هل الكذب هو الأمر الصحيح دومًا لفعله؟ هل يكون الكَذب في بعض المواقف مُبَرّرًا أخلاقيًا؟ هل يوجد ما يسمى بالأكاذيب الجيدة أو النبيلة؟ ليست تلك الأسئلة المتعلقة بأخلاقيات الكَذب مجرد فضول سخيف نابع من الفلاسفة النظريين؛ بل هي حقًا نتاج لما نعيشه يوميًا. يُجادل معظم الناس بأن على الأشخاص لسلب بعض المال منهم فعل غير أخلاقي. كذلك الكذب على الأطفال بشأن سانتا كلوز. أيضًا من غير الأخلاقي للطبيب أن يعبث بمشاعر شخص ويخبره أن فردًا من العائلة مات بسرعة وسلام، في حين أنه في الحقيقة مات ببطء، وتجرع كميّة فظيعة من الألم.
ترتكز نقطة الانطلاق لاكتشاف صحّة الكذب من عدمه على فحص الأخلاقيات بشكل أوسع. ناقش الفلاسفة وعلماء النفس القيم الأخلاقية وأخلاقيات السلوك على مر العصور، بيد أنه كشفت التجارب مؤخّرًا عن علم النفس الخاص بأحكامنا الأخلاقية.
تُشير الدراسة التي قام بها عالم النفس كورت غراي وآخرون إلى أننا نعتبر الأفعال غير أخلاقية عندما نشعر أن شخصًا ما يعلم أنه يُسبب ضررًا لشخص آخر يشعر بهذا الضرر. وفي سياق الكذب، يعني ذلك أن الأشخاص يعتبرون الكذب غير أخلاقي عندما يعلم الشخص أن كذبه قد يلحق ضررًا بشخص آخر.
يبدو أن الخلافات بشأن لا أخلاقية الكذب تنشأ من الالتباس الحاصل تجاه ما سيحدثه الكذب من ضرر. بوضوح، لا نعتبر كل أنواع الكذب متساوية في السوء أو اللاأخلاقية، وترتبط هذه المتغيرات بكمية الأذى الذي يسببه الكذب.
فرّق العلماء المختصون بدراسة الخداع بين أصناف واسعة من الكذب. تندرج واحدة منها تحت مسمى كذب المصالح الشخصية. يُعد هذا النوع من الكذب استغلاليًا في طبيعتنا كبشر؛ إذ يقول الكاذبون تلك الأكاذيب للحصول أو الحفاظ على مزايا تفوقهم على الآخرين.
ومن أمثلة ذلك، الكذب بشأن مؤهلاتك الوظيفية في مقابلة العمل أو كذب الأزواج بأماكن تواجدهم لتفادي المواجهة. تعطي تلك الأكاذيب الشخص الكاذب ميزات بينما تضع المخدوع في وضع أضعف.
هناك نوع آخر من الكَذب وهو ما يُدعى الكذب من أجل الآخرين. تُسرد تلك الأكاذيب بدافع مساعدة أو حماية الأشخاص الآخرين؛ إذ توصف هذه الأكاذيب أنها إيثارية المنشأ. من أمثلة ذلك، الأكاذيب البيضاء المحببة لأنفسنا، مثل إخبار شخص ما عن مدى روعة قصة شعره الجديدة وهي في الحقيقة عكس ذلك تمامًا.
يتضمن ذلك النوع الأكاذيب الأبوية -الصادرة من الوالدين للأبناء- بدافع مساعدتهم. على سبيل المثال، إذا علمت امرأة أن زوجها يحاول أن يفقد بعضًا من وزنه ويكافح من أجل الاستمرار على الحمية الغذائية. فقد تخبره بانتهاء الحلوى من البيت، في حين أنها قامت بإخفائها عمدًا.
إذًا هل تُعد الأكاذيب من أجل الذات أو من أجل الآخرين غير أخلاقية؟ يعتقد معظم الناس بعدم أخلاقية واستغلالية الأكاذيب الشخصية أو الأكاذيب من أجل الذات، لكنهم أقل تحققًا تجاه أخلاقية الكَذب من أجل الآخرين.
تحدث المشكلة الأخلاقية فيما يخص الكذب من أجل الآخرين في سياقات مختلفة. بالنظر إلى طبيعة عمل الممرضات اللاتي يعملن في مراكز رعاية المسنين والمصابين بالخرف.
هل من المسموح الكذب في تلك الحالة على المرضى؟ قد تسأل المريضة بالخرف مرارًا وتكرارًا عن زوجها الذي يقوم بزيارتها، نسيانًا منها أن زوجها قد توفى منذ سنوات. هل على الممرضة حينها تكرار خبر وفاة الزوج على المريضة؟ أم سيكون إصدار مثل ذلك الكَذب اللطيف -تأجيل أخبارها بذلك- إنسانيًا أو أخلاقيًا؟
في دراسة أجريت على عدد من الممرضات يعملن في ظروف مشابهة، اعتقد أكثر من 90% أنه من الأخلاقي الكذب على المرضى، مع اختلاف مبرراتهم الأخلاقية بناءً على طبيعة الأكاذيب. على سبيل المثال، اعتقد 92% منهم أن الكَذب تجاه المرضى أخلاقي لتجنب السلوك العدواني منهم. في حين اعتقد 36% منهم فقط أن الكذب أخلاقي في هذه الحالة توفيرًا للوقت أثناء التعامل مع المرضى.
كيف نقرر إذًا بشأن أخلاقية الكَذب المسموح به أم لا؟ تنقسم عملية صنع مثل تلك القرارات الأخلاقية بشأن تلك الأكاذيب إلى منهجين: منظور الأخلاق الواجبة، ومنظور التبعية.
يجادل مؤيدو هذا المنهج بأن أخلاقية الكذب تنبع من الصحة أو الخطأ الفطري للفعل الحاصل؛ فعادةً ما توصف بعض القواعد أو الأقوال أو القيم الثقافية أو الواجبات الدينية على أنها قوانين طبيعية، نلتزم بها أخلاقيًا.
حتمية الصدق هي واحدة من تلك القوانين الطبيعية. من منظور الأخلاق الواجبة، الصدق فعل جيد والكذب فعل شرير بطبيعتهما؛ لذلك من واجبنا أن نكون صادقين، ولا يجب علينا الكذب أبدًا.
على الجانب الآخر، يجادل مؤيدو منظور التبعية بأن أخلاقية أو لا أخلاقية الكذب تنشأ من النتائج المترتبة على فعله. من وجهة النظر هذه، قد تكون بعض الأكاذيب جيدة والأخرى سيئة، بحسب النتائج المترتبة عليها.
في حين إذا تطرقنا للكذب من أجل المصالح الشخصية، سيصبح المنظوران لا أخلاقيين. في حالة منظور الأخلاق الواجبة، يعد الكَذب من أجل الذات من الأفعال الخاطئة لأن القواعد الثقافية والدينية تخبرنا بعدم ممارسة الأكاذيب بكل أنواعها. وفي حالة منظور التبعية من الخطأ أيضًا الكذب من أجل الذات وذلك للاستغلال والأذى الحاصل بسبب تلك الأكاذيب؛ إذ أن عواقبها سلبية.
وماذا عن الكذب من أجل الآخرين؟ سيصل منظور الأخلاق الواجبة إلى خلاصة لا أخلاقية الكذب من أجل الآخرين أيضًا؛ فهو لا يزال كذبًا؛ إذ تعتدي كل الأكاذيب على مبدأ الصدق. فعلينا وفقًا لذلك المنظور أن نكون دائمًا وأبدًا صادقين.
بيد أن منظور التبعية غير قاطع في ذلك الأمر؛ فإذا ترتب على الكذب من أجل الآخرين نتائج إيجابية، يُسمح حينها أخلاقيًا بسرد تلك الأكاذيب طالما لم تضر بشخصٍ ما، بل بالعكس ساعدته.
مثال ذلك، قد كذب أفراد العائلة على امرأة عجوز بشأن ابنها الذي يحتضر بعد إصابته بورم سرطان؛ فبدلًا من إخبارها بوجود ابنها في المستشفى، أخبروها أنه في رحلة عمل طويلة بعيدًا عن المنزل.
إذ يزعمون أن تلك الأكذوبة محاولة إيثارية لتجنيبها الألم العاطفي جراء معرفة خبر احتضار ابنها بالسرطان. هل هذا الكذب مقبول أخلاقيا؟ من وجهة نظر التبعية، يمكن تبريره أخلاقيًا؛ إذ أنه لا يضر بأحدٍ كما يمنع الضرر العاطفي، فيزعمون أن تلك الأكاذيب جيدة. لكن هل فعلًا الكَذب لا ضرر له؟
في مقالة بعنوان «الكذب»، يُجادل المؤلف سام هاريس أنه لا وجود للأكاذيب الجيدة. يقول هاريس أن كل الأكاذيب، لا يهم إن كانت تافهة أو حسنة النية، في النهاية ستحدث ضررًا؛ لأن الكذب يدمر الحرية الذاتية؛ وهذا يحدث عن طريق سرقة الحقيقة من شخصٍ آخر؛ إذ تسرق منه فرصته ليصنع قرارًا بحرية ذاتية معتمدًا على حقائق الواقع حينها. فيجادل هاريس بضرورة عدم الكذب على الشخص بشأن وفاة فرد من العائلة؛ فذلك سيمنعه من وداعه الأخير ومشاركته المشاعر الحقيقية، والتواجد معه على فراش الموت، ومسامحته.
كما يجادل هاريس بأن من يزعمون إيثارية هذا النوع من الكذب يتسببون في الضرر وذلك بتقويض الثقة الموجودة في كل فردٍ منا. فإذا رأيتك تكذب ظنًا منك أن ذلك يخفف عني الالآم العاطفية، فكيف سأثق بك مجددًا في أن تكون صادقًا معي بشأن معلومات مصيرية قد تسبب لي الضرر أو تؤثر علي من وجهة نظرك.
يزعم هاريس أنه بفعلنا هذا قد ندمر نسيج المجتمع وذلك بخرق الثقة التي تربطنا بعضنا ببعض. فربما كل تلك الأكاذيب، على الرغم من إيجابية تبريرها ودوافعها الجيدة، ستضر بنا جميعًا في نهاية الأمر.
هل من أي استثناءات؟ هناك وجهة نظر كلاسيكية تُستخدم لاكتشاف هذا السؤال. تخيل أنك تعيش في جزءٍ من أوروبا التي احتلها النازيون، وفجأة ظهر طفل يركض وراءك في زقاق واختبأ في درج مظلم وتوسل إليك حينها »أرجوك لا تخبر النازيين أنك رأيتني«، وبعد لحظات، تأتي مجموعة من الجنود النازيين إليك لتسألك »هل رأيت طفلًا صغيرًا هنا؟«، هل ستقول الحقيقة أم ستكذب؟
أجاب معظم الأشخاص الذين طُرح عليهم هذا السؤال بأنهم سيكذبون؛ إذ يجادلون أنه من الأخلاقي الكذب في ذلك الموقف. فالتفسير المنطقي في هذه الحالة أن تلك الكذبة ستنقذ حياة طفلٍ بريء.
بالنسبة لأغلبية الناس، يبدو أن منظور التبعية يتغلب على منظور الأخلاق الواجبة في هذه الحالة، فثمة مجموعة قليلة من الأكاذيب ينظر لها معظم الأشخاص على أنها أكاذيب جيدة ومسموح بها أخلاقيًا.
إذن كيف نقرر إن كان الكذب مقبولًا أم لا؟ هل هناك أي معايير نسترشد بها للإجماع على ماهية الأكاذيب المقبولة أخلاقيًا؟ فالإجماع هو ما دعت إليه الفيلسوفة سيسيلا بوك (Sissela Bok) في كتابها البديع «الكذب: الاختيار الأخلاقي في الحياة العامة والخاصة». تجدر الإشارة أولًا أن بوك من أكثر الأشخاص عدائيةً للكذب. بيد أنها تُقر بعدم قابلية الموقف المطلق لحظر الكذب.
تُجادل بوك أنه في بعض الحالات النادرة يكون الكذب مقبولًا أخلاقيًا. لكن إذا اتخذت قرارًا بشأن ما إذا كان الكَذب مقبولًا أم لا عليك أن تسأل نفسك سؤالين: هل بإمكاننا أن نتخذ بديلًا آخر أكثر صدقًا من الكذب؟ إذا لم يكن يوجد علينا طرح سؤال هل سيجتاز الكذب اختبار الشخص العادي؟
إذا عرضنا تلك الكذبة على هيئة المحلفين، هل سيتفقون بالإجماع على أخلاقية كذبنا هذا؟ عادةً ما لا تسمح لنا الظروف باستشارة أقراننا في تلك الأكاذيب، لذا يجب استشارة مجموعة تخيلية من الأشخاص العاديين.
إذا ما أخبرنا ضميرنا بأن الكذب ضروري في هذه الحالة، وإذا ما وجدنا مجموعة الأقران العاديين تُقر بأخلاقية هذا الكذب. حينها فقط، تجادل بوك أن الكذب يمكن تبريره أخلاقيًا في هذا الوضع. ويمكن تطبيق ذلك على الكذب بشأن الطفل المختبئ من الجنود حفاظًا على حياته.
تحدي أنفسنا في هذا الأمر لكوننا صادقين طوال الوقت هو أمر منهك. منذ الطفولة، يعلمنا أساتذتنا أن ثمة مجاملات اجتماعية تتطلب منا الخداع لحماية مشاعر الآخرين. لكن ربما إذا حاولنا أن نكون صادقين تمامًا، سيكون هناك فوائد كبيرة تفوق التكاليف الاجتماعية الآنية.
إذا ما كنا صادقين على الدوام، حينها قد يتعلم الناس الوثوق بكلمتنا والاعتماد علينا لصدق آرائنا. كوننا صادقين من شأنه إزالة الغشاوة والخداع المصطنع لإخفاء سلوكياتنا السيئة والتحكم بانطباعاتنا؛ لذا قد يقودنا ذلك إلى حياة أكثر فضيلة وصدقًا. وربما يقودنا تعاملنا مع أكاذيبنا اليومية الصغيرة على أنها لا أخلاقية إلى أن نصير أشخاصًا أفضل.
المصدر:.ibelieveinsci
ترتكز نقطة الانطلاق لاكتشاف صحّة الكذب من عدمه على فحص الأخلاقيات بشكل أوسع. ناقش الفلاسفة وعلماء النفس القيم الأخلاقية وأخلاقيات السلوك على مر العصور، بيد أنه كشفت التجارب مؤخّرًا عن علم النفس الخاص بأحكامنا الأخلاقية.
تُشير الدراسة التي قام بها عالم النفس كورت غراي وآخرون إلى أننا نعتبر الأفعال غير أخلاقية عندما نشعر أن شخصًا ما يعلم أنه يُسبب ضررًا لشخص آخر يشعر بهذا الضرر. وفي سياق الكذب، يعني ذلك أن الأشخاص يعتبرون الكذب غير أخلاقي عندما يعلم الشخص أن كذبه قد يلحق ضررًا بشخص آخر.
يبدو أن الخلافات بشأن لا أخلاقية الكذب تنشأ من الالتباس الحاصل تجاه ما سيحدثه الكذب من ضرر. بوضوح، لا نعتبر كل أنواع الكذب متساوية في السوء أو اللاأخلاقية، وترتبط هذه المتغيرات بكمية الأذى الذي يسببه الكذب.
فرّق العلماء المختصون بدراسة الخداع بين أصناف واسعة من الكذب. تندرج واحدة منها تحت مسمى كذب المصالح الشخصية. يُعد هذا النوع من الكذب استغلاليًا في طبيعتنا كبشر؛ إذ يقول الكاذبون تلك الأكاذيب للحصول أو الحفاظ على مزايا تفوقهم على الآخرين.
ومن أمثلة ذلك، الكذب بشأن مؤهلاتك الوظيفية في مقابلة العمل أو كذب الأزواج بأماكن تواجدهم لتفادي المواجهة. تعطي تلك الأكاذيب الشخص الكاذب ميزات بينما تضع المخدوع في وضع أضعف.
هناك نوع آخر من الكَذب وهو ما يُدعى الكذب من أجل الآخرين. تُسرد تلك الأكاذيب بدافع مساعدة أو حماية الأشخاص الآخرين؛ إذ توصف هذه الأكاذيب أنها إيثارية المنشأ. من أمثلة ذلك، الأكاذيب البيضاء المحببة لأنفسنا، مثل إخبار شخص ما عن مدى روعة قصة شعره الجديدة وهي في الحقيقة عكس ذلك تمامًا.
يتضمن ذلك النوع الأكاذيب الأبوية -الصادرة من الوالدين للأبناء- بدافع مساعدتهم. على سبيل المثال، إذا علمت امرأة أن زوجها يحاول أن يفقد بعضًا من وزنه ويكافح من أجل الاستمرار على الحمية الغذائية. فقد تخبره بانتهاء الحلوى من البيت، في حين أنها قامت بإخفائها عمدًا.
إذًا هل تُعد الأكاذيب من أجل الذات أو من أجل الآخرين غير أخلاقية؟ يعتقد معظم الناس بعدم أخلاقية واستغلالية الأكاذيب الشخصية أو الأكاذيب من أجل الذات، لكنهم أقل تحققًا تجاه أخلاقية الكَذب من أجل الآخرين.
تحدث المشكلة الأخلاقية فيما يخص الكذب من أجل الآخرين في سياقات مختلفة. بالنظر إلى طبيعة عمل الممرضات اللاتي يعملن في مراكز رعاية المسنين والمصابين بالخرف.
هل من المسموح الكذب في تلك الحالة على المرضى؟ قد تسأل المريضة بالخرف مرارًا وتكرارًا عن زوجها الذي يقوم بزيارتها، نسيانًا منها أن زوجها قد توفى منذ سنوات. هل على الممرضة حينها تكرار خبر وفاة الزوج على المريضة؟ أم سيكون إصدار مثل ذلك الكَذب اللطيف -تأجيل أخبارها بذلك- إنسانيًا أو أخلاقيًا؟
في دراسة أجريت على عدد من الممرضات يعملن في ظروف مشابهة، اعتقد أكثر من 90% أنه من الأخلاقي الكذب على المرضى، مع اختلاف مبرراتهم الأخلاقية بناءً على طبيعة الأكاذيب. على سبيل المثال، اعتقد 92% منهم أن الكَذب تجاه المرضى أخلاقي لتجنب السلوك العدواني منهم. في حين اعتقد 36% منهم فقط أن الكذب أخلاقي في هذه الحالة توفيرًا للوقت أثناء التعامل مع المرضى.
كيف نقرر إذًا بشأن أخلاقية الكَذب المسموح به أم لا؟ تنقسم عملية صنع مثل تلك القرارات الأخلاقية بشأن تلك الأكاذيب إلى منهجين: منظور الأخلاق الواجبة، ومنظور التبعية.
يجادل مؤيدو هذا المنهج بأن أخلاقية الكذب تنبع من الصحة أو الخطأ الفطري للفعل الحاصل؛ فعادةً ما توصف بعض القواعد أو الأقوال أو القيم الثقافية أو الواجبات الدينية على أنها قوانين طبيعية، نلتزم بها أخلاقيًا.
حتمية الصدق هي واحدة من تلك القوانين الطبيعية. من منظور الأخلاق الواجبة، الصدق فعل جيد والكذب فعل شرير بطبيعتهما؛ لذلك من واجبنا أن نكون صادقين، ولا يجب علينا الكذب أبدًا.
على الجانب الآخر، يجادل مؤيدو منظور التبعية بأن أخلاقية أو لا أخلاقية الكذب تنشأ من النتائج المترتبة على فعله. من وجهة النظر هذه، قد تكون بعض الأكاذيب جيدة والأخرى سيئة، بحسب النتائج المترتبة عليها.
في حين إذا تطرقنا للكذب من أجل المصالح الشخصية، سيصبح المنظوران لا أخلاقيين. في حالة منظور الأخلاق الواجبة، يعد الكَذب من أجل الذات من الأفعال الخاطئة لأن القواعد الثقافية والدينية تخبرنا بعدم ممارسة الأكاذيب بكل أنواعها. وفي حالة منظور التبعية من الخطأ أيضًا الكذب من أجل الذات وذلك للاستغلال والأذى الحاصل بسبب تلك الأكاذيب؛ إذ أن عواقبها سلبية.
وماذا عن الكذب من أجل الآخرين؟ سيصل منظور الأخلاق الواجبة إلى خلاصة لا أخلاقية الكذب من أجل الآخرين أيضًا؛ فهو لا يزال كذبًا؛ إذ تعتدي كل الأكاذيب على مبدأ الصدق. فعلينا وفقًا لذلك المنظور أن نكون دائمًا وأبدًا صادقين.
بيد أن منظور التبعية غير قاطع في ذلك الأمر؛ فإذا ترتب على الكذب من أجل الآخرين نتائج إيجابية، يُسمح حينها أخلاقيًا بسرد تلك الأكاذيب طالما لم تضر بشخصٍ ما، بل بالعكس ساعدته.
مثال ذلك، قد كذب أفراد العائلة على امرأة عجوز بشأن ابنها الذي يحتضر بعد إصابته بورم سرطان؛ فبدلًا من إخبارها بوجود ابنها في المستشفى، أخبروها أنه في رحلة عمل طويلة بعيدًا عن المنزل.
إذ يزعمون أن تلك الأكذوبة محاولة إيثارية لتجنيبها الألم العاطفي جراء معرفة خبر احتضار ابنها بالسرطان. هل هذا الكذب مقبول أخلاقيا؟ من وجهة نظر التبعية، يمكن تبريره أخلاقيًا؛ إذ أنه لا يضر بأحدٍ كما يمنع الضرر العاطفي، فيزعمون أن تلك الأكاذيب جيدة. لكن هل فعلًا الكَذب لا ضرر له؟
في مقالة بعنوان «الكذب»، يُجادل المؤلف سام هاريس أنه لا وجود للأكاذيب الجيدة. يقول هاريس أن كل الأكاذيب، لا يهم إن كانت تافهة أو حسنة النية، في النهاية ستحدث ضررًا؛ لأن الكذب يدمر الحرية الذاتية؛ وهذا يحدث عن طريق سرقة الحقيقة من شخصٍ آخر؛ إذ تسرق منه فرصته ليصنع قرارًا بحرية ذاتية معتمدًا على حقائق الواقع حينها. فيجادل هاريس بضرورة عدم الكذب على الشخص بشأن وفاة فرد من العائلة؛ فذلك سيمنعه من وداعه الأخير ومشاركته المشاعر الحقيقية، والتواجد معه على فراش الموت، ومسامحته.
كما يجادل هاريس بأن من يزعمون إيثارية هذا النوع من الكذب يتسببون في الضرر وذلك بتقويض الثقة الموجودة في كل فردٍ منا. فإذا رأيتك تكذب ظنًا منك أن ذلك يخفف عني الالآم العاطفية، فكيف سأثق بك مجددًا في أن تكون صادقًا معي بشأن معلومات مصيرية قد تسبب لي الضرر أو تؤثر علي من وجهة نظرك.
يزعم هاريس أنه بفعلنا هذا قد ندمر نسيج المجتمع وذلك بخرق الثقة التي تربطنا بعضنا ببعض. فربما كل تلك الأكاذيب، على الرغم من إيجابية تبريرها ودوافعها الجيدة، ستضر بنا جميعًا في نهاية الأمر.
هل من أي استثناءات؟ هناك وجهة نظر كلاسيكية تُستخدم لاكتشاف هذا السؤال. تخيل أنك تعيش في جزءٍ من أوروبا التي احتلها النازيون، وفجأة ظهر طفل يركض وراءك في زقاق واختبأ في درج مظلم وتوسل إليك حينها »أرجوك لا تخبر النازيين أنك رأيتني«، وبعد لحظات، تأتي مجموعة من الجنود النازيين إليك لتسألك »هل رأيت طفلًا صغيرًا هنا؟«، هل ستقول الحقيقة أم ستكذب؟
أجاب معظم الأشخاص الذين طُرح عليهم هذا السؤال بأنهم سيكذبون؛ إذ يجادلون أنه من الأخلاقي الكذب في ذلك الموقف. فالتفسير المنطقي في هذه الحالة أن تلك الكذبة ستنقذ حياة طفلٍ بريء.
بالنسبة لأغلبية الناس، يبدو أن منظور التبعية يتغلب على منظور الأخلاق الواجبة في هذه الحالة، فثمة مجموعة قليلة من الأكاذيب ينظر لها معظم الأشخاص على أنها أكاذيب جيدة ومسموح بها أخلاقيًا.
إذن كيف نقرر إن كان الكذب مقبولًا أم لا؟ هل هناك أي معايير نسترشد بها للإجماع على ماهية الأكاذيب المقبولة أخلاقيًا؟ فالإجماع هو ما دعت إليه الفيلسوفة سيسيلا بوك (Sissela Bok) في كتابها البديع «الكذب: الاختيار الأخلاقي في الحياة العامة والخاصة». تجدر الإشارة أولًا أن بوك من أكثر الأشخاص عدائيةً للكذب. بيد أنها تُقر بعدم قابلية الموقف المطلق لحظر الكذب.
تُجادل بوك أنه في بعض الحالات النادرة يكون الكذب مقبولًا أخلاقيًا. لكن إذا اتخذت قرارًا بشأن ما إذا كان الكَذب مقبولًا أم لا عليك أن تسأل نفسك سؤالين: هل بإمكاننا أن نتخذ بديلًا آخر أكثر صدقًا من الكذب؟ إذا لم يكن يوجد علينا طرح سؤال هل سيجتاز الكذب اختبار الشخص العادي؟
إذا عرضنا تلك الكذبة على هيئة المحلفين، هل سيتفقون بالإجماع على أخلاقية كذبنا هذا؟ عادةً ما لا تسمح لنا الظروف باستشارة أقراننا في تلك الأكاذيب، لذا يجب استشارة مجموعة تخيلية من الأشخاص العاديين.
إذا ما أخبرنا ضميرنا بأن الكذب ضروري في هذه الحالة، وإذا ما وجدنا مجموعة الأقران العاديين تُقر بأخلاقية هذا الكذب. حينها فقط، تجادل بوك أن الكذب يمكن تبريره أخلاقيًا في هذا الوضع. ويمكن تطبيق ذلك على الكذب بشأن الطفل المختبئ من الجنود حفاظًا على حياته.
تحدي أنفسنا في هذا الأمر لكوننا صادقين طوال الوقت هو أمر منهك. منذ الطفولة، يعلمنا أساتذتنا أن ثمة مجاملات اجتماعية تتطلب منا الخداع لحماية مشاعر الآخرين. لكن ربما إذا حاولنا أن نكون صادقين تمامًا، سيكون هناك فوائد كبيرة تفوق التكاليف الاجتماعية الآنية.
إذا ما كنا صادقين على الدوام، حينها قد يتعلم الناس الوثوق بكلمتنا والاعتماد علينا لصدق آرائنا. كوننا صادقين من شأنه إزالة الغشاوة والخداع المصطنع لإخفاء سلوكياتنا السيئة والتحكم بانطباعاتنا؛ لذا قد يقودنا ذلك إلى حياة أكثر فضيلة وصدقًا. وربما يقودنا تعاملنا مع أكاذيبنا اليومية الصغيرة على أنها لا أخلاقية إلى أن نصير أشخاصًا أفضل.
المصدر:.ibelieveinsci