إعلان الانتحار عبر وسائل التواصل الاجتماعي بين المعاناة الحقيقية واستغلال مشاعر الآخرين. ماذا كنت لتفعل إذا كنت تتصفح الفيسبوك متنقلًا بين المنشورات المختلفة لتجد أحدهم قد نشر كلماته الأخيرة قبل أن يعلن أنه سيقدم على الانتحار؟ هل سيقتل نفسه فعلًا أم أن هذا الشخص يقوم بمثل هذه الأفعال مستغلًا الآخرين لجذب الانتباه والشهرة؟ كيف يتمكن هؤلاء من ابتزازك والتلاعب بك؟
هل هو حقيقي أن المنتحر الفعلي يفعل ذلك في سرية دون أن يعلن؟ وما هدف بعض الأشخاص من إيذاء أنفسهم مهددين بالانتحار وناشرين صورًا داميةً لهم في لحظاتهم الأخيرة؟ وكيف تهدد مثل هذه المحتويات حياة الآخرين من القُرّاء؟ دعنا في السطور التالية نعرف ما أخبرنا به الباحثون من إجابات لهذه الظاهرة.
المعضلة ليست بجديدة
لطالما تحيّر الناس إزاء مدى جدية الشخصية التي تهدد بالانتحار، هل هو محاولة فعلية للانتحار أم لا؟ فطالما نظر إليها بعض الناس على أنها محض محاولة عبثية لجذب الانتباه والبعض الآخر يراها قضية مجتمعية وجريمة تستوجب العقاب لمنع انتشارها، ويراها آخرون ظاهرة نفسية تستوجب الاهتمام والأخذ على محمل الجد. لم تقتصر هذه الحيرة على العامة فقط، فقد طالت العلماء أيضًا.
في عام 1933 نشر العالم النفسي لويس بحثًا في مجلة أمريكية ميَّز فيه بين ما أسماه «الإيماءات غير الحقيقية» أو «الإيذاء للفت الانتباه» وبين «المحاولات الجادة الحقيقية للانتحار».
جاء بعدها الطبيب النفسي الأمريكي تشارلز برودوم عام 1938 ليصنف هو الآخر الانتحار إلى نوعين: «هستيري أو إيمائي» وهو نوع لا يُفضي بمرتكبه في أغلب الأحيان إلى الموت ورأى أنه نوع حميد، وانتحار آخر «ذهاني أو قاتل» وهو نوع دائمًا ما يُفضي إلى قتل الشخص لنفسه واعتبره نوعًا خبيثًا.
إلى أن قام ديفيدسون عام 1941 بنشر مقال في مجلة علم النفس الجنائي يرى فيه أنه من الممكن أن يكون السلوك الانتحاري أحد الجوانب اللاشعورية لدى الشخص (كالشعور بالذنب أو الدونية) وليس شرطًا اعتباره نوعًا خبيثًا في كل الأوقات.
لم يكن الأمر هكذا على الصعيد الطبي فقط؛ إنما أيضًا على الصعيد العسكري؛ كثيرًا ما يقوم الفرد في الحروب بإيذاء ذاته أو باقتراف محاولة انتحار فاشلة، اعتُقد من قبل البعض أن مثل هؤلاء قد يفعلون ذلك للمنفعة الخاصة كالتهرب من المسؤولية، وبالتالي لا تُعتبر محاولاتهم هذه انتحارًا؛ إنما فقط إيماءً بالانتحار.
عام 1954 درس الطبيب النفسي ريتشارد فيش العشرات من حالات الانتحار التي لم تُفضي إلى الموت قام بها أفراد عسكريون، لكن فيش وصف بأن أغلب الحالات «مجرد إيماءات». بل أن مثل هؤلاء يصبحون منبوذين من الجميع، مع وصفهم بالمنافقين والمتلاعبين والمبتزين كما ذُكر في دراسة أخرى عام 1967.
أول سؤال يخطر في ذهن أي طبيب عندما تحدث حالة انتحار لم تنتهي بالموت: «هل المريض كان يحاول حقًا الانتحار أم أنها كانت مجرد إيماءة غير فعلية؟
هل حقًا كان ينوي الموت عندما قام بالفعل الانتحاري؟ إن كانت النية موجودة فسيظل المريض في خطر داهم، وإن كان مجرد إيماء لهدف آخر فلن تكون هنالك احتمالية انتحارية».
لكن في عام 1967 نُشرت دراسة أثبتت قصور هذه الطريقة من التساؤلات؛ مشيرة إلى فشل قدرة هذه الرؤية التفريقية بين النوعين من السلوك الانتحاري على التنبؤ بما سيحدث للحالة من خطر الانتحار لاحقًا.
وبقيت المعضلة كما هي مع استقرار الأوساط الطبية على تعريف الانتحار بأنه: «الفعل الذي يتضمن تسبب الشخص عمدًا في قتل نفسه». وتعريف الإيماءات الانتحارية Suicide gestures على أنها: «إيذاء الذات بدون وجود نية حقيقية للموت؛ إنما للتظاهر بمحاولة الانتحار من أجل التواصل مع الأخرين».
تميزت الإيماءات الانتحارية عن الانتحار في كونها أقل انتشارًا، مع ملاحظة أن مرتكبيها كانوا قد شُخِّصوا بالاكتئاب أو التعرض للإيذاء الجنسي أو الجسدي بشكل أقل.
خطورة المصطلح
عام 2010 قامت مجلة علم النفس الاحترافي الصادرة عن جمعية علم النفس الأمريكية APA بنشر دراسة أعدها أربعة باحثين عن إشكالية مصطلح «الإيماءات الانتحارية» تضمنت أن هذا المصطلح استُخدم بشكل غير دقيق وبطرق مختلفة وبشكل سلبي ما تسبب في تقليل جودة الرعاية المقدمة للمرضى.
أوضحت الدراسة أيضًا أن المصطلحات غير الدقيقة تعيق الجهود المبذولة لجمع البيانات الإحصائية اللازمة لدراسة الوقاية من خطر الانتحار، وأشارت إلى تأثيرها السلبي على المريض، ورفضت الكثير من المؤسسات المختلفة هذا المصطلح والتوصية باستبداله بمصطلحات أخرى مثل: التفكير في الانتحار أو محاولة الانتحار.
التلاعب النفسي والاستغلال
يقوم البعض أحيانًا باستخدام مصطلحات تهديدية تتضمن الانتحار للضغط على شخص آخر لتلبية طلب ما؛ ربما يفعل ذلك طفل مع أحد والديه قائلًا: «لو تركتني سأقتل نفسي» أو «ألا تعبأ حقًا بكوني حيًا أو ميتًا، لما لا أقوم بقتل نفسي كي يصبح الجميع سعداء؟!». من الممكن أن تكون قد كنت الطرف المتلقي لهذه العبارات ربما من حبيبتك أو شقيقك أو صديقك، هذه الجمل التي تشعر بعدها بالمبالغة أو الخوف ثم ترضخ للمطلب الذي أجبرك الآخر بأسلوبه عليه.
على الرغم من أن الآخر ربما قد يكون استخدم هذا الأسلوب لتلبية مطلب ما، وبدون أي إنكار لما يتضمنه هذا الفعل من استغلال نفسي، إلا أن هذا لا يعني أنه لا يوجد احتمالية بالانتحار. عادةً ما يرافق الإصابة بالمرض العقلي مواجهة خطر الانتحار؛ 10% من المصابين باضطراب الشخصية الحاد يقدمون على الانتحار، بجانب قيام العديد منهم بمحاولات تؤول بالفشل ومحاولات أخرى كنوع من أنواع طلب المساعدة.
تحمل أيضًا الاضطرابات الأخرى مثل الاكتئاب واضطرابات الأكل وتعاطي المخدرات احتمالية الانتحار. أي أن الشخص الذي يمارس هذا الأسلوب للتلاعب النفسي أو الاستغلال ربما يكون مُصابًا بمرض عقلي ما وربما يواجه بالفعل احتمالية للانتحار.
الانتحار التظاهري Parasuicide
برز هذا المصطلح في تسعينيات القرن العشرين ليشير إلى الشروع في الفعل الانتحاري دون وجود نية فعلية لقتل النفس. يستخدم بعض السجناء الانتحار التظاهري للتلاعب والمحايلة على القانون مثل: تأخير موعد المحكمة أو الحصول على تحويل إلى وحدة أو منشأة أخرى. يرى الباحثون في المركز المرجعي لمجابهة الانتحار أنه من الصعب للغاية معرفة ما إذا كان السجين يتظاهر بالانتحار. وبالتالي، تؤخذ جميع التهديدات الانتحارية على محمل الجد.
هل صحيح أن أغلب من يهددون بالانتحار لا يقدمون على ذلك بالفعل؟ وهل إعلان الانتحار عبر وسائل التواصل الاجتماعي هي وسيلة للشهرة؟
العديد من الأبحاث والدراسات الأكاديمية تجيب قائلةً «لا» فالغالبية العظمى من المنتحرين تحدثوا عن نيتهم لقتل أنفسهم. قد تكون التهديدات واضحة كمثل أن يقول أحدهم: «كل ما أفكر فيه هو الرغبة بالموت»، وقد تكون غير مباشرة مثل أن تقرأ: «على الأقل لن أتحمل مثل هذه المشكلات لفترة أطول».
من الأساطير الشائعة أن المنتحر لا يخبر أحدًا ولا يُنذر بانتحاره، والحقيقة أن أي شخص تقريبًا حاول الانتحار أو قتل نفسه بالفعل قد أبدى نيةً لذلك. ربما يتحدث عن الانتحار أو يقوله على سبيل الفكاهة أو يكتب عنه أو يضع تعليقًا بشأنه أو يشارك برسائل في غرف الدردشة عن ذلك أو حتى يضع صورًا متعلقة بالموت وليس كما اعتادت الناس من مشاركته من محتويات فكاهية ومشاركة ممتلكاتهم وأنشطتهم اليومية السعيدة.
يشير الباحثون إلى أن 75-80% من المنتحرين أعطوا تحذيرًا قبل أن يقدموا على ذلك؛ ما دفع أحد الأخصائيين النفسيين في جامعة بايلور بولاية تكساس الأمريكية إلى قول: «توجيه كلمات للشخص المضطرب والذي يهدد بالانتحار تتضمن بأنهم “يريدون شيئًا ما” أو “يحاولون التلاعب به” أمر غير حساس وجاهل على حد سواء».
الأفكار الانتحارية أو التهديد بالانتحار أو محاولة اقترافه بغية الموت جمعيها علامات على وجود ألم عظيم أو عُسر أو كربٌ شديد أو اضطراب كبير، وهو تنبيه بأن أحدهم يحتاج إلى المساعدة. يجب عدم تجاهل أي علامة تحذيرية أو أعراض انتحارية.
إيذاء الذات يمكن أن يشير إلى نية الانتحار؟!
عام 2015 نشرت مجلة الطب النفسي السريري الأمريكية دراسة إحصائية قام بها أربعة باحثون من معهد كارولنسكا بالسويد للبحث في خطر الانتحار على المدى القصير بعد إيذاء الذات المتعمد وارتباطه بالأمراض العقلية المتعايش معها، وبالطريقة التي آذى نفسه بها.
استُخدمت السجلات الوطنية السويدية المناسبة لمتابعة ما يزيد عن 34 ألف شخص (59% منهم من الإناث) ممن دخلوا المستشفيات بين عامي 2000-2005 بعد ارتكابهم للإيذاء الذاتي المتعمد حسب تعريفه في المراجعة العاشرة من التصنيف الدولي للأمراض ICD-10 الصادر من منظمة الصحة العالمية.
توبِعَ الأشخاص هؤلاء لمدة تتراوح بين 3-9 سنوات، أسفرت النتائج عن نسب خطيرة من معدلات الانتحار. 1182 شخص انتحروا بعد 9 سنوات فقط على الأكثر من خروجهم من المستشفى.
خلصت الدراسة إلى أن الأشخاص المصابون باضطرابات عقلية حادة (الاضطرابات الذهنية والعاطفية) لديهم احتماليات انتحار عالية في السنوات الأولى التي تلي إيذاءهم لأنفسهم، كما أوصت الدراسة بعدم الاستخفاف بالتهديدات الانتحارية مشيرةً إلى ضرورة أخذها على محمل الجد؛ فالتهديد بالموت عن طريق الانتحار ليس محض رد فعل معتاد أو طبيعي على الضغط ويجب ألا يُستخف به.
يحتاج الشخص الذي يؤذي ذاته أو يحاول الانتحار إلى مساعدة طبية وإنسانية، لكن هل تؤثر المنشورات التي بها محتوى بهذا الشأن عليك؟
تأثير فيرتر
نشر الأديب الألماني غوته عام 1774 رواية باسم «أحزان الشاب فيرتر»، تدور أحداثها حول شاب يعشق فتاة ثم ترفض هذه الفتاة أن تحبه، يتملك اليأس من فيرتر بعد ما حدث ثم ينتحر.
بعدما انتشرت الرواية لوحظ أمر غريب؛ وقعت حالات انتحار من قبل شبان بسبب وقوعهم في حالة من اليأس مطابقة لحالة بطل الرواية العاطفية، ومن هنا بدأت ظاهرة أسماها العلماء تأثير فيرتر أو الانتحار بالتقليد، والذي يشير إلى عمليات الانتحار واسعة المدى التي تحدث بعد انتحار أحد المشاهير.
قام باحثون من الولايات المتحدة الأمريكية عام 2015 ولأول مرة بإجراء دراسة لتأثير المحتويات الانتحارية للمنشورات على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وأسفرت نتائج الدراسة إلى ملاحظة تغييرات هامة تجلت بعد نشر منشورات عن عدة حالات انتحار لشخصيات منتشرة على هذا الموقع، مؤثرةً على وتيرة الأنشطة المنشورة وكذلك المحتوى المُشارك، فزادت المشاركات المتعلقة بالموت واليأس لدى القراء الذين اطلعوا على مثل هذه المشاركات الانتحارية.
يخطط الباحثون لمعرفة العلاقة السببية بين انتحار الشخصيات العامة والأفكار الانتحارية لدى القراء على مثل هذه المواقع أملًا منهم في إنشاء خاصية إلكترونية تبلغ عن حالات الانتحار التي تليها بشكل تنبؤي مستخدمةً الذكاء الاصطناعي الذي يعالج التعليقات والتفاعلات على المنشورات التي تحوي حادث انتحار لشخصية ما.
ماذا تفعل عند قيام أحدهم إعلان الانتحار عبر وسائل التواصل الاجتماعي ؟
- أبلغ عن المحتوى الانتحاري فورًا؛ فكل موقع لديه طريقة لذلك.
- أعرب عن القلق إزاء الشخص، ولكن التزم حدودك.
- اترك مسؤولية الحياة أو الموت بين يدي الشخص.
- لا تتجادل مع الشخص الآخر عما إذا كان جادًا بشأن حديثه عن الموت. اعتبر أن كل تهديداته حقيقة، وتصرف وفقًا لذلك. لو جادلته بشأن عدم جدية تهديداته، ربما يفعل ذلك فقط ليثبت أنك مخطئ، تذكر أنك لستَ مضطرًا لإثبات أي شيء.
وتذكر أن أي شخص يؤذي نفسه ولو للتهديد أو للحصول على الاهتمام أو حتى لأجل الشهرة، فلديه احتمالية لأن يفعل ذلك حقًا؛ إذا كان شخص ما يخاطر بحياته للحصول على الاهتمام، فمن الأهم تقديم المساعدة قبل فحص النية الحقيقية لمدى جديته، فربما لن ينفع ذلك حين تكون متأكدًا منه
المصدر:.ibelieveinsci