حدود المهنية تمنع التداخل بين حرية الصحافي وإملاءات السياسي.

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حدود المهنية تمنع التداخل بين حرية الصحافي وإملاءات السياسي.

    التاريخ والتأريخ بين هيكل ومصطفى الفقي.. تدليل الصحافي وتضليله


    حدود المهنية تمنع التداخل بين حرية الصحافي وإملاءات السياسي.


    الحقائق التاريخية ليست وجهة نظر

    يتجاهل بعض الكتاب والصحافيين على شهرتهم، الحد الفاصل بين رواية التاريخ والرأي الشخصي أثناء محاولتهم توثيق مرحلة زمنية فتتداخل وجهة النظر بالحقائق، بغياب الأطراف الأخرى الشاهدة على تلك الأحداث، وتغييب الحدود المهنية للصحافة.

    يستعجل البعض نشر ما يتصوره كتابة للتاريخ، أو تأبيدا لرواية واحدة، محددة وموجّهة، تكتسب قوتها من انتصار صاحبها ومنتجها ومموّلها. ويتنوع هذا الإنتاج العجول بين “تأليف” تاريخ مسطور، وإنتاج درامي سريع الانتشار والتأثير. استبداد تغيب فيه أصوات أخرى، بالأدق يتم تغييبها عمدا؛ لموت أصحابها أو إقصائهم واستضعافهم.

    ليت هؤلاء المتعجّلين يتواضعون فيسمّون أعمالهم “شهادات”، وجهات نظر، سيضعها مؤرخ ولو بعد مئة عام تحت المجهر، ويقارنها بغيرها من الأكاذيب والشهادات والروايات والوثائق والأدلة، وينتهي إلى “مشروع تاريخ” قابل للنقض والتعديل.

    هؤلاء تنقصهم مواهب ومسوّغات ونستون تشرشل القائل “التاريخ سيرأف بي؛ لأنني سأكتبه”. فمن أين تأتيهم الجرأة على الاجتزاء، وحذف بقية الصورة؟

    أكتفي بمثال واحد رواه طرفه الفاعل محمد حسنين هيكل، ثم رواه الشاهد الدكتور مصطفى الفقي بعد تسع سنوات. كان هيكل يجهز لكتابه “حرب الخليج.. أوهام القوة والنصر” الذي صدر عام 1992، وذكر في كتابه “مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان” الصادر عن دار الشروق 2012، أن حسني مبارك اتصل به، بعد انقطاع طويل، وسأله مباشرة عن صحة ما نشرته الصحف عن سفره، لمقابلة الملك حسين؛ “لأنك تكتب كتابا عن حرب الخليج!”. أجاب بأنه سيقابل الملك وغيره، فقال مبارك “الملك سوف يكذب عليك”. وبعد عودته إلى القاهرة اتصل به مبارك، وسأله بالمباشرة نفسها “هل كذب عليك، وروى لك ما يشاء لكي يبرر موقفه؟”.

    لم ينتظر مبارك ردّا، بل قرر إطلاع هيكل على ملفات الرئاسة السرية الخاصة بحرب الخليج، “شرط عدم تصويرها”، وإرسالها على مراحل مع مصطفى الفقي سكرتير الرئيس للمعلومات، وكلما اطلع هيكل على جزء وافاه بالجديد.
    الصحافي يحظر عليه جلب الإعلانات، والتعاون مع أي جهاز أمني أو استخباري، وإلا فليترك الصحافة تماما ويتفرغ لما اختاره

    كان ذلك في شهر رمضان، واتصل الفقي بهيكل لترتيب موعد للمرور على هيكل، وحدد له الساعة الواحدة من الغد لكي يتمكن الفقي من اللحاق بالإفطار عند أحد أصدقائه. فتح الفقي الدفعة الأولى وهي حقيبة جلدية، وانهمك هيكل في القراءة، وصارحه بالاكتفاء بما قرأ، ولا يريد المزيد؛ فالملفات تبدو “مكتوبة بأثر رجعي”، بعد الحرب، “محررة بتوجيه، لكي ترسم صورة معينة قد لا تكون موافقة لحقيقة ما جرى!”.

    خبرة هيكل بقراءة الوثائق دفعته إلى العزوف عن استكمال قراءة ما سيحمله إليه الفقي “غدا وبعد غد”، وآثر أن يكتب استنادا إلى ما يتوصل إليه، لا ما يُقدم إليه مما يشكّ فيه؛ فقراءته للملفات ستقيّده، وربما تلزمه بما لا يقتنع به. أعاد الفقي أوراقه إلى الحقيبة، وقال بإيجاز “لا تعتمد فيما تكتب إلا على ما تثق فيه، ولا تسألني أكثر من ذلك!”. وصدر الكتاب وترجم إلى العربية، فأغضب مبارك.


    هيكل اطلع على ملفات الرئاسة السرية الخاصة بحرب الخليج


    وفي عشاء عند صديق مشترك همس الفقي إلى هيكل “لا تجعل شيئا مما يقال يضايقك، الحق كان معك، والواقع كما أعرفه من موقعي أفظع بكثير من أي شيء قلته في كتابك!”.

    احتلت رواية هيكل للواقعة أكثر من خمس صفحات، في كتابه الذي صدر في حياة مبارك. وبعد وفاة كل من مبارك وهيكل روى الفقي في سيرته “الرواية.. رحلة الزمان والمكان”، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية عام 2021، الواقعة في أقل من سبعة سطور.

    وقال إن هيكل طلب إليه الاطلاع على الرسائل المتبادلة بين مبارك وصدام، فاستأذن مبارك وأقنعه بأن هيكل بعد لقائه بالملك حسين “من غير المستحب أن نحجب عنه ما لدينا، فوافق الرئيس”، واشترط ألا يحصل هيكل على صورة منها، “والطريف أنني عندما ذهبت إلى هيكل، تصفحها في دقائق قليلة، دون اعتناء، وأعادها لي شاكرا، وقال ليس فيها جديد يضاف إلى ما أعرفه”.

    أضع الروايتين أمام قارئ أثق بذكائه وقدرته على “قراءة” السياق الأكبر من مجرد الاطلاع على “وثائق”. سيرى القارئ علاقة ندية بين صحافي ورئيس يبادر بالاتصال، ولعله يخشى أن تنقُض رواية من خارج الحدود ما أمر بكتابته بعد سكوت المدافع، وما أراد الإيعاز به إلى كاتب مرموق تتسع دوائر قرائه فتتجاوز حدود العالم العربي، ثم يعاود الرئيس الاتصال بالصحافي للسؤال عن الرواية الأخرى.

    لم يردّ مبارك أو الفقي على رواية هيكل عام 2012 للواقعة، أما الرواية الأقل من سبعة سطور، في “السفر الأمين” للفقي، فتجاهلت ما قبل اطلاع هيكل على الوثائق، وأسقطت همس الفقي عن واقع “أفظع بكثير” مما كتبه هيكل.

    ولعل في كتاب الفقي التباسا يجب توضيحه، يقول إن هيكل “في مرحلة ثانية كتب مجموعة من المقالات عرفت باسم ‘المقالات اليابانية’ أرسلها إلى أسامة الباز للموافقة على نشرها، فعرض الأمر على مبارك الذي قال إن الوقت ليس مناسبا لذلك”.

    ولكن كتاب “المقالات اليابانية” أصدرته دار الشروق بالقاهرة عام 1997، وهو مقالات نشرتها صحيفة “يوميوري شيمبون” اليابانية وكانت توزعها الوكالة الدولية لصحيفة “لوس أنجلس تايمز” في الولايات المتحدة. وأما المقالات المحجوبة، وربما يقصدها الفقي، فهي ستة خطابات إلى مبارك، كتبها هيكل عام 1983، للنشر في مجلة “المصور”، بطلب من رئيس التحرير مكرم محمد أحمد الذي ذهب بها إلى مبارك، فأمر بعدم النشر.

    التباس آخر غريب. يقدم الفقي روايتين لإخراجه من الرئاسة عام 1992؛ في الأولى يقول “أبعدني الرئيس مبارك من الرئاسة؛ بحجة أن صوتي ظهر في محادثة تلفونية مع السيدة الأرمنية لوسي أرتين”. تجاهله مبارك بضعة أيام، حتى أوضح له عمر سليمان أن الرقابة الإدارية رصدت اتصالات تلفونية للوسي أرتين بمسؤولين كبار، منهم الفقي والمشير عبدالحليم أبوغزالة مساعد رئيس الجمهورية. ثم قام جمال عبدالعزيز رئيس سكرتارية الرئيس بإبلاغ الفقي بأن الرئيس أنهى ندبه.


    الفقي، بطل القصة مؤلف الكتاب


    ويقول الفقي، بطل القصة مؤلف الكتاب، في الرواية الثانية إن مبارك أرسل إلى أبوغزالة يطالبه بالاستقالة من منصب مساعد الرئيس، “وكنتُ قد تركت الرئاسة قبل ذلك بشهرين”. فأيهما نصدّق؟

    أقفز مما قد يكون استسهالا أو اجتزاء أو كتمانا للشهادة، عن واقع يعلم الفقي أنه “أفظع بكثير”، إلى ما يجب الاتفاق عليه كمدونة لترسيم حدود مهنية واضحة تمنع التداخل بين حرية الصحافي وإملاءات السياسي.

    الأمر يخص المقالات والتحقيقات، لا الأخبار التي تسأل عنها مصادرها. فالصحافي يفترض أنه يكتب الحقيقة، ما يبلغه اجتهاده وتطمئن إليه نفسه أنه الحقيقة. وفي أبجديات الصحافة في كلية الإعلام بجامعة القاهرة درسنا وتعلّمْنا أن الصحافي يحظر عليه أمران: جلب الإعلانات، والتعاون مع أي جهاز أمني أو استخباري، وعلى من يريد التعاون المباشر أو غير المباشر مع هذه الأجهزة فليحسم أمره، ويترك الصحافة تماما، ويتفرغ لما اختاره.

    كان الشاعر أسامة عفيفي رئيسا للقسم الثقافي في مجلة “الموقف العربي”، واستطاع الحصول على وثائق تخص المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة، تأكدت له صحتها فنشرها.

    وفوجئ بزيارة مسؤول من جهاز أمني يقدم إليه وثائق تتعلق بالمركز نفسه. ولكنه وإن وثق بصحة الوثائق رأى أنه لم يتوصل إليها بنفسه، بل قُدمت إليه، فاعتذر ورفض قبولها. قال لي إن في “هذا التعاون” تعهّدا بالنشر، وسيكون بداية إلزام ضمني، ولا يضمن أن يتلقى أوراقا لن يتثبت منها، ولن يكون حرّا في قرار النشر أو تحديد موعده؛ لأنه رضي بأن يكون واجهة عرض. بعض الصحافيين يفرح بهذه “الحظوة والتدليل”، فيفقد مصداقيته المهنية، ويستمرئ التضليل.

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    سعد القرش
    روائي مصري
يعمل...
X