الشاعر الإنجليزي شيلي يحاكم التنوير بقصيدة الأسئلة المستحيلة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الشاعر الإنجليزي شيلي يحاكم التنوير بقصيدة الأسئلة المستحيلة

    اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	IMG_٢٠٢٣٠٢٢٣_١٨٠٨٤١.jpg 
مشاهدات:	10 
الحجم:	62.9 كيلوبايت 
الهوية:	72191
    "انتصار الحياة" على الفكر بخاصة وروسو هو من يقود رحلة التشكيك في فلسفة الأنوار
    إبراهيم العريس
    هي قصيدة ألمانية لكن من يفاجئنا حين يحل الجزء الثاني منها بدخوله إلى الساحة ليس سوى المفكر والأديب الفرنسي جان جاك روسو، الذي يلتقي زحاماً هائلاً من الناس يسيرون على غير هدى غير آبهين بشيء، ولا يبدو على أي منهم أنه يعرف من أين ولماذا أتى إلى هذا المكان وإلى أين هو ذاهب، أما تلك الحيرة، أو لنقل حتى اللامبالاة العامة، أما الجموع فعلى رغم أنها غير مبالية فإن أفرادها وكل منهم في "جزيرته وعزلته"، ينظرون في الوقت نفسه إلى عربة مقبلة يقودها دليل كفيف، ويتفرسون بلامبالاة متواصلة إلى العربة التي ينزل منها عدد من الأشخاص يمارسون رقصة وحشية ومن بينهم روسو، ولا يكون من روسو إلا أن يترك عربته التي كانت ستكتفي بالمرور ليقف خطيباً في الجموع يحذرها من مخاطر الجمود و... اللامبالاة، ومن خلال روسو ومن بعده، تتتالى شخصيات تاريخية كبرى: الاسكندر، أفلاطون، بيكون، نابوليون وحكماء وحكام وديماغوجيون... وخصوصاً زعماء من النوع الذي لا يأتي إلى السلطة إلا كي يدمر.

    سؤال الحياة

    في الحقيقة أن هذا الجزء الثاني من القصيدة التي كتبها برسي شيلي عام 1822 أي عام رحيله فلم تكتمل أبداً تحمل عنواناً سوف يجمع المؤرخون على أنه مثير للدهشة والفضول، فأن يعنون شيلي آخر قصيدة يكتبها وهو على فراش الموت "انتصار الحياة" أمر بدا للجميع بالغ الغرابة حتى أن السرياليين اعتبروا الأمر نوعاً من التمهيد لنظرياتهم، لكن شيلي لم يكن يقصد ذلك بالطبع، كان يريد بالأحرى أن يعبر عن مكنونات فؤاده في لحظاته الأخيرة طارحاً أسئلة وجوده التي ما كف عن طرحها خلال السنوات القليلة التي عاشها، ويعرف المطلعون على حياة شيلي وكتاباته أنه كان خلال تلك الفترة من حياته وفكره، قد بدأ يشكك في جدوى أفكار التنوير النهضوية كلها، فطرح شكوكه هذه على شكل أسئلة وأفكار يعبر عنها دليله ومثله الأعلى روسو الذي كان من أقطاب العقلانية والتنوير، غير أن شيلي حرص هنا على أن يقدم روسو تحت كاشفي ضوء في الوقت نفسه، فهو من ناحية يعيد إليه الاعتبار، لكنه من ناحية ثانية يرفضه تماماً بصفته مفكراً تأسيسياً من مفكري عصر التنوير، فحتى وإن كانت لروسو هنا كلمة الفصل ومضمون السؤال الأخير، فإن شيلي يبدو راغباً في أن يعكس صاحب "العقد الاجتماعي" و"إميل"، كل شكوكه وأسئلته حول "ذينك المفكرين الفاسدين المفسدين، فولتير وكانط". وذلك خصوصاً من خلال أسئلة يحدث في أحيان كثيرة أن توضع على شكل حوار هو في الحقيقة نوع من المناجاة بين وجهين لروسو نفسه، أو على شكل أسئلة يطرحها الراوي على روسو، الذي سرعان ما يرفض الأسئلة مبدّياً مفهوم الحياة والطبيعة على مفهوم الفكر والمنطق.
    المعرفة ليست كل شيء

    صحيح أن السائل يذكر روسو بين الحين والآخر، بذلك الظمأ إلى المعرفة الذي كان من شيمه... غير أن روسو سرعان ما يؤكد أنه فعلاً كان ظمئاً إلى المعرفة، لكنه في الوقت نفسه عاش الحياة، ارتعب، أحب، كره، تألم... وظل يفعل ذلك كله حتى مات... وهذا ما نبهه تماماً إلى أن العثور على المعرفة، ليس كل شيء في الحياة، ولن يكون هو بأي حال الجواب عن السؤال الأساس، سؤال الوجود وسؤال المعرفة أيضاً، ما هي الحياة؟ وفي هذا السياق نفسه سيكون لافتاً أن نرى روسو ذات لحظة، ليس عاجزاً فقط عن الإجابة عن سؤال الحياة... بل كذلك عن الإجابة عن سؤال الذات. فهو إذ يُسأل: من أنت؟ لا يسعه إلا أن يجيب: "لست أدري، أعرف فقط أنه كان ثمة ذات يوم كيان اسمه روسو، أما الآن فإنه ليس أكثر من قناع".

    وعلى هذا النسق تدور غالبية فقرات "الحوار" بين روسو والراوي... هذا الراوي الذي لن يطول بنا الأمر في النهاية، قبل أن ندرك أنه إنما يمثل الرغبة البشرية التي قد تكون حققت امتلاءها عبر التنوير، لكنها عجزت في المقابل عن أن تطرح على نفسها ذلك السؤال الجوهري عن الحياة.

    أسئلة الشعر الحائرة

    إذاً، في عام 1822 الذي رحل فيه الشاعر شيلي عن عالمنا وهو، بعد، في عز شبابه لم يتجاوز التاسعة والعشرين من عمره، ترك وراءه بين النصوص التي تركها تلك القصيدة التي لم تكتمل أبداً بعنوان "انتصار الحياة"، فنشرت للمرة الأولى في سنة 1824، أي بعد رحيل صاحبها بعامين، من دون أن يتدخل أحد بالطبع في وضع نهاية لها، ومن هنا ظل السؤال الذي تحمله في سطورها الأخيرة من دون جواب إذ يتساءل "ما هي الحياة؟" ولكن هل كان في وسع أحد حتى ولو كان شاعراً استثنائياً ومغرقاً في رومانطيقيته أن يستطرد مستكملاً قصيدته ليعطي جواباً صادقاً عن مثل هذا السؤال؟.

    ومن هنا يأتي سؤال آخر هو ذلك الذي شغل بال كثر، منذ ذلك الحين، لا سيما بعد رحيل شيلي الذي لم يعش كما تقول سرة حياته من السنين بعد تلك القصيدة ما كان له أن يكفيه ليأتي بجواب عن السؤال الأول، لو قيض لشيلي أن يعيش أكثر وأن يكمل قصيدته هذه، بالتالي، هل كان سيكملها مجيباً عن ذلك السؤال الذي طرح في السطر الأخير المكتوب؟ أم أنه كان سيتركها على حالها ناقصة، أي سيبقي سؤاله من دون جواب؟ والحقيقة أن هذا السؤال يستبطن سؤالاً آخر أكثر يقينية، هل كان شيلي ينوي أصلاً أن يختتم القصيدة بالإجابة عن ذلك السؤال؟ ليس من السهل اليوم الإجابة عن كل هذه الأسئلة، ومن هنا ومهما كان من شأن الفرضيات التي يمكن إيرادها في هذا السياق كجواب، من المؤكد أن الشكل "النهائي" أي "غير المكتمل" للقصيدة يفرض علينا التعامل معها، ومنذ نشرت للمرة الأولى، كما هي، واعتبار السؤال الذي تنتهي إليه سؤالاً ينتمي إلى الشاعر وشعره بامتياز.

    بدءاً من دانتي

    اشتغل شيلي، يقيناً، على قصيدته هذه طوال الأشهر الأخيرة من حياته، بل يمكن القول ترجيحاً أيضاً إنه اشتغل عليها طوال السنوات الأخيرة من تلك الحياة، ذلك أن المناخ العام لـ"انتصار الحياة" والأجواء الوجودية المطروحة فيها، ناهيك بتقنيتها نفسها، يمكن الافتراض أنها تولدت لديه منذ قراءته المبكرة لقصيدة دانتي النهضوية "الكوميديا الإلهية"، تلك القراءة التي جعلت الشاعر الشاب راغباً دائماً في كتابة عمل لا يقل ضخامة ونهضوية عن عمل شاعر إيطاليا الأكبر، وهنا في هذا السياق قد يكون علينا أن نلفت، منذ البداية، إلى عاملين أساسيين يربطان "انتصار الحياة" بـ"الكوميديا الإلهية"، أولهما البنية التشطيرية التي تتشابه تماماً بين العملين من حيث تقسيم القصيدة إلى مقاطع يضم كل منها 13 شطراً، وثانيهما وجود المفكر والكاتب الفرنسي جان جاك روسو، في قصيدة شيلي ليلعب هنا دوراً مشابهاً للدور الذي يلعبه الشاعر اللاتيني فرجيل في قصيدة دانتي، أستاذاً، مثالاً أعلى، ودليلاً في التجوال، وليس من المهم طبعاً إذا كانت الجولتان تشبهان بعضهما بعضاً، فالمهم هو وجود هذين الأساسين اللذين يكشفان التطلع الأول لشيلي.
    تشكيك في عقلانية التنوير

    من بين المخطط الإجمالي الذي كان شيلي يتوخى كتابة قصيدته تبعاً له، نفذ الشاعر خمسة أجزاء رئيسة، يتألف كل جزء منها من عدد من الأبيات والأشطر، علماً أن الجزء الخامس لم يضم إلا أربعة أبيات تدور كلها من حول سؤال "ما هي الحياة؟". ومن الواضح هنا أن شيلي توقف في شكل مباغت بعد تدوين هذه الأبيات الأربعة المنتهية بعلامة السؤال، وقد يكون منطقياً هنا أن نقول أن بيرسي شيلي (1792 – 1822) إنما عبر في هذه القصيدة عن مواقفه التي كانت بدأت تزداد تشكيكاً في التنوير، بل حتى في العقلانية، وذلك في زمن كان ميله إلى الشعر قد بدأ يتغلب لديه نهائياً على ميله إلى الفكر، ويشهد على هذا بالطبع تطور كتاباته الشعرية والنثرية التي كانت بدأت انطلاقاً من رومنطيقية ما، تنحو أكثر وأكثر صوب لا عقلانية، لربما كانت هي ما جعله زعيماً غير منازع لطائفة من شعراء النزعة المسماة ما قبل الرافائيلية، وهي نزعة سادت في الشعر كما سادت في الرسم، وكان من أبرز وجوهها روبرت براوننغ وبايرون وسوينبرن، أما بالنسبة إلى شيلي نفسه فنعرف أن من أبرز أعماله "آلاستور، روح العزلة" و"ثورة الإسلام" و"نظرة فلسفية إلى الإصلاح" و"برميثوس طليقاً" و"دفاعاً عن الشعر" الذي نشر بعد رحيله بنحو عقدين من الزمن.
يعمل...
X