، وسواء كان الناظر هو ذاك الفرد المتأمّل، أو أي فرد آخر في أي زمان وأي مكان، فإنّ الشيء الجزئيّ والفرد العارف يزولان، ولا يبقى سوى المثال والذات العارفة الخالصة.
إذا كان الجميل (schon) والجليل (erhaben بالألمانية، وsublime بالفرنسية) موضوعين للحكم الجماليّ لدى كانط، فإنّهما موضوعان للتأمّل الجماليّ لدى شوبنهاور، فموضوعهما واحد وهو "المثال" الأفلاطوني. كما أنّ كانط كان بحسب نظرة شوبنهاور أوّل من صحّح هذا المسار، إذ انصرف إلى تحليل الشعور نفسه، والأثر الذي يخلّفه "الموضوع" في النفس ويسمّى "جميلًا"، قائلًا: "إنّ هذا الطريق هو السليم، فلكي نفسّر ظاهرة من خلال تأثيرها، لا بدّ من أن ندرك بدءًا، وبدقّة، هذا التأثير نفسه (...)". بيد أنّ كانط قدّم المنهج وحدّد الطريق السليم، إلاّ أنّه افتقد الدليل وجانب الصواب في أمور شتّى، أي أنّه لم يبدأ من الجميل المُدرَك حسّيًا، بل من الحكم على الجميل، أو ممّا دعاه "حكم الذوق". ومع ذلك، ينوّه شوبنهاور بالجانب الإيجابيّ في فلسفة كانط، والذي يكمن في الإدراك الحَدْسيّ والعيانيّ المباشر للجميل. فالجميل لدى كانط هو "ما يسرّنا دونما اهتمام بالإرادة"، ومعالجة شوبنهاور للجميل تدور حول المعرفة النزيهة بكونها مقدّمة ضروريّة لإدراك المثال الذي يحقّق إشباعنا ومتعتنا الخالصة.
الفنون ودلالاتها الميتافيزيقيّة
إنّ مصدر الفنّ لدى شوبنهاور هو إدراك المثال وإيصاله، لذا فالفنون كلّها تعيد إنتاج المثال الذي تدركه عين الفنان، تبعًا لنوع المادة التي يعبّر بها الفنان عن هذا المثال، سواء كان هذا العمل الفني نحتًا، أو رسمًا، أو شعرًا، أو موسيقى. ولدى التمعّن في تصنيف شوبنهاور للفنون نراه يطرح ترتيبًا لها تبعًا لأهميتها ومكانتها في سلسلة هرميّة، فلكلّ مادة إمكانات متفاوتة القدرة على التعبير عن المثال ذي الدرجات المتباينة في تجسيد الإرادة. وتفترض معرفة الجميل على نحو متلازم جزأين مكوّنين هما الذات العارفة الخالصة، والمثال المعروف كموضوع. وقد تكمن المتعة الجمالية في إدراك المثال أكثر منه في حالة السعادة والطمأنينة الروحية للذات العارفة الخالصة، والعكس صحيح. يوضح شوبنهاور: "إنّ سيادة أحد هذين الجزأين المكوّنين للشعور الجماليّ على الآخر يعتمد واقعًا على ما إذا كان المثال المُدرَك حَدْسيًّا يمثّل درجة عليا أم دنيا من درجات موضوع الإرادة". إنّ الفنون التي تضمن لنا، خلال تأمّلها، سيادة الجانب الموضوعيّ للرؤية الجماليّة (المثال) على الجانب الذاتيّ (الذات العارفة الخالصة) هي بلا ريب أكثر قيمة جمالية من سواها.
في التصنيف الذي وضعه شوبنهاور للفنون، من الأعلى إلى الأدنى، يحتلّ الشعر المرتبة الأعلى، فالشعر مثل باقي الفنون يرمي إلى إدراك المثال، أو المثل، أي الكشف عن الحقائق العامة الكلّية مثلما تتجلّى في الموجودات الفردية، قائلًا: "رغم أنّ الشاعر، مثل أيّ فنان، يطرح لنا دومًا الجزئيّ، أي الفرديّ، فحسب، فإنّ ما يكون قد أدركه ويريد أن ندركه من خلال شعره هو المثال (الأفلاطوني). كذلك الشاعر الروائيّ والشاعر الدراميّ يتناولان الجزئيّ كاملًا من الحياة، ويصفان فرديّته بدقة. ومع ذلك، فإنّ الشاعر يكشف بهذه الطريقة مجمل الوجود الإنساني، فرغم أنّه يبدو معالجًا الجزئيّ يكون مهتمًّا في الواقع بما هو موجود في كلّ مكان وكلّ زمان". ولأنّ الشعر يعبّر عمّا هو عام في الطبيعة والوجود الإنسانيّ بأكمله، لذا فهو مرتبط بالفلسفة أكثر من باقي الفنون. ومع ذلك، يحرص شوبنهاور في الوقت عينه على إظهار الاختلاف بين الشعر والفلسفة، فرغم وحدة الموضوع الذي يسعيان إلى معالجته، يتّبع كلٌّ منهما طريقًا مختلفًا لبلوغ الهدف. يقول شوبنهاور موضحًا: "إنّ الشعر يرتبط بالفلسفة مثلما ترتبط التجربة بالعلم الأمبريقيّ (العلم التجريبيّ)، فالتجربة تجعلنا ندرك الظاهرة مثلما هي في الجزئيّ، وبواسطة الأمثلة، فيما يشمل العلم مجمل الظواهر بواسطة التصوّرات. ومثله الشعر، يسعى إلى جعلنا ندرك المثل (الأفلاطونية) من خلال الجزئيّ وعبر الأمثلة. في حين تهدف الفلسفة إلى العلم بكلّيته وفي شكل عام، وبالطبيعة الباطنيّة للمسائل التي تعبّر عن نفسها في تلك الأشياء. الشاعر في هذا المعنى هو إنسان عالميّ طالما أنّ لا حدود لعقله وخياله وإحساسه، فالوجود بأسره ملكٌ له، وكلّ ما سكن وتحرّك في صدر بشريّ هو مبحث الشاعر ومادته. قد يتغنّى الشاعر بالانغماس في الملذّات، وقد يتغنّى بالتصوّف، وقد يتمثّل العقل السامي، أو العقل العادي. الشاعر مرآة البشرية، يدفعها إلى وعي ما تشعر به وتقدم عليه". وإذا كان الشعر يستخدم التمثّل، أو التصوّر، فلا يعني ذلك أنّهما غايته، إذ أكّد شوبنهاور مرارًا على أنّ التمثّل، أو التصوّر، لا يمكن أن يكونا غايةً لأيّ فنّ، لأنّ غاية الفنّ إدراك "المثال" المحسوس لا التصوّر المجرّد. وإذا كان فنّا النحت والرسم لا يستخدمان المجاز أو التصوّر فلأنّهما يجسّدان المثال المحسوس، أو العيانيّ على نحو مباشر. أمّا الشعر فيستخدم المجاز، أو الرمز (allégorie)، أو التصوّر (concept)، لأنّ المثال لا يتمثّل في الشعر بطريقة مباشرة، ولذلك يلجأ إلى التصوّر الذي تنطوي عليه مادّته أي الكلمات. والشعر في عُرف شوبنهاور هو الفن الذي يستثير المخيّلة بواسطة الكلمات، واستثارة المخيّلة لدينا يكشف لنا الشاعر بها مثالًا، أي يبيّن لنا من خلال المثال ماهيّة الحياة والوجود. أيضًا، الوزن والقافية يعدان من العناصر المساعدة في التعبير عن الشعر، فهما وسيلة لتركيز انتباهنا، ويولّدان لدينا تصديقًا أعمى لما يُقرأ بطريقة قبْليّة سابقة على كلّ حكم، ما يهب القصيدة قدرًا معيّنًا من قوّة الإقناع. والشاعر، بحسب شوبنهاور، "مسؤول نصف مسؤولية فحسب عمّا يقوله، أمّا النصف الآخر فعلى عاتق الوزن والقافية". ومع ذلك فإنّ القافية الشعريّة ـ يؤكّد ـ يجب ألاّ تكون مصطنعة، وفي هذا يكمن الفرق بين الشاعر العبقريّ، والشاعر الرديء، في رأي شوبنهاور، مضيفًا: "إنّ العلاقة التي يميّز بها المرء فورًا الشاعر الأصيل هي الطبيعة اللاتعسّفية لقوافيه. فالقوافي تَرِد من تلقاء نفسها، كما لو كانت واردة بترتيب إلهيّ، إذ تأتيه أفكاره مقفّاة جاهزة. أمّا الشاعر النثريّ الركيك فعلى العكس من ذلك يبحث عن القافية لأجل الفكر، ويبحث الدجّال عن الفكر لأجل القافية" (ملاحظة: كم من شعرائنا العرب "الشكلانيين" الفارغين هم من تلك الفئة الأخيرة التي تبحث عن الفكر لأجل القافية!).
كذلك ينظر شوبنهاور إلى التراجيديا كقمّة في فنّ الشعر، قائلًا: "ينبغي أن ننظر إلى التراجيديا ونسلّم بكونها قمة الفن الشعريّ، لعظيم تأثيرها، ولصعوبة إنجازها"، فهي تمثّل الجانب المريع من الحياة، وأعلى وأوضح درجة لصراع الإرادة في الوجود، أي أنّها تتمثّل الإرادة كمصدر للألم والمعاناة والشقاء في الحياة والوجود البشريّ. مادّة التراجيديا هي مادة الحياة والوجود عينها ونسيجهما ذاته، وهما الألم والمعاناة. وباختصار، هي الإرادة. فنواح البشريّة، وغلبة الحظّ والقدر، وانتصار الشرّ، كلّها جليّة في هذا الفنّ. بل تكشف لنا التراجيديا أيضًا عبث كلّ جهد وصراع بشريّ، وتؤكد بالتالي على فكرة الاستسلام والتحرّر من إرادة الحياة. لذا "نرى في التراجيديات أنّ أسمى البشر، وبعد طول صراع ومعاناة، يتخلّون عن أهدافهم التي سعوا إليها بشغف، وعن متعات الحياة إلى الأبد". البطل التراجيديّ يتطهرّ من الإرادة بالألم والمعاناة، كأنّه يكفرّ عن خطيئته، بيد أنّه لا يكفرّ عن خطيئته الذاتيّة، بل عن الخطيئة الأصليّة، أي خطيئة وجوده، فأكبر خطايا الإنسان هي أنّه وُجِد، بحسب تعبير كالديرون̸ Calderon. تدفعنا التراجيديا إلى مقاومة إرادة الحياة، وإنكارها، والنظر إلى متعات الحياة بكونها وهمًا زائفًا. والمتعة الفنية في التراجيديا لا تنتمي إلى الإحساس بالجميل، بل بالإحساس بالجليل. وإذا كان الموضوع الأساسيّ في التراجيديا هو الحدث الجلل الذي يجسّد الشرّ والألم والمعاناة في وجودنا البشريّ، فإنّ تمثّل ذلك ـ على ما يرى شوبنهاور ـ يمكن أن يحصل بثلاث طرائق مختلفة: قد يحصل الحدث التراجيدي نتيجة حضور شخصية شريرة، وعلى نحو غير عادي، كما في تراجيديات شكسبير (الذي يحفظ شوبنهاور له تقديرًا خاصًا) "ريتشارد الثالث"، و"تاجر البندقية"، و"فيدرا"... وقد يحصل هذا الحدث عن طريق القدر الأعمى، أي المصادفة والخطأ، كما في تراجيديات القدامى، مثل "أوديبوس ملكًا" لسوفوكليس. أمّا النوع الثالث فيحصل الحدث فيه بمجرّد وضع الشخوص، بعضها في وجه البعض الآخر، فتتصارع وتتبادل الأذى عمدًا، وهذا النوع يتجاوز النوعين الآخرين إذ يجعلنا نرى الحدث المأساويّ لا كحدث استثنائيّ (كالقدر، أو الشخصية الشريرة جدًا)، بل كحدث عاديّ ناجم عن أفعال أشخاص عاديين، فيكون بذلك قريبًا منّا، كما في "هاملت"، و"فاوست".
والموسيقى لا يضعها شوبنهاور في مرتبة، أو تصنيف، لكونها تحتلّ وحدها تصنيفًا خاصًا بها. يقول موضحًا: "تقف الموسيقى وحدها منفصلةً عن باقي الفنون. فنحن لا ندرك في الموسيقى النسخة، أو الإعادة، لأي مثال من مثل الوجود في العالم. ومع ذلك، هي فنّ سامٍ جدًا، وتأثيرها في أعماق الإنسان قويّ جدًا، ويفهمها الإنسان تمامًا، وعلى نحو عميق، كلغة كونيّة كاملة يتجاوز وضوحها حتى وضوح العالم المحسوس نفسه". لا تعبرّ الموسيقى عن "الصور" لكونها نسخة من الأصل، أي أنّها تعبّر عن الإرادة ذاتها الموجودة فينا وفي الوجود. يؤكد شوبنهاور "إنّ تأثير الموسيقى أقوى وأكثر نفاذًا بما لا يقاس من باقي الفنون التي تتناول الظلال فحسب، فيما تنطق الموسيقى بالشيء بذاته (La chose en soi)". كما يرى أن لا أحد نجح عبر العصور في تفسير العلاقة الغامضة بين الموسيقى والعالم. وحين يقول شوبنهاور إنّ الموسيقى تعبّر عن العالم بذاته فإنّه يعني أنّها تعبّر عن الإرادة بذاتها. وأوّل ما يشرع فيه شوبنهاور لإثبات التوازي والتماثل بين الموسيقى والعالم هو "الهارموني" (harmonie)، فالنغمات التي تتكوّن منها توازي مكوّنات العالم، فالأصوات أو الأجزاء الأربعة لكلّ هارموني هي الـ bass، والـ tenor، والـ alto، والـ soprano، وهي تشبه الدرجات الأربع في سلسلة الوجود: المملكة المعدنية، المملكة النباتية، المملكة الحيوانية، والإنسان. وهنالك علاقة هذه الأجزاء الأربعة مع العالم، أو مع مستويات الإرادة. ومع ذلك، فإنّ الهارموني في رأي شوبنهاور ليست أهمّ عناصر البناء الموسيقيّ، فأهميتها ثانوية إذا ما قورنت بأهميّة الميلودي mélodie (الخطّ الأساسيّ في اللحن الموسيقيّ والموازي للإيقاع) التي تنطوي على العواطف والانفعالات، لذا قيل على الدوام إنّ الموسيقى هي لغة الشعور والعاطفة، مثلما هي الكلمات لغة العقل. (نشير هنا إلى أن ريتشارد فاغنر تأثّر عميقًا بفلسفة شوبنهاور ونظرياته في الفن والموسيقى، لكنّ الفيلسوف الألماني كان يفضّل موسيقى الإيطاليّ روسّيني).
ومن الموسيقى إلى النحت والرسم اللذين يرتبطان غالبًا في تأمّلات الفلاسفة وأبحاث علماء الجمال، وينطبق ذلك على فلسفة شوبنهاور الجمالية. فبالنسبة إليه تتمثّل أدنى درجات فنّ الرسم في لوحات الطبيعة الجامدة، أو الساكنة (تدعى بالفرنسية nature morte)، والفن الكنسيّ. وإذا كان عالم النبات يخضع في الطبيعة للتأمّل الجماليّ دونما حاجة إلى وسيط فني، فهو يتحوّل إلى موضوع للفنّ من خلال فن رسم المناظر الطبيعية. وإذا كانت المتعة الجماليّة قائمة في تأمّل لوحات الطبيعة الجامدة على الجانب الذاتيّ، لا الموضوعيّ، فإنّها في فنّ رسم المناظر الطبيعية تكمن في كلتيهما معًا، فالمثل في هذه الحال تكون أشدّ وضوحًا إلى حدّ ما. ويرتقي الرسم والنحت إلى مرتبة أرفع حين يكون الإنسان موضوعهما، أي تَمَثُّل الجمال البشريّ، كما في النحت والرسم التاريخيين، وفنّ البورتريه. إنّ مثال الإنسان هو التجسيد الموضوعيّ الأكمل للإرادة ويُعبَّر عنه بصورة حسّية جليّة هي الجمال البشريّ. والفرق أن الجمال والرشاقة هما الأساسيّان في النحت، بينما العاطفة والطابع المميّز للنوع يسودان في فنّ الرسم. فالرسم يستطيع أن يقدّم وجوهًا قبيحة وقوامات هزيلة، فيما يتطلّب النحت على العكس من ذلك جمالًا وكمالًا بدنيًّا. وقد أعلى شوبنهاور (رغم إلحاده وعدميته) من قيمة الرسوم الكنسيّة لكونها تصوّر الزهد الذي يرتبط ميتافيزيقيًّا بمعنى الحياة نفسها، فملامح الزاهد، أو القديس، لا تعبّر عن شهوة أو رغبة تحرّكها إرادة، بل تفصح عن سكينة وطمأنينة لذاتٍ تخلّت كلّيًا عن الحياة، أو عن إرادة الحياة. أّما عناصر اللون فتؤدي في نظر شوبنهاور دورًا جماليًا خاصًّا في الرسم، وهو جمال ناجم عن انسجام الألوان والتوزيع الملائم للضوء والظلّ، واللون الطاغي في اللوحة. إلاّ أنّ هذا الجمال ثانويّ، فهو أشبه بالوزن والإيقاع في الشعر، ومن هنا فإنّ اللون هو أحد عناصر التعبير عن الصورة، أو "المثال".
يتناول شوبنهاور في نظريته الجمالية والميتافيزيقية فنونًا أخرى، مثل فنّ العمارة، لكنّنا نكتفي بهذا القدر لضيق المجال. ويبقى الأهمّ، وباختصار، أنّ الفنّ بالنسبة إلى شوبنهاور ليس غرضًا للاستمتاع، بل هو يعيننا على أمرين جوهريين في أزمة الوجود: التأمّل في العمل الفنيّ الذي نتمثّل من خلاله الحقيقة المأساوية للوجود (وإن بواسطة الجمال وأدواته)، ومن ثمّ التلقّي بالحَدْس، لا بالعقل لهذا الفنّ أو ذاك، فالهدف أن يشكل الفنّ خلاصًا وملاذًا فرديين لنا، إذ لا بديل منه يسعفنا في تحمّل أزمتنا الوجوديّة.
*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.
جورج كعدي
تغطيات
سقوط العمالقة (جاكوب جورداينس)
شارك هذا المقال
حجم الخط
لم يكن الكبير غوته مؤمنًا بالخلاص الجماعيّ، بل بخلاص الفرد. ومثله كثر من الأدباء والفلاسفة والفنانين آمنوا بذلك، نذكر منهم النحّات المشهور أوغست رودان̸ Rodin، القائل "إنّ الفنّ يدلّ البشر على علّة وجودهم، يكشف لهم معنى الحياة، يضيء لهم قدرهم، ويرشدهم بالتالي في الوجود. الفن أسمى المهمّات الإنسانيّة لكونه تمرينًا للفكر الساعي إلى فهم العالم وجعله مفهومًا للآخرين". وترى الرسّامة الأميركية أودري فلاك ̸ Flack "أن الفنّ احتجاج على الموت"، فيما يعتبره الرسام الخالد هنري ماتيس̸ Matisse هربًا من الواقع. ويؤكّد الممثل الأميركي ديمتري مارتن على أنّ العالم بلا فنّ لا يساوي شيئًا، بينما يرى الكاتب المسرحيّ الأميركيّ الكبير إدوارد آلبي̸ Albee بنَفَسه الساخر المرّ "أنّ الحياة تقلّد الفنّ إنّما على نحو سيّئ". وحين سئل العبقريّ الفريد والمجدّد بيكاسو لِمَ بعض لوحاته غير مفهومة؟ أجاب: "العالم بلا معنى. لِمَ تُريدون منّي أن أرسم لوحات ذات معنى؟!". وحسم السينمائيّ الروسيّ المجلّي أندريه تاركوفسكي رؤيته بالقول "إنّ العلم للتفكير، والفنّ للشعور". ومن أجمل ما قرأت تعريف الكاتب والفيلسوف البرتغالي المعروف والفذّ فرناندو بيسوا̸ Pessoa القائل: "لماذا الفنّ بهذا الجمال؟ لأن لا غاية من ورائه. ولماذا الحياة بهذا القبح؟ لأنّها مليئة بالغايات والأغراض والأهداف". أمّا الرائد فرويد فيقول: "لعلّ الاستمتاع بالفنّ هو قمّة اللذّات المتخيّلة. لا يقدّر الناس الفن كمصدر من مصادر السعادة والعزاء في الحياة. الفن يؤثّر فينا، لكنّ تأثيره مخدّر لطيف نلوذ إليه من شقاء الحياة. بيد أنّه ملجأ موقّت وتأثيره فينا ليس بالقَدْر الذي يجعلنا ننسى الشقاء فعلًا". وأختم بهذه الصورة الطريفة المعبّرة للكاتب الفرنسي الكبير أندريه مالرو ̸ Malraux: "إنّ لاجوكوند (موناليزا) تبتسم لأنّ جميع الذين رسموا لها شاربين ماتوا".
يتحدث بيكاسو عن "عالم بلا معنى"، وبيسوا عن جمال الفن وقبح العالم، وفرويد عن الفنّ كعزاء للإنسان من شقاء الوجود، وفلاك عن الفنّ بوصفه احتجاجًا على الموت، من دون أن نغفل قول النحّات الفرنسي رودان عن أن الفنّ يكشف لنا معنى الحياة.
أقوال كهذه (وهنالك كثير منها) تؤكّد على أزمة الإنسان الوجوديّة وقلقه وشكّه وحيرته وافتقاده معنى الوجود وغايته، ما يقودنا إلى ضرورة سعي الكائن إلى إسباغ معنى على هذا الوجود الفاقد المعنى في جوهره، إمّا بالفلسفة، أو بالتأمّل، أو بالكتابة، أو بالفنون، على أنواعها. وهذا ما استدعى تأمّلًا فكريًّا، فلسفيًّا وميتافيزيقيًّا، من فلاسفة كبار يتقدّمهم عبقريّ الفكر "المتشائم" (ولا فكر متفائلًا أكثر منه في نهاية المطاف) آرثر شوبنهاور̸ Schopenhauer (1788 ـ 1860) الذي غاص في منهجه الميتافيزيقي إلى أعماق أزمة الوجود، واضعًا نظريّة مسهبة حول عدد من الفنون كانت شائعة في عصره (لم يسعفه، ولم يسعفنا، الحظ في بقائه حيًّا حتى ولادة السينما عام 1895، كي نحظى برأي عظيم له فيها). نظريّة شوبنهاور حول الفنّ (أو الفنون) نقرأها في كتابه "جمالية وميتافيزيق" (أعتمد هنا ترجمته الفرنسية تحت عنوان Esthetique et Metaphysique الصادرة في سلسلة "كتاب الجيب" ̸ Livre de poche الفرنسية عام 1999 في 222 صفحة).
طبعت النظرة الميتافيزيقية إلى الفن الفلسفة الألمانية بدءًا بكانط وهيغل بلوغًا إلى كمالها وعمقها لدى شوبنهاور الذي ارتبطت فلسفته الجماليّة بنهجه الفلسفيّ الميتافيزيقي، الوجوديّ والعدميّ.
ولا مفرّ من تمهيد شديد الاختصار حول فلسفة شوبنهاور بعامّة، قبل الوصول إلى نظريته الجمالية والميتافيزيقية حول الفنون، وبخاصة الموسيقى التي رأى فيها تجريدًا ميتافيزيقيًّا هو الأكثر تجليًّا وفاعلية، ومن هنا كان تأثّر فاغنر العميق بالفيلسوف الألمانيّ الأشدّ تأثيرًا بمؤلّفين موسيقيين وأدباء وشعراء وفلاسقة أتوا بعده، وعددهم كبير جدًا. وفلسفة شوبنهاور يتضمنّها على النحو الأشمل مؤلّفه الضخم "العالم إرادةً وتمثّلًا" (عنوانه الأصليّ بالألمانيّة die welt als wille und vorstellung، وبالفرنسية Le monde comme volonté et représentation)، ففي هذا المؤلّف الخالد نجد أنّ خطوط منهجه العامة تحدّدت في شكلها النهائيّ. ويجب ألاّ تُفهم كلمة عالم (welt) بكونها تشير إلى عالمنا في معناه المحدود، إذ يستخدمها شوبنهاور لمعنى أشمل يدلّ على الكون كلّه. أمّا كلمة إرادة (wille) فتشير إلى قوّة عمياء غير عاقلة، أو إلى اندفاع أعمى يحرّك كل شيء. لذا كانت الإرادة لدى شوبنهاور أساسًا في فلسفته لكونها قوّة يتبعها العقل، وليست تتبعه، كما أنّها في الوقت عينه أساس النزعة التشاؤمية في فلسفته، فهذا الوجود بالنسبة إليه هو مصدر الألم والمعاناة والشرّ. وكلمة تَمَثُّلْ (vorstellung) تنطوي على دلالة أوسع من كلمتي تصورّ أو فكرة اللتين تعتمدان خطأ في بعض الترجمات العربيّة.
يختلف شوبنهاور عن فلاسفة عصره (فيشته، شيلينغ، وخاصة هيغل عدوّه اللدود)، بل هو مختلف عن سائر الفلاسفة الأوروبيين، فهو متشائم فيما يكاد الفلاسفة الآخرون يكونون متفائلين في معنى ما، إذ كان المزاج التفاؤلي سائدًا بين الفلاسفة آنذاك. صحيح أن شوبنهاور لم يكن المتشائم الكبير الأوحد في زمنه، بل كان هنالك أيضًا الشعراء بايرون، وليوباردي، وبوشكين، والموسيقيّ شوبان، بيد أنهم ليسوا فلاسفة، والفرق بينه وبينهم أنّه منح تشاؤمه أساسًا نظريًّا وميتافيزيقيًا، وبالتالي لم يرَ أنّ الشرّ واقع عارض أو طارئ في العالم، بل هو ذو حضور جوهريّ و"ضروريّ". لذا استحقّ شوبنهاور صفة "أمير التشاؤم"، أو "رسول الشقاء". ولعلّ هذه النزعة التشاؤميّة هي منبع نفوره من التفاؤل اليهوديّ، وكان يردّد على الدوام أنّ اليهود مجموعة مرحة مليئة بالحياة، وأنّ سبينوزا (الفيلسوف اليهودي الذي اعتنق المسيحية) كان دومًا منبسط الأسارير. ورغم إلحاده وعدميته الحاسمتين، تعاطف شوبنهاور مع المسيحية، لأنّ مغزاها الكبير يقوم على التشاؤم (باطلية الحياة الدنيا، والتشديد على ملكوت السماوات).
"حين سئل العبقريّ الفريد والمجدّد بيكاسو لِمَ بعض لوحاته غير مفهومة؟ أجاب: "العالم بلا معنى. لِمَ تُريدون منّي أن أرسم لوحات ذات معنى؟!"" |
يعلن شوبنهاور جهارًا عن منابع فلسفته وهي فلسفة أفلاطون أولًا، ثم كانط، ثم الأوبانيشاد الهندية القديمة، فضلًا عن ولعه ببودا (وهو بودا وليس "بوذا" على ما درج عليه لسان العرب القديم والحديث!). إلاّ أن ثمة ما دفعه لاحقًا إلى نقض بعض الجوانب في فلسفة كانط، وهناك اختلاف كبير بين نظرته إلى الفن وتلك التي لأفلاطون، فهو يختلف معهما في نقاط فلسفية وميتافيزيقية كثيرة.
العالم لدى شوبنهاور مكوّن من ظاهر ومن باطن، فلو نظرنا إليه من حيث ظاهرِهِ كان "تمثّلًا" (vorstellung)، ومن حيث باطنه كان "إرادة" (wille). فعالم التجربة هو عالم الظواهر والتمثّلات، والنوع الأوّل لهذه الأخيرة هو التمثّلات الحَدْسيّة (tuitiven vorstellung) التي تشكّل جزءًا من خبرتنا (إشارة جوهرية هنا إلى أنّ فلسفة شوبنهاور تقوم على قوّة الحَدْس التي تتفوّق على قوّة العقل، فالعقل لا يوصل إلى الحقيقة، ومن هنا فشل الفلسفة في إدراك الحقيقة على مرّ العصور إذ أعملت العقل بدلًا من الحَدْس). أمّا النوع الثاني من هذه التمثّلات فيتشكّل من التصوّرات المجرّدة التي يفتقدها الحيوان وينفرد بها الإنسان. والنوع الثالث من التمثّلات هو ذاك الذي يظهر فيه الزمان والمكان بوضعهما حَدْسين خالصين (Intuitions pures)... لذا يقول شوبنهاور في مطلع مؤلّفه الأساسي "العالم إرادةً وتمثلًا": "العالم هو تمثّلي"، فما يدركه الإنسان "ليس شمسًا ولا أرضًا، بل يدرك فحسب عينًا ترى الشمس ويدًا تحسّ بالأرض، والعالم المحيط بنا إنّما هو موجود كتمثّل فقط، أي أنّه موجود بالنسبة إلى شيء آخر فحسب هو الوعي الذي يكون بمثابة الشخص نفسه". معنى ذلك أنّ العالم هو ما يبدو لنا، ويتوقّف علينا، أي على الذات التي تدركه. فالوجود إدراك بحسب باركلي أيضًا، أي أنّ كل موجود، أو موضوع، يفترض على الدوام ذاتًا تدركه، وبالتالي فإنّ العالم هو تمثّل الذات. لا يمكن التحدّث عن الزمان قبل الإقرار بموضوع يمرّ في زمان، وهو موضوع وجود "ذات" في مقابله، وإلاّ لما أمكن أن يسمّى موضوعًا. كما لا يسعنا التحدث عن مكان إلاّ بكونه حاويًا مواضيع تفترض بدورها "ذاتًا" تقابلها. فما هي الذات؟ وما هو الموضوع؟ الذات هي الوعي أو الجزء العارف فينا، والموضوع هو كلّ ما يتمثّل للمعرفة أمام الوعي أو الذات. وتبعًا لذلك، فإنّ كلّ المواضيع الماثلة أمامنا ـ بما في ذلك أجسامنا ـ هي تمثّلات. والحقيقة هذه تسري على الإنسان والحيوان معًا. أمّا التمثّلات المجرّدة فتخصّ الإنسان وحده، والقدرة على استيعابها تسمّى العقل (vernunft). ومن الواضح أنّ معرفة العلّة والمعلول ـ بكونها الصورة العامة للذهن ـ تنتمي إلى سائر الحيوانات على نحو قَبْليّ (a priori)، لأنها بالنسبة إليها ـ كما هي بالنسبة إلينا ـ بمثابة الشرط الأوليّ لكلّ إدراك حسّي للعالم الخارجيّ. ولو رغب أي فرد في برهان إضافيّ فليلاحظ كيف يكون الكلب الصغير خائفًا من القفز فوق منضدة، مهما يكن راغبًا في ذلك، إذ يدرك مسبقًا تأثير ثقل جسمه، علمًا أنّه لم يتلقّن ذلك عن طريق الخبرة.
الذهن لدى شوبنهاور يسمو على العقل، فالإدراك الحسّي، أو الحَدْس (المعنى واحد بالنسبة إلى شوبنهاور) هو وظيفة الذهن، أمّا التمثّلات فهي وظيفة العقل. لنأخذ على سبيل المثال مفهوم "الروح"، ونحلّل محمولاته: موجود، مفكّر، مريد، لا ماديّ، بسيط، غير قابل للفناء، لا يشغل حيّزًا في المكان... مع ذلك، لا شيء من تلك المحمولات يمكن التفكير فيه بوضوح، فعناصر هذه المفاهيم لا يمكن التحقّق منها بواسطة الإدراك الحسّي، فالموجود المفكّر من دون ذهن أشبه بكائن يهضم الطعام من دون معدة، مثل الكائن الموجود عند شيلنغ، وهيغل! لذا يرى شوبنهاور أنّ على الفلسفة ألاّ تبدأ بالتمثّلات والتصوّرات، بل بالإدراك الحسّي، أو الحَدْس، فهذا الإدراك وحده هو المعرفة الصحيحة والمباشرة والأكثر يقينًا.
لكنّ العالم ليس مجرّد تمثّل، إذ ثمة شيء آخر يمثّل حقيقة الوجود الباطنيّة. ولذلك فلنتّجه إلى الباطن لعلّنا نظفر بمفتاح لغز الوجود. ولنبدأ بأنفسنا أوّلًا، فالإنسان متأصّل في هذا العالم كفرد، وجسده ـ وهو نقطة البداية في إدراك هذا العالم ـ هو موضوع من بين المواضيع، وظاهر من بين الظواهر، ولن يصل إلى حقيقة جسده وحقيقة الأشياء لو نظر إليها من الخارج، إذ لن تبدو له في هذه الحال سوى كمواضيع أو تمثّلات. أمّا إذا تحوّل الإنسان إلى ذات عارفة خالصة، وتأمّل نفسه من الباطن، فسوف يعي أنّ حقيقة جسده وأفعاله وحركاته ووجوده الباطنيّ عامّة يمكن اختصارها بكلمة واحدة: الإرادة (wille)، فالإرادة وحدها يمكن أن تهبه مفتاح وجوده الخاص، وتكشف له المغزى والتركيب الداخليّ لوجوده، لأفعاله، لحركاته. وإذا كانت الإرادة جوهر طبيعتنا البشريّة ألا يمكن أن تكون على نحو مماثل جوهرًا للطبيعة بأسرها؟ بلى، الإرادة واحدة في كل مكان، وحين يدرك الإنسان هذه الحقيقة يستطيع القول، بل عليه القول: العالم إرادتي. والإرادة لدى شوبنهاور هي "إرادة الحياة"، أي أنّها اندفاع أعمى لا عاقل نحو الحياة، يشتمل أيضًا على الغريزة اللاواعية وقوى الطبيعة اللاعضويّة.
في إدراك الجميل
نقف عند هذا الحدّ من التمهيد الضروري (الواسع جدًا لو غصنا أكثر في منهج شوبنهاور الفلسفي) للانتقال إلى نظريّة هذا الفيلسوف الألماني الفذِّ، ذي التأثير الهائل، المتعلقة بالفنّ.
إنّ أساس المشكلة لدينا بشرًا أنّنا لا نخال وجود إشباع، أو متعة، من غير استثارة رغبة ما، فكلّ تفكيرنا وأفعالنا وأسماعنا وأبصارنا هي بطبيعتها في خدمة رغباتنا الذاتية، الصغيرة منها والكبيرة. ويرى شوبنهاور أنّ الجميل (das schone) يستثير الإشباع والمتعة لدينا، فلا نرى في المواضيع إلاّ صورها الجوهريّة، أو "مُثُلَها" الأفلاطونية، وبذلك تكون تلك المواضيع "جميلة". بيد أنّ ذلك لن يحدث حقًا إلاّ إذا تحرّرت الذات من كل إرادة، وهكذا تتلاشى الإرادة تمامًا خارج الوعي عند مدخل الإدراك الجماليّ. يقول شوبنهاور موضحًا: "عندما نقول إنّ شيئًا ما جميل، فنحن نؤكد بذلك أنّه موضوع لتأمّلنا الجماليّ، ولهذا معنيان مزدوجان: فهو من ناحية يعني أنّ رؤية الشيء تجعلنا موضوعيين، أعنى أنّنا في تأمّلنا ذاك الشيء لا نبقى واعين أنفسنا كأفراد، بل كذوات عارفة خالية من الإرادة. وهو من ناحية ثانية يعني أنّنا لا ندرك في الموضوع ذاك الشيء الجزئيّ، بل ندرك فيه "مثالًا"، ويحدث ذلك فقط طالما أنّ تأمّلنا في هذا الموضوع لا يتبع مبدأ العلّة الكافية، ولا يقتفي علاقات الموضوع في أي شيء خارجه (يكون دومًا مرتبطًا على نحو قاطع بعلاقات تتصل بإرادتنا)، بل يقوم على الموضوع نفسه". بذلك يقتضي إدراك الجميل لدى شوبنهاور تجريد الموضوع من الزمان والمكان الموجود فيهما، فنجرّده بالتالي من فرديته ويضحي الموضوع "مثالًا"، والفرد المتأملّ يتحوّل ذاتًا عارفة خالصة، وتصير المواضيع الفردية مواضيع جميلة من خلال تثبيت اللحظة العابرة إلى الأبد.
"يعلن شوبنهاور جهارًا عن منابع فلسفته وهي فلسفة أفلاطون أولًا، ثم كانط، ثم الأوبانيشاد الهندية القديمة، فضلًا عن ولعه ببودا" |
يقدّم شوبنهاور مثلًا على ذلك، فالشجرة تصبح موضوعًا جميلًا حين نتأمّلها بعين الفنان، حينئذٍ يستوي الأمر، سواء كانت تلك الشجرة هي الشجرة التي نتأمَّلها، أو سلالتها القديمة التي تحدّرت منها، وسواء كان الناظر هو ذاك الفرد المتأمّل، أو أي فرد آخر في أي زمان وأي مكان، فإنّ الشيء الجزئيّ والفرد العارف يزولان، ولا يبقى سوى المثال والذات العارفة الخالصة.
إذا كان الجميل (schon) والجليل (erhaben بالألمانية، وsublime بالفرنسية) موضوعين للحكم الجماليّ لدى كانط، فإنّهما موضوعان للتأمّل الجماليّ لدى شوبنهاور، فموضوعهما واحد وهو "المثال" الأفلاطوني. كما أنّ كانط كان بحسب نظرة شوبنهاور أوّل من صحّح هذا المسار، إذ انصرف إلى تحليل الشعور نفسه، والأثر الذي يخلّفه "الموضوع" في النفس ويسمّى "جميلًا"، قائلًا: "إنّ هذا الطريق هو السليم، فلكي نفسّر ظاهرة من خلال تأثيرها، لا بدّ من أن ندرك بدءًا، وبدقّة، هذا التأثير نفسه (...)". بيد أنّ كانط قدّم المنهج وحدّد الطريق السليم، إلاّ أنّه افتقد الدليل وجانب الصواب في أمور شتّى، أي أنّه لم يبدأ من الجميل المُدرَك حسّيًا، بل من الحكم على الجميل، أو ممّا دعاه "حكم الذوق". ومع ذلك، ينوّه شوبنهاور بالجانب الإيجابيّ في فلسفة كانط، والذي يكمن في الإدراك الحَدْسيّ والعيانيّ المباشر للجميل. فالجميل لدى كانط هو "ما يسرّنا دونما اهتمام بالإرادة"، ومعالجة شوبنهاور للجميل تدور حول المعرفة النزيهة بكونها مقدّمة ضروريّة لإدراك المثال الذي يحقّق إشباعنا ومتعتنا الخالصة.
الفنون ودلالاتها الميتافيزيقيّة
إنّ مصدر الفنّ لدى شوبنهاور هو إدراك المثال وإيصاله، لذا فالفنون كلّها تعيد إنتاج المثال الذي تدركه عين الفنان، تبعًا لنوع المادة التي يعبّر بها الفنان عن هذا المثال، سواء كان هذا العمل الفني نحتًا، أو رسمًا، أو شعرًا، أو موسيقى. ولدى التمعّن في تصنيف شوبنهاور للفنون نراه يطرح ترتيبًا لها تبعًا لأهميتها ومكانتها في سلسلة هرميّة، فلكلّ مادة إمكانات متفاوتة القدرة على التعبير عن المثال ذي الدرجات المتباينة في تجسيد الإرادة. وتفترض معرفة الجميل على نحو متلازم جزأين مكوّنين هما الذات العارفة الخالصة، والمثال المعروف كموضوع. وقد تكمن المتعة الجمالية في إدراك المثال أكثر منه في حالة السعادة والطمأنينة الروحية للذات العارفة الخالصة، والعكس صحيح. يوضح شوبنهاور: "إنّ سيادة أحد هذين الجزأين المكوّنين للشعور الجماليّ على الآخر يعتمد واقعًا على ما إذا كان المثال المُدرَك حَدْسيًّا يمثّل درجة عليا أم دنيا من درجات موضوع الإرادة". إنّ الفنون التي تضمن لنا، خلال تأمّلها، سيادة الجانب الموضوعيّ للرؤية الجماليّة (المثال) على الجانب الذاتيّ (الذات العارفة الخالصة) هي بلا ريب أكثر قيمة جمالية من سواها.
"إذا كان الجميل، والجليل، موضوعين للحكم الجماليّ لدى كانط، فإنّهما موضوعان للتأمّل الجماليّ لدى شوبنهاور" |
في التصنيف الذي وضعه شوبنهاور للفنون، من الأعلى إلى الأدنى، يحتلّ الشعر المرتبة الأعلى، فالشعر مثل باقي الفنون يرمي إلى إدراك المثال، أو المثل، أي الكشف عن الحقائق العامة الكلّية مثلما تتجلّى في الموجودات الفردية، قائلًا: "رغم أنّ الشاعر، مثل أيّ فنان، يطرح لنا دومًا الجزئيّ، أي الفرديّ، فحسب، فإنّ ما يكون قد أدركه ويريد أن ندركه من خلال شعره هو المثال (الأفلاطوني). كذلك الشاعر الروائيّ والشاعر الدراميّ يتناولان الجزئيّ كاملًا من الحياة، ويصفان فرديّته بدقة. ومع ذلك، فإنّ الشاعر يكشف بهذه الطريقة مجمل الوجود الإنساني، فرغم أنّه يبدو معالجًا الجزئيّ يكون مهتمًّا في الواقع بما هو موجود في كلّ مكان وكلّ زمان". ولأنّ الشعر يعبّر عمّا هو عام في الطبيعة والوجود الإنسانيّ بأكمله، لذا فهو مرتبط بالفلسفة أكثر من باقي الفنون. ومع ذلك، يحرص شوبنهاور في الوقت عينه على إظهار الاختلاف بين الشعر والفلسفة، فرغم وحدة الموضوع الذي يسعيان إلى معالجته، يتّبع كلٌّ منهما طريقًا مختلفًا لبلوغ الهدف. يقول شوبنهاور موضحًا: "إنّ الشعر يرتبط بالفلسفة مثلما ترتبط التجربة بالعلم الأمبريقيّ (العلم التجريبيّ)، فالتجربة تجعلنا ندرك الظاهرة مثلما هي في الجزئيّ، وبواسطة الأمثلة، فيما يشمل العلم مجمل الظواهر بواسطة التصوّرات. ومثله الشعر، يسعى إلى جعلنا ندرك المثل (الأفلاطونية) من خلال الجزئيّ وعبر الأمثلة. في حين تهدف الفلسفة إلى العلم بكلّيته وفي شكل عام، وبالطبيعة الباطنيّة للمسائل التي تعبّر عن نفسها في تلك الأشياء. الشاعر في هذا المعنى هو إنسان عالميّ طالما أنّ لا حدود لعقله وخياله وإحساسه، فالوجود بأسره ملكٌ له، وكلّ ما سكن وتحرّك في صدر بشريّ هو مبحث الشاعر ومادته. قد يتغنّى الشاعر بالانغماس في الملذّات، وقد يتغنّى بالتصوّف، وقد يتمثّل العقل السامي، أو العقل العادي. الشاعر مرآة البشرية، يدفعها إلى وعي ما تشعر به وتقدم عليه". وإذا كان الشعر يستخدم التمثّل، أو التصوّر، فلا يعني ذلك أنّهما غايته، إذ أكّد شوبنهاور مرارًا على أنّ التمثّل، أو التصوّر، لا يمكن أن يكونا غايةً لأيّ فنّ، لأنّ غاية الفنّ إدراك "المثال" المحسوس لا التصوّر المجرّد. وإذا كان فنّا النحت والرسم لا يستخدمان المجاز أو التصوّر فلأنّهما يجسّدان المثال المحسوس، أو العيانيّ على نحو مباشر. أمّا الشعر فيستخدم المجاز، أو الرمز (allégorie)، أو التصوّر (concept)، لأنّ المثال لا يتمثّل في الشعر بطريقة مباشرة، ولذلك يلجأ إلى التصوّر الذي تنطوي عليه مادّته أي الكلمات. والشعر في عُرف شوبنهاور هو الفن الذي يستثير المخيّلة بواسطة الكلمات، واستثارة المخيّلة لدينا يكشف لنا الشاعر بها مثالًا، أي يبيّن لنا من خلال المثال ماهيّة الحياة والوجود. أيضًا، الوزن والقافية يعدان من العناصر المساعدة في التعبير عن الشعر، فهما وسيلة لتركيز انتباهنا، ويولّدان لدينا تصديقًا أعمى لما يُقرأ بطريقة قبْليّة سابقة على كلّ حكم، ما يهب القصيدة قدرًا معيّنًا من قوّة الإقناع. والشاعر، بحسب شوبنهاور، "مسؤول نصف مسؤولية فحسب عمّا يقوله، أمّا النصف الآخر فعلى عاتق الوزن والقافية". ومع ذلك فإنّ القافية الشعريّة ـ يؤكّد ـ يجب ألاّ تكون مصطنعة، وفي هذا يكمن الفرق بين الشاعر العبقريّ، والشاعر الرديء، في رأي شوبنهاور، مضيفًا: "إنّ العلاقة التي يميّز بها المرء فورًا الشاعر الأصيل هي الطبيعة اللاتعسّفية لقوافيه. فالقوافي تَرِد من تلقاء نفسها، كما لو كانت واردة بترتيب إلهيّ، إذ تأتيه أفكاره مقفّاة جاهزة. أمّا الشاعر النثريّ الركيك فعلى العكس من ذلك يبحث عن القافية لأجل الفكر، ويبحث الدجّال عن الفكر لأجل القافية" (ملاحظة: كم من شعرائنا العرب "الشكلانيين" الفارغين هم من تلك الفئة الأخيرة التي تبحث عن الفكر لأجل القافية!).
كذلك ينظر شوبنهاور إلى التراجيديا كقمّة في فنّ الشعر، قائلًا: "ينبغي أن ننظر إلى التراجيديا ونسلّم بكونها قمة الفن الشعريّ، لعظيم تأثيرها، ولصعوبة إنجازها"، فهي تمثّل الجانب المريع من الحياة، وأعلى وأوضح درجة لصراع الإرادة في الوجود، أي أنّها تتمثّل الإرادة كمصدر للألم والمعاناة والشقاء في الحياة والوجود البشريّ. مادّة التراجيديا هي مادة الحياة والوجود عينها ونسيجهما ذاته، وهما الألم والمعاناة. وباختصار، هي الإرادة. فنواح البشريّة، وغلبة الحظّ والقدر، وانتصار الشرّ، كلّها جليّة في هذا الفنّ. بل تكشف لنا التراجيديا أيضًا عبث كلّ جهد وصراع بشريّ، وتؤكد بالتالي على فكرة الاستسلام والتحرّر من إرادة الحياة. لذا "نرى في التراجيديات أنّ أسمى البشر، وبعد طول صراع ومعاناة، يتخلّون عن أهدافهم التي سعوا إليها بشغف، وعن متعات الحياة إلى الأبد". البطل التراجيديّ يتطهرّ من الإرادة بالألم والمعاناة، كأنّه يكفرّ عن خطيئته، بيد أنّه لا يكفرّ عن خطيئته الذاتيّة، بل عن الخطيئة الأصليّة، أي خطيئة وجوده، فأكبر خطايا الإنسان هي أنّه وُجِد، بحسب تعبير كالديرون̸ Calderon. تدفعنا التراجيديا إلى مقاومة إرادة الحياة، وإنكارها، والنظر إلى متعات الحياة بكونها وهمًا زائفًا. والمتعة الفنية في التراجيديا لا تنتمي إلى الإحساس بالجميل، بل بالإحساس بالجليل. وإذا كان الموضوع الأساسيّ في التراجيديا هو الحدث الجلل الذي يجسّد الشرّ والألم والمعاناة في وجودنا البشريّ، فإنّ تمثّل ذلك ـ على ما يرى شوبنهاور ـ يمكن أن يحصل بثلاث طرائق مختلفة: قد يحصل الحدث التراجيدي نتيجة حضور شخصية شريرة، وعلى نحو غير عادي، كما في تراجيديات شكسبير (الذي يحفظ شوبنهاور له تقديرًا خاصًا) "ريتشارد الثالث"، و"تاجر البندقية"، و"فيدرا"... وقد يحصل هذا الحدث عن طريق القدر الأعمى، أي المصادفة والخطأ، كما في تراجيديات القدامى، مثل "أوديبوس ملكًا" لسوفوكليس. أمّا النوع الثالث فيحصل الحدث فيه بمجرّد وضع الشخوص، بعضها في وجه البعض الآخر، فتتصارع وتتبادل الأذى عمدًا، وهذا النوع يتجاوز النوعين الآخرين إذ يجعلنا نرى الحدث المأساويّ لا كحدث استثنائيّ (كالقدر، أو الشخصية الشريرة جدًا)، بل كحدث عاديّ ناجم عن أفعال أشخاص عاديين، فيكون بذلك قريبًا منّا، كما في "هاملت"، و"فاوست".
والموسيقى لا يضعها شوبنهاور في مرتبة، أو تصنيف، لكونها تحتلّ وحدها تصنيفًا خاصًا بها. يقول موضحًا: "تقف الموسيقى وحدها منفصلةً عن باقي الفنون. فنحن لا ندرك في الموسيقى النسخة، أو الإعادة، لأي مثال من مثل الوجود في العالم. ومع ذلك، هي فنّ سامٍ جدًا، وتأثيرها في أعماق الإنسان قويّ جدًا، ويفهمها الإنسان تمامًا، وعلى نحو عميق، كلغة كونيّة كاملة يتجاوز وضوحها حتى وضوح العالم المحسوس نفسه". لا تعبرّ الموسيقى عن "الصور" لكونها نسخة من الأصل، أي أنّها تعبّر عن الإرادة ذاتها الموجودة فينا وفي الوجود. يؤكد شوبنهاور "إنّ تأثير الموسيقى أقوى وأكثر نفاذًا بما لا يقاس من باقي الفنون التي تتناول الظلال فحسب، فيما تنطق الموسيقى بالشيء بذاته (La chose en soi)". كما يرى أن لا أحد نجح عبر العصور في تفسير العلاقة الغامضة بين الموسيقى والعالم. وحين يقول شوبنهاور إنّ الموسيقى تعبّر عن العالم بذاته فإنّه يعني أنّها تعبّر عن الإرادة بذاتها. وأوّل ما يشرع فيه شوبنهاور لإثبات التوازي والتماثل بين الموسيقى والعالم هو "الهارموني" (harmonie)، فالنغمات التي تتكوّن منها توازي مكوّنات العالم، فالأصوات أو الأجزاء الأربعة لكلّ هارموني هي الـ bass، والـ tenor، والـ alto، والـ soprano، وهي تشبه الدرجات الأربع في سلسلة الوجود: المملكة المعدنية، المملكة النباتية، المملكة الحيوانية، والإنسان. وهنالك علاقة هذه الأجزاء الأربعة مع العالم، أو مع مستويات الإرادة. ومع ذلك، فإنّ الهارموني في رأي شوبنهاور ليست أهمّ عناصر البناء الموسيقيّ، فأهميتها ثانوية إذا ما قورنت بأهميّة الميلودي mélodie (الخطّ الأساسيّ في اللحن الموسيقيّ والموازي للإيقاع) التي تنطوي على العواطف والانفعالات، لذا قيل على الدوام إنّ الموسيقى هي لغة الشعور والعاطفة، مثلما هي الكلمات لغة العقل. (نشير هنا إلى أن ريتشارد فاغنر تأثّر عميقًا بفلسفة شوبنهاور ونظرياته في الفن والموسيقى، لكنّ الفيلسوف الألماني كان يفضّل موسيقى الإيطاليّ روسّيني).
ومن الموسيقى إلى النحت والرسم اللذين يرتبطان غالبًا في تأمّلات الفلاسفة وأبحاث علماء الجمال، وينطبق ذلك على فلسفة شوبنهاور الجمالية. فبالنسبة إليه تتمثّل أدنى درجات فنّ الرسم في لوحات الطبيعة الجامدة، أو الساكنة (تدعى بالفرنسية nature morte)، والفن الكنسيّ. وإذا كان عالم النبات يخضع في الطبيعة للتأمّل الجماليّ دونما حاجة إلى وسيط فني، فهو يتحوّل إلى موضوع للفنّ من خلال فن رسم المناظر الطبيعية. وإذا كانت المتعة الجماليّة قائمة في تأمّل لوحات الطبيعة الجامدة على الجانب الذاتيّ، لا الموضوعيّ، فإنّها في فنّ رسم المناظر الطبيعية تكمن في كلتيهما معًا، فالمثل في هذه الحال تكون أشدّ وضوحًا إلى حدّ ما. ويرتقي الرسم والنحت إلى مرتبة أرفع حين يكون الإنسان موضوعهما، أي تَمَثُّل الجمال البشريّ، كما في النحت والرسم التاريخيين، وفنّ البورتريه. إنّ مثال الإنسان هو التجسيد الموضوعيّ الأكمل للإرادة ويُعبَّر عنه بصورة حسّية جليّة هي الجمال البشريّ. والفرق أن الجمال والرشاقة هما الأساسيّان في النحت، بينما العاطفة والطابع المميّز للنوع يسودان في فنّ الرسم. فالرسم يستطيع أن يقدّم وجوهًا قبيحة وقوامات هزيلة، فيما يتطلّب النحت على العكس من ذلك جمالًا وكمالًا بدنيًّا. وقد أعلى شوبنهاور (رغم إلحاده وعدميته) من قيمة الرسوم الكنسيّة لكونها تصوّر الزهد الذي يرتبط ميتافيزيقيًّا بمعنى الحياة نفسها، فملامح الزاهد، أو القديس، لا تعبّر عن شهوة أو رغبة تحرّكها إرادة، بل تفصح عن سكينة وطمأنينة لذاتٍ تخلّت كلّيًا عن الحياة، أو عن إرادة الحياة. أّما عناصر اللون فتؤدي في نظر شوبنهاور دورًا جماليًا خاصًّا في الرسم، وهو جمال ناجم عن انسجام الألوان والتوزيع الملائم للضوء والظلّ، واللون الطاغي في اللوحة. إلاّ أنّ هذا الجمال ثانويّ، فهو أشبه بالوزن والإيقاع في الشعر، ومن هنا فإنّ اللون هو أحد عناصر التعبير عن الصورة، أو "المثال".
يتناول شوبنهاور في نظريته الجمالية والميتافيزيقية فنونًا أخرى، مثل فنّ العمارة، لكنّنا نكتفي بهذا القدر لضيق المجال. ويبقى الأهمّ، وباختصار، أنّ الفنّ بالنسبة إلى شوبنهاور ليس غرضًا للاستمتاع، بل هو يعيننا على أمرين جوهريين في أزمة الوجود: التأمّل في العمل الفنيّ الذي نتمثّل من خلاله الحقيقة المأساوية للوجود (وإن بواسطة الجمال وأدواته)، ومن ثمّ التلقّي بالحَدْس، لا بالعقل لهذا الفنّ أو ذاك، فالهدف أن يشكل الفنّ خلاصًا وملاذًا فرديين لنا، إذ لا بديل منه يسعفنا في تحمّل أزمتنا الوجوديّة.
*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.