"افرح يا قلبي" لعلوية صبح: الموسيقى التقاء الثقافات... والهوية
دارين حوماني
14 فبراير 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
قد يكون عنوان رواية "افرح يا قلبي" للروائية اللبنانية علوية صبح (دار الآداب، 2022) مرآةً عاكسة للهوية الموسيقية للرواية وللشخصية الرئيسة من حيث التداول من جيل إلى جيل في عشق أم كلثوم وأغنيتها بالعنوان نفسه، لكن حضور المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد عند مدخل الرواية من خلال الاقتباسات من أقواله التي استهلّت بها صبح روايتها يكاد يشكّل سؤال الرواية وجوابها، فأفكار سعيد عن الاستشراق وعوامل التثاقف والتحاور بين الحضارات والهويات المتعددة والانتماء والمنفى والموسيقى هي الإشكاليات التي يتشكل منها البناء السردي وحيث يمتد زمن الرواية من الحرب الأهلية اللبنانية وحتى ما بعد انفجار 4 آب/ أغسطس 2020 وما بينهما من مآسٍ وصراعات على أرض لبنان لم يتمكن بطل الرواية غسان من التخفف منها بهجرته إلى أميركا وسعيه الجواني إلى "الرحيل الأبدي" محملًا بوعد ذاتي بعدم العودة حتى لو مات في الغربة فسيوصي أن يدفن هناك، وبعد روايتها "أن تعشق الحياة" (2020) تختار علوية صبح مرة أخرى عنوانًا يتمسك بالحياة والفرح رغم أن كائنات معذبة في عالم مفكك ومريض بفعل الحروب وضياع الأصوليين الفكري تتنقل بين فصول الروايتين.
هذه المرة نحن في عائلة من ستة شباب وأب عنيف مع الأم بـ"الأحزمة والعصيّ المعلقة على الحائط" ولكنه عاشق لأم كلثوم وعبد الناصر في الوقت نفسه. ستحدّثنا صبح عن هذه الأسرة على مدى 350 صفحة بضمير الغائب "غسان"، أحد أبناء هذه الأسرة، في عملية استرجاع متكررة للماضي مع توظيف للمونولوغ بهدف إزاحة الستار عن شخصيات الرواية واضطراباتها النفسية، ومع توظيف متكرر للحوارات في الرواية ينقلنا إلى دواخلهم لتصبح مرئية وشفافة بالكامل أمامنا، حوارات بالفصحى (باعتبارها الإنكليزية) في أميركا وبالعامية في لبنان.
العائلة هنا ليست سوى لبنان الصغير، الوطن المفكك الذي اختلطت عليه الحياة إن كانت موتًا أم حياة والذي يرغب بالانعتاق من نفسه هروبًا إلى أي مكان. وغسان موسيقي حساس سيغادر لبنان خلال الحرب الأهلية محتفظًا برائحة أمه وصوت جده الذي علّمه العزف على العود وحبه العذري لنور، أشياء لم يتمكن من التخلي عنها لكنها لم تمنع رغبته بقتل ذاكرته المخيّطة على أوتار الموسيقى العربية، فرفض العزف على آلة العود الشرقية طوال إقامته في أميركا كفعل مضاد للحروب والنزاعات التي تغذّي خراب العالم العربي كله "كل ما يوده الوصول إلى المطار وموت الذكريات. النسيان أشبه براحة الموت وسلامه، هو بداية لحياة جديدة" وسائق التاكسي إلى المطار يقول له "يا ضيعانك يا هل البلدّ ما هذا الجيل الجديد الذي يدمّر كل شيء في لبنان؟ لم يعجبه حين كان سويسرا الشرق، يريدون لبنان الممزق الذي تتزعمه الميليشيات"، دون أن تغيب عنه طوال الطريق صور إخوته الخمسة؛ "فكّر كيف سيرتّبون كراهيّتهم بعضهم لبعض وصراعاتهم". أخوه سليم الذي ضاع في هويته إن كان بنتًا أم صبيًا والذي رحل ولم يعد لربما وجد مكانًا يعترف بهويته، وكان يردّد باستمرار لنفسه نفس السؤال: "من أنا ومن عليّ أن أكون؟"، وطارق المصوّر الحربي الذي أودت به مشاهد القتل والضحايا والخراب في العراق إلى ازدراء التصوير ثم الهجرة إلى فرنسا للعمل كنادل: "كنتُ أصوّر الحياة فإذا بي أتحوّل إلى مصوّر للموت"... من أجل "سكوب"، وجمال الذي قتُل على يد أخيه عفيف بعد انتمائه لمنظمة إسلامية أصولية تأمره بقتل من ليس مثلهم حتى لو كان أخاه، ومحمود الذي تزوج بعشيقة والده جيهان وبقي حتى وفاة والده مرتابًا من علاقتهما.
في أميركا سيلتقي غسان بكيرستن الأميركية المفتونة بالموسيقى الشرقية، كيرستن تكاد تكون بعمر والدته وتعلّم الصوفية في قسم الفلسفة بالجامعة، اتفقا على عشق الموسيقى وحيث لم يكن يريد أن يضيف طفلًا معذَّبًا إلى هذا العالم قد يحاسبه ذات يوم على إنجابه. وخلال الخمس وعشرين سنة التي غاب غسان فيها عن لبنان سنتذكر معه حكايات عديدة هي اجتثاث مرّ من الواقع اللبناني، مرئيات متعددة محسوبة بعدد الدموع، هبة التي كانت تصدّ عفيف فاخترع أشياء عنها معه ولما انتشرت الشائعة قتلها والدها ولما أجري لها فحصٌ نسائي بعد الموت كانت عذراء فقتل الوالد نفسه. ووالده الذي كان يمضي لياليه مع جيهان أو بين النسوة هاجرًا أمه، "كان الرعب يتجمع بعظامه عندما يعود إلى البيت، أبوه ضرب أمه، مواعيد ضربه لها عادة حين ينفرد بها في البيت" متهمًا إياها بالتردد عند جارهم سمير "بدي أضربك حتى ما تفكري تخونيني"، لكن غسان انتظر حتى بلغ الخامسة عشرة ليقف بوجه أبيه ويمنعه من ضربها. وجدّته التي أحبّت إيلي لكنها تزوجت بجدّه وبقيت على حب إيلي رغم عرض الجد عليها الطلاق لتلحق به لكنها فضّلت البقاء معه كي لا تتزوج بمسيحي وأهل البلدة يتفقون "أن الله سامحها على ذنبها لعشقها نصرانيًا" كونها ماتت أول الغروب ونطقت بالشهادة عند موتها. تسحب علوية هذه القصص من حياتنا جميعًا كلبنانيين وكعرب في عالم عربي لا تزال هذه الحكايا محسوسة فيه، هي تلوينات رمادية على جسد هذا العالم الذي تبدّل مع تزايد التشدّد الديني، "إنتِ كيف مسلمة وبتاكلي من طبخ أم جورج"، تقول إحدى الجارات لوالدة غسان التي ستجيبها "شو صار بالدني لتغيرت هل أد... كيف صرتوا تفصّلوا الدين على ذوقكن هل أيام"، إنها سردية بسيطة بعدد من الكلمات لكنها تنقل لنا ذلك التشويه المفترس الذي نفذ إلى العالم العربي وقطع المسافة بين الحب والحب، بين الدين والدين، وحتى بين الطائفة والطائفة، فأحالنا شظايا مسكونة بالخوف من الآخر والحقد عليه دون مبرّر. سيُقتل جورج بسبب مسيحيته أمام أمه على أيدي حركة إسلامية بعد اقتحامهم لمنزله، كما لن يرتدعوا عن قتل جمال معه، الأخ الأكبر لغسان بسبب انتمائه لحزب يساري، وليكون عفيف الأخ الآخر لغسان من ضمن أفراد هذه الحركة المتشددة التي قامت بفعل القتل، "عفيف الذي لم يقتل أخاه فقط بل قتل تلك النظرة الطفولية في عينيه يوم أسقط من أسماء الله الحسنى الغفور الجميل"... تطرح علوية صبح علينا هنا قراءتها للدين كما يجب أن يكون، بلسان غسان.
في نيويورك سيمر من أمامه شباب يحرّكون أيديهم فيتذكر أولئك الذين جنّوا في لبنان بسبب الحرب وباتوا يفعلون ذلك، لبنان والحرب والقتل كلها حاضرة في كل زاوية بذهنه، أراد أن يفكر بالإنكليزية لينسى ذاكرته العربية فلم يفلح، يحلم أن يفيق بذاكرة بيضاء، تتردد باستمرار "افرح يا قلبي" في رأسه، هذه الأغنية مسجّلة بالكامل في لاوعيه، هي الهوية التي يريد أن يمحوها فلا يقدر، التناقض والصراع عبارة عن مكابدات داخلية، أحجار تتدحرج في رأسه، يرفض المشاركة في أي معزوفة يمكن أن تكون لها علاقة بالموسيقى الشرقية لكنه يشتري جريدة عربية، يغضب لأنه لا يستطيع أن يخلق عالمًا مثاليًا بعيدًا عن كل المآسي والتشوهات التي رآها فلا يستطيع، يرى الحرب في كل مكان. يحاول جاهدًا أن يدخل في المدينة الجديدة وأن تدخل فيه. جرعات من القلق النفسي والهوياتي، حكايا أخرى في نيويورك عن مقيمين عرب هناك تعيده إلى نفس المكان الذي جاء منه، أب أجبر ابنته على الحجاب في لوس أنجلوس فانتحرت، أخرى أجبرها الأب على وضع النقاب فابتعدت عنه وخلعته. وحتى مع كيرستن، في علاقته معها واعترافها له بخيانته، سيتساءل إن كان قد تقبّل الأمر لأنها أميركية وإن كانت عربية فلن يتقبّل ذلك.
في نيويورك الهويات المتعددة، والاكتئاب المتعدد الجنسيات، أميركي مصاب بكآبة أميركية، عراقي مصاب بكآبة عراقية، إيراني مصاب بكآبة إيرانية، وهكذا نشهد على تجمّع هائل من الصقيع الداخلي في بلد واحد يحاولون أن يجدوا الانتماء فيه. إننا أمام مثال لفعل التجاور النفسي بين الشعوب، لا فرق بينهم، يتجمعون في بيت سعيد صديق غسان، ولكنهم في الحقيقة قد يجتمعون في كل مكان على هذه الأرض بعيدًا عن السياسة وتوظيفاتها في الدين وألاعيبها، وهناك أيضًا ستُجرى مناقشات عن مآلات الأحزاب الدينية المتطرفة وعلاقتها الفعلية بالإسلام، والملفت هنا استشهاد الكاتبة المتكرر بآيات من القرآن الكريم، آيات تحث على التسامح والمحبة والاعتراف بالأديان الأخرى. ثمة مجادلات أخرى عن الأفضلية بين الطبق اليهودي والطبق الفلسطيني والطبق المصري وغيرها ليصلوا إلى نتيجة أن التواصل بالكلمات لا يؤدي إلا إلى الصراعات والحروب والوحشية فيما التواصل بالموسيقى هو عيش سلام. هكذا تُفرغ صاحبة "مريم الحكايا" مفاهيمها عن الحضارات الإنسانية، ثم تضع أمامنا نموذجًا آخر للعلاقة بين الشرق والغرب، عاشقة للشرق مع عاشق للغرب، سنكون أمام نموذج لالتقاء الثقافات ببعضها البعض، غسان الذي يريد أن يحرّر داخله من الموسيقى الشرقية وكيرستن العاشقة لجلال الدين الرومي وللموسيقى الشرقية. لكن بطل روايتنا يحارب حنينه كما يحارب الوحش، صراع عاطفي مع الماضي، رائحة أمه تنتشر على جلده، وحقل الزيتون يعود إليه في المنام، وجدّه الذي توفي وهو في الغربة، حزن وصمت دائمان حتى بعد زواجه بكيرستن، "غريب شأن الطفولة، كأننا نقيم فيها أبديًا". رسائل من أخيه طارق ستخبره عن الزمن الذي يختلط في رأسه والبشر في لبنان والعراق الذين كأنهم باتوا دجاجًا للذبح، وعن الحب الذي يستحيل أن ينبت بعد في بلاد لم يعد ينبت فيها سوى الكراهية والهويات الضيقة القاتلة. رسائل انعكست على صحة غسان فأصيب بغيبوبة، وما إن استفاق منها دخل في ردة فعل ضد كل ما هو غربي حتى تجاه جسد زوجته إلى أن ذكّرته زوجته بإدوارد سعيد وطلبت منه قراءة كتبه "الاستشراق" و"خارج المكان" و"نظائر ومفارقات: استكشافات في الموسيقى والمجتمع". أعادت كتب سعيد لغسان وعيه الحقيقي بالموسيقى، ذكّرته بمحاضرة لسعيد عن عمق الصمت في الموسيقى، نبّهته كيف يجب أن يتجه الفكر تجاه الهوية والانتماء والمنفى... يقول سعيد: "إننا لا نزال على مستوى بدائي جدًا من التقاتل على القشور، على من سيقود هذا وماذا... هل المنفى مقولة الجغرافيا- مقولة التغيير في المكان- فحسب؟ أم هو التباس قسري على مستوى السيكولوجيا، وشرخ في الوعي، ومن ثم تحول في الرؤيا إلى الذات والعالم؟... الموسيقى تعطيك الجمال لتهرب من الحياة من ناحية وأن تفهم الحياة بشكل أعمق"، خجل غسان من نفسه أمام كتابات سعيد الذي كان انتماؤه إلى الموسيقى الكونية كهوية والذي طلب دفنه في بلد عربي ثم اختار لبنان... هكذا تسجّل علوية صبح رسالة الحب بين الشعوب من خلال الموسيقى. الموسيقى التي هي أيضًا بحدّ ذاتها شخصية كاملة في الرواية، لا بل هي بطلة الرواية الرئيسية.
خمس وعشرون سنة مرت قبل أن يعود غسان للبنان بسبب وفاة أبيه. العودة التي هرب منها مرارًا كي لا يكون من جديد بمواجهة مع الماضي المضطرب، الاضطراب نفسه الذي ينسحب على مشاعره تجاه أبيه بين الحب والكره. وبيت العائلة الذي تتزاحم فيه الموسيقى مع الحب والكراهية والصدامات بين الأخوة، والبلدة التي هجرها المسيحيون بسبب "القتل على الهوية" إبان الحرب الأهلية اللبنانية. الصراع من جديد بين الانتماء لأميركا والانتماء لوطنه حين تعرض أمه عليه الزواج من رلى لإنجاب ولد يحمل اسمه، يتساءل: "تُرى كيف سيكون إحساسه في الفراش لو أنه مع امرأة عربية؟"، لكن رفضه السابق للزواج من عربية هو رفض لهويته. سيتزوج غسان من رلى وسينجب منها بنتًا ليقوى الصراع في داخله بين العالمين، "شعر بالتشتت والضياع، لا كيرستن يستطيع العيش بدونها ولا رلى وابنته آية يستطيع التخلي عنهما". وما يؤخذ على الرواية هو اختيار الكاتبة لعمر كيرستن من عمر أم غسان ورلى من عمر ابنته، ما يضعنا في تساؤل: هل اختيار علوية صبح لامرأة من عمر أمه بسبب بُعد غسان عن أمه وشعوره بالأمان مع امرأة بهذا العمر، وهل اختيارها لرلى من عمر ابنته لتمثّل رلى البداية التي كان يجب أن يبدأ بها في ذلك العمر؟ زمن الرواية أيضًا قد يكون أطول مما تتحمله الحكاية ليمتد من زمن ما قبل الحرب الأهلية حتى عام 2020، لربما أرادت صاحبة "دنيا" أن تضع جسد لبنان كاملًا في الصورة لتنبيهنا إلى كل ما مرّ ولا يزال يمرّ على هذا البلد المنكوب.
ستحمل صبح كاميرا لتصوّر مشهديات أخرى في طريقها لإكمال قصتها، الرصاص الطائش في لبنان الذي ينطلق مع انطلاق أي سياسي في خطابه و"التزمت الديني مرة أخرى"، فرلى ستموت برصاصة طائشة بعد أن تكون قد تبدّلت بتأثرها بالتمدّد الديني وارتدائها الحجاب والتخلص من عود غسان "لأن الموسيقى حرام".
ليست رلى وكيرستن سوى الشرق والغرب، وهما العالمان اللذان يتصارعان في الحياة، وتنازعهما أو التقاؤهما في داخل كل واحد منا، وليست الحكاية كلها سوى حكايتنا جميعًا، حكاية هذا الكون الذي تغذّيه صراعات الهوية والانتماء وأساسها الدين...
ثمة تفاصيل أخرى في الرواية هي كاميرا حية أرشيفية تتنقل في شوارع لبنان من ثورة الأرز إلى انفجار المرفأ وإلى حقائب السفر أمام كل المحلات لتصير الحقيبة هي الهوية التي يحلم بها كل لبناني. تفاصيل وقصص تذكّرنا بها شهرزاد العالم العربي حتى آخر فصل من الرواية بمقدرة على النبش والترحال بين الكائنات والأشياء والشعوب والدخول في جغرافيا حكائية تريد تمثيل العالم على الورق لوضع الحقائق أمامنا بلغة لا تخلو من الشعر، لا بل يمكننا سحب ديوان كامل من الشعر من هذه الرواية: "العالم كله يسير على الخوف والقلق، أي عصر هذا؟ استفاقت دبابير كانت نائمة: صراع هويات وحروب دينية واثنية وعرقية وطائفية، وصراع شرق وغرب وشرق وشرق، بل بين الإنسان ونفسه، ولا أحد يعلم إلى أين سيفضي هذا العصر... أين معزوفتك التي وعدت نفسك بها..."، لكن غسان سيكون في الطائرة معلقًا بين العالمين، ابنته وكيرستن، مع احتمال السقوط، تاركة لنا صاحبة "أن تعشق الحياة" الرواية مفتوحة على اقتراح النهايات لغسان ولصراعات هذا العصر ولسقوط هذا العالم...
دارين حوماني
14 فبراير 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
قد يكون عنوان رواية "افرح يا قلبي" للروائية اللبنانية علوية صبح (دار الآداب، 2022) مرآةً عاكسة للهوية الموسيقية للرواية وللشخصية الرئيسة من حيث التداول من جيل إلى جيل في عشق أم كلثوم وأغنيتها بالعنوان نفسه، لكن حضور المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد عند مدخل الرواية من خلال الاقتباسات من أقواله التي استهلّت بها صبح روايتها يكاد يشكّل سؤال الرواية وجوابها، فأفكار سعيد عن الاستشراق وعوامل التثاقف والتحاور بين الحضارات والهويات المتعددة والانتماء والمنفى والموسيقى هي الإشكاليات التي يتشكل منها البناء السردي وحيث يمتد زمن الرواية من الحرب الأهلية اللبنانية وحتى ما بعد انفجار 4 آب/ أغسطس 2020 وما بينهما من مآسٍ وصراعات على أرض لبنان لم يتمكن بطل الرواية غسان من التخفف منها بهجرته إلى أميركا وسعيه الجواني إلى "الرحيل الأبدي" محملًا بوعد ذاتي بعدم العودة حتى لو مات في الغربة فسيوصي أن يدفن هناك، وبعد روايتها "أن تعشق الحياة" (2020) تختار علوية صبح مرة أخرى عنوانًا يتمسك بالحياة والفرح رغم أن كائنات معذبة في عالم مفكك ومريض بفعل الحروب وضياع الأصوليين الفكري تتنقل بين فصول الروايتين.
هذه المرة نحن في عائلة من ستة شباب وأب عنيف مع الأم بـ"الأحزمة والعصيّ المعلقة على الحائط" ولكنه عاشق لأم كلثوم وعبد الناصر في الوقت نفسه. ستحدّثنا صبح عن هذه الأسرة على مدى 350 صفحة بضمير الغائب "غسان"، أحد أبناء هذه الأسرة، في عملية استرجاع متكررة للماضي مع توظيف للمونولوغ بهدف إزاحة الستار عن شخصيات الرواية واضطراباتها النفسية، ومع توظيف متكرر للحوارات في الرواية ينقلنا إلى دواخلهم لتصبح مرئية وشفافة بالكامل أمامنا، حوارات بالفصحى (باعتبارها الإنكليزية) في أميركا وبالعامية في لبنان.
العائلة هنا ليست سوى لبنان الصغير، الوطن المفكك الذي اختلطت عليه الحياة إن كانت موتًا أم حياة والذي يرغب بالانعتاق من نفسه هروبًا إلى أي مكان. وغسان موسيقي حساس سيغادر لبنان خلال الحرب الأهلية محتفظًا برائحة أمه وصوت جده الذي علّمه العزف على العود وحبه العذري لنور، أشياء لم يتمكن من التخلي عنها لكنها لم تمنع رغبته بقتل ذاكرته المخيّطة على أوتار الموسيقى العربية، فرفض العزف على آلة العود الشرقية طوال إقامته في أميركا كفعل مضاد للحروب والنزاعات التي تغذّي خراب العالم العربي كله "كل ما يوده الوصول إلى المطار وموت الذكريات. النسيان أشبه براحة الموت وسلامه، هو بداية لحياة جديدة" وسائق التاكسي إلى المطار يقول له "يا ضيعانك يا هل البلدّ ما هذا الجيل الجديد الذي يدمّر كل شيء في لبنان؟ لم يعجبه حين كان سويسرا الشرق، يريدون لبنان الممزق الذي تتزعمه الميليشيات"، دون أن تغيب عنه طوال الطريق صور إخوته الخمسة؛ "فكّر كيف سيرتّبون كراهيّتهم بعضهم لبعض وصراعاتهم". أخوه سليم الذي ضاع في هويته إن كان بنتًا أم صبيًا والذي رحل ولم يعد لربما وجد مكانًا يعترف بهويته، وكان يردّد باستمرار لنفسه نفس السؤال: "من أنا ومن عليّ أن أكون؟"، وطارق المصوّر الحربي الذي أودت به مشاهد القتل والضحايا والخراب في العراق إلى ازدراء التصوير ثم الهجرة إلى فرنسا للعمل كنادل: "كنتُ أصوّر الحياة فإذا بي أتحوّل إلى مصوّر للموت"... من أجل "سكوب"، وجمال الذي قتُل على يد أخيه عفيف بعد انتمائه لمنظمة إسلامية أصولية تأمره بقتل من ليس مثلهم حتى لو كان أخاه، ومحمود الذي تزوج بعشيقة والده جيهان وبقي حتى وفاة والده مرتابًا من علاقتهما.
أفكار سعيد عن الاستشراق وعوامل التثاقف والتحاور بين الحضارات والهويات المتعددة والانتماء والمنفى والموسيقى هي الإشكاليات التي يتشكل منها البناء السردي |
في نيويورك سيمر من أمامه شباب يحرّكون أيديهم فيتذكر أولئك الذين جنّوا في لبنان بسبب الحرب وباتوا يفعلون ذلك، لبنان والحرب والقتل كلها حاضرة في كل زاوية بذهنه، أراد أن يفكر بالإنكليزية لينسى ذاكرته العربية فلم يفلح، يحلم أن يفيق بذاكرة بيضاء، تتردد باستمرار "افرح يا قلبي" في رأسه، هذه الأغنية مسجّلة بالكامل في لاوعيه، هي الهوية التي يريد أن يمحوها فلا يقدر، التناقض والصراع عبارة عن مكابدات داخلية، أحجار تتدحرج في رأسه، يرفض المشاركة في أي معزوفة يمكن أن تكون لها علاقة بالموسيقى الشرقية لكنه يشتري جريدة عربية، يغضب لأنه لا يستطيع أن يخلق عالمًا مثاليًا بعيدًا عن كل المآسي والتشوهات التي رآها فلا يستطيع، يرى الحرب في كل مكان. يحاول جاهدًا أن يدخل في المدينة الجديدة وأن تدخل فيه. جرعات من القلق النفسي والهوياتي، حكايا أخرى في نيويورك عن مقيمين عرب هناك تعيده إلى نفس المكان الذي جاء منه، أب أجبر ابنته على الحجاب في لوس أنجلوس فانتحرت، أخرى أجبرها الأب على وضع النقاب فابتعدت عنه وخلعته. وحتى مع كيرستن، في علاقته معها واعترافها له بخيانته، سيتساءل إن كان قد تقبّل الأمر لأنها أميركية وإن كانت عربية فلن يتقبّل ذلك.
في نيويورك الهويات المتعددة، والاكتئاب المتعدد الجنسيات، أميركي مصاب بكآبة أميركية، عراقي مصاب بكآبة عراقية، إيراني مصاب بكآبة إيرانية، وهكذا نشهد على تجمّع هائل من الصقيع الداخلي في بلد واحد يحاولون أن يجدوا الانتماء فيه. إننا أمام مثال لفعل التجاور النفسي بين الشعوب، لا فرق بينهم، يتجمعون في بيت سعيد صديق غسان، ولكنهم في الحقيقة قد يجتمعون في كل مكان على هذه الأرض بعيدًا عن السياسة وتوظيفاتها في الدين وألاعيبها، وهناك أيضًا ستُجرى مناقشات عن مآلات الأحزاب الدينية المتطرفة وعلاقتها الفعلية بالإسلام، والملفت هنا استشهاد الكاتبة المتكرر بآيات من القرآن الكريم، آيات تحث على التسامح والمحبة والاعتراف بالأديان الأخرى. ثمة مجادلات أخرى عن الأفضلية بين الطبق اليهودي والطبق الفلسطيني والطبق المصري وغيرها ليصلوا إلى نتيجة أن التواصل بالكلمات لا يؤدي إلا إلى الصراعات والحروب والوحشية فيما التواصل بالموسيقى هو عيش سلام. هكذا تُفرغ صاحبة "مريم الحكايا" مفاهيمها عن الحضارات الإنسانية، ثم تضع أمامنا نموذجًا آخر للعلاقة بين الشرق والغرب، عاشقة للشرق مع عاشق للغرب، سنكون أمام نموذج لالتقاء الثقافات ببعضها البعض، غسان الذي يريد أن يحرّر داخله من الموسيقى الشرقية وكيرستن العاشقة لجلال الدين الرومي وللموسيقى الشرقية. لكن بطل روايتنا يحارب حنينه كما يحارب الوحش، صراع عاطفي مع الماضي، رائحة أمه تنتشر على جلده، وحقل الزيتون يعود إليه في المنام، وجدّه الذي توفي وهو في الغربة، حزن وصمت دائمان حتى بعد زواجه بكيرستن، "غريب شأن الطفولة، كأننا نقيم فيها أبديًا". رسائل من أخيه طارق ستخبره عن الزمن الذي يختلط في رأسه والبشر في لبنان والعراق الذين كأنهم باتوا دجاجًا للذبح، وعن الحب الذي يستحيل أن ينبت بعد في بلاد لم يعد ينبت فيها سوى الكراهية والهويات الضيقة القاتلة. رسائل انعكست على صحة غسان فأصيب بغيبوبة، وما إن استفاق منها دخل في ردة فعل ضد كل ما هو غربي حتى تجاه جسد زوجته إلى أن ذكّرته زوجته بإدوارد سعيد وطلبت منه قراءة كتبه "الاستشراق" و"خارج المكان" و"نظائر ومفارقات: استكشافات في الموسيقى والمجتمع". أعادت كتب سعيد لغسان وعيه الحقيقي بالموسيقى، ذكّرته بمحاضرة لسعيد عن عمق الصمت في الموسيقى، نبّهته كيف يجب أن يتجه الفكر تجاه الهوية والانتماء والمنفى... يقول سعيد: "إننا لا نزال على مستوى بدائي جدًا من التقاتل على القشور، على من سيقود هذا وماذا... هل المنفى مقولة الجغرافيا- مقولة التغيير في المكان- فحسب؟ أم هو التباس قسري على مستوى السيكولوجيا، وشرخ في الوعي، ومن ثم تحول في الرؤيا إلى الذات والعالم؟... الموسيقى تعطيك الجمال لتهرب من الحياة من ناحية وأن تفهم الحياة بشكل أعمق"، خجل غسان من نفسه أمام كتابات سعيد الذي كان انتماؤه إلى الموسيقى الكونية كهوية والذي طلب دفنه في بلد عربي ثم اختار لبنان... هكذا تسجّل علوية صبح رسالة الحب بين الشعوب من خلال الموسيقى. الموسيقى التي هي أيضًا بحدّ ذاتها شخصية كاملة في الرواية، لا بل هي بطلة الرواية الرئيسية.
ليست رلى وكيرستن سوى الشرق والغرب، وهما العالمان اللذان يتصارعان في الحياة، تنازعهما أو التقاؤهما في داخل كل واحد منّا، وليست الحكاية كلها سوى حكايتنا جميعًا، حكاية هذا الكون الذي تغذّيه صراعات الهوية والانتماء وأساسها الدين... |
ستحمل صبح كاميرا لتصوّر مشهديات أخرى في طريقها لإكمال قصتها، الرصاص الطائش في لبنان الذي ينطلق مع انطلاق أي سياسي في خطابه و"التزمت الديني مرة أخرى"، فرلى ستموت برصاصة طائشة بعد أن تكون قد تبدّلت بتأثرها بالتمدّد الديني وارتدائها الحجاب والتخلص من عود غسان "لأن الموسيقى حرام".
ليست رلى وكيرستن سوى الشرق والغرب، وهما العالمان اللذان يتصارعان في الحياة، وتنازعهما أو التقاؤهما في داخل كل واحد منا، وليست الحكاية كلها سوى حكايتنا جميعًا، حكاية هذا الكون الذي تغذّيه صراعات الهوية والانتماء وأساسها الدين...
ثمة تفاصيل أخرى في الرواية هي كاميرا حية أرشيفية تتنقل في شوارع لبنان من ثورة الأرز إلى انفجار المرفأ وإلى حقائب السفر أمام كل المحلات لتصير الحقيبة هي الهوية التي يحلم بها كل لبناني. تفاصيل وقصص تذكّرنا بها شهرزاد العالم العربي حتى آخر فصل من الرواية بمقدرة على النبش والترحال بين الكائنات والأشياء والشعوب والدخول في جغرافيا حكائية تريد تمثيل العالم على الورق لوضع الحقائق أمامنا بلغة لا تخلو من الشعر، لا بل يمكننا سحب ديوان كامل من الشعر من هذه الرواية: "العالم كله يسير على الخوف والقلق، أي عصر هذا؟ استفاقت دبابير كانت نائمة: صراع هويات وحروب دينية واثنية وعرقية وطائفية، وصراع شرق وغرب وشرق وشرق، بل بين الإنسان ونفسه، ولا أحد يعلم إلى أين سيفضي هذا العصر... أين معزوفتك التي وعدت نفسك بها..."، لكن غسان سيكون في الطائرة معلقًا بين العالمين، ابنته وكيرستن، مع احتمال السقوط، تاركة لنا صاحبة "أن تعشق الحياة" الرواية مفتوحة على اقتراح النهايات لغسان ولصراعات هذا العصر ولسقوط هذا العالم...
- عنوان الكتاب: "افرح يا قلبي"
- المؤلف: علوية صبح