التحية عبر العصور وعلاقتها بالمجتمعات
وارد بدر السالم
9 فبراير 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
إنّا مُحبُّوكِ يا سَلمى فَحيّينا وإنْ سقيتِ كرامَ الناسِ فاسقينا
بشامة بن الغدير
***
في الأعياد نقبّل أيادي الأم والأب والجد والخال والعم وكبار السن وشيوخ الدين. ودائمًا يفعل ذلك صغار الناس إلى كبارهم. لكن قد يفعل الكبار هذا مع شيوخ الدين احترامًا وتوقيرًا بل ربما تقديسًا لهم. وكل هذا هو ثقافة اجتماعية سائدة في المجتمعات العالمية شرقًا وغربًا، تنمُّ عن احترام الكبير وتحيته بهذه الطريقة المثالية.
غير أن شعوبًا في العالم لها طرائق متعددة في التحية والاستقبال والتوديع. خضعت لها بشكل موروث، بتأثير خلفيات اجتماعية ودينية على الأرجح، ولم تدخل فيها السياسة إلا في وقت متأخر. فالمصافحة باليد هي الطريقة المتعارف عليها في مختلف دول العالم. لكن التاريخ الشعبي في القارات كلها، يؤدي إلى أنواع من التحيات والمصافحات والترحيب والتقدير، فالاختلاف تاريخي في وجهٍ من وجوهه. لكنّ طقوسه شعبية وفولكلورية، تتشابه ولا تتشابه في هذا المجتمع أو ذاك. حتى في بلادنا العربية لا تتشابه التحيات ولا طرق الترحيب بالضيوف والمعارف. فالتحية أيقونة إشارية تنفذها اليد، تارة، أو الأنف، قبلة الخدين، تصادم الأكتاف. الركوع. تصفيق اليدين. عصر اليد. المعانقة، الانحناء، الجثو، التزمير، التذوق، التنوير، التطبيل، التجنيح، الزغردة، وغيرها من الإجراءات الاعتبارية كسلوك ثقافي قيمي باختلاف الشعوب على الأرض.
هذه العادات متعددة الطرائق واللغات والإيماءات تُنبئ عن ثقافة اجتماعية متوارثة لها علاقة بالمنظومة الجمالية للشعوب، تختلف حسب اختلاف البيئة وفطرة المجتمع كسلوك اجتماعي تواصلي، ولغة صامتة وناطقة في نفس الوقت، تترجم مشاعر تتعلق بالترحيب والتواصل.
التحية عبر العصور
الباحثان السوريان د. عمر الدقاق ود. بشر الدقاق في كتابهما المشترك "التحية عبر العصور: دراسة تاريخية اجتماعية أدبية" والصادر عن الهيئة العامة السورية للكتب، يجملان الكثير من التفاصيل التاريخية واللغوية وعلاقاتها بالمجتمعات من أكثر من زاوية، باعتبارها مفهومًا "مركبًا" متآلف العناصر. يقتصر على الإنسان من دون الحيوان. لهذا توجبت على الباحثين السياحة العامة بين الشعوب ورصد العلاقات الإنسانية فيها عبر التحية السائدة فيها. وهو موضوع ممتع يقرّبنا من الشعوب وعلاقاتها اليومية قديمًا، وكيف كانت تستقبل الآخَر.
في جماعات التبت يحيي أفرادها الفرد الآخر (بإخراج لسانه) وهو تقليد يتبعونه منذ القرن التاسع في عهد الملك التبتي المعروف باسم دراما لانغ الذي كان له لسان أسود. وفي مجاهل الهند تكون التحية (بشد الأذن) وفي جزر الباسفيك (تلاصق الأنفين) وعند بعض قبائل الهند (يقبض أحدهم على لحية الآخر). ومن الممكن أن نخرج قليلًا أو كثيرًا عن مسار الكتاب وأمثلته الاجتماعية، لنجد أن التحية تستمد قيمتها عبر قدرتها النفسية في بناء المنظومة الأخلاقية في المجتمعات، بأحكامها وآدابها وصلتها الروحية في تكوين متن جوهري يربط الأفراد بالمجتمعات ومع بعضهم البعض.
وإذا كانت المصافحة هي التحية المتعارف عليها في أميركا وفرنسا وزامبيا وإسبانيا والهند وتشيلي وروسيا وفنلندا والصين، فإنّ تحية البريطانيين هي لفظية Hello على أن المجتمعات النسوية والذكورية، لا تتشابه في إزجاء التحية للغريب والضيف حتى لبعضها، ففي اليونان يضربون على ظهور بعضهم بخفة، وفي كوريا لا تصافح النساء بعضهن البعض عمومًا. وفي بلجيكا يعد تقبيل خد واحد هو وسيلة التحية الأساسية. وفي الأسكيمو تكون التحية عن طريق ضرب رأس أو كتف الشخص الآخر. وأغرب أنواع التحية عند بعض جزر الفلبين عندما يرفعون قدم من يحيونه إلى وجوههم ويمرغونها بها. على أن الأوروبيين يرفعون القبعات عن رؤوسهم عند التحية، والتصفيق باليدين في زيمبابوي، وشم الخدين بين سكان جزيرة توفالو الواقعة في المحيط الهندي، وبين أهل الخليج العربي تنتشر عادة ملاقاة الأنف بالأنف كتحية اعتبارية. من التحية الفرعونية إلى التحية الجاهلية
تاريخ التحية وصل في برديات فرعونية في "كتاب الموتى" كمجموعة من الأناشيد والتراتيل والأدعية الدينية (تحية لك أنت التي تشرقين في الأفق نهارًا..). ولم يبحث المؤلفان في غير التاريخ المصري في مستهل الكتاب، وتجاوزا مرحلة طويلة للوصول إلى التحية الملكية العربية عبر الشعر الذي ناغى الملوك والأمراء، ولعل النابغة الذبياني هو الشاعر الأبرز في العصر الجاهلي في إزجاء التحية للملوك في قصائده عبر لازمة "أبيت اللعن" التي تتكرر في أشعاره، وهي نوع من التحية السائدة في جاهلية العصر القديم. يشاركه في هذا المنحى من الذين وفدوا على دولة المناذرة المثقف العبدي وعلقمة بن عبده ويزيد الحذاق، هذا على صعيد البلاط الملكي وما فيه من قيم شعرية وفروسية وأيضًا توافقات نفسية واعتبارية. في حين تكون التحية بين العامة والسوقة "عمتم صباحًا - مساءً" وهي لازمة في ذلك العصر وتحية دارجة فيه، فالشاعر الجاهلي (كان حريصًا على اصطناع الرقة واللطف في تحية مخاطبه)
لا شك في أن المؤلفَين بحثا في الشعر الجاهلي طويلًا، كونه عاكسًا لحياة البدو، وهو خير من يمثل ثقافتهم الاجتماعية، لذلك نرى استشهادات واستطرادات من أشعار زهير بن أبي سلمى وامرؤ القيس والنابغة الذبياني ولقيط بن يعمر وجليلة أخت جساس وكتاب (الأغاني)، توثيقًا للحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية القائمة بين الأفراد، لنجد أنواع التحيات في هذا السفْر (تبعًا لاختلاف الأزمنة وتباين الأمكنة). ويورد المؤلفان أشكالًا أخرى من التحيات، ليست لفظية متعارفًا عليها، بل صورية في أغلبها ومنها استخدام الوشم في أطراف الجسد، ودبغ السواعد والأكف بالحنّاء، وتبييض الجدران بسائل الكلس الأبيض، وصب القهوة بفناجين مخصوصة، وصب عصير اللوز في كؤوس فضية نفيسة، والسجود وتقبيل الأرض، وطأطأة الرأس، وميل الجذع إلى الأمام... وكل هذه الأنواع من التحيات اليومية، ابتعدت إلى الأمم والشعوب بتقادم زمنها وبناء حضاراتها، وما تعكسه ثقافاتها الإنسانية من ميْل إلى الارتباطات وبناء العلاقات مع الآخرين و( للتعبير عن منازع الإنسان وتلبية لأحواله النفسية وتطلعاته الحياتية..).
تصافح الوجوه
إنّ (تصافح الوجوه) كما يرى المؤلفان هو من (التحيات المبكرة) كونها (حسية) وهو ما يعني تعانق ميل الرقبتين إلى بعضهما، تعبيرًا عن المودة والتقدير. وهذا النوع من التحيات هو ما جعلهما يعودان إلى كتاب الجاحظ "البيان والتبيين" حيث يورد أنواع التحيات وطرائقها ودلالاتها (الدلالة تكون باللفظ فأما الإشارة فباليد وبالرأس وبالعين وبالحاجب والمنكب..). وفي السياحة المتشعبة بين الشعوب التي تلت المراحل المبكرة من توليد التحية، سنجد الشم هو أحد وسائل التحية المتعارف عليها في قبائل أواسط أفريقيا (وفي بلاد غامبيا يعمد الرجال إلى شم أيدي النساء بدلًا من تقبيلها).
وهذا التنوع في التحيات هو تنوع ثقافي وبيئي، ما جعل المؤلفين يدوران في أكثر من دائرة اجتماعية، فمن العصر الجاهلي إلى العصر الإسلامي، ثم التنوع الجغرافي والزمني، ومن ثم العودة إلى أشعار الأقدمين من الجاهليين والعباسيين، لمواكبة صورة التحيات الاجتماعية، على أن تفترعها تحيات الديار والأطلال والأوطان والعشاق والمحبين والأفلاك والأنواء والوداع والطيف والفراق. وهذا كله تشكيلة وثقها الشعراء من دون غيرهم. فالحسية العالية في طباعهم الشعرية والشخصية، ومحدودية الحياة تجعل من القصيدة الصوت الأبرز في الحياة العامة. ولا شك في أن قبولها بين الملوك والسلاطين والأمراء لكونها الأكثر تأثيرًا في حسية المجتمع، وبراعتها في التصوير الإنساني لمجمل الحياة العربية في صحرائها الشاسعة وبداوتها الأصيلة. وعندما نذكر هذا فإن الكتاب برمته تقريبًا يدور في هذا الحيز الشعري، فالكثير من فقراته مكررة ومتجاذبة معرفيًا وجغرافيا.
نعتقد أن الكتاب خضع لرؤيتين من مؤلفيْن اثنين ظلا يدوران في المحور العربي القديم وقصائده، من دون الإفاضة في جغرافية الشعوب وطقوسها الكثيرة وعلاقاتها ببعضها عبر التحية. مثلما نعتقد أيضًا أن الكتاب بهذه الهيئة هو مكسب معرفي لهذا النوع من الدلالات الاجتماعية الشعبية، يمكن له أن يتوسع كثيرًا بما يشكل موسوعة شاملة عن التحية وأخواتها من المفردات الكثيرة التي تشير إلى هذا النوع من الاتصال بين الآخرين.
هوامش:
وارد بدر السالم
9 فبراير 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
إنّا مُحبُّوكِ يا سَلمى فَحيّينا وإنْ سقيتِ كرامَ الناسِ فاسقينا
بشامة بن الغدير
***
في الأعياد نقبّل أيادي الأم والأب والجد والخال والعم وكبار السن وشيوخ الدين. ودائمًا يفعل ذلك صغار الناس إلى كبارهم. لكن قد يفعل الكبار هذا مع شيوخ الدين احترامًا وتوقيرًا بل ربما تقديسًا لهم. وكل هذا هو ثقافة اجتماعية سائدة في المجتمعات العالمية شرقًا وغربًا، تنمُّ عن احترام الكبير وتحيته بهذه الطريقة المثالية.
غير أن شعوبًا في العالم لها طرائق متعددة في التحية والاستقبال والتوديع. خضعت لها بشكل موروث، بتأثير خلفيات اجتماعية ودينية على الأرجح، ولم تدخل فيها السياسة إلا في وقت متأخر. فالمصافحة باليد هي الطريقة المتعارف عليها في مختلف دول العالم. لكن التاريخ الشعبي في القارات كلها، يؤدي إلى أنواع من التحيات والمصافحات والترحيب والتقدير، فالاختلاف تاريخي في وجهٍ من وجوهه. لكنّ طقوسه شعبية وفولكلورية، تتشابه ولا تتشابه في هذا المجتمع أو ذاك. حتى في بلادنا العربية لا تتشابه التحيات ولا طرق الترحيب بالضيوف والمعارف. فالتحية أيقونة إشارية تنفذها اليد، تارة، أو الأنف، قبلة الخدين، تصادم الأكتاف. الركوع. تصفيق اليدين. عصر اليد. المعانقة، الانحناء، الجثو، التزمير، التذوق، التنوير، التطبيل، التجنيح، الزغردة، وغيرها من الإجراءات الاعتبارية كسلوك ثقافي قيمي باختلاف الشعوب على الأرض.
هذه العادات متعددة الطرائق واللغات والإيماءات تُنبئ عن ثقافة اجتماعية متوارثة لها علاقة بالمنظومة الجمالية للشعوب، تختلف حسب اختلاف البيئة وفطرة المجتمع كسلوك اجتماعي تواصلي، ولغة صامتة وناطقة في نفس الوقت، تترجم مشاعر تتعلق بالترحيب والتواصل.
التحية عبر العصور
الباحثان السوريان د. عمر الدقاق ود. بشر الدقاق في كتابهما المشترك "التحية عبر العصور: دراسة تاريخية اجتماعية أدبية" والصادر عن الهيئة العامة السورية للكتب، يجملان الكثير من التفاصيل التاريخية واللغوية وعلاقاتها بالمجتمعات من أكثر من زاوية، باعتبارها مفهومًا "مركبًا" متآلف العناصر. يقتصر على الإنسان من دون الحيوان. لهذا توجبت على الباحثين السياحة العامة بين الشعوب ورصد العلاقات الإنسانية فيها عبر التحية السائدة فيها. وهو موضوع ممتع يقرّبنا من الشعوب وعلاقاتها اليومية قديمًا، وكيف كانت تستقبل الآخَر.
تاريخ التحية وصل في برديات فرعونية في "كتاب الموتى" كمجموعة من الأناشيد والتراتيل والأدعية الدينية (تحية لك أنت التي تشرقين في الأفق نهارًا...) |
وإذا كانت المصافحة هي التحية المتعارف عليها في أميركا وفرنسا وزامبيا وإسبانيا والهند وتشيلي وروسيا وفنلندا والصين، فإنّ تحية البريطانيين هي لفظية Hello على أن المجتمعات النسوية والذكورية، لا تتشابه في إزجاء التحية للغريب والضيف حتى لبعضها، ففي اليونان يضربون على ظهور بعضهم بخفة، وفي كوريا لا تصافح النساء بعضهن البعض عمومًا. وفي بلجيكا يعد تقبيل خد واحد هو وسيلة التحية الأساسية. وفي الأسكيمو تكون التحية عن طريق ضرب رأس أو كتف الشخص الآخر. وأغرب أنواع التحية عند بعض جزر الفلبين عندما يرفعون قدم من يحيونه إلى وجوههم ويمرغونها بها. على أن الأوروبيين يرفعون القبعات عن رؤوسهم عند التحية، والتصفيق باليدين في زيمبابوي، وشم الخدين بين سكان جزيرة توفالو الواقعة في المحيط الهندي، وبين أهل الخليج العربي تنتشر عادة ملاقاة الأنف بالأنف كتحية اعتبارية. من التحية الفرعونية إلى التحية الجاهلية
تاريخ التحية وصل في برديات فرعونية في "كتاب الموتى" كمجموعة من الأناشيد والتراتيل والأدعية الدينية (تحية لك أنت التي تشرقين في الأفق نهارًا..). ولم يبحث المؤلفان في غير التاريخ المصري في مستهل الكتاب، وتجاوزا مرحلة طويلة للوصول إلى التحية الملكية العربية عبر الشعر الذي ناغى الملوك والأمراء، ولعل النابغة الذبياني هو الشاعر الأبرز في العصر الجاهلي في إزجاء التحية للملوك في قصائده عبر لازمة "أبيت اللعن" التي تتكرر في أشعاره، وهي نوع من التحية السائدة في جاهلية العصر القديم. يشاركه في هذا المنحى من الذين وفدوا على دولة المناذرة المثقف العبدي وعلقمة بن عبده ويزيد الحذاق، هذا على صعيد البلاط الملكي وما فيه من قيم شعرية وفروسية وأيضًا توافقات نفسية واعتبارية. في حين تكون التحية بين العامة والسوقة "عمتم صباحًا - مساءً" وهي لازمة في ذلك العصر وتحية دارجة فيه، فالشاعر الجاهلي (كان حريصًا على اصطناع الرقة واللطف في تحية مخاطبه)
لا شك في أن المؤلفَين بحثا في الشعر الجاهلي طويلًا، كونه عاكسًا لحياة البدو، وهو خير من يمثل ثقافتهم الاجتماعية، لذلك نرى استشهادات واستطرادات من أشعار زهير بن أبي سلمى وامرؤ القيس والنابغة الذبياني ولقيط بن يعمر وجليلة أخت جساس وكتاب (الأغاني)، توثيقًا للحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية القائمة بين الأفراد، لنجد أنواع التحيات في هذا السفْر (تبعًا لاختلاف الأزمنة وتباين الأمكنة). ويورد المؤلفان أشكالًا أخرى من التحيات، ليست لفظية متعارفًا عليها، بل صورية في أغلبها ومنها استخدام الوشم في أطراف الجسد، ودبغ السواعد والأكف بالحنّاء، وتبييض الجدران بسائل الكلس الأبيض، وصب القهوة بفناجين مخصوصة، وصب عصير اللوز في كؤوس فضية نفيسة، والسجود وتقبيل الأرض، وطأطأة الرأس، وميل الجذع إلى الأمام... وكل هذه الأنواع من التحيات اليومية، ابتعدت إلى الأمم والشعوب بتقادم زمنها وبناء حضاراتها، وما تعكسه ثقافاتها الإنسانية من ميْل إلى الارتباطات وبناء العلاقات مع الآخرين و( للتعبير عن منازع الإنسان وتلبية لأحواله النفسية وتطلعاته الحياتية..).
التنوع في التحيات ثقافي وبيئي، ما جعل المؤلفين يدوران في أكثر من دائرة اجتماعية، فمن العصر الجاهلي إلى العصر الإسلامي، ثم التنوع الجغرافي والزمني، ومن ثم العودة إلى أشعار الأقدمين |
إنّ (تصافح الوجوه) كما يرى المؤلفان هو من (التحيات المبكرة) كونها (حسية) وهو ما يعني تعانق ميل الرقبتين إلى بعضهما، تعبيرًا عن المودة والتقدير. وهذا النوع من التحيات هو ما جعلهما يعودان إلى كتاب الجاحظ "البيان والتبيين" حيث يورد أنواع التحيات وطرائقها ودلالاتها (الدلالة تكون باللفظ فأما الإشارة فباليد وبالرأس وبالعين وبالحاجب والمنكب..). وفي السياحة المتشعبة بين الشعوب التي تلت المراحل المبكرة من توليد التحية، سنجد الشم هو أحد وسائل التحية المتعارف عليها في قبائل أواسط أفريقيا (وفي بلاد غامبيا يعمد الرجال إلى شم أيدي النساء بدلًا من تقبيلها).
وهذا التنوع في التحيات هو تنوع ثقافي وبيئي، ما جعل المؤلفين يدوران في أكثر من دائرة اجتماعية، فمن العصر الجاهلي إلى العصر الإسلامي، ثم التنوع الجغرافي والزمني، ومن ثم العودة إلى أشعار الأقدمين من الجاهليين والعباسيين، لمواكبة صورة التحيات الاجتماعية، على أن تفترعها تحيات الديار والأطلال والأوطان والعشاق والمحبين والأفلاك والأنواء والوداع والطيف والفراق. وهذا كله تشكيلة وثقها الشعراء من دون غيرهم. فالحسية العالية في طباعهم الشعرية والشخصية، ومحدودية الحياة تجعل من القصيدة الصوت الأبرز في الحياة العامة. ولا شك في أن قبولها بين الملوك والسلاطين والأمراء لكونها الأكثر تأثيرًا في حسية المجتمع، وبراعتها في التصوير الإنساني لمجمل الحياة العربية في صحرائها الشاسعة وبداوتها الأصيلة. وعندما نذكر هذا فإن الكتاب برمته تقريبًا يدور في هذا الحيز الشعري، فالكثير من فقراته مكررة ومتجاذبة معرفيًا وجغرافيا.
نعتقد أن الكتاب خضع لرؤيتين من مؤلفيْن اثنين ظلا يدوران في المحور العربي القديم وقصائده، من دون الإفاضة في جغرافية الشعوب وطقوسها الكثيرة وعلاقاتها ببعضها عبر التحية. مثلما نعتقد أيضًا أن الكتاب بهذه الهيئة هو مكسب معرفي لهذا النوع من الدلالات الاجتماعية الشعبية، يمكن له أن يتوسع كثيرًا بما يشكل موسوعة شاملة عن التحية وأخواتها من المفردات الكثيرة التي تشير إلى هذا النوع من الاتصال بين الآخرين.
هوامش:
- بشامة بن الغدير: هو بشامة بن عمرو بن هلال بن وائلة بن سهم بن مرة بن عوف الغطفاني، خال الشاعر زهير بن أبي سلمى، وأما "الغدير" فهو لقب أبيه. عُرف برجاحة عقله في قومه.
- "البيان والتبيين": من مؤلفات الجاحظ، حاول فيه وضع أسس علم البيان وفلسفة اللغة.
- عنوان الكتاب: التحية عبر العصور: دراسة تاريخية اجتماعية أدبية
- المؤلف: عمر الدقاق وبشر الدقاق