بقع داكنةٌ على ظاهرِ الكَف": شعر منبثق من الروح
عماد الدين موسى
18 فبراير 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
الشِعر في مجموعة الشاعرة السورية ندى منزلجي "بُقع داكنة على ظاهر الكف" (دار النهضة- بيروت، 2022) هو تمرُّد الفكرة على لا عقلانية الواقع، لتجيء صورها على قدرٍ أكبر من الحساسية في نقد هذه الصور المثيرة للتعجب والغضب، وبزخمٍ انفعالي، ما يكشف عن قلقها الفلسفي وتوترها النفسي: خلقتَني على عجَلٍ، قبلَ أنْ تَضيعَ مِنكَ الفِكرةُ، كانَ الطينُ قليلًا، وهناكَ وَفرةٌ من ماءٍ، وحينَ شوَيتني في الفُرنِ، كنتُ أسيحُ، كانَ رأسي يَصغرُ وتَسيلُ ساقاي، ثم أذوبُ...، ولا يبقى منّي إلاَّ جمرةٌ... وهي لا تني تتنقَّلُ في صورها من المباشرة إلى الترميز، وكذلك من الغنائية إلى السرد، فتتحول هذه الصور من لغة النثر إلى لغة الشعر وهي تحمل بعدًا دراميًا؛ تَعجُّب وتساؤل ونداء ودهشة واستغراب.
صورٌ قاسية متهكمة، تناسبٌ وتناغُم، ثم وحدةٌ ونفور. والشاعرة منزلجي لا تهذي، وإن كان الشعر من هذيان، ولكنها الصور الملتهبة من ألفاظ، والتي تخفي آلامًا؛ أسئلة فلسفية مستترة للأحاسيس والمشاعر المكبوتة عندها. صورٌ يقظة، صورٌ من فكر.
القصيدة عند الشاعرة هي عملية عقلية، ولكنها تجعل الفكر ـ التفكير انفعاليًا، كونه انفعالًا حيويًّا يمس سعادة الإنسان: بودِّكِ لَوْ أنَّ قَبضَتَيكِ حجرا رَحى، فتَحشُرينَهُ بينَهما، يدورانِ، فيتَلوَّى، وتتلوِّينَ أنتِ أيضًا، كمَنْ بيدَيهِ يَهرسُ أحشاءهُ، ثمَّ تُسقطينَهُ في قِدْرٍ مليئةٍ بقطرانٍ كَثيفٍ، فيغوصُ، وتوقدينَ نارَكِ، وأنتِ تُحرّكينَ ما في القِدرِ بتأنٍّ، ويرتَطمُ مِرارًا بطرَفِ عَصاكِ، فتعرفينَ أنّه هنا يُكابدُ ما أذاقكِ. تتعرَّقينَ، وتنضَحُ قسوتُكِ هذا الألَمُ الضالُّ ابنُ ألَمٍ ضالٍّ، ثمَّ تُغالينَ في إضرامِ نارِكِ، ليُصبحَ فَحمًا.
تكشف ندى منزلجي عن المضمون الروحي لصراع الإنسان وهو يصطدم مع أفعال لا إنسانية متعددة المظاهر والأشكال، كأنَّ كوارث تنمو في داخلها، كوارث لا تتخلص من أذاها إلا بالشعر، شعر كدمٍ منبثق من روحها وهي في حالة توتر وجداني، حتى لمَّا تُحب، فهي تعبِّر بشعرها عن تجربة شعورية، ويصبح فعل الحب مركز بث يستفز كيانها: يصِلُ الحبُّ شاحِبًا بعدَ مسيرةِ تدجينٍ طويلةٍ، لكنَّ الأيامَ تثبتُ أنّ الشوقَ هو أكثرُ العواطفِ رُعونةً، بينَ الأمسِ وبيني وادٍ، وقطيعُ بقرٍ وحشيٍّ، يهبطُ المنحدرَ مدفوعًا بغريزةِ البقاءِ العمياءِ، بيني وبينَ الأمسِ ما لا يُستعادُ لمْ يكن الزمنُ يومًا مُهادِنًا، وما مِنْ شاشةِ استرجاعٍ تعيدُ رائحةَ جَسدٍ عزيزٍ، ليسَ وقعُ الخُطى، وإنمّا الأقدامُ نفسُها، ليسَ ما لمَستْهُ اليدُ، بل اليدُ نفسُها، ليسَ الصوتُ، وإنمّا الفمُ الذي يخرجُ مِنهُ.
هكذا تتتابع الصور، صور الحب الجارحة، فهي تحب، ولكن قرينتها التي تقوم بالفعل تزيده وتشحنه بالطاقة الانفعالية، فتكشف ندى منزلجي عن سخطها وجبروتها، وعن زخم حسها الإنساني، ما يعكس اضطرابها، وعدم تفاؤلها، لكثرة الصور الاجتماعية المتناقضة والمتضادة. فالحب، وإن وجد، وهي تكتب عنه، لا يتحول إلى مركز إشعاع يفتح النفس على الحياة، فيؤدي وظيفة جمالية، إنه الحب المغمس بالآلام والأوجاع. لكن ندى منزلجي تحرص على أن تبقى مخلصة لطبيعتها وتدافع عن الحب، وإن سخرت، كما تدافع عن عقلها، لأن روحها مغلولة، وروحها لم تفقد عذريتها: شوقُكَ صريحٌ لتجربَةٍ تستثمرُها ربَّما في لحظةٍ عاطفيةٍ، أنا لمْ يكنِ الحبُّ سجّاني، بلْ قاتِلي، جرَّعني السُمَّ، وضَعَ الكأسَ في يَدي، ومضَى، وما مِنْ أثرٍ يدلُّ عليه.
ثمَّ تُصَعِّد ندى منزلجي من لحظة السلب الغاضبة، إذ لا جدوى من الحب باعتباره فعلًا غريزيًا، وهي لحظة معاناة شعورية، الحب لا هدنة فيه، هو انفجارات بركانية للروح، فلا أجساد ولا حدود، والحب ليس لحظات هيجان، لذا تقول ندى: قلبُكَ الفاتِرُ تحتَ كعبِ حِذائي، والجوابُ ليسَ لديَّ إنْ كانَ مُناسبًا أن تَحلَّ ربطةَ عُنقكَ، وتخرُجَ مِن صورةِ السيِّدِ المهذَّبِ في سهرةِ السبتِ؟
وهي بذلك كمن يخرج من حالة الحصار، لا تخرج منتصرة. تخرج مجروحة. تخرج وقد انهزم الجمال، لا شكَّ في أن الحب ينسلُّ من الجسد، ولكنها تعود لتكشف عن مشاعرها مستاءة غير آبهة: أغمِضْ عَيْنيكَ الآنَ، أغمِضْ وتخيَّلْ مَعي، قلبُكَ تحتَ كَعبيَ العالي، وأنا أسحَقُه كصِرصارِ لَيلٍ، وأشهقُ بَدلًا مِنك! وهنا المفارقة الساخرة، وهي تبين عن مشاعر التمرد، تخفي فيه خوفها، وازدراءها للسلطة القامعة، فنرى خيالها وإحساسها الحاد وجرأتها في تكثيف شديد الإيحاء للصورة الشعرية وهي تعبِّر عن رأيها ومعاناتها الفكرية والعاطفية، وعن قسوتها من كثرة الصدمات، من كثرة السكاكين التي غُزَّت في روحها: أمضيتُ عُمري في انتظارِها، وما إنْ وصَلتْ حتى أفرَغَتْ مثانتَها علَيَّ، يبدو أنَّ السعادةَ لمْ تعرِفْني، ظنَّتني شجرةً! يبدو أنّني لمْ أعرِفْها، ظننتُها كلبًا! منذ زمنٍ طويلٍ لمْ أعدْ أخبرُ أحدًا بما يحدثُ لي، وحينَ أمرُّ بشجرة أديرُ رأسي، وأصفِّرُ لحنًا مرِحًا، الأشجارُ كالأمَّهاتِ حزنُها صعبٌ، أفضِّلُ صُحبَة الحَصى، قلبُها قاسٍ والكُلُّ يدوسُ عليهِ...
الشعر عند ندى منزلجي كما في ديوانها "بُقع داكنة على ظاهر الكف" (2022)، وديوانيها "قديد فلٍّ للعشاء" (2002)، و"سرقات شاعر مغمور" (2015)، ليس كلمات موزونة، عروض، وقافية. الشعر عندها معاناة، استدعاء، فعل خلق، إنقاذٌ للحياة، يقظة وليس خدرًا، تحريضٌ على الحرية وعلى البراءة: تصارَعنا بِشراسَةٍ، في ما بينَنا، ومنَحْنا ولاءاتِنا تقريبًا لكافّةِ طُغاةِ العالَمِ، فقط لأنَّ واحدَهم عدوُّ الآخَرِ، أو شُبِّهَ لنا!
عماد الدين موسى
18 فبراير 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
الشِعر في مجموعة الشاعرة السورية ندى منزلجي "بُقع داكنة على ظاهر الكف" (دار النهضة- بيروت، 2022) هو تمرُّد الفكرة على لا عقلانية الواقع، لتجيء صورها على قدرٍ أكبر من الحساسية في نقد هذه الصور المثيرة للتعجب والغضب، وبزخمٍ انفعالي، ما يكشف عن قلقها الفلسفي وتوترها النفسي: خلقتَني على عجَلٍ، قبلَ أنْ تَضيعَ مِنكَ الفِكرةُ، كانَ الطينُ قليلًا، وهناكَ وَفرةٌ من ماءٍ، وحينَ شوَيتني في الفُرنِ، كنتُ أسيحُ، كانَ رأسي يَصغرُ وتَسيلُ ساقاي، ثم أذوبُ...، ولا يبقى منّي إلاَّ جمرةٌ... وهي لا تني تتنقَّلُ في صورها من المباشرة إلى الترميز، وكذلك من الغنائية إلى السرد، فتتحول هذه الصور من لغة النثر إلى لغة الشعر وهي تحمل بعدًا دراميًا؛ تَعجُّب وتساؤل ونداء ودهشة واستغراب.
صورٌ قاسية متهكمة، تناسبٌ وتناغُم، ثم وحدةٌ ونفور. والشاعرة منزلجي لا تهذي، وإن كان الشعر من هذيان، ولكنها الصور الملتهبة من ألفاظ، والتي تخفي آلامًا؛ أسئلة فلسفية مستترة للأحاسيس والمشاعر المكبوتة عندها. صورٌ يقظة، صورٌ من فكر.
القصيدة عند الشاعرة هي عملية عقلية، ولكنها تجعل الفكر ـ التفكير انفعاليًا، كونه انفعالًا حيويًّا يمس سعادة الإنسان: بودِّكِ لَوْ أنَّ قَبضَتَيكِ حجرا رَحى، فتَحشُرينَهُ بينَهما، يدورانِ، فيتَلوَّى، وتتلوِّينَ أنتِ أيضًا، كمَنْ بيدَيهِ يَهرسُ أحشاءهُ، ثمَّ تُسقطينَهُ في قِدْرٍ مليئةٍ بقطرانٍ كَثيفٍ، فيغوصُ، وتوقدينَ نارَكِ، وأنتِ تُحرّكينَ ما في القِدرِ بتأنٍّ، ويرتَطمُ مِرارًا بطرَفِ عَصاكِ، فتعرفينَ أنّه هنا يُكابدُ ما أذاقكِ. تتعرَّقينَ، وتنضَحُ قسوتُكِ هذا الألَمُ الضالُّ ابنُ ألَمٍ ضالٍّ، ثمَّ تُغالينَ في إضرامِ نارِكِ، ليُصبحَ فَحمًا.
"القصيدة عند الشاعرة هي عملية عقلية، ولكنها تجعل الفكر ـ التفكير انفعاليًا، كونه انفعالًا حيويًّا يمس سعادة الإنسان" |
تكشف ندى منزلجي عن المضمون الروحي لصراع الإنسان وهو يصطدم مع أفعال لا إنسانية متعددة المظاهر والأشكال، كأنَّ كوارث تنمو في داخلها، كوارث لا تتخلص من أذاها إلا بالشعر، شعر كدمٍ منبثق من روحها وهي في حالة توتر وجداني، حتى لمَّا تُحب، فهي تعبِّر بشعرها عن تجربة شعورية، ويصبح فعل الحب مركز بث يستفز كيانها: يصِلُ الحبُّ شاحِبًا بعدَ مسيرةِ تدجينٍ طويلةٍ، لكنَّ الأيامَ تثبتُ أنّ الشوقَ هو أكثرُ العواطفِ رُعونةً، بينَ الأمسِ وبيني وادٍ، وقطيعُ بقرٍ وحشيٍّ، يهبطُ المنحدرَ مدفوعًا بغريزةِ البقاءِ العمياءِ، بيني وبينَ الأمسِ ما لا يُستعادُ لمْ يكن الزمنُ يومًا مُهادِنًا، وما مِنْ شاشةِ استرجاعٍ تعيدُ رائحةَ جَسدٍ عزيزٍ، ليسَ وقعُ الخُطى، وإنمّا الأقدامُ نفسُها، ليسَ ما لمَستْهُ اليدُ، بل اليدُ نفسُها، ليسَ الصوتُ، وإنمّا الفمُ الذي يخرجُ مِنهُ.
هكذا تتتابع الصور، صور الحب الجارحة، فهي تحب، ولكن قرينتها التي تقوم بالفعل تزيده وتشحنه بالطاقة الانفعالية، فتكشف ندى منزلجي عن سخطها وجبروتها، وعن زخم حسها الإنساني، ما يعكس اضطرابها، وعدم تفاؤلها، لكثرة الصور الاجتماعية المتناقضة والمتضادة. فالحب، وإن وجد، وهي تكتب عنه، لا يتحول إلى مركز إشعاع يفتح النفس على الحياة، فيؤدي وظيفة جمالية، إنه الحب المغمس بالآلام والأوجاع. لكن ندى منزلجي تحرص على أن تبقى مخلصة لطبيعتها وتدافع عن الحب، وإن سخرت، كما تدافع عن عقلها، لأن روحها مغلولة، وروحها لم تفقد عذريتها: شوقُكَ صريحٌ لتجربَةٍ تستثمرُها ربَّما في لحظةٍ عاطفيةٍ، أنا لمْ يكنِ الحبُّ سجّاني، بلْ قاتِلي، جرَّعني السُمَّ، وضَعَ الكأسَ في يَدي، ومضَى، وما مِنْ أثرٍ يدلُّ عليه.
ثمَّ تُصَعِّد ندى منزلجي من لحظة السلب الغاضبة، إذ لا جدوى من الحب باعتباره فعلًا غريزيًا، وهي لحظة معاناة شعورية، الحب لا هدنة فيه، هو انفجارات بركانية للروح، فلا أجساد ولا حدود، والحب ليس لحظات هيجان، لذا تقول ندى: قلبُكَ الفاتِرُ تحتَ كعبِ حِذائي، والجوابُ ليسَ لديَّ إنْ كانَ مُناسبًا أن تَحلَّ ربطةَ عُنقكَ، وتخرُجَ مِن صورةِ السيِّدِ المهذَّبِ في سهرةِ السبتِ؟
وهي بذلك كمن يخرج من حالة الحصار، لا تخرج منتصرة. تخرج مجروحة. تخرج وقد انهزم الجمال، لا شكَّ في أن الحب ينسلُّ من الجسد، ولكنها تعود لتكشف عن مشاعرها مستاءة غير آبهة: أغمِضْ عَيْنيكَ الآنَ، أغمِضْ وتخيَّلْ مَعي، قلبُكَ تحتَ كَعبيَ العالي، وأنا أسحَقُه كصِرصارِ لَيلٍ، وأشهقُ بَدلًا مِنك! وهنا المفارقة الساخرة، وهي تبين عن مشاعر التمرد، تخفي فيه خوفها، وازدراءها للسلطة القامعة، فنرى خيالها وإحساسها الحاد وجرأتها في تكثيف شديد الإيحاء للصورة الشعرية وهي تعبِّر عن رأيها ومعاناتها الفكرية والعاطفية، وعن قسوتها من كثرة الصدمات، من كثرة السكاكين التي غُزَّت في روحها: أمضيتُ عُمري في انتظارِها، وما إنْ وصَلتْ حتى أفرَغَتْ مثانتَها علَيَّ، يبدو أنَّ السعادةَ لمْ تعرِفْني، ظنَّتني شجرةً! يبدو أنّني لمْ أعرِفْها، ظننتُها كلبًا! منذ زمنٍ طويلٍ لمْ أعدْ أخبرُ أحدًا بما يحدثُ لي، وحينَ أمرُّ بشجرة أديرُ رأسي، وأصفِّرُ لحنًا مرِحًا، الأشجارُ كالأمَّهاتِ حزنُها صعبٌ، أفضِّلُ صُحبَة الحَصى، قلبُها قاسٍ والكُلُّ يدوسُ عليهِ...
الشعر عند ندى منزلجي كما في ديوانها "بُقع داكنة على ظاهر الكف" (2022)، وديوانيها "قديد فلٍّ للعشاء" (2002)، و"سرقات شاعر مغمور" (2015)، ليس كلمات موزونة، عروض، وقافية. الشعر عندها معاناة، استدعاء، فعل خلق، إنقاذٌ للحياة، يقظة وليس خدرًا، تحريضٌ على الحرية وعلى البراءة: تصارَعنا بِشراسَةٍ، في ما بينَنا، ومنَحْنا ولاءاتِنا تقريبًا لكافّةِ طُغاةِ العالَمِ، فقط لأنَّ واحدَهم عدوُّ الآخَرِ، أو شُبِّهَ لنا!
- عنوان الكتاب: بُقع داكنة على ظاهر الكف
- المؤلف: ندى منزلجي