"كتاب عشتار: في اللباس والجسد": علاقة الفلسفة بالراهن وقضاياه
عمر كوش
26 فبراير 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
يقدم الباحث والأكاديمي اللبناني ناصيف نصار في كتابه "كتاب عشتار: في اللباس والجسد" (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2022)، إجابة عن تساؤل يُطرح باستمرار حول علاقة الفلسفة بالراهن وقضاياه، من خلال تناوله ظواهر اللباس والجسد، وما يتصل بهما، بأسلوب يبتعد قدر الإمكان عن اللغة التجريدية الصعبة، وعن التوسع في المذاهب الفلسفية والنظريات المألوفة لدى أهل الاختصاص، مُعيدًا بذلك التأكيد على صلة الفلسفة بما يستجد من وقائع الحياة وأحوال الناس أينمًا كانوا، وعلى ضرورة أن تقول كلمتها في تناول الواقع المعيش في عصرنا، وأن تجاهر بقولها حيال ما يعتريه من أزمات ومشاكل وهموم، بالتالي فإن الكتاب يفنّد مقولات حصر الفلسفة في عوالم المثالية والتحليق الميتافيزيقي، واهتمام خطابها بالحقائق المطلقة والمبادئ المتعالية، وإبقائها خارج الزمن، وفوق التاريخ، وجعلها غريبة عن الواقع، لا يطالها التغير والتبدل المصاحب لحياة البشر. إضافة إلى أنه يشكل ردًا على اتهامات كثيرة توجه إلى الفلسفة، تسمها بالتعالي والغموض، عبر تقديمه نصًا، ينهض على "الفلسفة البسيطة"، التي تقول قولها العميق بـأبسط الكلمات، بأسلوب يقوم على محاورة رفيعة المستوى بين الحكيم وعشتار، تعتمد لغة بسيطة وعميقة، تجمع ما بين الشفهي والمكتوب، بما يسهل قول الكلام، ويجعله مفهومًا من عموم الناس، بالافتراق عما يفعله بعض الفلاسفة والمفكرين، ويتعمّده بعض المصابين بالتشاوف والتعالي الثقافي في أوساطنا الفكرية والثقافية، من غموض مصطنع ومبتذل، يجعل نصهم طلسمًا، وعصيًا على الفهم من طرف الجميع، بمن فيهم هم أنفسهم.
يكتب نصار نصًا بسيطًا في كلامه ومصطلحاته، ويجعل القول الفلسفي واضحًا ورشيقًا، وبما يؤنسن النص والخطاب معًا، ويلجأ إلى تقليد فلسفي قائم على الحوار، ويتخذه فسحة مشتركة، تجمع بين عشتار و"الحكيم النبيل"، حيث ينزل الحكيم/ الفيلسوف إليها، تاركًا برجه العالي وتأملاته في مطلقات عالم الميتافيزيقا، ليسكن بيته القديم والجامعة القريبة منه، وفي نفس الوقت تتجرد عشتار في تلك الفسحة من هالتها الأسطورية التي تصورها آلهة للحب والجمال في عدة ثقافات قديمة لتكتسي هوية إنسانية في الواقع اليومي المعيش، بوصفها ممثلة جميلة، تحترف التمثيل في المسرح والسينما، ويسكنها هواجس وتساؤلات حول حياتها المهنية والاجتماعية والشخصية، لذلك تبادر باقراح إجراء حوار مع "الحكيم النبيل"، فتروي بعضًا من ذكريات طفولتها ومحيطها الاجتماعي، وتتحدث عن اهتزاز علاقتها بما تلبسه، وعن أسباب التفاوت في اللباس التي تتطور إلى "أسباب الانتقال من المساواة في العري عند الولادة إلى التفاوت في اللباس بعد الولادة"، ثم تمتد إلى مسائل عديدة تخص ظواهر وقضايا الناس والمجتمع الراهنة مشعلة بذلك حوارًا فلسفيًا يتناول الذات المتجسدة والذات الحميمة ومعنى العري والتعرّي بالنسبة لكل منهما، ثم يتوسع إلى الذات العارفة وفكرة التعرّي عن الحقيقة نفسها لينتهي الحوار إلى اعتبار أن الإنسان العاري معرفيًا ليس الإنسان الخالي من المعارف، بل "الإنسان المنكشف أمام نور المعرفة والحقيقة، المتحرر من منظومة الحجب التي تحول دون إشعاعه في جوانيّته وبرانيّته".
يتضمن الكتاب تسعة فصول، هي بمثابة تسعة لقاءات، جمعت بين عشتار والحكيم، تبدأ بطرح سؤال "لماذا لسنا عراة؟" في اللقاء الأول، ثم ينفتح الحوار على قضايا تتناول ظاهرة اللباس ووظائفه، والحشمة والمجال الاجتماعي، ومقولة "جسدي يخصني"، ويمتد إلى التفكير في الجسد، والمساواة بين الجنسين، والنظرة الرأسمالية إلى اللباس والجسد وإلى مسألة السعادة، وصولًا إلى "الإنسان العاري" في اللقاء التاسع والأخير. وخلال تلك اللقاءات، تبدو عشتار وكأنها عقل مواز لعقل الحكيم، أو بالأحرى آخر متخيل، لا يكتفي بطرح أسئلته فقط، بل يسهم في إغناء الحوار بأقواله وأطروحاته في شتى القضايا والمسائل المطروحة في الكتاب.
تكمن الغاية من هذا الحوار الفلسفي في السعي إلى تمكين القارئ، أو بالأحرى الإنسان، من امتلاك نظرة واضحة ومتماسكة إلى اللباس، بوصفه ظاهرة إنسانية كونية، بأبعادها ومستلزماتها وأصولها في بنية الذات المتجسدة، قبل أن تكون قضية اجتماعية أو سياسية قابلة للاستغلال والتوظيف في هذا الاتجاه أو ذاك. لكن الأهم هو امتلاك تصور إجمالي لقيمة الدور الخاص الذي يمكن أن يؤديه النظر الفلسفي في قضايا الحياة اليومية، قياسًا على قضية اللباس، بغية إغناء تفكير القارئ في شؤون حياته اليومية، وتوفير ممكنات استثمار ذلك التفكير العقلي في مختلف المجالات الاجتماعية والمهنية والأسرية.
يركز نصار على ضرورة التمييز بين نوعين من الوظائف الأساسية العامة المرتبطة باستخدام الثياب، والوظائف الإضافية الخاصة، حيث يرجع الوظائف الأساسية العامة التي تفرض نفسها على ثقافة اللباس إلى ثلاث وظائف، هي: الوظيفة الصحية، والوظيفة التشكيلية، والوظيفة الأخلاقية. "فكل لباس يؤدي، بكيفية أو بأخرى، وظيفة متصلة بالصحة، ووظيفة متصلة بالشكل، ووظيفة متصلة بالأخلاقيات. والفن كله يدور على الكيفية التي تجتمع بها هذه الوظائف وتتكامل"، وبالتالي ليس من الخطأ الاعتقاد بأن الوظيفة الصحية تتقدم على غيرها من الوظائف في المجرى العام لظاهرة اللباس. أما منظومات المخاوف والاحتياجات، المتعلقة بالعري والملبوسات، وتلك التي تتعلق بالعراء والمساكن، فإن سعي الإنسان يقوم على التجاوب مع مقتضيات تلك المنظومات بالوسائل المناسبة الممكنة التي يتزود بها من مخزون الثقافة.
غير أن الوظيفة الأساسية العامة لارتداء الثياب بعد الوظيفة الصحية هي تحسين الشكل، حيث العناية بالشكل هي ترتيب الحدود بين المطلوب حجبه والمطلوب كشفه بالنسبة إلى الجسم كله، الأمر الذي يقود إلى الانتقال من الوظيفة الأخلاقية إلى تحليل الوظيفة التشكيلية، إذ ثمة قواعد متصلة بقيمة الجمال تراعيها بدرجة أو بأخرى جميع الأطراف الداخلة في صناعة الملابس واستهلاكها. وعليه فإن من الواجب، و"ليس من المباح، أن يمارس الإنسان لعبة الحجب والكشف في ارتداء ملابسه، وأن يمارس ترتيب الحدود في هذه اللعبة على أساس استتباع ما يمكن أو يحسن حجبه لما يجب حجبه، وما يمكن أو يحسن تركه مكشوفًا لما يجب تركه مكشوفًا". وفي موازاة حماية الجسم من بعض المخاطر التي تهدد سلامته من البيئة الطبيعية، يؤمن ارتداء الملابس حماية الشخص من بعض المخاطر التي تهدد خصوصيته وكرامته من البيئة الاجتماعية.
الحرص على إعلاء مقام الوظيفة الأخلاقية للباس لدى نصار، يرجع إلى الانطلاق من إيمانه الراسخ بكرامة الإنسان ودوره في محيطه، ورفضه طغيان "أخلاقية الستار" التي تنهض على قمع الجسد كي تمنع عنه مواجهة العالم المحيط بندّية، لذلك يرى أن الوظيفة الأخلاقية لعملية ارتداء الملابس تتحدد "بمقدار ما تسهم به في الحفاظ على كرامة الشخص وخصوصيته، بوصفه ذاتًا متجسدة في مواجهة غيرها من الذوات المتجسدة". أما الجسد فيحضر في مختلف دلالاته في الفضائين الخاص والعام، بصفته كائنًا حيًا، يولد في العالم، ثم ينمو كي يمتلك حضورًا فيه متأثرًا بضوابطه وكوابحه وبسرديّات تريد إطلاق رغباته إلى حدود قصوى، لكنه يبقى مليئًا بالمعنى وبتطوره التاريخي، لذلك ينحاز نصار في مجمل كتابه إلى موقف فلسفي أخلاقي، مبني على ضرورة تطبيق مبدأ الكرامة على الجسد، أسوة بتطبيقه على الذاتية الجوانية، لأن احترام الإنسان بوصفه إنسانًا هو احترام له بوصفه ذاتًا جوانية، وفي الوقت عينه بوصفه ذاتًا متجسدة. وكرامة الجسد من كرامة الشخص، لا لصفة نسبية ومتغيرة فيه كاللون والقامة، بل لذاته وصفاته في ذاته كالحرية والعقل والشعور بالإهانة. ووفق هذا المنظور الأخلاقي يتحول الاعتبار من الجسم إلى الجسد، وقضيته المركزية هي الكرامة الشخصية للفرد، التي لا ينقضها إطلاقًا الوجود مع الآخرين، حيث يكتسب الجسد في ظلها خصوصية بارزة بين خصوصيات الشخص بكاملها في وجوده مع الآخرين، لذلك يحذر نصار من خطورة مسعى الليبرالية المتطرفة إلى انفتاح يقفز فوق الحدود والضوابط المدنية للمجتمعات خاصة مع الثورة الهائلة التي يشهدها فوران الجسد وتمثيلاته على وسائل التواصل الاجتماعي والاقتصاد الرأسمالي، الراغب دائمًا في تشييئ الجسد، وتسليعه وكسر إنسانيته. كما أن موقفه الفلسفي الأخلاقي، جعله يتخذ موقفًا رافضًا لأطروحات ومساعي الليبرالية المتطرفة التي تحاول إلغاء فكرة الواجب من أخلاقية الحرية، لأن الواجب موجود في مبادئ الفعل الإنساني، ويفضل "الليبرالية التكافلية"، باعتبار أن المرجع هو نظرية انبثاق الوجود بالفعل والقيم الاجتماعية التي لا بد منها لفهم الحرية فهمًا صحيحًا.
يدافع نصار عن مبدأ "التكامل" بين الجنسين على أساس أربعة مبادئ: الحرية لجميع الناس، والمساواة الجوهرية بين الرجل والمرأة، والعيش المشترك، والتفاوت المشروع. أما موقفه من ظواهر العري واللباس والحشمة فتبنى على مبدأ حفظ الكرامة الإنسانية، وفكرة تعدد معاني الجسد وفضاءاته بين الخاص والعام. والأمر نفسه ينسحب على تناول شعار الحركات النسائية الأساسي "جسدي يخصني"، الذي يلحقه بسؤال: وماذا بعد؟ ذلك أن الجسد ليس سيد نفسه بالمطلق، والكرامة التي يملكها مستمدة من كرامة الأنا التي تمتلكه كجزء لا يتجزأ منها، والتي تمارس الاستقلالية والسيادة على نفسها بإرادتها الحرة، ولا خشية من القول بإرادتها العاقلة. وفي هذا السياق، يوجه سهام نقد إلى الليبرالية المتطرفة التي ترمي إلى حصر ملكية الجسد، في دائرة الأنا الفردية وحدها، لكي تطلق استخدامه بحرية تامة وفقًا لرغبات الفرد وأهوائه. ومع ذلك فإن الليبرالية، مهما بلغت من التطرف في الفردانية، فإنها لا تستطيع إخراج الأنوات المتجسدة من الاجتماعية، والتأثيرات الممكنة في حالات الجسد وتحولاته المباشرة وغير المباشرة. كما أن إضافة الجسد إلى الأنا ليس إضافة من الخارج، وإنما هي علاقة تقوم داخل الأنا، وتنبني في تفاعل معقد بين الداخل والخارج، وماهيتها أن الجسد يتماهى مع الأنا من دون أن تكون هذه الأنا بكليتها، "لأن الاعتراف بأن الجسد يخصنا لا يعني إهمال الدور الحيوي، الذي يؤديه الوجود مع الآخر في سياسة الجسد، فالعلاقة بين الجسد والمجتمع علاقة قائمة على الدوام، لكنها ليست مباشرة، بل تمر عبر إدارة الأنا وسياساتها".
عمر كوش
26 فبراير 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
يقدم الباحث والأكاديمي اللبناني ناصيف نصار في كتابه "كتاب عشتار: في اللباس والجسد" (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2022)، إجابة عن تساؤل يُطرح باستمرار حول علاقة الفلسفة بالراهن وقضاياه، من خلال تناوله ظواهر اللباس والجسد، وما يتصل بهما، بأسلوب يبتعد قدر الإمكان عن اللغة التجريدية الصعبة، وعن التوسع في المذاهب الفلسفية والنظريات المألوفة لدى أهل الاختصاص، مُعيدًا بذلك التأكيد على صلة الفلسفة بما يستجد من وقائع الحياة وأحوال الناس أينمًا كانوا، وعلى ضرورة أن تقول كلمتها في تناول الواقع المعيش في عصرنا، وأن تجاهر بقولها حيال ما يعتريه من أزمات ومشاكل وهموم، بالتالي فإن الكتاب يفنّد مقولات حصر الفلسفة في عوالم المثالية والتحليق الميتافيزيقي، واهتمام خطابها بالحقائق المطلقة والمبادئ المتعالية، وإبقائها خارج الزمن، وفوق التاريخ، وجعلها غريبة عن الواقع، لا يطالها التغير والتبدل المصاحب لحياة البشر. إضافة إلى أنه يشكل ردًا على اتهامات كثيرة توجه إلى الفلسفة، تسمها بالتعالي والغموض، عبر تقديمه نصًا، ينهض على "الفلسفة البسيطة"، التي تقول قولها العميق بـأبسط الكلمات، بأسلوب يقوم على محاورة رفيعة المستوى بين الحكيم وعشتار، تعتمد لغة بسيطة وعميقة، تجمع ما بين الشفهي والمكتوب، بما يسهل قول الكلام، ويجعله مفهومًا من عموم الناس، بالافتراق عما يفعله بعض الفلاسفة والمفكرين، ويتعمّده بعض المصابين بالتشاوف والتعالي الثقافي في أوساطنا الفكرية والثقافية، من غموض مصطنع ومبتذل، يجعل نصهم طلسمًا، وعصيًا على الفهم من طرف الجميع، بمن فيهم هم أنفسهم.
يكتب نصار نصًا بسيطًا في كلامه ومصطلحاته، ويجعل القول الفلسفي واضحًا ورشيقًا، وبما يؤنسن النص والخطاب معًا، ويلجأ إلى تقليد فلسفي قائم على الحوار، ويتخذه فسحة مشتركة، تجمع بين عشتار و"الحكيم النبيل"، حيث ينزل الحكيم/ الفيلسوف إليها، تاركًا برجه العالي وتأملاته في مطلقات عالم الميتافيزيقا، ليسكن بيته القديم والجامعة القريبة منه، وفي نفس الوقت تتجرد عشتار في تلك الفسحة من هالتها الأسطورية التي تصورها آلهة للحب والجمال في عدة ثقافات قديمة لتكتسي هوية إنسانية في الواقع اليومي المعيش، بوصفها ممثلة جميلة، تحترف التمثيل في المسرح والسينما، ويسكنها هواجس وتساؤلات حول حياتها المهنية والاجتماعية والشخصية، لذلك تبادر باقراح إجراء حوار مع "الحكيم النبيل"، فتروي بعضًا من ذكريات طفولتها ومحيطها الاجتماعي، وتتحدث عن اهتزاز علاقتها بما تلبسه، وعن أسباب التفاوت في اللباس التي تتطور إلى "أسباب الانتقال من المساواة في العري عند الولادة إلى التفاوت في اللباس بعد الولادة"، ثم تمتد إلى مسائل عديدة تخص ظواهر وقضايا الناس والمجتمع الراهنة مشعلة بذلك حوارًا فلسفيًا يتناول الذات المتجسدة والذات الحميمة ومعنى العري والتعرّي بالنسبة لكل منهما، ثم يتوسع إلى الذات العارفة وفكرة التعرّي عن الحقيقة نفسها لينتهي الحوار إلى اعتبار أن الإنسان العاري معرفيًا ليس الإنسان الخالي من المعارف، بل "الإنسان المنكشف أمام نور المعرفة والحقيقة، المتحرر من منظومة الحجب التي تحول دون إشعاعه في جوانيّته وبرانيّته".
تكمن الغاية من هذا الحوار الفلسفي في السعي إلى تمكين القارئ، أو بالأحرى الإنسان، من امتلاك نظرة واضحة ومتماسكة إلى اللباس، بوصفه ظاهرة إنسانية كونية، بأبعادها ومستلزماتها وأصولها في بنية الذات المتجسدة |
تكمن الغاية من هذا الحوار الفلسفي في السعي إلى تمكين القارئ، أو بالأحرى الإنسان، من امتلاك نظرة واضحة ومتماسكة إلى اللباس، بوصفه ظاهرة إنسانية كونية، بأبعادها ومستلزماتها وأصولها في بنية الذات المتجسدة، قبل أن تكون قضية اجتماعية أو سياسية قابلة للاستغلال والتوظيف في هذا الاتجاه أو ذاك. لكن الأهم هو امتلاك تصور إجمالي لقيمة الدور الخاص الذي يمكن أن يؤديه النظر الفلسفي في قضايا الحياة اليومية، قياسًا على قضية اللباس، بغية إغناء تفكير القارئ في شؤون حياته اليومية، وتوفير ممكنات استثمار ذلك التفكير العقلي في مختلف المجالات الاجتماعية والمهنية والأسرية.
يركز نصار على ضرورة التمييز بين نوعين من الوظائف الأساسية العامة المرتبطة باستخدام الثياب، والوظائف الإضافية الخاصة، حيث يرجع الوظائف الأساسية العامة التي تفرض نفسها على ثقافة اللباس إلى ثلاث وظائف، هي: الوظيفة الصحية، والوظيفة التشكيلية، والوظيفة الأخلاقية. "فكل لباس يؤدي، بكيفية أو بأخرى، وظيفة متصلة بالصحة، ووظيفة متصلة بالشكل، ووظيفة متصلة بالأخلاقيات. والفن كله يدور على الكيفية التي تجتمع بها هذه الوظائف وتتكامل"، وبالتالي ليس من الخطأ الاعتقاد بأن الوظيفة الصحية تتقدم على غيرها من الوظائف في المجرى العام لظاهرة اللباس. أما منظومات المخاوف والاحتياجات، المتعلقة بالعري والملبوسات، وتلك التي تتعلق بالعراء والمساكن، فإن سعي الإنسان يقوم على التجاوب مع مقتضيات تلك المنظومات بالوسائل المناسبة الممكنة التي يتزود بها من مخزون الثقافة.
غير أن الوظيفة الأساسية العامة لارتداء الثياب بعد الوظيفة الصحية هي تحسين الشكل، حيث العناية بالشكل هي ترتيب الحدود بين المطلوب حجبه والمطلوب كشفه بالنسبة إلى الجسم كله، الأمر الذي يقود إلى الانتقال من الوظيفة الأخلاقية إلى تحليل الوظيفة التشكيلية، إذ ثمة قواعد متصلة بقيمة الجمال تراعيها بدرجة أو بأخرى جميع الأطراف الداخلة في صناعة الملابس واستهلاكها. وعليه فإن من الواجب، و"ليس من المباح، أن يمارس الإنسان لعبة الحجب والكشف في ارتداء ملابسه، وأن يمارس ترتيب الحدود في هذه اللعبة على أساس استتباع ما يمكن أو يحسن حجبه لما يجب حجبه، وما يمكن أو يحسن تركه مكشوفًا لما يجب تركه مكشوفًا". وفي موازاة حماية الجسم من بعض المخاطر التي تهدد سلامته من البيئة الطبيعية، يؤمن ارتداء الملابس حماية الشخص من بعض المخاطر التي تهدد خصوصيته وكرامته من البيئة الاجتماعية.
يحذر نصار من خطورة مسعى الليبرالية المتطرفة إلى انفتاح يقفز فوق الحدود والضوابط المدنية للمجتمعات خاصة مع الثورة الهائلة التي يشهدها فوران الجسد وتمثيلاته على وسائل التواصل الاجتماعي والاقتصاد الرأسمالي، الراغب دائمًا في تشييئ الجسد وتسليعه وكسر إنسانيته |
يدافع نصار عن مبدأ "التكامل" بين الجنسين على أساس أربعة مبادئ: الحرية لجميع الناس، والمساواة الجوهرية بين الرجل والمرأة، والعيش المشترك، والتفاوت المشروع. أما موقفه من ظواهر العري واللباس والحشمة فتبنى على مبدأ حفظ الكرامة الإنسانية، وفكرة تعدد معاني الجسد وفضاءاته بين الخاص والعام. والأمر نفسه ينسحب على تناول شعار الحركات النسائية الأساسي "جسدي يخصني"، الذي يلحقه بسؤال: وماذا بعد؟ ذلك أن الجسد ليس سيد نفسه بالمطلق، والكرامة التي يملكها مستمدة من كرامة الأنا التي تمتلكه كجزء لا يتجزأ منها، والتي تمارس الاستقلالية والسيادة على نفسها بإرادتها الحرة، ولا خشية من القول بإرادتها العاقلة. وفي هذا السياق، يوجه سهام نقد إلى الليبرالية المتطرفة التي ترمي إلى حصر ملكية الجسد، في دائرة الأنا الفردية وحدها، لكي تطلق استخدامه بحرية تامة وفقًا لرغبات الفرد وأهوائه. ومع ذلك فإن الليبرالية، مهما بلغت من التطرف في الفردانية، فإنها لا تستطيع إخراج الأنوات المتجسدة من الاجتماعية، والتأثيرات الممكنة في حالات الجسد وتحولاته المباشرة وغير المباشرة. كما أن إضافة الجسد إلى الأنا ليس إضافة من الخارج، وإنما هي علاقة تقوم داخل الأنا، وتنبني في تفاعل معقد بين الداخل والخارج، وماهيتها أن الجسد يتماهى مع الأنا من دون أن تكون هذه الأنا بكليتها، "لأن الاعتراف بأن الجسد يخصنا لا يعني إهمال الدور الحيوي، الذي يؤديه الوجود مع الآخر في سياسة الجسد، فالعلاقة بين الجسد والمجتمع علاقة قائمة على الدوام، لكنها ليست مباشرة، بل تمر عبر إدارة الأنا وسياساتها".
- عنوان الكتاب: كتاب عشتار: في اللباس والجسد
- المؤلف: ناصيف نصار