كسّروا القوالب الصحافية
المحرر الصحافي طباخ في مطعم الوجبات اليومية، ومن الصعب أن تفاجئه وتطلب منه وجبة مختلفة وكأنك أخذته فورا إلى مطعم فندق خمس نجوم وتطلب منه إعداد وجبة خاصة.
الأربعاء 2021/02/03
انشرWhatsAppTwitterFacebook
العمل الصحافي قائم على التنويع والتغيير
تستغرب من حجم القولبة التي يمكن أن تواجهها في العمل اليومي. كلّ مَن حولك يريد أن يضع الأمور في سياق ثابت. كل ما تسمعه عن المرونة والتغيير والمبادرة، هو أشياء مفيدة في الاجتماعات واللقاءات وكتابة التقارير عن الأداء. لكن عندما تسأل المعنيين تجدهم يريدون نسقا ثابتا في العمل لا يحيدون عنه.
يمكن فهم هذه السياقات في أعمال تجارية أو صناعية، أو حتى أكاديمية. ولكن كيف يمكن أن تفهمها مثلا في العمل الصحافي؟ العمل الصحافي قائم على التنويع والتغيير. القولبة تقتله.
خذ مثلا تبويب الصفحات في جريدة يومية. الأولى للأخبار الكبرى، وصفحات الأخبار تقسم جغرافيا، ثم تذهب إلى الرأي والاقتصاد وهكذا. الكل مرتاح.
لكن تبرز لك يوميا مواضيع “ناشزة” تربك المحررين. في بعض الأحيان تخترع لها تبويبات، لكن المحرر سيستمر في الاشتغال عليها بنفس العقلية. مواضيع مربكة في التوجيه والإعداد، ويزيد من إرباكها للمحرر أنه يريد تمريرها ضمن السياق اليومي. المحرر الصحافي طباخ في مطعم الوجبات اليومية (بعضهم في مطاعم الوجبات السريعة)، ومن الصعب أن تفاجئه وتطلب منه وجبة مختلفة وكأنك أخذته فورا إلى مطعم فندق خمس نجوم وتطلب منه إعداد وجبة خاصة.
نقاط التشابك كثيرة. نواجهها اليوم في تقارير الوباء. تقول كورونا، فيقولون: تبويب صفحة “صحة”. ولكنّ الموضوع عن توزيع اللقاح مثلا. هذا موضوع لوجستي، هل هو اقتصاد أم تحقيقات؟ هل كشف الكلاب للإصابة عند شخص هو موضوع صحي أم منوعات؟ الأمر يحتاج إلى إفتاء من مدير. المدير نفسه يحتار أحيانا ويستعين بصديق يحمل مسمى “رئيس تحرير”. رئيس المحتارين.
القولبة لا تقف عند هذا الحد. ماذا تكتب في عمود منوّع للأخيرة؟ المقال مقال سواء أسميته عمودا أو أي مسمى آخر. لماذا الاستخفاف به والكتابة وكأنه خاطرة مثلا، أو أن يكون تسجيلا شخصيا لحادثة مررت بها؟ هل فكرة أن يكون خفيف الظل هي أن يكون خفيفا بلا معنى؟ لماذا لا يكون مقالا متماسكا يطرح قضية بدلا من خربشات من كاتب. الخربشات لها مكانها اليوم في عالم فيسبوك. انشروا هناك رجاء واتركوا العمود في الأخيرة للمقالات الطريفة والمنوعة.
خذ مثلا كاتبا سياسيا، من الوارد أن يكتب في صفحة الرأي عن قضية تختلط فيها الأمور. القليل من الخلفيات الاجتماعية لقضية سياسية مطروحة، لن ينتقص من قيمة المقال سياسيا. لكن الكاتب يتردد. عليه أن يزيد من جرعة المفردات والقراءات السياسية، وأن يترك الاجتماعي لأصحابه. كم نضيع من أفكار في هذا الترفع غير المنطقي والذي تجاوزه العالم.
كسّروا القوالب والتبويبات الصحافية. العالم غادر العيش في الصناديق منذ أمد طويل.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
د. هيثم الزبيدي
كاتب من العراق مقيم في لندن
المحرر الصحافي طباخ في مطعم الوجبات اليومية، ومن الصعب أن تفاجئه وتطلب منه وجبة مختلفة وكأنك أخذته فورا إلى مطعم فندق خمس نجوم وتطلب منه إعداد وجبة خاصة.
الأربعاء 2021/02/03
انشرWhatsAppTwitterFacebook
العمل الصحافي قائم على التنويع والتغيير
تستغرب من حجم القولبة التي يمكن أن تواجهها في العمل اليومي. كلّ مَن حولك يريد أن يضع الأمور في سياق ثابت. كل ما تسمعه عن المرونة والتغيير والمبادرة، هو أشياء مفيدة في الاجتماعات واللقاءات وكتابة التقارير عن الأداء. لكن عندما تسأل المعنيين تجدهم يريدون نسقا ثابتا في العمل لا يحيدون عنه.
يمكن فهم هذه السياقات في أعمال تجارية أو صناعية، أو حتى أكاديمية. ولكن كيف يمكن أن تفهمها مثلا في العمل الصحافي؟ العمل الصحافي قائم على التنويع والتغيير. القولبة تقتله.
خذ مثلا تبويب الصفحات في جريدة يومية. الأولى للأخبار الكبرى، وصفحات الأخبار تقسم جغرافيا، ثم تذهب إلى الرأي والاقتصاد وهكذا. الكل مرتاح.
لكن تبرز لك يوميا مواضيع “ناشزة” تربك المحررين. في بعض الأحيان تخترع لها تبويبات، لكن المحرر سيستمر في الاشتغال عليها بنفس العقلية. مواضيع مربكة في التوجيه والإعداد، ويزيد من إرباكها للمحرر أنه يريد تمريرها ضمن السياق اليومي. المحرر الصحافي طباخ في مطعم الوجبات اليومية (بعضهم في مطاعم الوجبات السريعة)، ومن الصعب أن تفاجئه وتطلب منه وجبة مختلفة وكأنك أخذته فورا إلى مطعم فندق خمس نجوم وتطلب منه إعداد وجبة خاصة.
نقاط التشابك كثيرة. نواجهها اليوم في تقارير الوباء. تقول كورونا، فيقولون: تبويب صفحة “صحة”. ولكنّ الموضوع عن توزيع اللقاح مثلا. هذا موضوع لوجستي، هل هو اقتصاد أم تحقيقات؟ هل كشف الكلاب للإصابة عند شخص هو موضوع صحي أم منوعات؟ الأمر يحتاج إلى إفتاء من مدير. المدير نفسه يحتار أحيانا ويستعين بصديق يحمل مسمى “رئيس تحرير”. رئيس المحتارين.
القولبة لا تقف عند هذا الحد. ماذا تكتب في عمود منوّع للأخيرة؟ المقال مقال سواء أسميته عمودا أو أي مسمى آخر. لماذا الاستخفاف به والكتابة وكأنه خاطرة مثلا، أو أن يكون تسجيلا شخصيا لحادثة مررت بها؟ هل فكرة أن يكون خفيف الظل هي أن يكون خفيفا بلا معنى؟ لماذا لا يكون مقالا متماسكا يطرح قضية بدلا من خربشات من كاتب. الخربشات لها مكانها اليوم في عالم فيسبوك. انشروا هناك رجاء واتركوا العمود في الأخيرة للمقالات الطريفة والمنوعة.
خذ مثلا كاتبا سياسيا، من الوارد أن يكتب في صفحة الرأي عن قضية تختلط فيها الأمور. القليل من الخلفيات الاجتماعية لقضية سياسية مطروحة، لن ينتقص من قيمة المقال سياسيا. لكن الكاتب يتردد. عليه أن يزيد من جرعة المفردات والقراءات السياسية، وأن يترك الاجتماعي لأصحابه. كم نضيع من أفكار في هذا الترفع غير المنطقي والذي تجاوزه العالم.
كسّروا القوالب والتبويبات الصحافية. العالم غادر العيش في الصناديق منذ أمد طويل.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
د. هيثم الزبيدي
كاتب من العراق مقيم في لندن