كان في قصيدتي الأولى الكثير من "آخر الليل نهار" مثلما كان في قصائده الأولى الكثير من "المجد للأطفال والزيتون" للبياتي و"أنشودة مطر" السيّاب.
استعيد الآن قصيدة أودن في رثاء ييتس: "أما بالنسبة له فالأمسية نذير الخاتمة/ كانت الأمسية حافلة بالممرضات والإشاعات/ لقد ثارت مناطق جسده/ وفرغت ميادين عقله/ وغزا السكون الضواحي/ وتوقف تيار شعوره".
كان محمود درويش لعبتنا التي صار نجمها وشهيدها ومغنيها، الذي حوّل المنبر إلى امتحان نقدي لم يقو على اجتيازه أفضل نقادنا وهم يبحثون عن الخيط الفاصل بين الشعر والجمهور.
محمود درويش الساخر الكبير من سرديات الأمة المهزومة وكاتب سيرة الحرب والحب على سرير الغريبة والذي لا يتناول قهوته إلا في فنجان أبيض. الشاعر امتدح مارادونا بأروع نصوص السخرية والإعجاب، غادر بيت الزوجية إلى وكر الذئاب. فضح النشيد القومي: "فكانوا هباء وكانوا صدى/ صدى نحن/ هم يحرثون طفولتنا/ فنقصفهم بالحروف السمينة".
درويش استثمار الشعر في غير محله، عندما يعرض مشروعه التغييري فيتلفقه الحاكم العربي ليمتص شحنته الخطيرة، ويصادرها كي يفرغها من تلك الشحنة ويأمر بتصديرها إلى برنامج المنوعات، أسوة بأغنيات حمدية صالح وأبو جيشي مطلق الفرحان والسح الدح امبو.. والواد طالع لبوه!
ودرويش، أيضًا، استثمار الشعر في محله عندما أتاحه أغنية تعوض المواطن العربي عن قحط عاطفي وفكري يشمله من المحيط إلي الخليج.
رحل الشاعر من دون أن يتوقف ذكاؤه عن العمل في التقاط الشعري والجماهيري، في لحظة فنية نادرة، فتصالح مع النظام العربي، كي يتيح له التعبير عن نفسه، وبالتالي عن قضيته، هذه القضية التي لا يمكن اختزالها بمقاومة واحتلال وشهداء و"يا فلسطين جينا لك".
قضية محمود درويش قضيتنا جميعًا: الحرية معبرًا عنها جماليًا وسط حقول الألغام.
عندما جاء محمود أول مرة إلى العراق وأقيمت له أمسية شعرية في الجامعة المستنصرية عام 1971 اقتربت منه، طالبًا في معهد إعداد المعلمين، لم أكتب إلا خربشات شعرية، وكانت معي صديقة فلسطينية، ولم نظفر منه إلا بكلمات مجاملة سريعة.
عندما ظهر بعدها على شاشة تلفزيون بغداد في مقابلة حوارية أجراها معه، على ما أتذكر، ويا لبؤس الذاكرة، يوسف الصائغ، كنت في البيت. قالت أمي: "لكم أحببت هذا الشاعر.. أنا لا أفهم في الشعر، لكنه "يحكي حلو!". اعزمه على سمك مسگوف وخبز تنور عراقي..ألم تقل إنه صديقك؟".
وعزمته فعلًا، وقلت له أمي تحبك. قال: وأنا أحبها. بوس لي إيدها. نسق العزيمة مع يوسف الصائغ. سألت الصائغ فرد معتذرًا. إنّ برنامج الرجل مزدحم جدًا. لا أعتقد سيلبي الدعوة.
قرأت على مسمع أمي قصيدة سأشارك فيها بمهرجان الكلية، آنذاك، فقالت: حلوة.. ستفوز بالجائزة، لكنها تشبه شعر محمود درويش! وهذا ما كان بالضبط! كان عمري عشرين عامًا.
لم نتوقع أن يكتب محمود درويش قصيدته الأخيرة بهذا الشكل المفاجئ، السريع، العجول، وبالصوت المدوّي، وهو الذي عّود قراءه على نبرة شعرية خاصة، فيها من الدهشة أكثر مما فيها من الدوي، كما في قصائده الأولى، خصوصًا ما قبل قصيدته "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا" التي نعدّها القصيدة - المفترق في تجربة هذا الشاعر الفذ.
بدأت نبرة الراحل الكبير بالخفوت كلما اقترب من الفن، وهو الذي دأب منذ تلك القصيدة "سرحان..." على أن يكتب الشعر الخافت، ففرح الشعراء بهذا التطور الملحوظ وحزن "الشعاريون".
تدريجًا، درّب هذا الشاعر قراءه ومستمعيه على الإنصات المتأمل للشعر، ونبذ عادات الأكف التي تتصيد لحظة التصفيق من قصيدة منبرية تنتفخ أوداجها بـ"الكلمات السمينة" إلى قصيدة تقول أكثر من طاقتها اللغوية بلغة أكثر تعبيرية، وهو الذي عبّر في أكثر من مناسبة عن ضيقه بالصفة التي أطلقت عليه، وزملائه، بأنه -شاعر المقاومة- لأن الشعر الجميل لا بد أن يكون مقاومًا من دون حاجة إلى "حشد" المفردات الطنانة.
لم يكن تطور درويش قد تكرس على جبهة واحدة، هي جبهة القصيدة، بمعزل عن مجمل وجوده الإنساني والأيديولوجي، فمنذ خروجه المبكر من فلسطين إلى القاهرة في بداية السبعينات كان خروجًا كليًا على الأيديولوجيا والتنظيم، ما حسبه البعض عليه خروجًا من "القضية" وما زال - هذا البعض - غاضبًا على الشاعر لأنه اقترب أكثر من الشعر وابتعد عن الشعارات. البيئة العربية، خصوصًا، في ميدان التاريخ الحماسي للشعر، هي بيئة شعار لا شعر، رغم أن شعرنا، منذ الجاهلية، تعايش فيه عمر بن كلثوم "بأنّا نورد الراياتِ بيضًا...." مع امرئ القيس "أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل" حتى انفك الاشتباك الأيديولوجي بين القصيدتين عندما نسفهما معًا أبو نؤاس لاحقًا.
كان الشاعر يضيق بمطالبة الجمهور العربي له بأن يقرأ "سجل أنا عربي": يا جماعة، هي قصيدة ألقيتها بوجه العدو الإسرائيلي، تحديًا، ولا يصح أن ألقيها في وجوهكم" ولم يفهم الكثيرون.
كان "خروج" درويش كليًا، من اللغة و"فكرتها" بارتباطهما المتوارث والذي تكرس طويلًا منذ حرب البسوس حتى الحرب الباردة.
اللغة لدى درويش تبتكر الفكرة، والفكرة تملي لغتها من دون تخطيط مسبق وبلا إرادوية تنتمي إلى الجملة البلاغية النمطية، المتوقعة، حتى بات بعض القصائد يتواطأ مع متلقيه، إلى حد توقع ما سيقول الشاعر قبل أن يبلغ قافيته الأخيرة.
أما ذاكرة محمود درويش العراقية فمفعمة بالمحبة والالتباس والشراكة.. محبة العراق والتباس السياسة وشراكة الشعر.
علاقة محمود بالموت تبدت في نصوصه منذ "موته الأبيض" كما سماه عندما كتب إثره "الجدارية" وورد في قصائد أخرى، وهو نوع من إيثار البدائل الصعبة على الحياة السهلة وهي في طريقها إلى الانهيار جماليًا، عندما يرى الشاعر تفتيت أحلامه في الخيال والنوم والكتابة والحب والأرض و... القضية برمتها، لنقرأ:
"الآن، في المنفى ... نعم في البيتِ،
في الستّينَ من عُمْرٍ سريعٍ
يُوقدون الشَّمعَ لكْ
فافرح، بأقصى ما استطعتَ من الهدوء،
لأنَّ موتًا طائشًا ضلَّ الطريق إليك
من فرط الزحام.. وأجّلكْ".
الموت لم يغدر بمحمود وحده، بل غدر بنا نحن الاثنين: هو ونحن، فلم تزل في عمر درويش تلك القصيدة التي لم يكتبها بعد، ولم تزل بنا بقية لأن نحبه ونحب شعره وهو حي لا يموت لفرط ما خلق من الجمال على هذه الأرض.
بعد هذا وذاك، لقد أدرك محمود اللعبة الشعرية كما أدرك اللعبة الحياتية، ما يعزّينا فقط شعره وشخصه وحضوره كائنًا أجاد الكتابة.