وسائل التواصل لن تتمكن من الإطاحة بالإعلام الرسمي
إعلاميون عرب يؤكدون: الصحافة العربية أمام حتمية تطوير أدواتها أو الاندثار.
المستقبل غير واضح
خبراء تحدثوا إلى "العرب" حول مستقبل الصحافة العربية في ظل سيطرة مواقع التواصل الاجتماعي، يحملون "نظرية وردية" مفادها أن وسائل التواصل الاجتماعي "لن تتمكن من الإطاحة بالإعلام الرسمي أو المعارض إذا طور أدواته".
يتصاعد دور وسائل التواصل الاجتماعي ومنافستها لوسائل الإعلام رسمية أو معارضة في نقل الأحداث والأخبار، وتتبعها بالفيديو والصورة أحيانا والرأي والتحليل أحيانا أخرى، ليتلقفها الرأي العام هنا وهناك دون تدقيق، ويبني عليها تصورات ربما تكون حقيقية وربما تكون وهمية، في الوقت الذي تقف فيه أحيانا وسائل الإعلام عاجزة بانتظار التأكد من صحة هذه الأخبار، الأمر الذي يطرح العديد من التساؤلات عما يمكن أن يشهده المستقبل من تطورات وتحولات قد تفضي للإطاحة بوسائل الإعلام ومصداقيتها.
ويرى الكاتب والمترجم بوكالة رويترز أشرف راضي أنه لا شك في أن وسائل التواصل الاجتماعي أتاحت الفرصة لظهور أنماط جديدة من العمل الصحافي لم تكن منتشرة وشائعة من قبل، مثل صحافة المواطن وكان لها تأثير كبير، دفع هذا التأثير الكثير من المنصات الإعلامية الرصينة إلى أن تعيد هيكلة خدماتها على نحو يتيح لها الاستفادة من التغيرات التي أحدثها توسع وسائل التواصل الاجتماعي كآلية رئيسية للتفاعل بين جمهور عريض من القراء، ومواكبة هذه التغيرات. لكن تظل المصداقية هي الفارق الرئيسي بين ما تقدمه المنصات الإعلامية المحترفة، التي تحول معظمها إلى النشر الإلكتروني إلى جانب الوسائط الأخرى للنشر، وما تقدمه وسائل التواصل الاجتماعي.
محمد الشاذلي: الرأي العام لم يعد ينتظر تصديقا أو تكذيبا من الإعلام
وقد تضررت مصداقية وسائل التواصل كثيرا نتيجة للجوء البعض من القوى لاستخدامها لبث أخبار زائفة بقصد التأثير على قرارات الجمهور، الأمر الذي دفع القائمين على هذه الوسائل إلى ضخ استثمارات ضخمة من أجل مكافحة استغلالها لبث أخبار وتقارير زائفة، والتدقيق في ما ينشر عبر هذه الوسائل والتصدي لصور الانتهاكات الأخرى للمواثيق الأخلاقية العامة وتلك الحاكمة للعمل في مجال الإعلام.
ويضيف راضي “للعرب”، “سواء نجحت جهود التصدي للتضليل أم لم يكتب لها النجاح، ومهما كانت التحديات التي يفرضها انتشار وسائل التواصل الاجتماعي فمن المستبعد أن تطيح التحولات التي تحدثها بوسائل الإعلام لعدة أسباب: أولا، رغم الاستهانة التي ينظر بها الجمهور الواسع إلى بعض التخصصات الدراسية لبعض فروع العلوم الاجتماعية والاعتقاد الشائع بأن أي شخص يجيد الكتابة وحصّل قدرا ما من التعليم يمكنه أداء نفس الوظائف لكن الواقع مغاير تماما”.
وعلاوة على المعارف التي يحصلها الدارسون المتخصصون هناك عملية للتعلم والتدريب المستمرين خلال العمل.
ويتابع راضي “ثانيا، أنه مهما بلغ انضباط وسائل التواصل الاجتماعي فلن تصل إلى الحدّ الذي تصله المنصات الإعلامية المحترفة في ما يتعلق بالدقة والمصداقية ومعايير الجودة الأخرى للمنتج الإعلامي. وثالثا، أن المنصات الإعلامية المحترفة لا تقف مكتوفة اليدين أمام التغيرات بل تسارع إلى تطوير أدواتها والتكيف معها”.
ويؤكد الشاعر والإعلامي السوري حسين درويش أن ما تشهده الصحافة حاليا هي عملية تحول نحو مفهوم الصحافي الشامل، الذي تطورت أدواته مع تطور التقنيات وصار الصحافي الشامل أو ما يُطلق عليه “الصحافي المواطن” مصدرا للكثير من الأخبار التي تقع عينه عليها فيسارع إلى توثيقها بالصوت والصورة ويرسلها إلى من يشاء وبذلك سحب البساط من تحت أقدام الصحافة التقليدية أو الرسمية، وتحول من متلقي أخبار إلى صانع خبر.
ويؤكد في تصريحات “للعرب” أن “مستقبل الصحافة يخضع لتطور طبيعي طالما تتطور وسائل الإنتاج ولا يمكن الإطاحة بالصحافة كمفهوم ولن تموت المهنة أو تزول مثلما هو الحال مع مهنة ساعي البريد مثلا.. لكن أدوات إنتاج الصحافة تطورت وأصبحت مواكبة للعصر سواء أكانت صحافة رسمية أم غيرها ويمكن لأي جهة صحافية تطوير ذاتها ولكن لم يعد بإمكانها احتكار الخبر أو حجبه عن الناس”.
المهنة لن تموت
مهما بلغ انضباط وسائل التواصل فلن تصل إلى الحدّ الذي تصله المنصات الإعلامية المحترفة في ما يتعلق بالدقة والمصداقية
يقول الكاتب فيصل بن سعيد العلوي الصحافي بجريدة عمان “يجب أن نسمي الأشياء بمسمياتها.. وسائل التواصل الاجتماعي هي وسائل تواصل، ووسائل الإعلام هي وسائل إعلام.. الخلط بينهما هو بحدّ ذاته مشكلة يجب أن يتنبه لها المتلقي، فالوقوع في فخ الفهم يدلل على سوء تقدير أولا وعلى تكريس الفهم العام لهذه الوسائل أنها وسائل إعلامية.. ولا يعني ذلك مطلقا أنه أمر غير حاصل.. فللأسف أصبحت الأغلبية تتلقف أخبار هذه الوسائل وكأنها وسائل إعلامية رسمية وتستقي منها الأخبار، وللأسف حتى دون تمحيص لمصداقية تلك الأخبار أو الإشارات التي تطلقها، في الحقيقة هذا الأمر سلبي جدا.. وفي شكله هذا لن ينافس مطلقا مصداقية الوسائل الإعلامية الحقيقية ولا أتفق في أنه سيطيح بها”.
ويستدرك العلوي “لكن في المقابل يجب على الوسائل الإعلامية وهي كثيرة (تلفزيون وإذاعة وصحف ورقية) ألا تركن لتقليديتها المعروفة.. بل تسعى لأن تكون الصورة والرأي والتحليل أدوات متطورة هي من تطيح بتلك الوسائل.. وهذا يحدث الآن فالإذاعة مثلا لم تعد مسموعة فحسب بل أصبحت صوتا وصورة، والصحف أيضا أصبحت لها منابر رقمية تنقل الحدث في حينه صوتا وصورة وتتبعه بالتحليل الورقي، والتلفزيون أصبحت له أذرع رقمية لا تقل مطلقا عما تحدثه تلك الوسائل.. فالأصل أن الوسائل الإعلامية هي (مصادر) ووسائل التواصل (أدوات ناقلة) ولا يجب أن يعتد بها كمصادر، والكثير مما يتداول في هذه الوسائل هو بشكل أو بآخر انتحالات من الوسائل الإعلامية ويتم البناء عليه وفق أهواء أو رغبات أصحابها”.
علي عطا: يجب على كليات ومعاهد الإعلام مواكبة التطورات
ويلخص العلوي ما يحدث في أمرين “الأول هو الخلط في المفاهيم والثاني مصداقية تلك النواقل، وعليه فإن تعزيز الفهم لدى المتلقي مسؤولية مهمة لحماية الوسائل الإعلامية ويتأتّى بترسيخ المصداقية وتعزيز سرعة الوصول إلى الناس والغوص في أعماق مشكلاتهم والتماس مع ما يتماس مع حياتهم وحاجاتهم كل بطريقته”، مؤكدا “أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون نواقل الأخبار مصادر، وهذا الضعف لن يؤدي مطلقا إلى الإطاحة بأي وسيلة إعلامية مهما بلغت ذروة التفوق اللحظي في زماننا العجيب والغريب”.
ويرى الصحافي بوكالة أنباء الشرق الأوسط علي عطا أن وسائل التواصل الاجتماعي هي أيضا من وسائل الإعلام، وهذا أمر جيد، وأتوقع التغلب على فوضى هذا الرافد الإعلامي المستجد والذي لا يمثل بالضرورة بديلا عن الروافد التقليدية التي يجب عليها أن تستفيد من التطورات التكنولوجية في مجالات الاتصال الجماهيري.
وأضاف متحدثا “للعرب”، “يجب على كليات ومعاهد الإعلام مواكبة تلك التطورات، ويجب أيضا على نقابات الصحافة في مختلف البلاد العربية اعتماد مواكبة مماثلة وتنشيط برامج التدريب وإفساح المجال أمام الصحافيين في المواقع الإلكترونية للانضمام إليها والتنافس على جوائز الصحافة محليا وإقليميا ودوليا”.
ويتابع أن التحدي الحقيقي أمام مختلف وسائل الإعلام على اختلاف طبيعتها يتمثل في تواري المعايير المهنية، ما أدى إلى سيادة الأخبار الكاذبة والتريندات التافهة وانحدار لغة التواصل مع الجمهور، من حيث المفردات والصياغة ودقة النحو والصرف فضلا عن تدني أجور الإعلاميين بمن في ذلك الصحافيين بمختلف تخصصاتهم، وكذلك هبوط مستوى حرية التعبير، وتزايد عمليات اعتقال الإعلاميين والصحافيين، أو منعهم من ممارسة عملهم، وكذلك غياب الحماية من مخاطر العمل الميداني في ظل الحروب وتفشي الأوبئة”.
تشكيل الرأي العام
يشير الروائي والكاتب بجريدة الأهرام محمد الشاذلي إلى أنه في سنة 1948 أجرت جريدة “نيويورك تايمز” الأميركية استفتاء للجمهور لمدة خمسة أيام لمعرفة قوة التلفزيون، وإذا كان من الممكن أن يقضي على الصحف الكبرى ويحل محلها. وبعد ظهور نتيجة الاستفتاء وقف السير أرثر سالزبرغر ناشر الجريدة ليعلن في اجتماع عقده لمجلس الإدارة أن نتيجة الاستفتاء تبين أن التلفزيون لن يقضي على الصحف الكبرى ليحل محلها. وأضاف “أجرت مجلة فورتونايت استفتاء لمعرفة أثر الراديو على الصحف الكبرى، فكانت النتيجة تدعو إلى عجب أصحاب الصحف الكبرى، ذلك أنه تبين أن الراديو لن يقصر من توزيع الصحف بل أكثر من ذلك فقد زاد الراديو من توزيعها وساعد على رواجها”.
ويتابع الشاذلي “ربما نكون بصدد معضلة مماثلة، لأن التلفزيون والراديو قلصا من توزيع الصحف بالفعل، وإن كان بعد عقود.. نحن الآن وفي المستقبل المنظور أمام سطوة وسائل التواصل الاجتماعي، التي يتلقى الناس محتواها باعتبارها الحقيقة والخبر والرأي والصورة، فيما يمكنه المشاركة والتواصل. كما أنه المحتوى الأقرب إلى عينيه ويديه، وإلى لغته البسيطة غير المعقدة. والمثير للغرابة أن الرأي العام لم يعد ينتظر تصديقا أو تكذيبا من وسيلة إعلامية رسمية أو من غيرها. سوف تكابد وسائل الإعلام التقليدية، وقد تتحول إلى أنماط مماثلة لوسائل التواصل الاجتماعي كي تتمكن من الحياة والاستمرارية”.
وسائل الإعلام التقليدية، قد تتحول إلى أنماط مماثلة لوسائل التواصل الاجتماعي كي تتمكن من الحياة والاستمرارية
ويقول الشاعر والكاتب جمال القصاص من جريدة الشرق الأوسط “لا أعتقد أن المستقبل سيشهد تحولات حاسمة قد تفضي إلى الإطاحة بوسائل الإعلام؛ خاصة في ظل تغير ذائقة القارئ المشاهد المتلقي، وعلى وجه الخصوص الأجيال الجديدة من الشباب. فمع تسارع وتيرة التغيرات في عالم الميديا، بدأ يتلاشى معيار القيمة كآلية مركزية لتأصيل الأفكار والرؤى والأطروحات الجديدة المغايرة التي تشكل فضاء خصبا للضد والمغايرة، وتحول الإعلام إلى لعبة ممجوجة ومكرورة، وأصبح هو والعالم يدور في فلك فعلين؛ أحدهما ساكن ينتمي إلى الماضي، والآخر متحرك، يحاول اللحاق بالمنجز الكوني المعرفي المتمثل في الرقمنة، والذكاء الصناعي، والإناسة الربوتية، وعالم ما بعد الحقيقة، وغيرها من منجز التكنولوجيا والإنترنت”.
ويضيف “في ظل هذا اللهاث، لا وقت للتأمل العميق، وسبر الأغوار، والوصول إلى ضفاف آمنة، يمكن أن تشكل طوق نجاة للماضي والحاضر والمستقبل. وأصبحت المشكلة أكثر تعقيدا في أعراف الذائقة الجديدة المتمردة، فهي ترفض أن تكون حبيسة لزمن ما، ترى نفسها رهينة في قفصه وقبضته، وعبثا تقيس عليه حضورها وغيابها. عزز هذا التمرّد إيقاع السماوات المفتوحة، وكسر حواجز الجغرافيا والتاريخ، وتراجع قدرة الإنسان لصالح الميكنة والآلة وعالم الإلكترونيات، كذلك فقدان المجتمع فكرة المثال الذي يمكن الاحتذاء به، ويشكل حافزا حيّا، ممتدا في الزمان والمكان. هذه الذائقة المتغيرة أصبحت تفرض نفسها في كل أنماط الحياة، بداية من الثقافة والتعليم، الفن والأدب، التربية والفكر والأنشطة الاجتماعية، وحتى المجال السياسي؛ كما فرضت النظر إلى المستقبل من منظور يضع الحرية شرطا أساسيا لكل شيء ولا شيء، للحياة والعدم على حدّ سواء. ومن ثم، أصبح الشعار ‘أنت سيد نفسك… وإن لم تستطع حاول أن تكون بأي شكل وأي وسيلة، وتحت أي ضغط حتى ولو كان الموت نفسه!”.
جرس الإنذار
يؤكد الإعلامي في جريدة الدستور حسام الحداد أن تأثير وسائل الإعلام الإلكتروني ينمو بشكل متزايد وغير مسبوق، إذ قطعت أشواطا كبيرة في مجال تعبئة الشعوب ودفعها إلى المشاركة في الحياة العامة والسياسية تحديدا، فقد تجاوزت بلا شك الدور الإخباري لوسائل الإعلام التقليدية، وخلقت الأهم بتوفير التواصل والتفاعل بين الناس للمشاركة بأنفسهم وبمختلف مستوياتهم الثقافية في صنع الخبر ونشره بأقصى سرعة، لتجد وسائل الإعلام التقليدية نفسها مجبرة على مواكبة التطور المتلاحق في وسائل الإعلام الإلكترونية حتى لا تصبح جزءا من الماضي.
وأضاف الحداد “أكدت الثورات التي شهدتها بعض الدول العربية على قدرة هذا النوع من الإعلام على التأثير في تغيير ملامح الدول، كما أنه قرع جرس الإنذار محذرا الإعلام التقليدي من الخطر المقبل، لأنه ببساطة يوجه دعوة مفتوحة للانحياز إلى لوحة المفاتيح “الكيبورد” بدلا من الورق، خصوصا أن المؤشرات الإحصائية كلها تشير إلى استمرار هذا النوع من الإعلام الجديد القائم على تكنولوجيا الإنترنت والهاتف المحمول”.
ويلفت إلى أن العديد من الدراسات تشير إلى أن المدونات، ووسائل التواصل الاجتماعي بوجه عام، أثرت بدرجة كبيرة في الرأي العام، سواء بشكل مباشر من خلال متابعيها، أو بشكل غير مباشر من خلال تأثيرها في وسائل الإعلام التقليدية والإلكترونية، خاصة بالنظر لما تتمتع به من سرعة في الاستجابة للأحداث ومن قدرة على الانتشار بشكل كبير، بل إن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تقوم بدور فاعل في تشكيل رأي عام دولي موحّد تجاه قضايا بعينها نتيجة التفاعل بين مستخدميها الذين ينتمون إلى ثقافات مختلفة، لكنهم يؤمنون بمنظومة مشتركة من القيم، ولعل المثال الواضح على ذلك التأثير الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي في توجيه الرأي العام الدولي تجاه الاعتداء الإرهابي الذي استهدف مسجدين في نيوزيلندا في مارس من العام 2019، وتوصيفه باعتباره عملا إرهابيا، وأُجبرت شركتا فيسبوك وتويتر على إزالة المحتوى الرقمي الذي يحض على الكراهية ويحرض على العنف ضد المسلمين في الدول الأوروبية.
وخلص إلى القول “من خلال ما تقدم نجد أنه لو لم تتخذ وسائل الإعلام التقليدية خطوات واسعة في تغيير الآليات والمحتوى حتى يتناسب مع روح العصر فإنها لا محالة سوف تختفي وهذا ما نشاهده الآن من تراجع أدوارها ونسب المشاهدة”.
محمد الحمامصي
كاتب مصري
إعلاميون عرب يؤكدون: الصحافة العربية أمام حتمية تطوير أدواتها أو الاندثار.
المستقبل غير واضح
خبراء تحدثوا إلى "العرب" حول مستقبل الصحافة العربية في ظل سيطرة مواقع التواصل الاجتماعي، يحملون "نظرية وردية" مفادها أن وسائل التواصل الاجتماعي "لن تتمكن من الإطاحة بالإعلام الرسمي أو المعارض إذا طور أدواته".
يتصاعد دور وسائل التواصل الاجتماعي ومنافستها لوسائل الإعلام رسمية أو معارضة في نقل الأحداث والأخبار، وتتبعها بالفيديو والصورة أحيانا والرأي والتحليل أحيانا أخرى، ليتلقفها الرأي العام هنا وهناك دون تدقيق، ويبني عليها تصورات ربما تكون حقيقية وربما تكون وهمية، في الوقت الذي تقف فيه أحيانا وسائل الإعلام عاجزة بانتظار التأكد من صحة هذه الأخبار، الأمر الذي يطرح العديد من التساؤلات عما يمكن أن يشهده المستقبل من تطورات وتحولات قد تفضي للإطاحة بوسائل الإعلام ومصداقيتها.
ويرى الكاتب والمترجم بوكالة رويترز أشرف راضي أنه لا شك في أن وسائل التواصل الاجتماعي أتاحت الفرصة لظهور أنماط جديدة من العمل الصحافي لم تكن منتشرة وشائعة من قبل، مثل صحافة المواطن وكان لها تأثير كبير، دفع هذا التأثير الكثير من المنصات الإعلامية الرصينة إلى أن تعيد هيكلة خدماتها على نحو يتيح لها الاستفادة من التغيرات التي أحدثها توسع وسائل التواصل الاجتماعي كآلية رئيسية للتفاعل بين جمهور عريض من القراء، ومواكبة هذه التغيرات. لكن تظل المصداقية هي الفارق الرئيسي بين ما تقدمه المنصات الإعلامية المحترفة، التي تحول معظمها إلى النشر الإلكتروني إلى جانب الوسائط الأخرى للنشر، وما تقدمه وسائل التواصل الاجتماعي.
محمد الشاذلي: الرأي العام لم يعد ينتظر تصديقا أو تكذيبا من الإعلام
وقد تضررت مصداقية وسائل التواصل كثيرا نتيجة للجوء البعض من القوى لاستخدامها لبث أخبار زائفة بقصد التأثير على قرارات الجمهور، الأمر الذي دفع القائمين على هذه الوسائل إلى ضخ استثمارات ضخمة من أجل مكافحة استغلالها لبث أخبار وتقارير زائفة، والتدقيق في ما ينشر عبر هذه الوسائل والتصدي لصور الانتهاكات الأخرى للمواثيق الأخلاقية العامة وتلك الحاكمة للعمل في مجال الإعلام.
ويضيف راضي “للعرب”، “سواء نجحت جهود التصدي للتضليل أم لم يكتب لها النجاح، ومهما كانت التحديات التي يفرضها انتشار وسائل التواصل الاجتماعي فمن المستبعد أن تطيح التحولات التي تحدثها بوسائل الإعلام لعدة أسباب: أولا، رغم الاستهانة التي ينظر بها الجمهور الواسع إلى بعض التخصصات الدراسية لبعض فروع العلوم الاجتماعية والاعتقاد الشائع بأن أي شخص يجيد الكتابة وحصّل قدرا ما من التعليم يمكنه أداء نفس الوظائف لكن الواقع مغاير تماما”.
وعلاوة على المعارف التي يحصلها الدارسون المتخصصون هناك عملية للتعلم والتدريب المستمرين خلال العمل.
ويتابع راضي “ثانيا، أنه مهما بلغ انضباط وسائل التواصل الاجتماعي فلن تصل إلى الحدّ الذي تصله المنصات الإعلامية المحترفة في ما يتعلق بالدقة والمصداقية ومعايير الجودة الأخرى للمنتج الإعلامي. وثالثا، أن المنصات الإعلامية المحترفة لا تقف مكتوفة اليدين أمام التغيرات بل تسارع إلى تطوير أدواتها والتكيف معها”.
ويؤكد الشاعر والإعلامي السوري حسين درويش أن ما تشهده الصحافة حاليا هي عملية تحول نحو مفهوم الصحافي الشامل، الذي تطورت أدواته مع تطور التقنيات وصار الصحافي الشامل أو ما يُطلق عليه “الصحافي المواطن” مصدرا للكثير من الأخبار التي تقع عينه عليها فيسارع إلى توثيقها بالصوت والصورة ويرسلها إلى من يشاء وبذلك سحب البساط من تحت أقدام الصحافة التقليدية أو الرسمية، وتحول من متلقي أخبار إلى صانع خبر.
ويؤكد في تصريحات “للعرب” أن “مستقبل الصحافة يخضع لتطور طبيعي طالما تتطور وسائل الإنتاج ولا يمكن الإطاحة بالصحافة كمفهوم ولن تموت المهنة أو تزول مثلما هو الحال مع مهنة ساعي البريد مثلا.. لكن أدوات إنتاج الصحافة تطورت وأصبحت مواكبة للعصر سواء أكانت صحافة رسمية أم غيرها ويمكن لأي جهة صحافية تطوير ذاتها ولكن لم يعد بإمكانها احتكار الخبر أو حجبه عن الناس”.
المهنة لن تموت
مهما بلغ انضباط وسائل التواصل فلن تصل إلى الحدّ الذي تصله المنصات الإعلامية المحترفة في ما يتعلق بالدقة والمصداقية
يقول الكاتب فيصل بن سعيد العلوي الصحافي بجريدة عمان “يجب أن نسمي الأشياء بمسمياتها.. وسائل التواصل الاجتماعي هي وسائل تواصل، ووسائل الإعلام هي وسائل إعلام.. الخلط بينهما هو بحدّ ذاته مشكلة يجب أن يتنبه لها المتلقي، فالوقوع في فخ الفهم يدلل على سوء تقدير أولا وعلى تكريس الفهم العام لهذه الوسائل أنها وسائل إعلامية.. ولا يعني ذلك مطلقا أنه أمر غير حاصل.. فللأسف أصبحت الأغلبية تتلقف أخبار هذه الوسائل وكأنها وسائل إعلامية رسمية وتستقي منها الأخبار، وللأسف حتى دون تمحيص لمصداقية تلك الأخبار أو الإشارات التي تطلقها، في الحقيقة هذا الأمر سلبي جدا.. وفي شكله هذا لن ينافس مطلقا مصداقية الوسائل الإعلامية الحقيقية ولا أتفق في أنه سيطيح بها”.
ويستدرك العلوي “لكن في المقابل يجب على الوسائل الإعلامية وهي كثيرة (تلفزيون وإذاعة وصحف ورقية) ألا تركن لتقليديتها المعروفة.. بل تسعى لأن تكون الصورة والرأي والتحليل أدوات متطورة هي من تطيح بتلك الوسائل.. وهذا يحدث الآن فالإذاعة مثلا لم تعد مسموعة فحسب بل أصبحت صوتا وصورة، والصحف أيضا أصبحت لها منابر رقمية تنقل الحدث في حينه صوتا وصورة وتتبعه بالتحليل الورقي، والتلفزيون أصبحت له أذرع رقمية لا تقل مطلقا عما تحدثه تلك الوسائل.. فالأصل أن الوسائل الإعلامية هي (مصادر) ووسائل التواصل (أدوات ناقلة) ولا يجب أن يعتد بها كمصادر، والكثير مما يتداول في هذه الوسائل هو بشكل أو بآخر انتحالات من الوسائل الإعلامية ويتم البناء عليه وفق أهواء أو رغبات أصحابها”.
علي عطا: يجب على كليات ومعاهد الإعلام مواكبة التطورات
ويلخص العلوي ما يحدث في أمرين “الأول هو الخلط في المفاهيم والثاني مصداقية تلك النواقل، وعليه فإن تعزيز الفهم لدى المتلقي مسؤولية مهمة لحماية الوسائل الإعلامية ويتأتّى بترسيخ المصداقية وتعزيز سرعة الوصول إلى الناس والغوص في أعماق مشكلاتهم والتماس مع ما يتماس مع حياتهم وحاجاتهم كل بطريقته”، مؤكدا “أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون نواقل الأخبار مصادر، وهذا الضعف لن يؤدي مطلقا إلى الإطاحة بأي وسيلة إعلامية مهما بلغت ذروة التفوق اللحظي في زماننا العجيب والغريب”.
ويرى الصحافي بوكالة أنباء الشرق الأوسط علي عطا أن وسائل التواصل الاجتماعي هي أيضا من وسائل الإعلام، وهذا أمر جيد، وأتوقع التغلب على فوضى هذا الرافد الإعلامي المستجد والذي لا يمثل بالضرورة بديلا عن الروافد التقليدية التي يجب عليها أن تستفيد من التطورات التكنولوجية في مجالات الاتصال الجماهيري.
وأضاف متحدثا “للعرب”، “يجب على كليات ومعاهد الإعلام مواكبة تلك التطورات، ويجب أيضا على نقابات الصحافة في مختلف البلاد العربية اعتماد مواكبة مماثلة وتنشيط برامج التدريب وإفساح المجال أمام الصحافيين في المواقع الإلكترونية للانضمام إليها والتنافس على جوائز الصحافة محليا وإقليميا ودوليا”.
ويتابع أن التحدي الحقيقي أمام مختلف وسائل الإعلام على اختلاف طبيعتها يتمثل في تواري المعايير المهنية، ما أدى إلى سيادة الأخبار الكاذبة والتريندات التافهة وانحدار لغة التواصل مع الجمهور، من حيث المفردات والصياغة ودقة النحو والصرف فضلا عن تدني أجور الإعلاميين بمن في ذلك الصحافيين بمختلف تخصصاتهم، وكذلك هبوط مستوى حرية التعبير، وتزايد عمليات اعتقال الإعلاميين والصحافيين، أو منعهم من ممارسة عملهم، وكذلك غياب الحماية من مخاطر العمل الميداني في ظل الحروب وتفشي الأوبئة”.
تشكيل الرأي العام
يشير الروائي والكاتب بجريدة الأهرام محمد الشاذلي إلى أنه في سنة 1948 أجرت جريدة “نيويورك تايمز” الأميركية استفتاء للجمهور لمدة خمسة أيام لمعرفة قوة التلفزيون، وإذا كان من الممكن أن يقضي على الصحف الكبرى ويحل محلها. وبعد ظهور نتيجة الاستفتاء وقف السير أرثر سالزبرغر ناشر الجريدة ليعلن في اجتماع عقده لمجلس الإدارة أن نتيجة الاستفتاء تبين أن التلفزيون لن يقضي على الصحف الكبرى ليحل محلها. وأضاف “أجرت مجلة فورتونايت استفتاء لمعرفة أثر الراديو على الصحف الكبرى، فكانت النتيجة تدعو إلى عجب أصحاب الصحف الكبرى، ذلك أنه تبين أن الراديو لن يقصر من توزيع الصحف بل أكثر من ذلك فقد زاد الراديو من توزيعها وساعد على رواجها”.
ويتابع الشاذلي “ربما نكون بصدد معضلة مماثلة، لأن التلفزيون والراديو قلصا من توزيع الصحف بالفعل، وإن كان بعد عقود.. نحن الآن وفي المستقبل المنظور أمام سطوة وسائل التواصل الاجتماعي، التي يتلقى الناس محتواها باعتبارها الحقيقة والخبر والرأي والصورة، فيما يمكنه المشاركة والتواصل. كما أنه المحتوى الأقرب إلى عينيه ويديه، وإلى لغته البسيطة غير المعقدة. والمثير للغرابة أن الرأي العام لم يعد ينتظر تصديقا أو تكذيبا من وسيلة إعلامية رسمية أو من غيرها. سوف تكابد وسائل الإعلام التقليدية، وقد تتحول إلى أنماط مماثلة لوسائل التواصل الاجتماعي كي تتمكن من الحياة والاستمرارية”.
وسائل الإعلام التقليدية، قد تتحول إلى أنماط مماثلة لوسائل التواصل الاجتماعي كي تتمكن من الحياة والاستمرارية
ويقول الشاعر والكاتب جمال القصاص من جريدة الشرق الأوسط “لا أعتقد أن المستقبل سيشهد تحولات حاسمة قد تفضي إلى الإطاحة بوسائل الإعلام؛ خاصة في ظل تغير ذائقة القارئ المشاهد المتلقي، وعلى وجه الخصوص الأجيال الجديدة من الشباب. فمع تسارع وتيرة التغيرات في عالم الميديا، بدأ يتلاشى معيار القيمة كآلية مركزية لتأصيل الأفكار والرؤى والأطروحات الجديدة المغايرة التي تشكل فضاء خصبا للضد والمغايرة، وتحول الإعلام إلى لعبة ممجوجة ومكرورة، وأصبح هو والعالم يدور في فلك فعلين؛ أحدهما ساكن ينتمي إلى الماضي، والآخر متحرك، يحاول اللحاق بالمنجز الكوني المعرفي المتمثل في الرقمنة، والذكاء الصناعي، والإناسة الربوتية، وعالم ما بعد الحقيقة، وغيرها من منجز التكنولوجيا والإنترنت”.
ويضيف “في ظل هذا اللهاث، لا وقت للتأمل العميق، وسبر الأغوار، والوصول إلى ضفاف آمنة، يمكن أن تشكل طوق نجاة للماضي والحاضر والمستقبل. وأصبحت المشكلة أكثر تعقيدا في أعراف الذائقة الجديدة المتمردة، فهي ترفض أن تكون حبيسة لزمن ما، ترى نفسها رهينة في قفصه وقبضته، وعبثا تقيس عليه حضورها وغيابها. عزز هذا التمرّد إيقاع السماوات المفتوحة، وكسر حواجز الجغرافيا والتاريخ، وتراجع قدرة الإنسان لصالح الميكنة والآلة وعالم الإلكترونيات، كذلك فقدان المجتمع فكرة المثال الذي يمكن الاحتذاء به، ويشكل حافزا حيّا، ممتدا في الزمان والمكان. هذه الذائقة المتغيرة أصبحت تفرض نفسها في كل أنماط الحياة، بداية من الثقافة والتعليم، الفن والأدب، التربية والفكر والأنشطة الاجتماعية، وحتى المجال السياسي؛ كما فرضت النظر إلى المستقبل من منظور يضع الحرية شرطا أساسيا لكل شيء ولا شيء، للحياة والعدم على حدّ سواء. ومن ثم، أصبح الشعار ‘أنت سيد نفسك… وإن لم تستطع حاول أن تكون بأي شكل وأي وسيلة، وتحت أي ضغط حتى ولو كان الموت نفسه!”.
جرس الإنذار
يؤكد الإعلامي في جريدة الدستور حسام الحداد أن تأثير وسائل الإعلام الإلكتروني ينمو بشكل متزايد وغير مسبوق، إذ قطعت أشواطا كبيرة في مجال تعبئة الشعوب ودفعها إلى المشاركة في الحياة العامة والسياسية تحديدا، فقد تجاوزت بلا شك الدور الإخباري لوسائل الإعلام التقليدية، وخلقت الأهم بتوفير التواصل والتفاعل بين الناس للمشاركة بأنفسهم وبمختلف مستوياتهم الثقافية في صنع الخبر ونشره بأقصى سرعة، لتجد وسائل الإعلام التقليدية نفسها مجبرة على مواكبة التطور المتلاحق في وسائل الإعلام الإلكترونية حتى لا تصبح جزءا من الماضي.
وأضاف الحداد “أكدت الثورات التي شهدتها بعض الدول العربية على قدرة هذا النوع من الإعلام على التأثير في تغيير ملامح الدول، كما أنه قرع جرس الإنذار محذرا الإعلام التقليدي من الخطر المقبل، لأنه ببساطة يوجه دعوة مفتوحة للانحياز إلى لوحة المفاتيح “الكيبورد” بدلا من الورق، خصوصا أن المؤشرات الإحصائية كلها تشير إلى استمرار هذا النوع من الإعلام الجديد القائم على تكنولوجيا الإنترنت والهاتف المحمول”.
ويلفت إلى أن العديد من الدراسات تشير إلى أن المدونات، ووسائل التواصل الاجتماعي بوجه عام، أثرت بدرجة كبيرة في الرأي العام، سواء بشكل مباشر من خلال متابعيها، أو بشكل غير مباشر من خلال تأثيرها في وسائل الإعلام التقليدية والإلكترونية، خاصة بالنظر لما تتمتع به من سرعة في الاستجابة للأحداث ومن قدرة على الانتشار بشكل كبير، بل إن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تقوم بدور فاعل في تشكيل رأي عام دولي موحّد تجاه قضايا بعينها نتيجة التفاعل بين مستخدميها الذين ينتمون إلى ثقافات مختلفة، لكنهم يؤمنون بمنظومة مشتركة من القيم، ولعل المثال الواضح على ذلك التأثير الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي في توجيه الرأي العام الدولي تجاه الاعتداء الإرهابي الذي استهدف مسجدين في نيوزيلندا في مارس من العام 2019، وتوصيفه باعتباره عملا إرهابيا، وأُجبرت شركتا فيسبوك وتويتر على إزالة المحتوى الرقمي الذي يحض على الكراهية ويحرض على العنف ضد المسلمين في الدول الأوروبية.
وخلص إلى القول “من خلال ما تقدم نجد أنه لو لم تتخذ وسائل الإعلام التقليدية خطوات واسعة في تغيير الآليات والمحتوى حتى يتناسب مع روح العصر فإنها لا محالة سوف تختفي وهذا ما نشاهده الآن من تراجع أدوارها ونسب المشاهدة”.
محمد الحمامصي
كاتب مصري