هل بإمكان الصحافي إعادة صناعة نفسه
الخيار الأمثل هو إعادة صناعة الصحافة بأفكار حية وليس استبدالها، فليس بمقدور العالم التخلي عن الرقيب المثالي على الديمقراطية ومنع فساد الحكومات وهدر الأموال.
لوسي كيلاوي أعادت ابتكار مهنتها
كان صديقي المهندس يقول بإمكان أيّ انسان أن يكون صحافيا! بمجرد التفكير وقراءة ما يجري في العالم بذهن يقظ. وهذا ينطبق أيضا على قائمة أخرى من المهن. لكنه يقول أيضا بثقة واضحة ليس بإمكان أيّ شخص أن يكون مهندسا. في إشارة إلى استسهال العمل الصحافي.
يتعلق هذا الكلام كثيرا بالحديث المتداول حاليا عن إعادة النظر في خيارات المهن تحت وطأة الكساد الذي أصاب العالم جراء انتشار وباء كورونا وصدمة ما بعد الوباء.
عندما يتعلق الأمر بالصحافة فهي أصلا تعيش أزمة وجودية قبل انتشار الوباء، وهو ما عبّر عنه أحد الزملاء اللبنانيين بوصف حال الصحافيين اليوم بحال سائقي عربات الخيول مع اكتشاف السيارات في نهاية القرن الثامن عشر!
بالنسبة إليّ، أرى أن الخيار هو إعادة صناعة الصحافة وليس استبدالها، فليس بمقدور العالم التخلي عن الصحافة بوصفها الرقيب المثالي على الديمقراطية ومنع فساد الحكومات وهدر الأموال، وربط المجتمع بديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات. فالرجال الأقوياء الذين وضعوا العرف الأول للديمقراطية في العالم كانوا يفضلون دولة بلا حكومة على دولة بلا صحافة.
المؤسف أن تخلي الحكومات، خصوصا في العالم العربي، عن الصحافة المخلصة لجوهرها وترك الصحافيين يبحثون عن مصيرهم بأنفسهم، يتسبب بضرر بالغ للمجتمع. وإذا كانت الحكومات تهدف في ذلك إلى كتم الصوت المراقب لأدائها، وترك الصحافة تعيش أزمتها فإنها تدع البلاد تسير نائمة نحو المستقبل.
مع ذلك، تبتعد غالبية الحلول المقترحة للمستقبل الغامض للصحافة مع الكساد الذي أصابها في عصر الشركات التكنولوجية العملاقة، عن الأزمة الحقيقية، والتي يمثل الصحافيون الجزء الأهم فيها. جزء من المشكلة هم الصحافيون أنفسهم عندما يعجزون عن تقديم محتوى متميز.
وأعتقد أيضا أن تخلي الصحافي عن مهنته واستبدالها تعبير آخر عن العجز في إعادة صناعة مهنة حية ظل صناعها يوضعون في مرتبة المحظوظين عبر التاريخ.
يعترف داريل هوليداي الذي يعمل في منظمة صحافة مدنية غير ربحية في شيكاغو بأن فشل الصحافيين في تلبية حاجة المجتمع ليس سابقة في التاريخ، لذلك علينا أن نتساءل ما هي نوعية الأخبار التي يبحث عنها الناس اليوم، من أجل صناعة نماذج جديدة.
بإمكان الصحافي إعادة اختراع مهنته وليس التخلي عنها، كما يحدث لنسبة كبيرة من الصحافيين الذين افتقدوا إلى الثقة بالمستقبل.
لديّ مثال أستطيع أن أدافع فيه عن الصحافة بكونها صناعة حية عصية على الموت، وقادرة على تجديد الثقة الدائمة بأهميتها بتقديم نماذج جديدة واستعادة ثقة القراء والمحافظة المستمرة على الأوفياء منهم.
لوسي كيلاوي صحافية مرموقة في فايننشيال تايمز البريطانية، بقيت على مدار عقود ضمن فريق عمل الصحيفة البرتقالية التي توظف الأذكياء الذين يعرفون كيفية اكتشاف المواضيع المهمة وكتابتها بشكل رائع، وإعطاء القراء المزيج الصحيح مما هو مألوف ومدهش. الخبرة والمعرفة والممارسة والقدرة على الحكم والمهارة والذكاء كلها أمور تلعب دورا في اختيارات الصحافي لما يكتب.
المؤسف أن تخلي الحكومات، خصوصا في العالم العربي، عن الصحافة المخلصة لجوهرها وترك الصحافيين يبحثون عن مصيرهم بأنفسهم، يتسبب بضرر بالغ للمجتمع
لقد عاشت كيلاوي واحدة من أجمل الوظائف في الصحافة من خلال كتابة عمود لمدة 22 عاما، إلى درجة اعتبرت فيها جوهرة في تاج فايننشيال تايمز، ووصفها زميلها ليونيل باربر بأنها “صوت فريد من نوعه في مجتمع الأعمال”.
مع ذلك قررت لاحقا إعادة اختراع نفسها وترك عملها الصحافي. لكن! من دون التخلي عن صحافيتها، والإبقاء على الحسن التحليلي الكامن في عملها الجديد كمُدرّسة رياضيات.
ولأن كيلاوي لا تريد قضاء حياتها بفعل الشيء نفسه، انتقلت إلى مُدرسة رياضيات بوظيفة صحافي منذ أكثر من عامين. كانت ناجحة في السابق، ولم يتراجع نجاحها اليوم. وليس كما يفكر بعض الزملاء بترك الصحافة لفتح مشروع تجاري أو مطعم “عن نفسي أمنحهم الحق والعذر الكاملين في خياراتهم” لكنني كصحافي أدافع هنا عن جوهر الصحافة.
مُدرّسة الرياضيات لوسي كيلاوي لازلت تكتب في فترات متباعدة مقالات حيوية محملة بأفكار جديدة، والتغيير الذي حصل في مهنتها من أجل التجديد في حياتها وعملها، ولأنها كاتبة ملهمة أرادت اختراع نفسها.
تعترف أنها كانت مترددة في البداية، مثل أيّ صحافي يقدم على هذا الخيار المصيري، وبعد عقود مضنية في مهنة أحبتها تساءلت “كيف يمكن إعادة اختراع نفسي، وأنا لم أخترع نفسي بالأساس”. لكن هذا السؤال هو أهم الأسئلة الفلسفية التي يفترض بالصحافي أن يعيد إطلاقها على نفسه من أجل التجديد.
صحيح، أن الانسان لا يمكن إلا أن يكون على سريرته المعهودة التي وجد نفسه عليها، لكنّ الصحافيين وهم يعيشون الحجر تحت وطأة الوباء، مثل الملايين غيرهم ممن سئموا قضاء أكثر من عام وهم يحدقون في أجهزة الكمبيوتر في منازلهم، يفكرون بإلقاء المنشفة والانسحاب من الحلبة.
ووفق استطلاع جديد لشركة مايكروسوفت أجري أثناء الحجر الصحي العام، فإن 40 في المئة من جميع العاملين في أعمال مختلفة يفكرون في القيام بشيء آخر غير أعمالهم المعهودة.
بالطبع الانسان يغيّر مهنته ليصبح بحال أفضل، ومع أن كل الدراسات النفسية تجمع على أنه لا يمكن التعويل على شهادة المرء عندما يتعلق الأمر بتقييمه لأدائه، فإن الواقع في هذه الحال مع الصحافي يصبح مضاعفا. الحدّاد لا يرى اختلافا كثيرا في حياته عندما يغير مهنته إلى نجار، لكن الصحافي يكون أشبه بالهارب من نفسه بمجرد ولوج عمل لا يمتّ بصلة للصحافة التي تعيش في دمه.
أنا هنا لا أشكك في إخلاص من تركوا الصحافة “مرغمين أو راضين” لجوهر المهنة. لكنني أرى أن ترك مهنة الصحافة يجب أن يتمثل بالعودة إلى الصحافة نفسها بنماذج جديدة مثل لوسي كيلاوي المدرسة التي بقيت صحافية. ذلك يعني أن الصحافي يعيد صناعة نفسه من جديد عبر أفكار حيوية. مثلما يجدد مهنة حية وأن تُجهز عليها حكومات وشركات ومصالح اقتصادية ثرية، لدق المسمار الأخير في نعشها كما يبدو لهم.
كرم نعمة
كاتب عراقي مقيم في لندن
الخيار الأمثل هو إعادة صناعة الصحافة بأفكار حية وليس استبدالها، فليس بمقدور العالم التخلي عن الرقيب المثالي على الديمقراطية ومنع فساد الحكومات وهدر الأموال.
لوسي كيلاوي أعادت ابتكار مهنتها
كان صديقي المهندس يقول بإمكان أيّ انسان أن يكون صحافيا! بمجرد التفكير وقراءة ما يجري في العالم بذهن يقظ. وهذا ينطبق أيضا على قائمة أخرى من المهن. لكنه يقول أيضا بثقة واضحة ليس بإمكان أيّ شخص أن يكون مهندسا. في إشارة إلى استسهال العمل الصحافي.
يتعلق هذا الكلام كثيرا بالحديث المتداول حاليا عن إعادة النظر في خيارات المهن تحت وطأة الكساد الذي أصاب العالم جراء انتشار وباء كورونا وصدمة ما بعد الوباء.
عندما يتعلق الأمر بالصحافة فهي أصلا تعيش أزمة وجودية قبل انتشار الوباء، وهو ما عبّر عنه أحد الزملاء اللبنانيين بوصف حال الصحافيين اليوم بحال سائقي عربات الخيول مع اكتشاف السيارات في نهاية القرن الثامن عشر!
بالنسبة إليّ، أرى أن الخيار هو إعادة صناعة الصحافة وليس استبدالها، فليس بمقدور العالم التخلي عن الصحافة بوصفها الرقيب المثالي على الديمقراطية ومنع فساد الحكومات وهدر الأموال، وربط المجتمع بديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات. فالرجال الأقوياء الذين وضعوا العرف الأول للديمقراطية في العالم كانوا يفضلون دولة بلا حكومة على دولة بلا صحافة.
المؤسف أن تخلي الحكومات، خصوصا في العالم العربي، عن الصحافة المخلصة لجوهرها وترك الصحافيين يبحثون عن مصيرهم بأنفسهم، يتسبب بضرر بالغ للمجتمع. وإذا كانت الحكومات تهدف في ذلك إلى كتم الصوت المراقب لأدائها، وترك الصحافة تعيش أزمتها فإنها تدع البلاد تسير نائمة نحو المستقبل.
مع ذلك، تبتعد غالبية الحلول المقترحة للمستقبل الغامض للصحافة مع الكساد الذي أصابها في عصر الشركات التكنولوجية العملاقة، عن الأزمة الحقيقية، والتي يمثل الصحافيون الجزء الأهم فيها. جزء من المشكلة هم الصحافيون أنفسهم عندما يعجزون عن تقديم محتوى متميز.
وأعتقد أيضا أن تخلي الصحافي عن مهنته واستبدالها تعبير آخر عن العجز في إعادة صناعة مهنة حية ظل صناعها يوضعون في مرتبة المحظوظين عبر التاريخ.
يعترف داريل هوليداي الذي يعمل في منظمة صحافة مدنية غير ربحية في شيكاغو بأن فشل الصحافيين في تلبية حاجة المجتمع ليس سابقة في التاريخ، لذلك علينا أن نتساءل ما هي نوعية الأخبار التي يبحث عنها الناس اليوم، من أجل صناعة نماذج جديدة.
بإمكان الصحافي إعادة اختراع مهنته وليس التخلي عنها، كما يحدث لنسبة كبيرة من الصحافيين الذين افتقدوا إلى الثقة بالمستقبل.
لديّ مثال أستطيع أن أدافع فيه عن الصحافة بكونها صناعة حية عصية على الموت، وقادرة على تجديد الثقة الدائمة بأهميتها بتقديم نماذج جديدة واستعادة ثقة القراء والمحافظة المستمرة على الأوفياء منهم.
لوسي كيلاوي صحافية مرموقة في فايننشيال تايمز البريطانية، بقيت على مدار عقود ضمن فريق عمل الصحيفة البرتقالية التي توظف الأذكياء الذين يعرفون كيفية اكتشاف المواضيع المهمة وكتابتها بشكل رائع، وإعطاء القراء المزيج الصحيح مما هو مألوف ومدهش. الخبرة والمعرفة والممارسة والقدرة على الحكم والمهارة والذكاء كلها أمور تلعب دورا في اختيارات الصحافي لما يكتب.
المؤسف أن تخلي الحكومات، خصوصا في العالم العربي، عن الصحافة المخلصة لجوهرها وترك الصحافيين يبحثون عن مصيرهم بأنفسهم، يتسبب بضرر بالغ للمجتمع
لقد عاشت كيلاوي واحدة من أجمل الوظائف في الصحافة من خلال كتابة عمود لمدة 22 عاما، إلى درجة اعتبرت فيها جوهرة في تاج فايننشيال تايمز، ووصفها زميلها ليونيل باربر بأنها “صوت فريد من نوعه في مجتمع الأعمال”.
مع ذلك قررت لاحقا إعادة اختراع نفسها وترك عملها الصحافي. لكن! من دون التخلي عن صحافيتها، والإبقاء على الحسن التحليلي الكامن في عملها الجديد كمُدرّسة رياضيات.
ولأن كيلاوي لا تريد قضاء حياتها بفعل الشيء نفسه، انتقلت إلى مُدرسة رياضيات بوظيفة صحافي منذ أكثر من عامين. كانت ناجحة في السابق، ولم يتراجع نجاحها اليوم. وليس كما يفكر بعض الزملاء بترك الصحافة لفتح مشروع تجاري أو مطعم “عن نفسي أمنحهم الحق والعذر الكاملين في خياراتهم” لكنني كصحافي أدافع هنا عن جوهر الصحافة.
مُدرّسة الرياضيات لوسي كيلاوي لازلت تكتب في فترات متباعدة مقالات حيوية محملة بأفكار جديدة، والتغيير الذي حصل في مهنتها من أجل التجديد في حياتها وعملها، ولأنها كاتبة ملهمة أرادت اختراع نفسها.
تعترف أنها كانت مترددة في البداية، مثل أيّ صحافي يقدم على هذا الخيار المصيري، وبعد عقود مضنية في مهنة أحبتها تساءلت “كيف يمكن إعادة اختراع نفسي، وأنا لم أخترع نفسي بالأساس”. لكن هذا السؤال هو أهم الأسئلة الفلسفية التي يفترض بالصحافي أن يعيد إطلاقها على نفسه من أجل التجديد.
صحيح، أن الانسان لا يمكن إلا أن يكون على سريرته المعهودة التي وجد نفسه عليها، لكنّ الصحافيين وهم يعيشون الحجر تحت وطأة الوباء، مثل الملايين غيرهم ممن سئموا قضاء أكثر من عام وهم يحدقون في أجهزة الكمبيوتر في منازلهم، يفكرون بإلقاء المنشفة والانسحاب من الحلبة.
ووفق استطلاع جديد لشركة مايكروسوفت أجري أثناء الحجر الصحي العام، فإن 40 في المئة من جميع العاملين في أعمال مختلفة يفكرون في القيام بشيء آخر غير أعمالهم المعهودة.
بالطبع الانسان يغيّر مهنته ليصبح بحال أفضل، ومع أن كل الدراسات النفسية تجمع على أنه لا يمكن التعويل على شهادة المرء عندما يتعلق الأمر بتقييمه لأدائه، فإن الواقع في هذه الحال مع الصحافي يصبح مضاعفا. الحدّاد لا يرى اختلافا كثيرا في حياته عندما يغير مهنته إلى نجار، لكن الصحافي يكون أشبه بالهارب من نفسه بمجرد ولوج عمل لا يمتّ بصلة للصحافة التي تعيش في دمه.
أنا هنا لا أشكك في إخلاص من تركوا الصحافة “مرغمين أو راضين” لجوهر المهنة. لكنني أرى أن ترك مهنة الصحافة يجب أن يتمثل بالعودة إلى الصحافة نفسها بنماذج جديدة مثل لوسي كيلاوي المدرسة التي بقيت صحافية. ذلك يعني أن الصحافي يعيد صناعة نفسه من جديد عبر أفكار حيوية. مثلما يجدد مهنة حية وأن تُجهز عليها حكومات وشركات ومصالح اقتصادية ثرية، لدق المسمار الأخير في نعشها كما يبدو لهم.
كرم نعمة
كاتب عراقي مقيم في لندن