يعود فضل ازدهار المجتمعات البشرية إلى الإيثار الذي يتمتع به أفرادها، فعلى عكس الكثير من الحيوانات، يتعاون البشر معًا وإن كانوا غرباء تمامًا، فهم يتشاركون المعرفة، ويمارسون حق التصويت ويعملون معًا لإدارة الموارد الطبيعية بطريقة مسؤولة. فما مصدر مهارات التعاون هذه؟ ولم لا تتغلب عليها الغرائز الأنانية؟
وجد بعض الباحثين أن التعاطف -وهو قدرة بشرية مميِّزة على استيعاب وجهة نظر الآخرين- قد يكون مسؤولًا عن الحفاظ على هذه المستويات العالية جدًّا من التعاون في المجتمعات الحديثة، وذلك باستخدام فرع من الرياضيات يُسمى «نظرية الألعاب التطورية».
القواعد الاجتماعية للتعاون
اعتقد الباحثون سابقًا أن المعايير الاجتماعية والسمعة تفسر سلوك الإيثار، فمن المرجح أن يتعامل الناس بلطف مع من يرونهم خيّرين أكثر من ذوي السمعة السيئة، إذ سيستمر التعاون إذا اتفق الجميع على أن الإيثار يُكسب الشخص سمعةً حسنة.
الحكم الشائع بشأن من نرى أنهم أخلاقيون وجديرون بالتعاون هو أحد المعايير الاجتماعية، إذ يشبه قاعدة خفية ترشد السلوك الاجتماعي وتعزز التعاون. ومن المعايير الاجتماعية الشائعة أيضًا ما يسمى «الحكم الصارم»، أي مكافأة الأشخاص المتعاونين الذين يمتنعون عن مساعدة الأشخاص السيئين، إلى جانب معايير أخرى.
تُسمى فكرة مساعدتك لشخص ما ومساعدة آخر لك بنظرية التبادل غير المباشر، لكن هذه النظرية بُنيت على افتراض أن الناس يتفقون دومًا على سمعاتهم، مع أنها تتغير بمرور الوقت، إذ من المفترض أن يكون الصيت الأخلاقي موضوعيًّا بالكامل ومعروفًا للجميع.
فلنتخيل مثلًا مؤسسة قادرة على رؤية كل شيء، تراقب سلوك الأفراد لتعطيهم سمعة وفقًا لذلك السلوك، مثل نظام الرصيد الاجتماعي في الصين الذي يكافئ الناس أو يعاقبهم بناءً على «رصيدهم الاجتماعي» الذي تحسبه الحكومة.
لكن في الواقع، يختلف الناس كثيرًا حول سمعة بعضهم البعض، فالشخص الذي يبدو جيدًا برأي أحدهم قد يبدو سيئًا برأي آخر، وحكم أحدهما قد يستند إلى معيار اجتماعي مختلف أو ملاحظة مختلفة عن الآخر. لذا، السمعة في المجتمعات الحقيقية أمر نسبي، وتختلف آراء الناس عما هو جيد أو سيء.
لرصد الأحداث الممكنة في إطار واقعي باستخدام نماذج تطورية مستوحاة بيولوجيًّا، ولإجابة التساؤل «هل يتطور التعاون عند وجود خلافات على ما هو جيد وسيء؟»، عمل الباحثون على استنتاج واصفات رياضية لمجتمعات كبيرة يختار فيها الأفراد بين عدة أنواع للسلوك التعاوني والأناني، بناءً على المنفعة من السلوك المختار، واستُخدمت بعد ذلك نماذج حاسوبية لمحاكاة التفاعل الاجتماعي في مجتمعات أصغر، تشابه المجتمعات البشرية.
ما مدى شيوع التعاون في المجتمعات؟
أسفرت القواعد المختلفة، التي نمذجت الأفراد في التجربة واستُخدمت لتصنيف السمعة الجيدة والسيئة، عن مستويات مختلفة من التعاون في المجتمعات، إذ كان التعاون شائعًا عندما كانت منظومة ما تراقب السمعة (كما في نظرية التبادل غير المباشر المعيارية)، أما في المواقف المشابهة للواقع التي لا يتفق فيها الأفراد على سمعة الآخرين كان التعاون أقل بكثير.
كانت نتائج النموذج غير مشجعة، فعمومًا جعلت الأخلاقية النسبية المجتمعات أكثر أنانية، واختفى التعاون تقريبًا بالنسبة إلى أكثر المعايير الاجتماعية، ما يعني أن معظم المعلومات التي تقول بتعزيز المعايير الاجتماعية للتعاون كانت خاطئة.
تطور التعاطف
تعاون Arunas L. Radzvilavicius -الباحث بجامعة بنسلفانيا- مع آخرين لمعرفة الأجزاء المفقودة من النظرية الإيثار السائدة، واتفقوا بدايةً على أن النتائج المتشائمة للنموذج الرياضي تختلف عن الفكرة الحدسية التي تقول بأن معظم الناس يهتمون بالسمعة وبالقيمة الأخلاقية لتصرفات الآخرين.
يعلم الفريق أيضًا أن للبشر قدرة هائلة على التعاطف مع الآخرين وتضمين وجهات نظرهم عند الحكم على صلاح سلوك ما أو فساده أخلاقيًا، فمثلًا قد يغرينا الحكم بشدة على السلوك غير المتعاون لأحدهم، بينما يقل هذا الإغراء إذا كان التعاون تصرفًا خاطئًا من وجهة نظرهم.
لذا قرر الفريق تعديل النماذج لمنح الأفراد القدرة على التعاطف (أي القدرة على بناء التقييم الأخلاقي اعتمادًا على وجهات نظر أشخاص آخرين)، وأرادوا أيضًا أن يكون الأفراد في نماذجهم قادرين على تعلّم التعاطف عبر ملاحظة السمات النفسية للأشخاص الأنجح وتقليدها.
بإدخال مفهوم التعاطف إلى النماذج، ارتفعت معدلات التعاون كثيرًا، إذ لاحظ الفريق تغلب الإيثار على السلوك الأناني، وحتى المجتمعات التي بدأت بعدم التعاون -إذ يحكم الأفراد على بعضهم بناءً على آرائهم الفردية الأنانية- اكتشفت في نهاية الأمر التعاطف الذي أصبح معديًا اجتماعيًّا وانتشر بين الجميع. استنتج الباحثون أن التعاطف جعل المجتمعات تتسم بالإيثار مرةً أخرى.
المزيد من التعاطف يعني مزيدًا من التعاون
عندما أدخل الباحثون مبدأ التعاطف إلى نماذج المجتمعات في دراستهم، ارتفعت معدلات التعاون، بصرف النظر عن المعايير التي طُلب من الأفراد الاستناد إليها عند منح صفة جيد أو سيء للسمعة، وكان معيار الرصيد الوحيد الذي لم يتغير عند زيادة التعاطف في المجتمع.
ذكر اختصاصيو علم النفس سابقًا أن التعاطف قد يلعب دور الرابط الاجتماعي، إذ يزيد الترابط الاجتماعي والتعاون في المجتمعات البشرية. يبدأ التعاطف الآخذ بوجهات نظر الآخرين منذ الطفولة، ويتعلم الأطفال بعضًا من جوانب التعاطف من الأبوين وأشخاص آخرين في دائرتهم الاجتماعية، ولكن تبقى كيفية تطور التعاطف لدى البشر من الأساس مسألةً غامضة.
من الصعب جدًّا بناء نظريات حاسمة حول مفاهيم علم النفس الأخلاقي المعقدة كالتعاطف أو الثقة، ولكن هذه الدراسة قدمت طريقة جديدة للتفكير في التعاطف، عن طريق إدخاله ضمن إطار نظرية الألعاب التطورية المدروسة جيدًا، ويمكن أيضًا دراسة عواطف أخلاقية أخرى كالشعور بالذنب أو الخزي بنفس الطريقة.
يأمل الباحثون أن يُختبر الرابط بين التعاطف والتعاون تجريبيًّا، إذ إن المهارات المتعلقة باتخاذ وجهات النظر المختلفة هي الأهم في المجتمعات البشرية التي تتقاطع فيها خلفيات وثقافات ومعايير مختلفة، أي عندما يكون للأفراد آراء متباعدة عن الأفعال الجيدة أو السيئة أخلاقيًّا.
وإذا كان دور التعاطف قويًا حقًّا كما توحي نتيجة هذه الدراسة، فقد توجد طرق لاستخدام نتائجها لتعزيز التعاون واسع النطاق على المدى الطويل، مثلًا بوضع سياسات ودوافع تعزز تطوير مهارات اتخاذ المواقف، أو على الأقل التشجيع على أخذ آراء الآخرين المختلفة بعين الاعتبار
المصدر:ibelieveinsci
وجد بعض الباحثين أن التعاطف -وهو قدرة بشرية مميِّزة على استيعاب وجهة نظر الآخرين- قد يكون مسؤولًا عن الحفاظ على هذه المستويات العالية جدًّا من التعاون في المجتمعات الحديثة، وذلك باستخدام فرع من الرياضيات يُسمى «نظرية الألعاب التطورية».
القواعد الاجتماعية للتعاون
اعتقد الباحثون سابقًا أن المعايير الاجتماعية والسمعة تفسر سلوك الإيثار، فمن المرجح أن يتعامل الناس بلطف مع من يرونهم خيّرين أكثر من ذوي السمعة السيئة، إذ سيستمر التعاون إذا اتفق الجميع على أن الإيثار يُكسب الشخص سمعةً حسنة.
الحكم الشائع بشأن من نرى أنهم أخلاقيون وجديرون بالتعاون هو أحد المعايير الاجتماعية، إذ يشبه قاعدة خفية ترشد السلوك الاجتماعي وتعزز التعاون. ومن المعايير الاجتماعية الشائعة أيضًا ما يسمى «الحكم الصارم»، أي مكافأة الأشخاص المتعاونين الذين يمتنعون عن مساعدة الأشخاص السيئين، إلى جانب معايير أخرى.
تُسمى فكرة مساعدتك لشخص ما ومساعدة آخر لك بنظرية التبادل غير المباشر، لكن هذه النظرية بُنيت على افتراض أن الناس يتفقون دومًا على سمعاتهم، مع أنها تتغير بمرور الوقت، إذ من المفترض أن يكون الصيت الأخلاقي موضوعيًّا بالكامل ومعروفًا للجميع.
فلنتخيل مثلًا مؤسسة قادرة على رؤية كل شيء، تراقب سلوك الأفراد لتعطيهم سمعة وفقًا لذلك السلوك، مثل نظام الرصيد الاجتماعي في الصين الذي يكافئ الناس أو يعاقبهم بناءً على «رصيدهم الاجتماعي» الذي تحسبه الحكومة.
لكن في الواقع، يختلف الناس كثيرًا حول سمعة بعضهم البعض، فالشخص الذي يبدو جيدًا برأي أحدهم قد يبدو سيئًا برأي آخر، وحكم أحدهما قد يستند إلى معيار اجتماعي مختلف أو ملاحظة مختلفة عن الآخر. لذا، السمعة في المجتمعات الحقيقية أمر نسبي، وتختلف آراء الناس عما هو جيد أو سيء.
لرصد الأحداث الممكنة في إطار واقعي باستخدام نماذج تطورية مستوحاة بيولوجيًّا، ولإجابة التساؤل «هل يتطور التعاون عند وجود خلافات على ما هو جيد وسيء؟»، عمل الباحثون على استنتاج واصفات رياضية لمجتمعات كبيرة يختار فيها الأفراد بين عدة أنواع للسلوك التعاوني والأناني، بناءً على المنفعة من السلوك المختار، واستُخدمت بعد ذلك نماذج حاسوبية لمحاكاة التفاعل الاجتماعي في مجتمعات أصغر، تشابه المجتمعات البشرية.
ما مدى شيوع التعاون في المجتمعات؟
أسفرت القواعد المختلفة، التي نمذجت الأفراد في التجربة واستُخدمت لتصنيف السمعة الجيدة والسيئة، عن مستويات مختلفة من التعاون في المجتمعات، إذ كان التعاون شائعًا عندما كانت منظومة ما تراقب السمعة (كما في نظرية التبادل غير المباشر المعيارية)، أما في المواقف المشابهة للواقع التي لا يتفق فيها الأفراد على سمعة الآخرين كان التعاون أقل بكثير.
كانت نتائج النموذج غير مشجعة، فعمومًا جعلت الأخلاقية النسبية المجتمعات أكثر أنانية، واختفى التعاون تقريبًا بالنسبة إلى أكثر المعايير الاجتماعية، ما يعني أن معظم المعلومات التي تقول بتعزيز المعايير الاجتماعية للتعاون كانت خاطئة.
تطور التعاطف
تعاون Arunas L. Radzvilavicius -الباحث بجامعة بنسلفانيا- مع آخرين لمعرفة الأجزاء المفقودة من النظرية الإيثار السائدة، واتفقوا بدايةً على أن النتائج المتشائمة للنموذج الرياضي تختلف عن الفكرة الحدسية التي تقول بأن معظم الناس يهتمون بالسمعة وبالقيمة الأخلاقية لتصرفات الآخرين.
يعلم الفريق أيضًا أن للبشر قدرة هائلة على التعاطف مع الآخرين وتضمين وجهات نظرهم عند الحكم على صلاح سلوك ما أو فساده أخلاقيًا، فمثلًا قد يغرينا الحكم بشدة على السلوك غير المتعاون لأحدهم، بينما يقل هذا الإغراء إذا كان التعاون تصرفًا خاطئًا من وجهة نظرهم.
لذا قرر الفريق تعديل النماذج لمنح الأفراد القدرة على التعاطف (أي القدرة على بناء التقييم الأخلاقي اعتمادًا على وجهات نظر أشخاص آخرين)، وأرادوا أيضًا أن يكون الأفراد في نماذجهم قادرين على تعلّم التعاطف عبر ملاحظة السمات النفسية للأشخاص الأنجح وتقليدها.
بإدخال مفهوم التعاطف إلى النماذج، ارتفعت معدلات التعاون كثيرًا، إذ لاحظ الفريق تغلب الإيثار على السلوك الأناني، وحتى المجتمعات التي بدأت بعدم التعاون -إذ يحكم الأفراد على بعضهم بناءً على آرائهم الفردية الأنانية- اكتشفت في نهاية الأمر التعاطف الذي أصبح معديًا اجتماعيًّا وانتشر بين الجميع. استنتج الباحثون أن التعاطف جعل المجتمعات تتسم بالإيثار مرةً أخرى.
المزيد من التعاطف يعني مزيدًا من التعاون
عندما أدخل الباحثون مبدأ التعاطف إلى نماذج المجتمعات في دراستهم، ارتفعت معدلات التعاون، بصرف النظر عن المعايير التي طُلب من الأفراد الاستناد إليها عند منح صفة جيد أو سيء للسمعة، وكان معيار الرصيد الوحيد الذي لم يتغير عند زيادة التعاطف في المجتمع.
ذكر اختصاصيو علم النفس سابقًا أن التعاطف قد يلعب دور الرابط الاجتماعي، إذ يزيد الترابط الاجتماعي والتعاون في المجتمعات البشرية. يبدأ التعاطف الآخذ بوجهات نظر الآخرين منذ الطفولة، ويتعلم الأطفال بعضًا من جوانب التعاطف من الأبوين وأشخاص آخرين في دائرتهم الاجتماعية، ولكن تبقى كيفية تطور التعاطف لدى البشر من الأساس مسألةً غامضة.
من الصعب جدًّا بناء نظريات حاسمة حول مفاهيم علم النفس الأخلاقي المعقدة كالتعاطف أو الثقة، ولكن هذه الدراسة قدمت طريقة جديدة للتفكير في التعاطف، عن طريق إدخاله ضمن إطار نظرية الألعاب التطورية المدروسة جيدًا، ويمكن أيضًا دراسة عواطف أخلاقية أخرى كالشعور بالذنب أو الخزي بنفس الطريقة.
يأمل الباحثون أن يُختبر الرابط بين التعاطف والتعاون تجريبيًّا، إذ إن المهارات المتعلقة باتخاذ وجهات النظر المختلفة هي الأهم في المجتمعات البشرية التي تتقاطع فيها خلفيات وثقافات ومعايير مختلفة، أي عندما يكون للأفراد آراء متباعدة عن الأفعال الجيدة أو السيئة أخلاقيًّا.
وإذا كان دور التعاطف قويًا حقًّا كما توحي نتيجة هذه الدراسة، فقد توجد طرق لاستخدام نتائجها لتعزيز التعاون واسع النطاق على المدى الطويل، مثلًا بوضع سياسات ودوافع تعزز تطوير مهارات اتخاذ المواقف، أو على الأقل التشجيع على أخذ آراء الآخرين المختلفة بعين الاعتبار
المصدر:ibelieveinsci