نادر سعيدي يستعيد عبد البهاء وولادة الإنسان الجديد
صقر أبو فخر
15 فبراير 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط سمعنا، أول مرة، باسم الثائرة الفارسية "قُرة العين" في أوائل سبعينيات القرن المنصرم، ودهشنا أيما دهشة لجرأتها، بكل ثبات، على إعلان نهاية دور الشريعة، والدعوة إلى "حط التكاليف"، أي إلغاء أركان العبادة. وكان مصير قرة العين (اسمها الأصلي زرين تاج أي تاج الذهب) القتل في 15/8/1852 بعد فشل تمردها الراديكالي. وكثيرًا ما عقدنا المقارنة بين قُرة العين والثائرة البولندية روزا لوكسمبورغ التي أُعدمت في ألمانيا مع كارل ليبكنخت غداة فشل ثورة 1919 التي كانت من بين قادتها والمنظّرين لها، ومن أبرز مؤسسي "رابطة سبارتاكوس" المنشقّة عن الحزب الديمقراطي الاشتراكي. وحين قرأنا حكاية قرة العين التراجيدية، وكيف كانت تخرج سافرة ومتبرجة كتحدٍ واعٍ لرجال الدين، لم نكن نعلم أنها بابية العقيدة (بهائية في ما بعد)، وأنها من حروف "حي"، أي من الثمانية عشر شخصًا الأوائل الذين اعتنقوا البابية. وحروف "حي" تساوي 18 في حساب الجُمّل: الحاء = 8 والياء = 10، فيكون المجموع 18 يضاف إليهم الباب فيصبح الرقم 19 وهو عدد حروف بسم الله الرحمن الرحيم أو الرقم الوارد في القرآن: "وما أدراك ما سقر، لا تُبقي ولا تذر، لوّاحة للبشر، عليها تسعة عشر" (سورة المدثر، الآية 30). وقد وجدنا في كتاب علي الوردي الموسوم بعنوان " لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" ضالتنا في معرفة تاريخ هذه المرأة الجبارة.
اكتشفنا لاحقًا أن الرسام المشهور حسين بيكار الذي نال جائزة الجمهورية المصرية في الفن التشكيلي، بهائي المعتقد، ولهذا السبب ظل محرومًا من بطاقة الهوية المدنية حتى وفاته. ثم عرفت أن المؤرخ الفلسطيني زين نور الدين زين، مؤلف كتاب "نشوء القومية العربية (بيروت: 1968) وكتاب "الصراع الدولي في الشرق الأوسط وولادة دولتي سورية ولبنان" (بيروت: 1970)، بهائي أيضًا، وعلى منواله ليلى شهيد، سفيرة فلسطين في فرنسا التي كان والدها منيب شهيد أحد أهم أطباء الدم في لبنان، وكذلك ساذج نصار إحدى رائدات الحركة النسوية الفلسطينية، وزوجة نجيب نصار صاحب مجلة "الكرمل" الذي كان أول من رفع الصوت محذرًا من خطر الصهيونية، وداعيًا إلى مكافحتها. ولا ننسى سهيل بديع بشروئي، الأستاذ الجامعي المتخصص بجبران خليل جبران، والناصري المولد، وأول رئيس عربي لدائرة اللغة الانكليزية في الجامعة الأميركية في بيروت. وفي إحدى المراحل عرّفني الدكتور أنيس صايغ إلى نيغار زين، شقيقه زين نور الدين زين، وكانت جارته في مسكنه البيروتي، ثم تعرّفت إلى رمزي زين إبن زين نور الدين زين، واكتشفت من خلاله أحوال هذه الجماعة المتعلمة والراقية والمسالمة وذات الأفكار العصرية المناوئة للتعصب والانغلاق. وحين أصدرنا في جريدة "السفير" عددًا خاصًا من نشرة "معلومات" (العدد 10) عن الأقليات في العالم العربي كان نصيبي أن أكتب عن البهائيين والأحمديين، فقامت قيامة البعض ولم تقعد. وهؤلاء بادرونا بالسؤال الساذج: لماذا في هذا الوقت بالذات؟
إن هذه التفصيلات المتناثرة جعلتني ألتفت إلى الجماعة البهائية المضطهدة والمهمّشة. وقد أخبرني رمزي زين أن البهائيين في لبنان معترف بهم جزئيًا كطائفة، أي أن دوائر الأحوال الشخصية تضع كلمة "بهائي" أمام خانة الدين في صحيفة الأحوال الشخصية (إخراج القيد)، لكن ليست لديهم، على غرار الطوائف الأخرى، محاكم روحية لتعنى بشؤونهم كالزواج والطلاق والوفاة والإرث والوصاية والوصية. لذلك يضطر البهائي اللبناني، حين يرغب في الزواج، إلى السفر إلى الخارج فيتزوج مدنيًا، ثم يعود إلى بلده لتسجيل الوقوعات. أما في مصر فتوضع إشارة (-) أمام خانة الدين للبهائي لأن الدستور لا يعترف إلا بثلاث ديانات هي اليهودية والمسيحية والاسلام. وقد تعرض البهائيون للافتراء والتكفير مثل أي جماعة منشقة. فالبهائية هي آخر انشقاق عن الشيعة منذ أن أعلن البابيون في سنة 1844 بقيادة الميرزا علي محمد الشيرازي استقلالهم عن الفرقة الأحسائية أو الكشفية التي كان يتزعمها الشيخ أحمد زين الدين الأحسائي ثم السيد كاظم الرشتي. وقد أُعدم الشيرازي (الباب) في سنة 1850، وتحولت البابية إلى البهائية في سنة 1868. وبالتدريج صار البهائيون أتباع دين جديد تمامًا؛ دين يدعو إلى الأخذ بمكتشفات العلم والتمدن، وإلى نبذ الكراهية والتعصب. واستند الشاه محمد رضا بهلوي، في إحدى المراحل، على البهائيين في الحكومة والإدارة، فأخلصوا لدولتهم الأمر الذي أثار حفيظة رجال الدين الذين يكرهون الشاه على البهائيين بشدة. وقد حُرّمت البهائية في إيران وجُرّمت بعد انتصار الثورة الاسلامية في سنة 1979، وأُعدم كثيرون أبرزهم أمير عباس هويدا بعد محاكمة سريعة لم تُتَح له في أثنائها فرصة الدفاع عن النفس. والواضح أن تحريم هذه الجماعة في إيران كان الدافع إليه هو التعصب الديني أولًا وأخيرًا، على اعتبار أن البهائيين جماعة منشقة عن الشيعة على غرار الأحمديين الذين انشقوا على السُنّة في الهند. واتخذ اضطهاد البهائيين طرائق كثيرة من بينها الافتراء عليهم بفرية التعامل مع اسرائيل. والحقيقة أن المعبد البهائي الجميل على قمة جمل الكرمل في فلسطين، ومقبرة "البهجة" بالقرب من عكا موجودان منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقبل أن يسمع العالم بالصهيونية. وإذا اعتمدنا هذه القاعدة في الافتراء والتكفير، فهذا يعني أن المسلمين والمسيحيين في فلسطين هم أيضًا عملاء لإسرائيل، لأن المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة وكنيسة القيامة وقبر المسيح وقبر مريم العذراء وكنيسة المهد وكنيسة البشارة كلها موجودة تحت الاحتلال الإسرائيلي...
بهاء الله وأفكاره
عن هذه الجماعة صدر مؤخرًا كتاب بقلم الإيراني نادر سعيدي عنوانه "عبد البهاء وولادة الإنسان: إضاءات في الفكر البهائي" (بيروت: دار الساقي، 2022، 190 صفحة، ترجمة ناهد آختري روحاني). ومن غير الواضح عن أي لغة تُرجم هذا الكتاب، مع أن الراجح عندي أنه مترجم عن الفارسية، وهو يُنشر الآن في سياق الجهد الذي يقوم به البهائيون في العالم لشرح معتقداتهم ورد الافتراءات عنهم. والكتاب قسمان (الأول يستغرق مئة صفحة والثاني يستهلك 90 صفحة)، وهما عبارة عن دراسة في خُطب عبد البهاء (عباس أفندي) التي ألقاها في عواصم الغرب بين سنتي 1911 و1912، وهي مُدرجة في هذا الكتاب من دون تسلسل تاريخي، وبعضها غير مؤرخ؛ ويُعد هذا الأمر نقيصة علمية. وقد لاحظتُ أن خطبة عبد البهاء في جامعة ستانفورد الأميركية الواردة في الصفحة 168 من كتاب نادر سعيدي موجودة في كتاب "عباس أفندي" لسهيل بديع بشروئي (ص 333). والرسالة الجوابية التي أرسلها عبد البهاء إلى الهيئة المركزية للسلام الدائم في لاهاي – هولندا المذكورة في الصفحة 180 من هذا الكتاب موجودة في كتاب "عباس أفندي" (ص 273) أيضًا. وكذلك الحال في خطبة عبد البهاء في فندق فيكتوريا في رمل الاسكندرية الواردة في الصفحة 177 موجودة في كتاب "عباس أفندي" (ص 311). إذًا، ما الفائدة الإضافية لكتاب نادر سعيدي مقارنة بكتاب سهيل بديع بشروئي الموسوم بعنوان "عباس أفندي في الذكرى المئوية لزيارته إلى مصر" (بيروت – بغداد: دار الجمل، 2010)؟ إخال أن كتاب "عباس أفندي" أشمل وأقوم وأكثر تفصيلًا من كتاب سعيدي. غير أن هذا الكتاب، أي "عبد البهاء وولادة الإنسان"، لا يفتقر كلية إلى الفائدة، ولعله يمتاز بفضيلة معرفية هي تجديد الكلام عن المعتقد البهائي الذي تعتنقه أعداد من البشر في بعض بلادنا العربية. ومن شأن ذلك أن يزيد وعينا ومعرفتنا بمجتمعاتنا العربية وتكوينها العقائدي.
يعتبر الكاتب نادر سعيدي أن بهاء الله (الميرزا حسين علي بن عباس بزرك نوري المازندارني) وابنه عبد البهاء (عباس أفندي أو عبد البهاء عباس) رسولان جديدان (ص26)، وأن بهاء الله هو النبي الموعود. وبهاء الله في الدين البهائي هو ممثول المسيح الذي بشّر به يوحنا المعمدان، فيما علي محمد الشيرازي (الملقب بـ "الباب") يناظر يوحنا المعمدان. وبهذا المعنى فإن البهائية كعقيدة أو كدين حديث هي شوط جديد في مسار العقائد الكثيرة المنبثقة من عقائد شيعية مختلفة كالأحسائية (الكشفية)، ومن أفكار غنوصية فارسية قديمة، لكنها كُتبت، في صيغتها الختامية، بلغة جديدة تصدت لقضايا العصر بلغة عصرها. ويعتقد البهائيون أن الوحي الإلهي لم ينقطع، ولا ينقطع، خلافًا للسُنّة، لكنه ليس وحي تشريع، بل هو وحي تعليم، أي تعليم ما شُرِّع من قبل في اليهودية والمسيحية والاسلام. وهذا الاعتقاد شيعي خالص؛ فالأئمة المعصومون لدى الإثني عشرية يوحى إليهم وحي منام مثلًا لإرشادهم إلى بعض المسائل الايمانية أو الفقهية. ويستخدم البهائيون في كتبهم كلمة "ألواح" لوصف نصوص بهاء الله، وهي استعارة من الألواح التي نزلت على موسى في أثناء التيه اليهودي الخرافي في سيناء.
يؤمن البهائيون، بحسب هذا الكتاب وكتب أخرى، بالرسالات الدينية كلها: اليهودية والمسيحية والإسلام والزرادشتية وغيرها. ويؤمنون بالطبع بإله واحد خالق للكون وهو منبع الوحي ومصدر جميع الديانات، وهم يحترمون جميع الأنبياء والرسل بلا استثناء لأن مصدرهم المشترك هو الإله الواحد. وتُنكر البهائية المعاد الجسدي، وترى أن الجنة والنار تعبيران مجازيان: فالجنة هي سرور النفس والحواس الخمس بمعرفة الله، أما النار فهي الجهل بالخالق الأمر الذي يعيق القدرة على الوصول إلى الكمال والسعادة. وهذه الأفكار موجودة لدى بعض الجماعات الغنوصية، ولدى بعض الطوائف الباطنية ذات الجذور الاسلامية – الفارسية. والصلاة عند البهائيين فردية، ولا صلاة جامعة إلا صلاة الميت. والقِبلة ليست مكة بل جبل الكرمل في فلسطين حيث ينتصب المعبد البهائي. والعيد الكبير لديهم هو النوروز وليس الأضحى أو الفطر. وتحرّم البهائية التبغ والخمر والمخدرات والميسر، وعقوبة الزنا ليست الرجم، بل تسعة مثاقيل من الذهب تُدفع إلى بيت العدل (أي المحفل البهائي). وترفض البهائية مسألة الردة وعقوبتها، وتدعو إلى مطابقة الإيمان الديني مع العلم الذي به تُكشف أسرار الوجود، كما تدعو إلى نبذ العصبيات الدينية والقومية والعنصرية، وتتطلع إلى وحدة العالم الانساني والجنس البشري وإلى المساواة بين البشر، وإلى نزع السلاح وتأمين العدالة بين الأمم وبين فئات كل أمة. واللافت في مبادئ البهائية هو موقفها من النساء؛ فهي تؤمن بالمساواة التامة بين الرجال والنساء، ولا تمنع الزواج بين الديانات المختلفة. نقد الحداثة ونقد التدين
عبد البهاء، أو عباس أفندي، هو ابن بهاء الله، وهو النبي الحقيقي للبهائيين؛ فهو الذي قادهم في أحلك الأيام، وهو الذي أرسى عقائدهم على قواعد فكرية وإيمانية جلية تمامًا. والبهائية بهذا المعنى هي أحدث دين عالمي. وجوهر خُطب عبد البهاء المذكورة في هذا الكتاب هو السلام العالمي وكرامة الإنسان وحريته، علاوة على حقوق الناس والعدالة الاجتماعية، وهي أفكار مبثوثة في كتابات المفكرين العالميين من ذوي النزعة الإنسانية، ولا سيما الإشتراكيين منهم. لكن اللافت أن عبد البهاء حين كان يدعو إلى السلام العالمي كان النظام الرأسمالي يستعد لشن الحرب العالمية الأولى (ص25)، وحين كان يدعو إلى نبذ التعصب وإدانة العنصرية كان السود في الولايات المتحدة الأميركية محرومين من حقوقهم المدنية، وحين كان يحث على مساواة المرأة بالرجل كانت النساء الأميركيات محرومات من حق الاقتراع. ولعل عبد البهاء كان من المبكّرين في نقد مؤسسة الدين ونقد الحداثة معًا، وكان يردد أن الدين التقليدي والحداثة التقليدية ينفيان الإنسان. فالتدين التقليدي لا يقيم أي اعتبار للإنسان إلا بصفة كونه عابدًا للموروث الذي تلقاه من أجداده. والحداثة التقليدية تجعل الإنسان مجرد مخلوق مستهلِك أو عامل، ولا بد إذًا من تحرير الإنسان من هاتين الدائرتين. غير أن عبد البهاء لم يكن عبثيًا أو عدميًا في هذه المسألة المتخالفة، بل كثيرًا ما شدّد على ضرورة اقتران المدنية المادية بالمدنية الروحية (ص 16) فيقول: الصراع بين الشرق الروحاني والغرب المادي مدمّر للإنسان وقيمه الروحية وحياته المادية، ولن ينتهي هذا الصراع إلا بوحدة الشرق والغرب، أي باقتران المدنية المادية بالمدنية الروحية. ومدار التحفظ لدى هنا هو هذا التفريق بين غرب مادي وشرق روحاني؛ فلا الغرب مادي تمامًا وإن غلبت عليه سمة العلم والتقنية والإنتاج، ولا الشرق روحاني تمامًا وإن كانت سماته الغالبة دينية.
أعلن عبد البهاء في رسائله وخطبه انحيازه إلى فكرة الفصل بين الدين والسياسة، وكثيرًا ما تحدث عن أن "اللادينية أفضل من الغلو الديني بمراحل" (ص 16)، أي أن العلمانية خير من التعصب الديني. وأفكار عبد البهاء في هذا الحقل لا تختلف عن أفكار غيره من المتنورين الذين تكلموا عن التوفيق بين الدين والحداثة، أو بين العلم والإيمان، أو بين الشريعة والعصر. لكن عبد البهاء سبق كثيرين من هؤلاء المتنورين في إيران والعالم العربي ربما لأنه لم يعش في إيران المثقلة بالدين والمكبّلة برجال الدين والعقائد الدينية الغريبة والعجيبة، بل أقام في فلسطين المنفتحة على الأفكار كلها حتى وهي تحت الحكم العثماني. والمعروف أن جبران خليل جبران وأمين الريحاني تأثرّا عظيم التأثر بشخصية عبد البهاء وأفكاره وآرائه ومواقفه. فقد التقى جبران في سنة 1912 عبدَ البهاء ثلاث مرات في أميركا بفضل جارته البهائية جولييت طومسون، ورسم له صورة وجه (بورتريه)، وقال إن في ابتسامة عبد البهاء "سرّ سورية وجزيرة العرب وبلاد الفرس" (من رسالة إلى ماري هاسكل، 19/4/1912). لكن جبران، مع إعجابه بعبد البهاء، لم يصبح بهائيًا. أما أمين الريحاني الذي لم يصبح بهائيًا بدوره، فقد تأثر كثيرًا بالبهائية، ويمكن أن نجد أصداء ذلك في كتاب "خالد".
الخلاصة البهية
ليس عبد البهاء مفكرًا أو فيلسوفًا كي يتاح لنا مناقشة أفكاره وآرائه كما نناقش آراء المفكرين والمثقفين والفلاسفة والمتفلسفين، بل هو زعيم ديني أولًا وأخيرًا، فضلًا عن كونه مصلحًا ومؤسسًا للديانة البهائية. غير أن عبد البهاء انفرد عن غيره من المصلحين بأنه كان كثير التجوال في حواضر العالم، وكثير التواصل مع الشعوب غير الفارسية، مثله مثل الدالاي لاما قبل أن تحلّ الشيخوخة على جسده؛ والاثنان اجتمع عليهما ثالوث المنفى والاضطهاد والفضيلة. ومن البدهي الاستنتاج، في هذا الميدان، أن جميع فلسفات الفلاسفة لم تنفع البتة في إنشاء المدينة الفاضلة. ولم تنجح شرائع الأنبياء في إقامة عالم بلا اضطهاد أو تمييز عنصري، بل أحالت ذلك على الله بعدما ساهمت في زيادة الكراهية بين الشعوب المؤمنة. ولم تُجدِ الأفكار الكبرى، كالماركسية على سبيل المثال، في تأسيس عالم سعيد مملوء بالحرية والسلام. ومن البدهي، في خضم هذا التمرين الفكري، أن نتساءل: هل تنفع مقولات أرسطو اليوم في بناء "أطلانطيس" جديدة؟ وهل تسعف أفكار أفلاطون في تأسيس "الجمهورية" المثالية؟ وهل تمنحنا تأملات توماس مور القدرة على الوصول إلى "يوتوبيا"؟ وهل تساعدنا رؤى فرنسيس بيكون في بناء "نيو أطلانطيس" فوق جزيرة "بنسالم" كي ينتصب فيها "بيت سليمان"؟
لقد عجزت العقائد الخلاصية والقيامية عن إرواء عطش الإنسانية إلى المعرفة التي يمكنها الإجابة عن مبدأ الوجود ومعنى الوجود وعلة الوجود ومآلات الوجود، وعجزت كذلك عن تحقيق تطلّعها إلى العيش المترع باللذة. وفشلت معها فكرة المجتمع الشيوعي لكارل ماركس وفريدريك أنجلز، وعجزت عن تغيير الواقع المهين وتحويله إلى عالم من المساواة والهناء، تمامًا مثلما اندثرت أوهام باكونين في قيام مجتمع بلا دولة، وبهتت صورة المدينة الفاضلة للفارابي، ومدينة الله للقديس أوغسطين. وعلى غرار ذلك فشلت معظم الثورات التاريخية في تغيير العالم، وفشل الوعي أيضًا في تغييره، لأن العالم يتغير بقوانينه الدافعة، لا بالوعي الذي يتغير معه في سياق تحولاته وانقلاباته.
وخلاصتي الختامية، في هذا المقام، أن الانسان لا يمكنه تغيير العالم بالأفكار وحدها، بل بتغيير الأساس المادي لهذا العالم. ولهذا رأت الماركسية أن هذه المهمة التاريخية تتطلب ثورة في الوعي أولًا، ثم في الواقع بالتبعية. لكن الماركسيين أنفسهم، ونقاد الماركسية، اكتشفوا، بعد فوات الأوان، أن مقولة "الوعي هو الذي يتحكم بالتاريخ" مقولة زائفة، لكنها مقولة عاشت زمانًا طويلًا وتعيشت على خرافة القول إن كل ما علينا القيام به هو صوغ أفكار ثورية لتغيير العالم، أو لإنهاء التفاوت الطبقي، أو لوقف الحروب وبناء السلم، أو لحماية البيئة والقضاء على التلوث والاحترار، أو لإصلاح مسارات المجتمعات، أو لإعادة تصميم المدن بجماليات جديدة. وخلاصة هذه الخرافة هي أن علينا القيام بِـ "ثورة الوعي"، كأن التاريخ يتحرك بحسب ما يجري في عقولنا، وليس بحسب الواقع الموضوعي المستقل عن أفكارنا، أي بحسب دوافعه وروافعه وتفاعلات عناصره المؤثرة وتحولاته وصراعات مجموعاته التكوينية ومصالح جماعاته المتعاكسة. وفي خضم تلك السيرورة كان للوعي بالطبع شأن كبير. ولما كنا نتطلع إلى تحويل هذا الجحيم إلى جنة، لم نتوقع، في أي يوم من الأيام، أن يتقاطر علينا أصحاب الجحيم ليغمروننا بـِ "وعيهم"، ويجعلوا من بلادنا جهنمًا. ومن علائم احترامنا للمصلحين والمتنورين أمثال عبد البهاء أنهم حاولوا تغيير جحيم هذا العالم إلى جنة، فما أفلحوا. ومع ذلك فهم يستحقون الثناء حقًا لأنهم أسرجوا جياد التمدن، وأوقدوا مشاعل النهضة حتى لو أُطفئت في ما بعد، وهذه من فضائلهم المشهورة والمأثورة.
صقر أبو فخر
15 فبراير 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط سمعنا، أول مرة، باسم الثائرة الفارسية "قُرة العين" في أوائل سبعينيات القرن المنصرم، ودهشنا أيما دهشة لجرأتها، بكل ثبات، على إعلان نهاية دور الشريعة، والدعوة إلى "حط التكاليف"، أي إلغاء أركان العبادة. وكان مصير قرة العين (اسمها الأصلي زرين تاج أي تاج الذهب) القتل في 15/8/1852 بعد فشل تمردها الراديكالي. وكثيرًا ما عقدنا المقارنة بين قُرة العين والثائرة البولندية روزا لوكسمبورغ التي أُعدمت في ألمانيا مع كارل ليبكنخت غداة فشل ثورة 1919 التي كانت من بين قادتها والمنظّرين لها، ومن أبرز مؤسسي "رابطة سبارتاكوس" المنشقّة عن الحزب الديمقراطي الاشتراكي. وحين قرأنا حكاية قرة العين التراجيدية، وكيف كانت تخرج سافرة ومتبرجة كتحدٍ واعٍ لرجال الدين، لم نكن نعلم أنها بابية العقيدة (بهائية في ما بعد)، وأنها من حروف "حي"، أي من الثمانية عشر شخصًا الأوائل الذين اعتنقوا البابية. وحروف "حي" تساوي 18 في حساب الجُمّل: الحاء = 8 والياء = 10، فيكون المجموع 18 يضاف إليهم الباب فيصبح الرقم 19 وهو عدد حروف بسم الله الرحمن الرحيم أو الرقم الوارد في القرآن: "وما أدراك ما سقر، لا تُبقي ولا تذر، لوّاحة للبشر، عليها تسعة عشر" (سورة المدثر، الآية 30). وقد وجدنا في كتاب علي الوردي الموسوم بعنوان " لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" ضالتنا في معرفة تاريخ هذه المرأة الجبارة.
اكتشفنا لاحقًا أن الرسام المشهور حسين بيكار الذي نال جائزة الجمهورية المصرية في الفن التشكيلي، بهائي المعتقد، ولهذا السبب ظل محرومًا من بطاقة الهوية المدنية حتى وفاته. ثم عرفت أن المؤرخ الفلسطيني زين نور الدين زين، مؤلف كتاب "نشوء القومية العربية (بيروت: 1968) وكتاب "الصراع الدولي في الشرق الأوسط وولادة دولتي سورية ولبنان" (بيروت: 1970)، بهائي أيضًا، وعلى منواله ليلى شهيد، سفيرة فلسطين في فرنسا التي كان والدها منيب شهيد أحد أهم أطباء الدم في لبنان، وكذلك ساذج نصار إحدى رائدات الحركة النسوية الفلسطينية، وزوجة نجيب نصار صاحب مجلة "الكرمل" الذي كان أول من رفع الصوت محذرًا من خطر الصهيونية، وداعيًا إلى مكافحتها. ولا ننسى سهيل بديع بشروئي، الأستاذ الجامعي المتخصص بجبران خليل جبران، والناصري المولد، وأول رئيس عربي لدائرة اللغة الانكليزية في الجامعة الأميركية في بيروت. وفي إحدى المراحل عرّفني الدكتور أنيس صايغ إلى نيغار زين، شقيقه زين نور الدين زين، وكانت جارته في مسكنه البيروتي، ثم تعرّفت إلى رمزي زين إبن زين نور الدين زين، واكتشفت من خلاله أحوال هذه الجماعة المتعلمة والراقية والمسالمة وذات الأفكار العصرية المناوئة للتعصب والانغلاق. وحين أصدرنا في جريدة "السفير" عددًا خاصًا من نشرة "معلومات" (العدد 10) عن الأقليات في العالم العربي كان نصيبي أن أكتب عن البهائيين والأحمديين، فقامت قيامة البعض ولم تقعد. وهؤلاء بادرونا بالسؤال الساذج: لماذا في هذا الوقت بالذات؟
أُعدم الشيرازي (الباب) في سنة 1850، وتحولت البابية إلى البهائية في سنة 1868. وبالتدريج صار البهائيون أتباع دين جديد تمامًا؛ دين يدعو إلى الأخذ بمكتشفات العلم والتمدن، وإلى نبذ الكراهية والتعصب |
عن هذه الجماعة صدر مؤخرًا كتاب بقلم الإيراني نادر سعيدي عنوانه "عبد البهاء وولادة الإنسان: إضاءات في الفكر البهائي" (بيروت: دار الساقي، 2022، 190 صفحة، ترجمة ناهد آختري روحاني). ومن غير الواضح عن أي لغة تُرجم هذا الكتاب، مع أن الراجح عندي أنه مترجم عن الفارسية، وهو يُنشر الآن في سياق الجهد الذي يقوم به البهائيون في العالم لشرح معتقداتهم ورد الافتراءات عنهم. والكتاب قسمان (الأول يستغرق مئة صفحة والثاني يستهلك 90 صفحة)، وهما عبارة عن دراسة في خُطب عبد البهاء (عباس أفندي) التي ألقاها في عواصم الغرب بين سنتي 1911 و1912، وهي مُدرجة في هذا الكتاب من دون تسلسل تاريخي، وبعضها غير مؤرخ؛ ويُعد هذا الأمر نقيصة علمية. وقد لاحظتُ أن خطبة عبد البهاء في جامعة ستانفورد الأميركية الواردة في الصفحة 168 من كتاب نادر سعيدي موجودة في كتاب "عباس أفندي" لسهيل بديع بشروئي (ص 333). والرسالة الجوابية التي أرسلها عبد البهاء إلى الهيئة المركزية للسلام الدائم في لاهاي – هولندا المذكورة في الصفحة 180 من هذا الكتاب موجودة في كتاب "عباس أفندي" (ص 273) أيضًا. وكذلك الحال في خطبة عبد البهاء في فندق فيكتوريا في رمل الاسكندرية الواردة في الصفحة 177 موجودة في كتاب "عباس أفندي" (ص 311). إذًا، ما الفائدة الإضافية لكتاب نادر سعيدي مقارنة بكتاب سهيل بديع بشروئي الموسوم بعنوان "عباس أفندي في الذكرى المئوية لزيارته إلى مصر" (بيروت – بغداد: دار الجمل، 2010)؟ إخال أن كتاب "عباس أفندي" أشمل وأقوم وأكثر تفصيلًا من كتاب سعيدي. غير أن هذا الكتاب، أي "عبد البهاء وولادة الإنسان"، لا يفتقر كلية إلى الفائدة، ولعله يمتاز بفضيلة معرفية هي تجديد الكلام عن المعتقد البهائي الذي تعتنقه أعداد من البشر في بعض بلادنا العربية. ومن شأن ذلك أن يزيد وعينا ومعرفتنا بمجتمعاتنا العربية وتكوينها العقائدي.
يعتبر الكاتب نادر سعيدي أن بهاء الله (الميرزا حسين علي بن عباس بزرك نوري المازندارني) وابنه عبد البهاء (عباس أفندي أو عبد البهاء عباس) رسولان جديدان (ص26)، وأن بهاء الله هو النبي الموعود. وبهاء الله في الدين البهائي هو ممثول المسيح الذي بشّر به يوحنا المعمدان، فيما علي محمد الشيرازي (الملقب بـ "الباب") يناظر يوحنا المعمدان. وبهذا المعنى فإن البهائية كعقيدة أو كدين حديث هي شوط جديد في مسار العقائد الكثيرة المنبثقة من عقائد شيعية مختلفة كالأحسائية (الكشفية)، ومن أفكار غنوصية فارسية قديمة، لكنها كُتبت، في صيغتها الختامية، بلغة جديدة تصدت لقضايا العصر بلغة عصرها. ويعتقد البهائيون أن الوحي الإلهي لم ينقطع، ولا ينقطع، خلافًا للسُنّة، لكنه ليس وحي تشريع، بل هو وحي تعليم، أي تعليم ما شُرِّع من قبل في اليهودية والمسيحية والاسلام. وهذا الاعتقاد شيعي خالص؛ فالأئمة المعصومون لدى الإثني عشرية يوحى إليهم وحي منام مثلًا لإرشادهم إلى بعض المسائل الايمانية أو الفقهية. ويستخدم البهائيون في كتبهم كلمة "ألواح" لوصف نصوص بهاء الله، وهي استعارة من الألواح التي نزلت على موسى في أثناء التيه اليهودي الخرافي في سيناء.
يؤمن البهائيون، بحسب هذا الكتاب وكتب أخرى، بالرسالات الدينية كلها: اليهودية والمسيحية والإسلام والزرادشتية وغيرها. ويؤمنون بالطبع بإله واحد خالق للكون وهو منبع الوحي ومصدر جميع الديانات، وهم يحترمون جميع الأنبياء والرسل بلا استثناء لأن مصدرهم المشترك هو الإله الواحد. وتُنكر البهائية المعاد الجسدي، وترى أن الجنة والنار تعبيران مجازيان: فالجنة هي سرور النفس والحواس الخمس بمعرفة الله، أما النار فهي الجهل بالخالق الأمر الذي يعيق القدرة على الوصول إلى الكمال والسعادة. وهذه الأفكار موجودة لدى بعض الجماعات الغنوصية، ولدى بعض الطوائف الباطنية ذات الجذور الاسلامية – الفارسية. والصلاة عند البهائيين فردية، ولا صلاة جامعة إلا صلاة الميت. والقِبلة ليست مكة بل جبل الكرمل في فلسطين حيث ينتصب المعبد البهائي. والعيد الكبير لديهم هو النوروز وليس الأضحى أو الفطر. وتحرّم البهائية التبغ والخمر والمخدرات والميسر، وعقوبة الزنا ليست الرجم، بل تسعة مثاقيل من الذهب تُدفع إلى بيت العدل (أي المحفل البهائي). وترفض البهائية مسألة الردة وعقوبتها، وتدعو إلى مطابقة الإيمان الديني مع العلم الذي به تُكشف أسرار الوجود، كما تدعو إلى نبذ العصبيات الدينية والقومية والعنصرية، وتتطلع إلى وحدة العالم الانساني والجنس البشري وإلى المساواة بين البشر، وإلى نزع السلاح وتأمين العدالة بين الأمم وبين فئات كل أمة. واللافت في مبادئ البهائية هو موقفها من النساء؛ فهي تؤمن بالمساواة التامة بين الرجال والنساء، ولا تمنع الزواج بين الديانات المختلفة. نقد الحداثة ونقد التدين
عبد البهاء، أو عباس أفندي، هو ابن بهاء الله، وهو النبي الحقيقي للبهائيين؛ فهو الذي قادهم في أحلك الأيام، وهو الذي أرسى عقائدهم على قواعد فكرية وإيمانية جلية تمامًا. والبهائية بهذا المعنى هي أحدث دين عالمي. وجوهر خُطب عبد البهاء المذكورة في هذا الكتاب هو السلام العالمي وكرامة الإنسان وحريته، علاوة على حقوق الناس والعدالة الاجتماعية، وهي أفكار مبثوثة في كتابات المفكرين العالميين من ذوي النزعة الإنسانية، ولا سيما الإشتراكيين منهم. لكن اللافت أن عبد البهاء حين كان يدعو إلى السلام العالمي كان النظام الرأسمالي يستعد لشن الحرب العالمية الأولى (ص25)، وحين كان يدعو إلى نبذ التعصب وإدانة العنصرية كان السود في الولايات المتحدة الأميركية محرومين من حقوقهم المدنية، وحين كان يحث على مساواة المرأة بالرجل كانت النساء الأميركيات محرومات من حق الاقتراع. ولعل عبد البهاء كان من المبكّرين في نقد مؤسسة الدين ونقد الحداثة معًا، وكان يردد أن الدين التقليدي والحداثة التقليدية ينفيان الإنسان. فالتدين التقليدي لا يقيم أي اعتبار للإنسان إلا بصفة كونه عابدًا للموروث الذي تلقاه من أجداده. والحداثة التقليدية تجعل الإنسان مجرد مخلوق مستهلِك أو عامل، ولا بد إذًا من تحرير الإنسان من هاتين الدائرتين. غير أن عبد البهاء لم يكن عبثيًا أو عدميًا في هذه المسألة المتخالفة، بل كثيرًا ما شدّد على ضرورة اقتران المدنية المادية بالمدنية الروحية (ص 16) فيقول: الصراع بين الشرق الروحاني والغرب المادي مدمّر للإنسان وقيمه الروحية وحياته المادية، ولن ينتهي هذا الصراع إلا بوحدة الشرق والغرب، أي باقتران المدنية المادية بالمدنية الروحية. ومدار التحفظ لدى هنا هو هذا التفريق بين غرب مادي وشرق روحاني؛ فلا الغرب مادي تمامًا وإن غلبت عليه سمة العلم والتقنية والإنتاج، ولا الشرق روحاني تمامًا وإن كانت سماته الغالبة دينية.
أعلن عبد البهاء في رسائله وخطبه انحيازه إلى فكرة الفصل بين الدين والسياسة، وكثيرًا ما تحدث عن أن "اللادينية أفضل من الغلو الديني بمراحل" (ص 16)، أي أن العلمانية خير من التعصب الديني. وأفكار عبد البهاء في هذا الحقل لا تختلف عن أفكار غيره من المتنورين الذين تكلموا عن التوفيق بين الدين والحداثة، أو بين العلم والإيمان، أو بين الشريعة والعصر. لكن عبد البهاء سبق كثيرين من هؤلاء المتنورين في إيران والعالم العربي ربما لأنه لم يعش في إيران المثقلة بالدين والمكبّلة برجال الدين والعقائد الدينية الغريبة والعجيبة، بل أقام في فلسطين المنفتحة على الأفكار كلها حتى وهي تحت الحكم العثماني. والمعروف أن جبران خليل جبران وأمين الريحاني تأثرّا عظيم التأثر بشخصية عبد البهاء وأفكاره وآرائه ومواقفه. فقد التقى جبران في سنة 1912 عبدَ البهاء ثلاث مرات في أميركا بفضل جارته البهائية جولييت طومسون، ورسم له صورة وجه (بورتريه)، وقال إن في ابتسامة عبد البهاء "سرّ سورية وجزيرة العرب وبلاد الفرس" (من رسالة إلى ماري هاسكل، 19/4/1912). لكن جبران، مع إعجابه بعبد البهاء، لم يصبح بهائيًا. أما أمين الريحاني الذي لم يصبح بهائيًا بدوره، فقد تأثر كثيرًا بالبهائية، ويمكن أن نجد أصداء ذلك في كتاب "خالد".
لعل عبد البهاء كان من المبكّرين في نقد مؤسسة الدين ونقد الحداثة معًا، وكان يردّد أن الدين التقليدي والحداثة التقليدية ينفيان الإنسان. فالتدين التقليدي لا يقيم أي اعتبار للانسان إلا بصفة كونه عابدًا للموروث الذي تلقاه من أجداده. والحداثة التقليدية تجعل الإنسان مجرد مخلوق مستهلِك |
ليس عبد البهاء مفكرًا أو فيلسوفًا كي يتاح لنا مناقشة أفكاره وآرائه كما نناقش آراء المفكرين والمثقفين والفلاسفة والمتفلسفين، بل هو زعيم ديني أولًا وأخيرًا، فضلًا عن كونه مصلحًا ومؤسسًا للديانة البهائية. غير أن عبد البهاء انفرد عن غيره من المصلحين بأنه كان كثير التجوال في حواضر العالم، وكثير التواصل مع الشعوب غير الفارسية، مثله مثل الدالاي لاما قبل أن تحلّ الشيخوخة على جسده؛ والاثنان اجتمع عليهما ثالوث المنفى والاضطهاد والفضيلة. ومن البدهي الاستنتاج، في هذا الميدان، أن جميع فلسفات الفلاسفة لم تنفع البتة في إنشاء المدينة الفاضلة. ولم تنجح شرائع الأنبياء في إقامة عالم بلا اضطهاد أو تمييز عنصري، بل أحالت ذلك على الله بعدما ساهمت في زيادة الكراهية بين الشعوب المؤمنة. ولم تُجدِ الأفكار الكبرى، كالماركسية على سبيل المثال، في تأسيس عالم سعيد مملوء بالحرية والسلام. ومن البدهي، في خضم هذا التمرين الفكري، أن نتساءل: هل تنفع مقولات أرسطو اليوم في بناء "أطلانطيس" جديدة؟ وهل تسعف أفكار أفلاطون في تأسيس "الجمهورية" المثالية؟ وهل تمنحنا تأملات توماس مور القدرة على الوصول إلى "يوتوبيا"؟ وهل تساعدنا رؤى فرنسيس بيكون في بناء "نيو أطلانطيس" فوق جزيرة "بنسالم" كي ينتصب فيها "بيت سليمان"؟
لقد عجزت العقائد الخلاصية والقيامية عن إرواء عطش الإنسانية إلى المعرفة التي يمكنها الإجابة عن مبدأ الوجود ومعنى الوجود وعلة الوجود ومآلات الوجود، وعجزت كذلك عن تحقيق تطلّعها إلى العيش المترع باللذة. وفشلت معها فكرة المجتمع الشيوعي لكارل ماركس وفريدريك أنجلز، وعجزت عن تغيير الواقع المهين وتحويله إلى عالم من المساواة والهناء، تمامًا مثلما اندثرت أوهام باكونين في قيام مجتمع بلا دولة، وبهتت صورة المدينة الفاضلة للفارابي، ومدينة الله للقديس أوغسطين. وعلى غرار ذلك فشلت معظم الثورات التاريخية في تغيير العالم، وفشل الوعي أيضًا في تغييره، لأن العالم يتغير بقوانينه الدافعة، لا بالوعي الذي يتغير معه في سياق تحولاته وانقلاباته.
وخلاصتي الختامية، في هذا المقام، أن الانسان لا يمكنه تغيير العالم بالأفكار وحدها، بل بتغيير الأساس المادي لهذا العالم. ولهذا رأت الماركسية أن هذه المهمة التاريخية تتطلب ثورة في الوعي أولًا، ثم في الواقع بالتبعية. لكن الماركسيين أنفسهم، ونقاد الماركسية، اكتشفوا، بعد فوات الأوان، أن مقولة "الوعي هو الذي يتحكم بالتاريخ" مقولة زائفة، لكنها مقولة عاشت زمانًا طويلًا وتعيشت على خرافة القول إن كل ما علينا القيام به هو صوغ أفكار ثورية لتغيير العالم، أو لإنهاء التفاوت الطبقي، أو لوقف الحروب وبناء السلم، أو لحماية البيئة والقضاء على التلوث والاحترار، أو لإصلاح مسارات المجتمعات، أو لإعادة تصميم المدن بجماليات جديدة. وخلاصة هذه الخرافة هي أن علينا القيام بِـ "ثورة الوعي"، كأن التاريخ يتحرك بحسب ما يجري في عقولنا، وليس بحسب الواقع الموضوعي المستقل عن أفكارنا، أي بحسب دوافعه وروافعه وتفاعلات عناصره المؤثرة وتحولاته وصراعات مجموعاته التكوينية ومصالح جماعاته المتعاكسة. وفي خضم تلك السيرورة كان للوعي بالطبع شأن كبير. ولما كنا نتطلع إلى تحويل هذا الجحيم إلى جنة، لم نتوقع، في أي يوم من الأيام، أن يتقاطر علينا أصحاب الجحيم ليغمروننا بـِ "وعيهم"، ويجعلوا من بلادنا جهنمًا. ومن علائم احترامنا للمصلحين والمتنورين أمثال عبد البهاء أنهم حاولوا تغيير جحيم هذا العالم إلى جنة، فما أفلحوا. ومع ذلك فهم يستحقون الثناء حقًا لأنهم أسرجوا جياد التمدن، وأوقدوا مشاعل النهضة حتى لو أُطفئت في ما بعد، وهذه من فضائلهم المشهورة والمأثورة.
- عنوان الكتاب: عبد البهاء وولادة الإنسان: إضاءات في الفكر البهائي
- المؤلف: نادر سعيدي
- المترجم: ناهد آختري روحاني