أحد التقاليد الخاصة بالنقد السينمائي والذي ينكب عليه مَن يعملون فيه خلال كل دورة جديدة من المهرجانات السينمائية الكبيرة، هو تجميع أفلام وإيجاد هموم وهواجس وتيمات مشتركة لها وبحث عن نقاط تلتقي فيها. ومن خلال التركيز على مواضيع الأفلام، لا فقط على نوعيتها أو أسلوبها، تظهر إلى العلن الاتجاهات الجديدة التي يأخذها السينمائيون في أعمالهم، فتتوضح أكثر فأكثر ما هي الأشياء التي تؤرقهم وتشغلهم وتلهمهم. في هذه الدورة من مهرجان برلين السينمائي (16 – 26 فبراير/ شباط)، فرض موضوع الخيال نفسه، وذلك على الأقل في ثلاثة أفلام من تلك التي شاهدتها، وهذا لا يعني أن هذا الموضوع يقتصر على هذه الأفلام من دون غيرها. المزيد من المشاهدة يعني بالضرورة المزيد من اكتشاف التقاطعات بين الأفلام المعروضة في هذه الدورة والتي يتجاوز عددها الـ300.
في أحدث أفلامه، "في المياه" (المعروض في قسم "لقاءات") الذي أعاده إلى برلين مجدداً، يتعقّب المخرج الكوري الجنوبي هونغ سانغ سو تحركات شاب في العشرينيات من عمره (شين سيخو)، يحاول تجميع أفكاره لتصوير فيلم قصير. برفقة شابة يريد إسناد الدور الرئيسي إليها ورفيق سيلتقط المَشاهد، يخوض سلسلة حوارات ومناقشات حول طبيعة العمل، وذلك على سبيل الاستعداد. المشكلة أن خياله لا يسعفه، فهو فاقد الإلهام تماماً، لديه الرغبة وتنقصه القدرة، الأمر الذي يعذّبه ويفتح جراحه. الفيلم الذي لا تتخطى مدته الساعة من الزمن، يحصر نفسه في إطار هذا الموضوع، لكن سانغ سو يصوّره طولاً وعرضاً، من خلال لقطات طويلة فيها فائض من الكلام. إلا أن مَن يعرف هونغ سانغ سو وطريقة اشتغاله قد يعي أن المخرج يوظّف هذا الشاب كي يروي ذاته أيضاً. اختياره لشاب يطمح إلى اقتفاء أثره ليس سوى لعبة مرايا يرى فيها سانغ سو نفسه. والمفارقة أنه يصوّر مرحلة الاستعدادات التي يخوضها المخرج الشاب، فيما هو نفسه معروف عنه أنه لا يجري أي استعداد البتة، وعمله في الكثير من الأحيان يستند إلى الارتجال، إذ إنه يدوّن الحوارات على ورقة ويعطيها للممثّلين صباح كل يوم. كما أنه اشتهر بتوليه كل مراحل صناعة الفيلم، فهو المخرج والمنتج والكاتب والمونتير ومؤلف الموسيقى، وهذا يعني أنه يعرف عمّا يتكلّم عندما يتحدّث عن السينما.
الصورة المغبشة
يمكن النظر إلى "في المياه" من زوايا عدة، لكن اللافت أن سانغ سو يحاول التفكير في موضوع الخلق الفني والإلهام والوحي، وفي الوقت نفسه لا يأخذ أياً من هذا على محمل الجد. أما جديد الفيلم الذي يثير الاستغراب والامتعاض أيضاً، هو أنه قرر تصويره بصورة مغبشة، أي أنه لم يضبط عدسة الكاميرا كي نرى المشاهد بوضوح. وكالعادة، لا يبرر دوافعه ولا يشرحها، مكتفياً بأجوبة مختصرة. عندما سُئِل عن سبب لجوئه إلى صورة مغبّشة، كان رده: مللت الصورة الواضحة!
فنان آخر يعاني من ظاهرة الصفحة البيضاء هو الروائي الشاب ليون (توماس شوبرت) في "سماء حمراء" للمخرج الألماني المجدد كريستيان بتزولد. الفيلم المشارك في المسابقة الرسمية يصوّر شابين يصلان إلى بيت صيفي في الريف الألماني حيث يأملان الإمعان في الراحة والطمأنينة اللتين تخولهما العمل من دون أن يزعجهما أحد. يطمح ليون إلى إنهاء روايته الثانية ويمتلك وقتاً محدوداً قبل أن يطالعها ناشره. أما صديقه فيليكس (لانغستون أوبيل) فلديه مشروع التقاط صور يريد تجهيزه، لكن هذا موضوع ثانوي، لا ينشغل به الفيلم. الشغل الشاغل لبتزولد هو ليون، الذي يعاني ليجمع أفكاره ويخرج منها بشيء يصلح ليكون أدباً، وهو في الوقت نفسه سيجد نفسه في مواجهة أحداث متلاحقة ومستجدات عاطفية تضعه في حالة نفسية صعبة وملهمة في الحين نفسه، وستكون في الآخر أساسية لنضجه الفكري، وهو نضج سيتيح له كتابة ما كان يأمل في كتابته. يحدث هذا كله وفي خلفية التطورات حرائق ستنشب في الغابة التي يقع فيها البيت، وهي ستحدد مصير الشخصيات التي منها سيستمد إلهامه. على غرار هونغ سانغ سو، لا يأخذ الفيلم كل ما يريه على محمل الجد، بل يتعامل معه كمادة يستلهم منها ليون أحداث روايته.
الفيلم هو الجزء الثاني من ثلاثية عن الحب والابداع، بدأها بتزولد مع فيلمه السابق "أوندين"، ويمكن القول مجدداً إنه لا يمكن تناوله من دون أن نرى الصدى الذي يحدثه في سيرة المخرج الفنية. فالسينمائيون، بالأخص هؤلاء الذين ينتمون إلى سينما المؤلف، كثيراً ما يكشفون عن أفكارهم ويتحدثون عن أنفسهم من خلال الشخصيات. وليون هنا كاتب تعتريه الشكوك، فهو يعلم أن ما كتبه ليس على مستوى طموحاته، ولكن عليه تظاهر العكس وإقناع نفسه بأنه على الطريق الصحيح. يموضع بتزولد فيلمه في أجواء غير مريحة نفسياً، حيث النيران تلتهم الأخضر واليابس، لكن في النهاية، سيتمخض عنها عمل فني. بالنسبة له، هذا هو واقع الخلق الأدبي، ومهما بدت نظرته قاسية ولئيمة، فالكاتب يحتاج إلى أحداث ومآسيَ كي يستلهم منها أعماله.
عائلة ومسرح دمى
ثالث الأفلام التي تتطرق إلى مسألة الفن والإبداع والإلهام هو "لو غران شاريو" (مسابقة) للمخرج الفرنسي فيليب غاريل الذي يؤكد مرة جديدة أنه معلّم في مجال السينما المينيمالية التي يقدّمها لجمهور من المعجبين بفنه. الفيلم عن عائلة من خمسة أفراد يعملون في مسرح الدمى للأطفال. الأب (أوريليان روكوان) يدير المسرح مع أولاده الثلاثة (لوي وإستير ولينا غاريل)، تحت أنظار الجدة (فرانسين بيرجيه) التي لا تغيب عن أي من العروض. بالنسبة إلى هذه العائلة، المسرح هو الحياة، وهو إرث ثقافي وفني يتناقله أفرادها جيلاً بعد جيل. لكن، هل مَن يضمن استمرار الإرث إلى الأبد؟ هذا هو السؤال الذي يُطرح فور موت الأب، خلال تحريكه العرائس. الموت لحظة مصيرية حاسمة لهذه العائلة، لأنه سيفرقها. فالإبن سيتخلى عن "بزنس" العائلة ليتوجه إلى المسرحيات التقليدية حيث ينال نجاجاً كبيراً. أما الشقيقتان فتفضلان الاتجاه إلى كتابة المسرحيات، لكنهما مجدداً، تعانيان من نقص في الإلهام. أما المسرح، فيبدو أكثر من أي وقت سابق "حكاية من الماضي"، ما عاد يجذب الانتباه أو يسلّي الأطفال في زمن التحولات. لا يمانع الأولاد الثلاثة أن يرثوا مسرح العائلة، وهم مستعدون أن يضحّوا من أجل استمراره، لكن يصعب الاعتماد عليه لتوفير مستلزمات العيش. أما بيتر (داميان مونجان)، صديق العائلة، والشخص الذي تسلّم إدارة المسرح لفترة من الفترات، فيتخلى عن مهامه، كي يخصص وقته للرسم. إلا أن لوحاته لن تُباع، ما يضعه في وضع مادي محرج، يتحول معه إلى فنان معذب ومشرد.
يستعين غاريل في هذا الفيلم بأولاده الثلاثة، لوي ولينا واستير، ويزجهم في فيلم يبدو لوهلة أولى، مشروعاً عائلياً. يكتب غاريل هنا وصيته السينمائية، معبراً على نحو شخصي جداً، هواجسه كفنان يبحث عن مَن يكمّل مسيرته من بعده. وهذه ليست المرة الأولى ينشغل فيها غاريل بموضوع التوريث، ففي فيلمه "ملح الدموع"، يموت الأب فور انتهائه من تعليم ابنه مهنة صناعة المفروشات، وكأنه أراد أن يموت مطمئناً. لكن، بين المفروشات والأفلام فرق كبير يشغل بال غاريل وهو في الرابعة والسبعين من العمر.