دموع الملح": قصص "طبيب المهاجرين"
مها عبد الله
13 فبراير 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
كتاب "دموع الملح: قصة طبيب" لبيترو بارتولو وليديا تيلوتا ("منشورات تكوين"، 2020)، هو قصة إنسانية على شكل سيرة شخصيَّة، يرويها رجلٌ استثنائيٌّ عن المهاجرين الذي يقصدون اللجوء لحياة أفضل في مكان أفضل. الكتاب الذي ترجمه عن الإيطالية المصري محمد أ. جمال، يروي على لسان بارتولو أهوال الحروب وصعوبات الفقر المدقع التي تدفع البشر للهروب من مصائر مرعبة.
بطل الكتاب، إذًا، هو بيترو بارتولو، وهو طبيب من جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، إذْ كانت الجزيرة مكان تجمّع للاجئين الذين عقدوا الأمل على حياة خلف البحر فركبوه، حتى لَفَظَهم على شاطئه، ولم يبتلعهم غدرًا، كما غدرت بهم أوطانهم وابتزّهم المهربون. توّلى الطبيب مهمة استقبالهم، كما عمل على تحويل عيادته إلى مكان لمعالجة الحالات الطارئة للاجئين، بغية إسعافهم فور وصولهم، حتى استحق وبجدارة لقب "طبيب المهاجرين".
كي لا تتحوّل الجثث إلى أرقام
سيحصد د. بارتولو الأوسمة والتكريمات والجوائز العالميّة لقاء أعماله الطبيّة والإنسانيّة تجاه اللاجئين، إذْ تمّ ترشيح فيلم "حريق في البحر" (2016)، الذي يتناول الجزيرة وأعمال الطبيب، لأوسكار أفضل فيلم وثائقي عام 2017. يقول بارتولو عن الفيلم: "لم يكن مجرّد وثائقي، كان سرديّة معقّدة ذات وتيرة محسوبة يحكيها صوت هامس له جاذبية وحذق".
ويستطرد معبّرًا عن شعور الانتصار الذي اعتراه فور إعلان حصول الفيلم على جائزة "الدب الذهبي" في مهرجان برلين السينمائي، قائلًا: "الفيلم رسالة قوية نقية، بلا شوائب وإضافات لا طائل منها، تحطّم كل الأكاذيب التي تحيط بالقضية الحقيقية، وتوقظ الوعي العام، وتفتح عيون الناس".
الكتاب مليء بالصور الإنسانيَّة والمواقف الصعبة التي تواجه أي طبيب عمومًا، والطبيب الذي يعالج اللاجئين بشكل خاص، منها مثلًا قول الطبيب: "أنتَ لا تعتادُ أبدًا على رؤية أطفال موتى، أو نساءٍ لقيْن حتفهنّ أثناء الولادة على مركبٍ يغرق. نساءٌ أطفالهُنَّ الصغار متدليْنَ منهنّ بالحبال السرّية. لا تعتاد أبدًا على مهانة قصّ إصبع، أو أذن، جثة، لتحليل شفرتها الجينية، حتى يصير للضحية اسم وهوية، وكي لا تبقى مجرد رقم". في مقطعٍ آخر، يسرد صعوبات رحلة اللجوء عبر البحر، قائلًا: "في النهاية تصل إلى ليبيا. تحسب أنَّ الكابوس قد انتهى، لكنه في الحقيقة بدأ للتو: معاملة سيئة، سجن، تعذيب. إن استطعت بشكل ما النجاة من كل هذا، ستصعد على متن القارب. حينها فقط، إن لم تمت في البحر الواسع، واستطعت الوصول إلى وجهتك النهائية، في وسعك أن تأمل في حياة ربما تبدأ من جديد".
جروح غير مرئيّة
أقصى ما في يد الطبيب هو معالجة جِراح الجسد، لكنّ جراح الروح لا تسعفها لا وصفة علاج ولا إجراءٌ طبي. يقول بارتولو عن هذه الجروح بأنّها "جروحٌ لا تستطيع رؤيتها"، إذْ يشير إلى شابٍ نيجيريّ خسر حياته العاطفيَّة، بعد أنّ تعرض وخطيبته إلى جريمة على أيدي مجموعة من المجرمين، إذْ قامت مجموعة من الشباب بالتطاول عليه وعلى خطيبته بشكل وحشي، ما دفعه إلى التصدِّي لهم في حمية، ففقد إثر هذا الاشتباك ذكورته عن عمدٍ. يسأل الشاب النيجيري المغدور الطبيب، بعد أنّ قصّ عليه ما حدث معه بكلّ التفاصيل المأساويَّة، إذا ما كان هنالك ثمّة علاجٌ يعيدُ له ما فقده غدرًا، ويعيد له الحياة السعيدة من جديد. يقول بارتولو: "بحثتُ عن الشجاعة التي تمكّنني من إخباره بالحقيقة، وكدتُ لا أجدها! لم يكن هنالك كثير مما يمكن فعله، حتّى الأطراف الصناعية لن تؤدّي سوى إلى تحسين المظهر. لم يكن هنالك أي شيء لدي أقوله لإراحته وتشجيعه. في هذه اللحظة بالذات، شعرتُ بأني بلا فائدة!".
المشكلة في البشر لا في الربّ
وفي حادثة معينة، يتم استقبالُ عشرين طفلًا لاجئًا مصابين بمرض الجرب الجلدي، الأمر الذي يستدعي علاجًا مباشرًا وفوريًا. ولكن، تنجمُ مشكلة بين الطبيب وكاهن الأبرشيّة في الجزيرة، إذْ عارض الأخيرُ توفير مكانٍ ملائمٍ لإسعافهم. هذا الأمر دفع الطبيب لفحصهم في دورات المياه في الجزيرة، ليتصالح الطبيب والكاهن في النهاية، وتتوطّد بينهما علاقة متينة. يستخلصُ الطبيب من هذا الموقف مسألة عقائدية تتأرجحُ بين الاعتقاد بوجود الإله من عدمه، في ظلّ شرور القدم التي لا تنتهي. يقول: "المشكلة ليست في الرب، المشكلة في الإنسان". ويكمل: "كثيرًا ما أتعرَّض للسؤال، إن كان عملي مع اللاجئين قد زعزع إيماني بالرب الذي سمح بحدوث كلّ هذه المعاناة. الرب؟ ليس للرب علاقة بما يحدث. إن كان هنالك من يلام، فهم البشر وليس الرب. البشر هم الجشعون الطماعون الذين يضعون ثقتهم فقط في المال والسلطة.
أنا لا أتحدَّثُ عن تجّار البشر، بل عن أولئك الذين يسمحون بحدوث ذلك. أولئك الذين يرغبون في أن يعيش بقيّة العالم في فقرٍ مدقع. أولئك الذين يغذون الصراعات ويدعمونها ويمولونها... المشكلة في البشر وليست في الرب".
الذنب العظيم
وفي حادثة أخرى، يستقبل بارتولو طائرة مروحيّة تابعة لجزيرة مالطة، فيها تسعة لاجئين أحياء تمّ توصيلهم في حالةٍ يُرثَى لها، وهم محقونون في أوردتهم. بدت العيادة في حضورهم "مستشفى ميدانيًا في ساعة حرب". كان أشدهم بؤسًا من نجا وحده دونًا من بقيَّة أفراد عائلته البالغ عددهم آنذاك 22 فردًا. ثمّ يذكرُ رجلًا سوريًا يتدلّى من وريده محقن، وتعكس عيناه نظرة خواء ليس فيها قرار، وإلى جانبه زوجته. لا تختلف عيناها عن عينيه وهي تحضن طفلها الرضيع ذا التسعة أشهر. لم يكن سرّ تلك النظرة سوى عذاب الضمير الذي اشتغل في صدره بعد أنّ قرر الأب، وهم في غمرة الصراع مع أمواج البحر، إفلات يد ابنه ذي الثلاثة أعوام، والذي كان متمسكًا به، وذلك من أجل إنقاذ طفله الرضيع المتعلّق بصدره وزوجته. اتخذ الأب قرار التضحية بابنه، لأنَّ الغرق كان سيكون المصير المحتوم لأفراد العائلة الأربعة، لو استمرّ الأربعة في خوض البحر، ومعاندة أمواجه في محاولة إنقاذ الجميع. يقول: "فتح يده اليمنى وأطلق سراح ابنه، وشاهده يختفي أمام عينيه تحت أمواج البحر". ولكن وصلت مروحيات الإنقاذ بعد دقائق، فلو تمسَّك بابنه للحظاتٍ، لكان لا يزالُ بينهم!
قانون البحر
يقابل الطبيب عائلاتٍ فلسطينيةً فرّت من الحرب الدامية في سورية. سورية التي اضطر أبناؤها إلى الهرب منها لبدء حياة جديدة. ويقابل أيضًا كثير من اللاجئات المريضات اللاتي يطلبْن منه، وهنّ تحت الفحص بالأشعة فوق الصوتية، طلبًا يكسر قلبه: "إجهاض جنين لم يكن تشكُّله نتيجةً لحب، وإنما لاغتصاب". يقول في ذلك: "أعتقد أن عدد النساء اللاتي يتعرضن للاعتداء الجنسي يتصاعد بشكل مفزع، خاصة وأن كثيرًا منهنّ تلقّيْنَ حقن منع الحمل. وإن لم تكن الواحدة منهن حاملًا، ستصير أكثر ترددًا في الاعتراف بما عانت من وقوعه". يعتنق الطبيب قاعدة غير مكتوبة، ولكنها قناعة تتولّد عند شخصٍ مثله عاش طوال عمره على جزيرة معزولة، إذْ تقول القاعدة: "من غير المقبول، بل ليس من الوارد أصلًا، ترك إنسان آخر تحت رحمة الموج أيًّا كانت هويته". يسمّي الطبيب هذا القانون بـ"قانون البحر" الذي يبجّله الصيادون باحترام بالغ "إلى حدّ أنه بعدما منعت الحكومة الإيطالية انتشال المهاجرين من البحر إلى القوارب، يخالف الصيادون القانون باستمرار، وينتهي بهم الحال دومًا في المحكمة"...
مها عبد الله
13 فبراير 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
كتاب "دموع الملح: قصة طبيب" لبيترو بارتولو وليديا تيلوتا ("منشورات تكوين"، 2020)، هو قصة إنسانية على شكل سيرة شخصيَّة، يرويها رجلٌ استثنائيٌّ عن المهاجرين الذي يقصدون اللجوء لحياة أفضل في مكان أفضل. الكتاب الذي ترجمه عن الإيطالية المصري محمد أ. جمال، يروي على لسان بارتولو أهوال الحروب وصعوبات الفقر المدقع التي تدفع البشر للهروب من مصائر مرعبة.
بطل الكتاب، إذًا، هو بيترو بارتولو، وهو طبيب من جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، إذْ كانت الجزيرة مكان تجمّع للاجئين الذين عقدوا الأمل على حياة خلف البحر فركبوه، حتى لَفَظَهم على شاطئه، ولم يبتلعهم غدرًا، كما غدرت بهم أوطانهم وابتزّهم المهربون. توّلى الطبيب مهمة استقبالهم، كما عمل على تحويل عيادته إلى مكان لمعالجة الحالات الطارئة للاجئين، بغية إسعافهم فور وصولهم، حتى استحق وبجدارة لقب "طبيب المهاجرين".
كي لا تتحوّل الجثث إلى أرقام
سيحصد د. بارتولو الأوسمة والتكريمات والجوائز العالميّة لقاء أعماله الطبيّة والإنسانيّة تجاه اللاجئين، إذْ تمّ ترشيح فيلم "حريق في البحر" (2016)، الذي يتناول الجزيرة وأعمال الطبيب، لأوسكار أفضل فيلم وثائقي عام 2017. يقول بارتولو عن الفيلم: "لم يكن مجرّد وثائقي، كان سرديّة معقّدة ذات وتيرة محسوبة يحكيها صوت هامس له جاذبية وحذق".
"أنتَ لا تعتادُ أبدًا على رؤية أطفال موتى أو نساءٍ لقيْن حتفهنّ أثناء الولادة على مركبٍ يغرق. نساءٌ أطفالهُنَّ الصغار متدليْنَ منهنّ بالحبال السرّية" |
ويستطرد معبّرًا عن شعور الانتصار الذي اعتراه فور إعلان حصول الفيلم على جائزة "الدب الذهبي" في مهرجان برلين السينمائي، قائلًا: "الفيلم رسالة قوية نقية، بلا شوائب وإضافات لا طائل منها، تحطّم كل الأكاذيب التي تحيط بالقضية الحقيقية، وتوقظ الوعي العام، وتفتح عيون الناس".
الكتاب مليء بالصور الإنسانيَّة والمواقف الصعبة التي تواجه أي طبيب عمومًا، والطبيب الذي يعالج اللاجئين بشكل خاص، منها مثلًا قول الطبيب: "أنتَ لا تعتادُ أبدًا على رؤية أطفال موتى، أو نساءٍ لقيْن حتفهنّ أثناء الولادة على مركبٍ يغرق. نساءٌ أطفالهُنَّ الصغار متدليْنَ منهنّ بالحبال السرّية. لا تعتاد أبدًا على مهانة قصّ إصبع، أو أذن، جثة، لتحليل شفرتها الجينية، حتى يصير للضحية اسم وهوية، وكي لا تبقى مجرد رقم". في مقطعٍ آخر، يسرد صعوبات رحلة اللجوء عبر البحر، قائلًا: "في النهاية تصل إلى ليبيا. تحسب أنَّ الكابوس قد انتهى، لكنه في الحقيقة بدأ للتو: معاملة سيئة، سجن، تعذيب. إن استطعت بشكل ما النجاة من كل هذا، ستصعد على متن القارب. حينها فقط، إن لم تمت في البحر الواسع، واستطعت الوصول إلى وجهتك النهائية، في وسعك أن تأمل في حياة ربما تبدأ من جديد".
جروح غير مرئيّة
أقصى ما في يد الطبيب هو معالجة جِراح الجسد، لكنّ جراح الروح لا تسعفها لا وصفة علاج ولا إجراءٌ طبي. يقول بارتولو عن هذه الجروح بأنّها "جروحٌ لا تستطيع رؤيتها"، إذْ يشير إلى شابٍ نيجيريّ خسر حياته العاطفيَّة، بعد أنّ تعرض وخطيبته إلى جريمة على أيدي مجموعة من المجرمين، إذْ قامت مجموعة من الشباب بالتطاول عليه وعلى خطيبته بشكل وحشي، ما دفعه إلى التصدِّي لهم في حمية، ففقد إثر هذا الاشتباك ذكورته عن عمدٍ. يسأل الشاب النيجيري المغدور الطبيب، بعد أنّ قصّ عليه ما حدث معه بكلّ التفاصيل المأساويَّة، إذا ما كان هنالك ثمّة علاجٌ يعيدُ له ما فقده غدرًا، ويعيد له الحياة السعيدة من جديد. يقول بارتولو: "بحثتُ عن الشجاعة التي تمكّنني من إخباره بالحقيقة، وكدتُ لا أجدها! لم يكن هنالك كثير مما يمكن فعله، حتّى الأطراف الصناعية لن تؤدّي سوى إلى تحسين المظهر. لم يكن هنالك أي شيء لدي أقوله لإراحته وتشجيعه. في هذه اللحظة بالذات، شعرتُ بأني بلا فائدة!".
المشكلة في البشر لا في الربّ
وفي حادثة معينة، يتم استقبالُ عشرين طفلًا لاجئًا مصابين بمرض الجرب الجلدي، الأمر الذي يستدعي علاجًا مباشرًا وفوريًا. ولكن، تنجمُ مشكلة بين الطبيب وكاهن الأبرشيّة في الجزيرة، إذْ عارض الأخيرُ توفير مكانٍ ملائمٍ لإسعافهم. هذا الأمر دفع الطبيب لفحصهم في دورات المياه في الجزيرة، ليتصالح الطبيب والكاهن في النهاية، وتتوطّد بينهما علاقة متينة. يستخلصُ الطبيب من هذا الموقف مسألة عقائدية تتأرجحُ بين الاعتقاد بوجود الإله من عدمه، في ظلّ شرور القدم التي لا تنتهي. يقول: "المشكلة ليست في الرب، المشكلة في الإنسان". ويكمل: "كثيرًا ما أتعرَّض للسؤال، إن كان عملي مع اللاجئين قد زعزع إيماني بالرب الذي سمح بحدوث كلّ هذه المعاناة. الرب؟ ليس للرب علاقة بما يحدث. إن كان هنالك من يلام، فهم البشر وليس الرب. البشر هم الجشعون الطماعون الذين يضعون ثقتهم فقط في المال والسلطة.
"من غير المقبول، بل ليس من الوارد أصلًا، ترك إنسان آخر تحت رحمة الموج أيًّا كانت هويته" |
أنا لا أتحدَّثُ عن تجّار البشر، بل عن أولئك الذين يسمحون بحدوث ذلك. أولئك الذين يرغبون في أن يعيش بقيّة العالم في فقرٍ مدقع. أولئك الذين يغذون الصراعات ويدعمونها ويمولونها... المشكلة في البشر وليست في الرب".
الذنب العظيم
وفي حادثة أخرى، يستقبل بارتولو طائرة مروحيّة تابعة لجزيرة مالطة، فيها تسعة لاجئين أحياء تمّ توصيلهم في حالةٍ يُرثَى لها، وهم محقونون في أوردتهم. بدت العيادة في حضورهم "مستشفى ميدانيًا في ساعة حرب". كان أشدهم بؤسًا من نجا وحده دونًا من بقيَّة أفراد عائلته البالغ عددهم آنذاك 22 فردًا. ثمّ يذكرُ رجلًا سوريًا يتدلّى من وريده محقن، وتعكس عيناه نظرة خواء ليس فيها قرار، وإلى جانبه زوجته. لا تختلف عيناها عن عينيه وهي تحضن طفلها الرضيع ذا التسعة أشهر. لم يكن سرّ تلك النظرة سوى عذاب الضمير الذي اشتغل في صدره بعد أنّ قرر الأب، وهم في غمرة الصراع مع أمواج البحر، إفلات يد ابنه ذي الثلاثة أعوام، والذي كان متمسكًا به، وذلك من أجل إنقاذ طفله الرضيع المتعلّق بصدره وزوجته. اتخذ الأب قرار التضحية بابنه، لأنَّ الغرق كان سيكون المصير المحتوم لأفراد العائلة الأربعة، لو استمرّ الأربعة في خوض البحر، ومعاندة أمواجه في محاولة إنقاذ الجميع. يقول: "فتح يده اليمنى وأطلق سراح ابنه، وشاهده يختفي أمام عينيه تحت أمواج البحر". ولكن وصلت مروحيات الإنقاذ بعد دقائق، فلو تمسَّك بابنه للحظاتٍ، لكان لا يزالُ بينهم!
قانون البحر
يقابل الطبيب عائلاتٍ فلسطينيةً فرّت من الحرب الدامية في سورية. سورية التي اضطر أبناؤها إلى الهرب منها لبدء حياة جديدة. ويقابل أيضًا كثير من اللاجئات المريضات اللاتي يطلبْن منه، وهنّ تحت الفحص بالأشعة فوق الصوتية، طلبًا يكسر قلبه: "إجهاض جنين لم يكن تشكُّله نتيجةً لحب، وإنما لاغتصاب". يقول في ذلك: "أعتقد أن عدد النساء اللاتي يتعرضن للاعتداء الجنسي يتصاعد بشكل مفزع، خاصة وأن كثيرًا منهنّ تلقّيْنَ حقن منع الحمل. وإن لم تكن الواحدة منهن حاملًا، ستصير أكثر ترددًا في الاعتراف بما عانت من وقوعه". يعتنق الطبيب قاعدة غير مكتوبة، ولكنها قناعة تتولّد عند شخصٍ مثله عاش طوال عمره على جزيرة معزولة، إذْ تقول القاعدة: "من غير المقبول، بل ليس من الوارد أصلًا، ترك إنسان آخر تحت رحمة الموج أيًّا كانت هويته". يسمّي الطبيب هذا القانون بـ"قانون البحر" الذي يبجّله الصيادون باحترام بالغ "إلى حدّ أنه بعدما منعت الحكومة الإيطالية انتشال المهاجرين من البحر إلى القوارب، يخالف الصيادون القانون باستمرار، وينتهي بهم الحال دومًا في المحكمة"...
- عنوان الكتاب: دموع الملح: قصة طبيب
- المؤلف: بيترو بارتولو وليديا تيلوتا
- المترجم: محمد أ. جمال