عنف في نيجيريا وعنصرية أوسترالية وسفينة مرضى نفسانيين على نهر السين وفيلم يمني عن الإجهاض
هوفيك حبشيان ....
التنوع من سمات هذه الدورة من مهرجان برلين السينمائي (16 - 26 فيراير- شباط) الذي حرص على تقديم بانوراما شاملة للإانتاج السينمائي في العالم. إلا أن ثمة مسألة بات الحديث عنها ضرورياً: السينمائيون أصبحوا إما أن يختاروا القسوة أو الرقة في التعاطي مع الموضوع الذي يعالجونه. والخيار الذي يقومون به تفرضه عناصر عدة، أبرزها الخلفية الثقافية لكل مخرج، بالاضافة إلى تجربته والمدرسة السينمائية التي يأتي منها وذوقه الفني ونزعاته الجمالية، وأحياناً الحكاية نفسها، اذ لا يمكن مثلاً أن تروي الحرب كما تروي الحب، إلا إذا كنت هيتشكوك الذي كان يقول إنه يصور مشاهد الحب كمشاهد جريمة، ومشاهد الجريمة كمشاهد حب.
في فيلمه الروائي الطويل الأول، "فتى الديسكو"، المعروض داخل المسابقة، إختار المخرج الإيطالي جياكومو ابروتسيزي القسوة الشديدة. منذ أول اطلالة لبطل الفيلم الشاب البيلاروسي آلكسي (فرانز روغوفسكي) على الشاشة، تسود لدينا حالة من عدم الإرتياح. المظهر الخارجي للشاب الشبيه بالسايكو يولّد هذا الاحساس، لكن الجو العام هو الذي يعززه. يجب القول إن العالم الذي نجد أنفسنا فيه، قاس ولا يرحم. هو عالم الحروب والهجرة ومحاولة الإنسان إيجاد مكان له، مهما كلف الثمن. يغادر ألكسي بلاده متوجهاً إلى باريس، فيلتحق بالفيلق الأجنبي (فرع من فروع الخدمة العسكرية التابعة للجيش الفرنسي)، الذي يقبل جميع المجندين الأجانب الراغبين في الخدمة ضمن القوات المسلحة الفرنسية. مقابل هذه الخدمة، ينال الجنسية الفرنسية. يصبح ألكسي مرتزقاً يحارب في النيجر، حيث نزاع مسلح، ويتصدى لنيجيريين يدافعون عن أرضهم. وفي لحظة، يجد نفسه في مواجهة مع شاب نيجيري يحاول مثله الصمود.
من خلال هذه الحكاية "الفاوستية"، على حد تعبير المخرج، حاول الفيلم أن يضع الأضداد وجهاً لوجه، بهدف الإطلاع على وجهتي نظر مختلفتين، على عكس الكثير من أفلام الحروب التي ترينا الصراع من جانب واحد. يقول الفيلم ان الذين يحكمون هذا العالم يضعون الفقراء والمقهورين في مواجهة ليقاتلوا بعضهم بعضاً. الشاعر الفرنسي بول فاليري كتب: "الحرب هي تقاتل بين ناس لا يعرفون بعضهم بعضاً لمصلحة ناس يعرفون بعضهم بعضاً ولكن لا يتقاتلون". الفيلم ترجمة حرفية لهذه الفكرة التي ينقلها المخرج بقوة بصرية مميزة إلى الشاشة. الخيارات الجمالية غير الإعتيادية التي قام بها، تساهم في إشاعة هذا الجو الكابوسي الذي يسقط فيه ألكسي، هذا بالاضافة إلى الوهم الذي يسقط فيه أيضاً. لا جنة خلف الحدود، بل قتل وتشرد.
فيلم آخر على قدر كبير من القسوة، رغم عنوانه، "بقاء اللطف" للمخرج الأوسترالي من أصل هولندي رولف دو هر المتخصص بسينما ردت الإعتبار إلى السكان الأصليين لأوستراليا. هذا الفيلم رغم أنه أحد أسوأ الأعمال المعروضة داخل المسابقة، هو خير نموذج للسينما التي تعتمد القسوة والعنف في سرد حكاية العنصرية والظلم. هناك مَن يؤمن أن الاسلوب هذا يؤثر في المشاهد ويجعله متعاطفاً مع القضية النبيلة المطروحة. غير ان ما يحدث مع المشاهد هو العكس: نسيان كامل للفيلم فور خروجه من الصالة. ولو أن الواحد منا لم يدون بعض الملاحظات على ورقة أثناء المشاهدة، لما استطاع الكتابة عنه.
"بقاء اللطف" فيه الكثير من التصنّع وهو يأتي برؤية تبسيطية للإستعمار والعنصرية. يبدأ الفيلم بسيدة سوداء (مواجيمي حسين) تُزج في قفص داخل الصحراء. نراها تعاني من أجل الخروج منه والهروب. في النهاية تنجح، وفور خروجها من القفص تجد نفسها تواجه الجحيم، فالجميع يتقاتل مع الجميع. هناك أشخاص يرتدون أقنعة غاز يتعقبونها ويريدون لها الشر، واللافت ان الجميع يتحدث لغة غير مفهومة أشبه بأصوات لا كلام. فعلى ما يبدو هناك وباء تفشّى في أنحاء البلاد محدثاً دماراً وخراباً، أما الناس فباتوا يبصقون الدم. الأجواء أبوكاليبتية توحي بأن كارثة ما مرت من هنا. الأحداث كلها عبارة عن مطاردات ومحاولات هرب لا تنتهي إلا مع قرار السيدة السوداء بالعودة إلى القفص، في اشارة من المخرج بأن القفص أكثر أماناً لها. في هذا الخطاب شيء من السذاجة. والمستغرب أن الفيلم نال جائزة النقاد (“فيبريسي”) أمس في المهرجان.
مقابل قسوة هذين الفيلمين، جاء "على قارب الأدامان" للمخرج الفرنسي نيكولا فيليبير ليؤكد أن العالم بألف خير وأن الرقة هي الحل في وجود أمثاله. مع هذا الوثائقي المشارك في المسابقة، يصور المخرج الكبير المعروف بأساليبه الخاصة لالتقاط الواقع، أشخاصاً يشكون من أمراض نفسية وعقلية، ويزورون بانتظام مركزاً للعلاج يقع على قارب، على نهر السين الباريسي. يوثق الفيلم يوميات المرضى والأنشطة الثقافية والترفيهية التي ينظمونها في إطار البرنامج الصحي الذي ينالونه. هناك أيضاً لقاءات متواصلة مع المعالجين، وهذا كله في اطار غير تقليدي، الأمر الذي لفت انتباه فيليبير. مجموعة شخصيات بعضها سينمائي بامتياز، كالمثقف المطلع على الأفلام والفن التشكيلي، وهم يقفون أمام كاميرا فيليبير الذي يعرف كيف يستخرج منها جوانب لا يراها آخرون.
يتأخر على الوجوه فيخلق حناناً وعطفاً من دون أن يحولهم مادة وموضوعاً للإبتزاز العاطفي، فهذا كله بعيد عن آليات اشتغاله. لا يقترب فيليبير منهم كمرضى ولا يصنفهم، بل يقدمهم كأشخاص مختلفين، يبحثون عن بعض الدفء والطمأنينة على هذا القارب، بعيداً من المستشفيات الكبيرة. تكفي بضعة مشاهد باريسية للمنطقة التي يرسو فيها قارب الأدامان، كي يؤكد فيليبير أي معسكر اختار: الإنسان وعمق تجربته. الحياة تمشي دربها المعتاد وبسرعتها المعتادة التي توحي بأنها لا تكترث لشيء، وفيليبير ينتظر شروق الشمس ليصور يوماً آخر في حياة بشر لا يصنعون بالضروة عالمنا الحالي، لكنهم جزء أساسي من جماله.
على هذا النهج الهادئ يمشي أيضاً الفيلم اليمني، "المرهقون" لعمرو جمال، المعروض داخل "بانوراما". فيلم عن تعاسة العيش في بلد مثل اليمن لا تتوفر فيه مقومات العيش السليم. داخل هذا المناخ، يموضع المخرج قصة عائلة من الطبقة الوسطى، تتدهور حالتها المعيشية فتجبر على الإنتقال إلى بيت أصغر أقل كلفةً. لكنّ إسراء (عبير محمد)، ربة العائلة، تكتشف أنها حامل وتنتظر طفلها الرابع. ولأن الحالة المادية لا تسمح بطفل جديد، فتقرر بالتنسيق مع زوجها (خالد حمدان) الإجهاض، وهذا ما يدخل الفيلم في مجموعة خطوات نفسية وبيروقراطية للقيام بالإجهاض، علماً أننا في بلد محافظ حيث الكلمة الفصل، للدين والمجتمع والزوج، حتى وإن تكن المسألة متعلقه بشيء يخص المرأة في الدرجة الأولى. يتعامل عمرو جمال مع الموضوع بمسؤولية وهدوء، من دون أي انزلاق إلى الإثارة، مما يجعلنا نتجاوز بعض الهفوات في الفيلم، والضعف على مستوى الأداء والإخراج. في مجمل الأحوال، نحن أمام فيلم جريء بالمعايير اليمنية، يتناول مسألة الإجهاض كاستعارة سياسية، مصوراً حال المجتمع في ظل الإنهيار الإقتصادي الذي يعصف بحياة الناس.
هوفيك حبشيان ....
التنوع من سمات هذه الدورة من مهرجان برلين السينمائي (16 - 26 فيراير- شباط) الذي حرص على تقديم بانوراما شاملة للإانتاج السينمائي في العالم. إلا أن ثمة مسألة بات الحديث عنها ضرورياً: السينمائيون أصبحوا إما أن يختاروا القسوة أو الرقة في التعاطي مع الموضوع الذي يعالجونه. والخيار الذي يقومون به تفرضه عناصر عدة، أبرزها الخلفية الثقافية لكل مخرج، بالاضافة إلى تجربته والمدرسة السينمائية التي يأتي منها وذوقه الفني ونزعاته الجمالية، وأحياناً الحكاية نفسها، اذ لا يمكن مثلاً أن تروي الحرب كما تروي الحب، إلا إذا كنت هيتشكوك الذي كان يقول إنه يصور مشاهد الحب كمشاهد جريمة، ومشاهد الجريمة كمشاهد حب.
في فيلمه الروائي الطويل الأول، "فتى الديسكو"، المعروض داخل المسابقة، إختار المخرج الإيطالي جياكومو ابروتسيزي القسوة الشديدة. منذ أول اطلالة لبطل الفيلم الشاب البيلاروسي آلكسي (فرانز روغوفسكي) على الشاشة، تسود لدينا حالة من عدم الإرتياح. المظهر الخارجي للشاب الشبيه بالسايكو يولّد هذا الاحساس، لكن الجو العام هو الذي يعززه. يجب القول إن العالم الذي نجد أنفسنا فيه، قاس ولا يرحم. هو عالم الحروب والهجرة ومحاولة الإنسان إيجاد مكان له، مهما كلف الثمن. يغادر ألكسي بلاده متوجهاً إلى باريس، فيلتحق بالفيلق الأجنبي (فرع من فروع الخدمة العسكرية التابعة للجيش الفرنسي)، الذي يقبل جميع المجندين الأجانب الراغبين في الخدمة ضمن القوات المسلحة الفرنسية. مقابل هذه الخدمة، ينال الجنسية الفرنسية. يصبح ألكسي مرتزقاً يحارب في النيجر، حيث نزاع مسلح، ويتصدى لنيجيريين يدافعون عن أرضهم. وفي لحظة، يجد نفسه في مواجهة مع شاب نيجيري يحاول مثله الصمود.
من خلال هذه الحكاية "الفاوستية"، على حد تعبير المخرج، حاول الفيلم أن يضع الأضداد وجهاً لوجه، بهدف الإطلاع على وجهتي نظر مختلفتين، على عكس الكثير من أفلام الحروب التي ترينا الصراع من جانب واحد. يقول الفيلم ان الذين يحكمون هذا العالم يضعون الفقراء والمقهورين في مواجهة ليقاتلوا بعضهم بعضاً. الشاعر الفرنسي بول فاليري كتب: "الحرب هي تقاتل بين ناس لا يعرفون بعضهم بعضاً لمصلحة ناس يعرفون بعضهم بعضاً ولكن لا يتقاتلون". الفيلم ترجمة حرفية لهذه الفكرة التي ينقلها المخرج بقوة بصرية مميزة إلى الشاشة. الخيارات الجمالية غير الإعتيادية التي قام بها، تساهم في إشاعة هذا الجو الكابوسي الذي يسقط فيه ألكسي، هذا بالاضافة إلى الوهم الذي يسقط فيه أيضاً. لا جنة خلف الحدود، بل قتل وتشرد.
فيلم آخر على قدر كبير من القسوة، رغم عنوانه، "بقاء اللطف" للمخرج الأوسترالي من أصل هولندي رولف دو هر المتخصص بسينما ردت الإعتبار إلى السكان الأصليين لأوستراليا. هذا الفيلم رغم أنه أحد أسوأ الأعمال المعروضة داخل المسابقة، هو خير نموذج للسينما التي تعتمد القسوة والعنف في سرد حكاية العنصرية والظلم. هناك مَن يؤمن أن الاسلوب هذا يؤثر في المشاهد ويجعله متعاطفاً مع القضية النبيلة المطروحة. غير ان ما يحدث مع المشاهد هو العكس: نسيان كامل للفيلم فور خروجه من الصالة. ولو أن الواحد منا لم يدون بعض الملاحظات على ورقة أثناء المشاهدة، لما استطاع الكتابة عنه.
"بقاء اللطف" فيه الكثير من التصنّع وهو يأتي برؤية تبسيطية للإستعمار والعنصرية. يبدأ الفيلم بسيدة سوداء (مواجيمي حسين) تُزج في قفص داخل الصحراء. نراها تعاني من أجل الخروج منه والهروب. في النهاية تنجح، وفور خروجها من القفص تجد نفسها تواجه الجحيم، فالجميع يتقاتل مع الجميع. هناك أشخاص يرتدون أقنعة غاز يتعقبونها ويريدون لها الشر، واللافت ان الجميع يتحدث لغة غير مفهومة أشبه بأصوات لا كلام. فعلى ما يبدو هناك وباء تفشّى في أنحاء البلاد محدثاً دماراً وخراباً، أما الناس فباتوا يبصقون الدم. الأجواء أبوكاليبتية توحي بأن كارثة ما مرت من هنا. الأحداث كلها عبارة عن مطاردات ومحاولات هرب لا تنتهي إلا مع قرار السيدة السوداء بالعودة إلى القفص، في اشارة من المخرج بأن القفص أكثر أماناً لها. في هذا الخطاب شيء من السذاجة. والمستغرب أن الفيلم نال جائزة النقاد (“فيبريسي”) أمس في المهرجان.
مقابل قسوة هذين الفيلمين، جاء "على قارب الأدامان" للمخرج الفرنسي نيكولا فيليبير ليؤكد أن العالم بألف خير وأن الرقة هي الحل في وجود أمثاله. مع هذا الوثائقي المشارك في المسابقة، يصور المخرج الكبير المعروف بأساليبه الخاصة لالتقاط الواقع، أشخاصاً يشكون من أمراض نفسية وعقلية، ويزورون بانتظام مركزاً للعلاج يقع على قارب، على نهر السين الباريسي. يوثق الفيلم يوميات المرضى والأنشطة الثقافية والترفيهية التي ينظمونها في إطار البرنامج الصحي الذي ينالونه. هناك أيضاً لقاءات متواصلة مع المعالجين، وهذا كله في اطار غير تقليدي، الأمر الذي لفت انتباه فيليبير. مجموعة شخصيات بعضها سينمائي بامتياز، كالمثقف المطلع على الأفلام والفن التشكيلي، وهم يقفون أمام كاميرا فيليبير الذي يعرف كيف يستخرج منها جوانب لا يراها آخرون.
يتأخر على الوجوه فيخلق حناناً وعطفاً من دون أن يحولهم مادة وموضوعاً للإبتزاز العاطفي، فهذا كله بعيد عن آليات اشتغاله. لا يقترب فيليبير منهم كمرضى ولا يصنفهم، بل يقدمهم كأشخاص مختلفين، يبحثون عن بعض الدفء والطمأنينة على هذا القارب، بعيداً من المستشفيات الكبيرة. تكفي بضعة مشاهد باريسية للمنطقة التي يرسو فيها قارب الأدامان، كي يؤكد فيليبير أي معسكر اختار: الإنسان وعمق تجربته. الحياة تمشي دربها المعتاد وبسرعتها المعتادة التي توحي بأنها لا تكترث لشيء، وفيليبير ينتظر شروق الشمس ليصور يوماً آخر في حياة بشر لا يصنعون بالضروة عالمنا الحالي، لكنهم جزء أساسي من جماله.
على هذا النهج الهادئ يمشي أيضاً الفيلم اليمني، "المرهقون" لعمرو جمال، المعروض داخل "بانوراما". فيلم عن تعاسة العيش في بلد مثل اليمن لا تتوفر فيه مقومات العيش السليم. داخل هذا المناخ، يموضع المخرج قصة عائلة من الطبقة الوسطى، تتدهور حالتها المعيشية فتجبر على الإنتقال إلى بيت أصغر أقل كلفةً. لكنّ إسراء (عبير محمد)، ربة العائلة، تكتشف أنها حامل وتنتظر طفلها الرابع. ولأن الحالة المادية لا تسمح بطفل جديد، فتقرر بالتنسيق مع زوجها (خالد حمدان) الإجهاض، وهذا ما يدخل الفيلم في مجموعة خطوات نفسية وبيروقراطية للقيام بالإجهاض، علماً أننا في بلد محافظ حيث الكلمة الفصل، للدين والمجتمع والزوج، حتى وإن تكن المسألة متعلقه بشيء يخص المرأة في الدرجة الأولى. يتعامل عمرو جمال مع الموضوع بمسؤولية وهدوء، من دون أي انزلاق إلى الإثارة، مما يجعلنا نتجاوز بعض الهفوات في الفيلم، والضعف على مستوى الأداء والإخراج. في مجمل الأحوال، نحن أمام فيلم جريء بالمعايير اليمنية، يتناول مسألة الإجهاض كاستعارة سياسية، مصوراً حال المجتمع في ظل الإنهيار الإقتصادي الذي يعصف بحياة الناس.