فارغاس يوسا والأكاديميّة الفرنسيّة: دخول أدبيّ مع ضجيج سياسيّ
بوعلام رمضاني 21 فبراير 2023
هنا/الآن
يوسا وخوان كارلوس في الأكاديمية الفرنسية في باريس(9/2/ 2023/Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
يبدو أن فرنسا ماضية أكثر فأكثر في إطفاء أنوار ثقافتها الإبداعيّة والفكريّة الإنسانيّة، والتي تجاوزت القارّات، قبل أن تقع في مستنقع ظلاميّة ممنهجة قائمة على شوفينيّة يعقوبيّة، أضحت مرادفة للانغلاق والكيل بمكيالين في حلّة ديمقراطيّة.
إنها شوفينيّة غير مسبوقة وُلِدَت من رحم أفول وانتكاس توجهات المتصارعين حول يسار ويمين ذابا في بوتقة تقاطع أيديولوجي قضى على الفرق التاريخي الذي ميّزهما فرنسيًّا على الأقل. فالجزائر ما زالت تدفع ثمن استعمار فرنسي لا يزال أيضًا يتربصّ بها بطرق ناعمة، خلافًا لما يفعلهُ مع جيران لها، إذْ استعمرت بيسار منافق قبل أن يصل اليميني ديغول إلى السلطة.
فرنسا التي أبهرت العالم بأدباءٍ ومفكّرين دخلوا التاريخ بإبداعٍ ما زال يحدث الفارق بمقاربات ومواهب أصحابها بغضّ النظر عن توجهُّهم الأيديولوجي هي فرنسا التي أصبحت في العقود الأخيرة، مثلها مثل معظم الدول الغربية، تختارُ بغباءٍ وحمق من يمثِّلها، ليس بإبداعه حتمًا، كما يبدو ظاهريًّا، بل بمواقفٍ وأفكارٍ يحدّد أصحابها مفاهيم الإرهاب والديمقراطية والعدالة والحريّة والأخوة. ويتمّ ذلك، على مقاس غرب فقَدَ لبَّه وبوصلته، نتيجة تغير موازين القوى، في عالم برزَ فيه شرق كبير وعميق وقوي ليس جغرافيًا واقتصاديًا وبشريًا فقط.
إنه الشرق الكبير والقويّ الذي راح يتحالف مع بعض دول الشرق الصغير والضعيف بروح مكيافيليّة لا تخدمُ حتمًا شعوبه، كما نرى اليوم في ظل موت سوريين تحت أنقاض زلزال تمّ تسييسه، وبمشاركة مثقّفين يحدّدون من هو الإرهابي وغير الإرهابي، وفق ما يرضي الحاكم المستبد.
إهمال صانع مجد الـ"كوليج دو فرانس"
لم يدخل الأكاديميّة الفرنسيّة الراحل أندريه ميكيل (1929 ـ 2022) الذي ساهم في صنع مجد الـ"كوليج دو فرانس"، رمز المجد الفرنكفوني، وأهم مؤسسة تعليميّة وفكريّة فرنسيًّا وأشهرها أوروبيّا وعالميًّا. إذْ طوّر ميكيل واقع المكتبات الفرنسية، ورفع لواء الحضارة العربيّة والإسلاميّة تاريخًا وحضارة وأدبًا بلغتي موليير وسيبويه. ومثّل الثقافة الفرنسية ديبلوماسيًّا قبل أن يُسْجَن في القاهرة.
البيروفي الأصل (نسبة إلى البيرو)، والإسباني الجنسية، ماريو فارغاس يوسا (86 عامًا)، هو الذي دخلها رسميًّا بقوة إعلاميّة لافتة، في التاسع من الشهر الجاري. الملك العجوز، خوان كارلوس، المقيم في الإمارات العربية المتحدة في منفاه الطوعي منذ ثلاثة أعوام، أبى إلا أن يحضر بعكازته رفقة مساعده وابنته كريستينا حفل تنصيب صديقه الذي سيخّلد في قبة الأكاديميّة، رغم أنه لم يكتب حرفًا واحدًا باللغة الفرنسيّة التي يقال إنَّه يجيدُ الحديث بها.
من حق بعضنا التساؤل عن سرّ هذا التخليد غير المبرر، ومن حق بعض آخر عدم التعجُّب في الوقت نفسه. ووحدهم العارفون ببواطن وخلفيات وأبعاد الأمر الثقافي الذي كان دائمًا سياسيًّا منذ فجر التاريخ، اختاروا عدم التفكير لحظة واحدة في قضيَّةٍ لا تستحقّ التعجّب في كلّ الأحوال. في تقديري، الأمر واضح وضوح الشمس ومياه الأنهار والوديان والمحيطات في عز الصيف. ويوسا الذي لم يكتب باللغة الفرنسية هو نفسه الذي عاش سفيرًا، ليس للثقافة الفرنسية فحسب، بل للثقافة الغربيّة بمفهومها الشامل، كموظّف في منابر وكواليس تعتمد توجّهًا سياسيًّا غربّيًا، يريد أن يسيطر على العالم محاربًا، ورافضًا كل من ينافسه، أو ينادي بحياة اجتماعية وسياسية وفلسفية بديلة تقارب الوجود من منظور بديل. خلافًا لذلك، عوقب ميكيل حيًّا وميّتًا بعدم اقتراح اسمه لدخول الأكاديمية الفرنسية، بسبب تمجيده حضارة ولغة وأدب عرب ومسلمين أضحوا إرهابيين في نظر الأغلبية الساحقة من أدباء ومفكري فرنسا اليوم، والذين لا يختلفون في الجوهر عن يوسا الشعبويّ الروح.
إنها الشعبوية الأوروبيّة المركزيّة غير البعيدة عن كيفية تمجيد الصحافي والسياسي الفرنسي، إريك زمور (64 عامًا)، لغرب مزدوج المعايير حينما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان العربي والمسلم، كما قال لي أكثر من مرة جاك فيرجيس (1925 ـ 2013). فيرجيس، لم تتجند لرحيله وسائل الإعلام الفرنسية، شأنه في ذلك شأن أندريه ميكيل. وخلافًا لما قامت به حيال الصحافي والناقد المسرحي فيليب تيسون (1929 ـ 2023)، الذي أنهى حياته يرّوج لإرهاب العرب والمسلمين فقط على طريقة صحيفتي "لوفيغارو"، التي عمل فيها، و"لوكانار أنشيني" الكاريكاتيرية التي طردت الرسام الراحل موريس سينيه (1928 ـ 2016)، بعد رسمه ابن الرئيس ساركوزي.
موهبة عالية وأيديولوجيا يمينيّة
بحضور صديقه الملك الإسباني المغضوب عليه اليوم قضائيًا بسبب تحرش جنسي وفساد سياسي حسب أكثر من منبر صحافي، والذي لم تطأ قدماه باريس منذ عام 2007، راح، الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 2010، والعضو الجديد في الأكاديمية الفرنسية متباهيًا بسيفها، وبزيه الأخضر المزركش، يقرأ خطابًا أكد من خلاله تعلقه بالثقافة الفرنسية، وبتشبعه بها بشكل يعّمق ترويجه لها بمقدار أدبي إبداعي حقيقي وكبير. وبشحنة أيديولوجية أكبر كي تبرر منحه الأريكة رقم 18 خلفًا للمفكر الراحل، ميشال سيريس (1930 ـ 2019).
قال يوسا: "لقد قضيت طفولتي شاهدًا على سيطرة الثقافة الفرنسية في كل أميركا اللاتينية، ومنها وطني البيرو. لقد كانت السيدة المسيطرة. وهذا يعني أن كل المثقفين والفنانين كانوا يعترفون بأنها ثقافة أصيلة ومقنعة، وحتى الناس غير المحسوبين على الثقافة الفكرية الجادة كانوا معجبين بها بدورهم، باعتبار باريس رمزًا لأحلامهم، وعاصمة ثقافية لا تضاهيها عاصمة أخرى في العالم".
صاحب هذه المقدمة اللافتة في خطاب تنصيبه يوم التاسع من الشهر الجاري، وصاحب رواية "المدينة والكلاب"، وروايات أخرى أحدثت إجماعًا في أوساط نقدية متضاربة التوجه أيديولوجيًّا، كما سنرى ذلك لاحقًا، هو الكاتب الذي نشرت أعماله في سلسلة "لابلياد" مترجمة من اللغة الإسبانيّة إلى الفرنسيّة. وانتخِبَ يوسا بأغلبيّة ساحقة لدخول الأكاديمية الفرنسية العريقة في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2022.
لم يكن يوسا الوحيد الذي دخلها من الكتاب الأجانب، وسبقته إليها الراحلة الجزائرية الأصل آسيا جبار (1936 ـ 2015) واستثني منها محمد ديب. والشيء نفسه ينطبق على الروائي الكندي، داني لافيريير. أما صديق الملك خوان كارلوس، كما سبق وأن صرّح معتزًّا بذلك لصحيفة "الباييس"، أشهر الصحف الإسبانيّة، وعضو الأكاديمية البيروفيّة للغة، وعضو الأكاديمية الملكية الإسبانية، فأكّد عشية تنصيبه الرسمي عضوًا في الأكاديمية الفرنسية صحّة الإجماع النقدي الذي حظي به باعتباره أحد كتاب كوكبة أشهر كتاب أميركا اللاتينية الذين تركوا بصماتهم في خريطة الرواية العالمية. مجلة "تيليراما" الثقافيّة اليساريّة المعروفة كتبت "ماريو فارغا يوسا في الأكاديمية الفرنسية: إنجاز أدبي كبير وأفكار مخزية"، معترفة بموهبته الأدبية، ومشيرة في الوقت نفسه إلى مواقفه التي دفعت بسفينته الأيديولوجيّة نحو شاطئ اليمين المتطرف في أميركا اللاتينيّة.
تهليل إعلامي وانقسام ثقافي
كشأن كل الحالات الإبداعية التي تحيلنا على كبار الأدباء والمفكرين الذين أحدثوا نقلة نوعية، بغض النظر عن مدى اتفاق النقاد والصحافيين والقراء مع توجهاتهم الأيديولوجية، استطاع يوسا أن يفرض نفسه على الإعلام الفرنسي والعالمي، من منطلق اعتبار دخوله الأكاديمية الفرنسية حدثًا ثقافيًا وفكريًا لا يمكن تجاهله باسم الموقف الذي يُتّخَذ حياله لسبب سياسي. يوسا الذي دخل المعبد الثقافي الفرنسي الشهير مخترقًا شرط عدم تجاوز سن الخامسة والسبعين لدخوله (عمره 86 سنة)، انتزع اعتراف المجلة اليسارية المعادية له فكريًا ببصمته الأدبيّة الجديدة، تمامًا كما حدث مع صحف ومجلات يمينيّة وقريبة من اليمين المتطرف. المبدع الذي نفى صحة تهم التهرب الضريبي، رغم ظهور اسمه في عز فضيحتي باناما وأوراق باندورا، أيدّ الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو، اليميني المتطرف قبل انهزامه أمام الرئيس اليساري الحالي لولا، وأنطونيو كاست، الزعيم التشيلي الذي عبّر عن حنينه لعهد بينوشيه.
الروائي الشهير الذي قضى شبابه شيوعيًا، ومناهضًا للستالينية، ومناضلًا من أجل الديمقراطية، قبل أن يمهد لتحوله الأيديولوجي رويدًا رويدًا من يمين الوسط إلى اليمين، ثم اليمين المتطرف، لم يسلم من هجوم صحيفة "ليبراسيون" اليسارية الشهيرة، التي نشرت في شهر ديسمبر/ كانون الأوّل من عام 2021 عريضة كتاب وجامعيين نددوا بانتخابه عضوًا في الأكاديمية الفرنسية التي تدافع عن قيم تتعارض نظريًا وعمليًا مع التوجه الحالي للمبدع الذي يحسن التحدث باللغة الفرنسية، ويدافع عنها، لكنه لم يكتب حرفًا واحدًا بها.
مجلة "لوبوا" اليمينية التي يكتب فيها برنار هنري ليفي صفحة أسبوعية، مثل الكاتب الجزائري كمال داوود، هلّلت كما كان منتظرًا لدخول يوسا الأكاديمية الفرنسية تحت عنوان "ماريو فارغاس يوسا: كتاب فرنسا أنقذوني من الستالينية" ناقلة بذلك جوهر الكلمة التي ألقاها في حفل تنصيبه أمام قاعة كلها هيبة ووقار.
خلافًا لذلك، مجلة "الصارخ" اليسارية كتبت عن الموضوع تحت عنوان: "نوبل البذاءة، أو حينما يصل كاتب كبير إلى القاع". وجاء في المجلة على لسان أحد أعضاء الأكاديمية الفرنسية من دون ذكر اسمه: "لقد تم انتخاب ماريشال"، والمجلة نفسها التي تعترف بمستوى فارغاس الروائي، لم تتردد في التذكير بتغريدة جان لوك ميلانشون، زعيم "حزب فرنسا الأبية"، الذي يمثّل يسار اليسار في فرنسا، والمعروف بخطابته الأدبية البديعة، هو المثقف اللافت في الوسط السياسي الفرنسي، والذي قال مفجوعًا: "فرنسا المنحدرة اختارت كاتبًا لا يجيد الكتابة باللغة الفرنسية التي تعمل الأكاديمية على حمايتها وتمجيدها".
من الشيوعية إلى اليمين
ماريو فارغاس يوسا، واسمه الكامل خورخي ماريو بيدرو فارغاس يوسا، اشتهر بهويته الإبداعية الشاملة التي مكنته من شهرة عالمية أسوة بكتاب أميركا اللاتينية. الرجل الذي تألق بروايات متميزة، وبنصوص شعرية، وأبحاث سياسية، وبمسرحيات لافتة، تشهد على موهبته وعلى تحوله الفكري الذي قفز به من الشيوعية إلى اليمين المتطرف، اتخذ من بنى السلطة وصورها الحادة، ومن مقاومة الفرد لها وتمّرده عليها وفشله في مواجهتها، محاور مرجعيّة ومفصليّة أعطت لكتاباته نكهةً خاصةً تحيلنا على متمردين ومبدعين كبيرين هما ألكسندر سولجنتسين، وإسماعيل قدري، وأمثالهما الذين أصبحوا يناهضون الحكم الشيوعي المستبد.
كتحصيل حاصل لتحوله الفكري، عاش فارغاس ملتزمًا سياسيًا مثله مثل رفقاء دربه الأميركيين اللاتينيين الذين رفعوا الرواية إلى أعلى مصاف، ومثل جان بول سارتر، وألبير كامو، اللذين أشاد بهما في خطابه كرمزين لمبدعين فرنسيين أثَّرَا في مساره الإبداعي. بعد خيبة أمله في فيديل كاسترو، كشيوعي ويساري سابق، فشل عام 1990 في تأييد أنصار يمين الوسط في الوصول إلى سدة الحكم في بلده البيرو ببرنامج سياسي ليبرالي. ككل الكتاب الكبار الذين استنطقوا الذاكرة بقوة إبداعية مبكرة، كانت تجربة دراسته في سن الرابعة عشرة في الأكاديمية العسكرية "ليونيكو برادو" في البيرو وراء تحفة رواية "المدينة والكلاب"، التي نال بها جائزة مكتبة بريف والنقد (1962)، قبل أن يوقّع أعمالًا أخرى أكّدت قدرته السرديّة بروح تجديديّة أغنت قائمة كتاب أميركا الجنوبية الطلائعيين الذين أبدعوا باللغة الإسبانية، وأحدثوا قطيعة مع الرواية الأوروبية.
راح فارغاس يثبت بسرعة وجوده المتميز برواية "البيت الأخضر" (1963). وخلافًا لروائيين آخرين، لم يقتصر على الإبداع السردي، وغاص في الكتابة المسرحية والبحث السياسي محافظًا على هويته الأدبية المحورية، ألا وهي الرواية. إنها النوع الأدبي الطاغي الذي سمح له توسيع رقعة شهرته من خلال أعمال لافتة، قبل أن يحصل على جائزة نوبل بخلفية غير إبداعية فقط. وكان فوزه بأشهر الجوائز الأدبية مكافأة سياسية، كما حدث مع ألبير كامو، ومبدعين آخرين، خلافًا لآخرين أبدعوا فعلًا، وما زالوا واقفين في طابور منذ مدة طويلة صابرين كأيوب.
نال يوسا أشهر الجوائز العالمية بعد أن ساهم في الحرب الثقافية والسياسية الباردة كجندي يكافح ضد الطغيان والاستبداد من منظور غربي خالص شاب عليه. ويوسا حارب بما فيه الكفاية بقلم أخَّاذ بعد كفره بالمنظور اليساري الشرقي الذي شاب عليه، وتشهد عليه أعماله الأولى. الخريج من معاطف وليام فولكنر، وغوستاف فلوبير، وأشعيا برلين، والمحسوب على ممثلي رواية الواقعية السحرية، صاحب تحف روائية أخرى تركت معظم النقاد يعترفون بها كإضافات متميزة وشامخة إبداعيًا، ومن بينها "حرب نهاية العالم"، و"حزب الماعز"، و"البيت الأخضر"، و"محادثة في الكاتدرائية"، التي عُدت واحدة من أفضل مئة رواية إسبانية في القرن العشرين، و"بانتاليون والزائرون"، و"العمة جوليا والسكريبوييار".
وكانت أعماله مزيجًا من السيرة الذاتية والتجارب السياسية والعاطفية والشخصية، كما شهدت على ذلك حياته الزوجية المثيرة، وطلاقه من رفيقة درب النجم الغنائي الإسباني العالمي خوليو إيغليسياس بعد زواج دام نصف قرن، وزواجه الأول من إحدى قريباته. المبدع الذي أصبح ممثلًا لنظرية "نهاية العالم" لفرنسيس فوكوياما صار مقتنعًا بانتصار الليبراليّة أيديولوجيًّا. إذْ لم يكن مهرجًا سياسيًا فقط، كما يحلو لبعض معارضيه الأيديولوجيين الذين بقوا أوفياء لليسار بوجه عام. ولم يبرز اسمه في عالم الأدب موزعًا أساسا بين الرواية والقصة والشعر والمسرح فحسب، وطالت موهبته وقدرته الشاملة منذ البداية مجالات مهنية عدة، ولا أدلّ على صحّة ذلك من عمله محررًا صحافيًا وأستاذًا ومدققًا لغويًا وناقدًا سينمائيًا. إذْ ترجمت أعماله إلى حوالي مئة لغة، ونشرت دار "غاليمار" أشهر الدور الفرنسية أعماله التي صدرت لاحقًا في سلسلة الجيب.
اشتهر يوسا أيضًا بفصل مسرحي واقعي لا يعرفه كثيرون، وهو فصل أقرب إلى مفهوم التراجيديا. ما هو وكيف تم، وكيف انتهى دراميًا؟ يوسا الذي اعترف بعظمة رواية "مئة عام من العزلة" للراحل غابرييل غارثيا ماركيز، أصبح صديقًا حميمًا له بعد أن قابله في مطار كاراكاس عام 1967 أثناء رحلة قادتهما إلى المؤتمر الدولي الثالث عشر للأدب الإيبيري الأميركي.
يوسا الذي حصل على جائزة "رومولو غاليغو" عن رواية "البيت الأخضر"، وهي الجائزة نفسها التي حصل عليها ماركيز الكولومبي لاحقًا، بفارق خمسة أعوام عن رواية "مئة عام من العزلة"، رفض التبرع بالمال لمساعدة كاسترو خلافًا لماركيز الذي راح يساهم ماليًا في مساعدة حركة ثوريّة فنزويليّة. وبلغ إعجابه بالصديق المبدع مثله درجة دفعت به إلى تأليف كتاب عنه بعنوان "ماركيز: قصة قاتل للإله".
الجار السابق في برشلونة لم يتردد في توجيه لكمات عنيفة لرفيق درب السردية المتميزة في يوم الثاني عشر من فبراير/ شباط من عام 1976 في بهو سينما في مكسيكو سيتي. وبحسب أكثر من مصدر، لا تزال أسباب هذا الشجار الغريب والأول من نوعه بين روائيين كبيرين غير واضحة. بعضها تفيد بأن الشجار ناتج عن خيانة باتريسيا لزوجها يوسا، بعد ربطها بعلاقة غرامية مع صاحب تحفة "مئة عام من العزلة". مصادر أخرى تفيد أن للشجار علاقة بالخلافات السياسية بين عملاقين روائيين. لم يلتق الاثنان بعد الحادثة التراجيدية مدة 35 عامًا، وحتى غاية وفاة ماركيز. وحسب مصادر أخرى، منع يوسا أي إصدار جديد لكتابه عن ماركيز، ورفض أن يكشف عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ضرب صديقه المبدع. الشيء نفسه، قام به ماركيز، ومات آخذًا معه سيناريو تراجيديا بين اسمين غير عاديين.
بوعلام رمضاني 21 فبراير 2023
هنا/الآن
يوسا وخوان كارلوس في الأكاديمية الفرنسية في باريس(9/2/ 2023/Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
يبدو أن فرنسا ماضية أكثر فأكثر في إطفاء أنوار ثقافتها الإبداعيّة والفكريّة الإنسانيّة، والتي تجاوزت القارّات، قبل أن تقع في مستنقع ظلاميّة ممنهجة قائمة على شوفينيّة يعقوبيّة، أضحت مرادفة للانغلاق والكيل بمكيالين في حلّة ديمقراطيّة.
إنها شوفينيّة غير مسبوقة وُلِدَت من رحم أفول وانتكاس توجهات المتصارعين حول يسار ويمين ذابا في بوتقة تقاطع أيديولوجي قضى على الفرق التاريخي الذي ميّزهما فرنسيًّا على الأقل. فالجزائر ما زالت تدفع ثمن استعمار فرنسي لا يزال أيضًا يتربصّ بها بطرق ناعمة، خلافًا لما يفعلهُ مع جيران لها، إذْ استعمرت بيسار منافق قبل أن يصل اليميني ديغول إلى السلطة.
فرنسا التي أبهرت العالم بأدباءٍ ومفكّرين دخلوا التاريخ بإبداعٍ ما زال يحدث الفارق بمقاربات ومواهب أصحابها بغضّ النظر عن توجهُّهم الأيديولوجي هي فرنسا التي أصبحت في العقود الأخيرة، مثلها مثل معظم الدول الغربية، تختارُ بغباءٍ وحمق من يمثِّلها، ليس بإبداعه حتمًا، كما يبدو ظاهريًّا، بل بمواقفٍ وأفكارٍ يحدّد أصحابها مفاهيم الإرهاب والديمقراطية والعدالة والحريّة والأخوة. ويتمّ ذلك، على مقاس غرب فقَدَ لبَّه وبوصلته، نتيجة تغير موازين القوى، في عالم برزَ فيه شرق كبير وعميق وقوي ليس جغرافيًا واقتصاديًا وبشريًا فقط.
إنه الشرق الكبير والقويّ الذي راح يتحالف مع بعض دول الشرق الصغير والضعيف بروح مكيافيليّة لا تخدمُ حتمًا شعوبه، كما نرى اليوم في ظل موت سوريين تحت أنقاض زلزال تمّ تسييسه، وبمشاركة مثقّفين يحدّدون من هو الإرهابي وغير الإرهابي، وفق ما يرضي الحاكم المستبد.
إهمال صانع مجد الـ"كوليج دو فرانس"
لم يدخل الأكاديميّة الفرنسيّة الراحل أندريه ميكيل (1929 ـ 2022) الذي ساهم في صنع مجد الـ"كوليج دو فرانس"، رمز المجد الفرنكفوني، وأهم مؤسسة تعليميّة وفكريّة فرنسيًّا وأشهرها أوروبيّا وعالميًّا. إذْ طوّر ميكيل واقع المكتبات الفرنسية، ورفع لواء الحضارة العربيّة والإسلاميّة تاريخًا وحضارة وأدبًا بلغتي موليير وسيبويه. ومثّل الثقافة الفرنسية ديبلوماسيًّا قبل أن يُسْجَن في القاهرة.
البيروفي الأصل (نسبة إلى البيرو)، والإسباني الجنسية، ماريو فارغاس يوسا (86 عامًا)، هو الذي دخلها رسميًّا بقوة إعلاميّة لافتة، في التاسع من الشهر الجاري. الملك العجوز، خوان كارلوس، المقيم في الإمارات العربية المتحدة في منفاه الطوعي منذ ثلاثة أعوام، أبى إلا أن يحضر بعكازته رفقة مساعده وابنته كريستينا حفل تنصيب صديقه الذي سيخّلد في قبة الأكاديميّة، رغم أنه لم يكتب حرفًا واحدًا باللغة الفرنسيّة التي يقال إنَّه يجيدُ الحديث بها.
من حق بعضنا التساؤل عن سرّ هذا التخليد غير المبرر، ومن حق بعض آخر عدم التعجُّب في الوقت نفسه. ووحدهم العارفون ببواطن وخلفيات وأبعاد الأمر الثقافي الذي كان دائمًا سياسيًّا منذ فجر التاريخ، اختاروا عدم التفكير لحظة واحدة في قضيَّةٍ لا تستحقّ التعجّب في كلّ الأحوال. في تقديري، الأمر واضح وضوح الشمس ومياه الأنهار والوديان والمحيطات في عز الصيف. ويوسا الذي لم يكتب باللغة الفرنسية هو نفسه الذي عاش سفيرًا، ليس للثقافة الفرنسية فحسب، بل للثقافة الغربيّة بمفهومها الشامل، كموظّف في منابر وكواليس تعتمد توجّهًا سياسيًّا غربّيًا، يريد أن يسيطر على العالم محاربًا، ورافضًا كل من ينافسه، أو ينادي بحياة اجتماعية وسياسية وفلسفية بديلة تقارب الوجود من منظور بديل. خلافًا لذلك، عوقب ميكيل حيًّا وميّتًا بعدم اقتراح اسمه لدخول الأكاديمية الفرنسية، بسبب تمجيده حضارة ولغة وأدب عرب ومسلمين أضحوا إرهابيين في نظر الأغلبية الساحقة من أدباء ومفكري فرنسا اليوم، والذين لا يختلفون في الجوهر عن يوسا الشعبويّ الروح.
"أيدّ يوسا الرئيس البرازيلي السابق، جايير بولسونارو، اليميني المتطرف، وأنطونيو كاست، الزعيم التشيلي الذي عبّر عن حنينه لعهد بينوشيه" |
إنها الشعبوية الأوروبيّة المركزيّة غير البعيدة عن كيفية تمجيد الصحافي والسياسي الفرنسي، إريك زمور (64 عامًا)، لغرب مزدوج المعايير حينما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان العربي والمسلم، كما قال لي أكثر من مرة جاك فيرجيس (1925 ـ 2013). فيرجيس، لم تتجند لرحيله وسائل الإعلام الفرنسية، شأنه في ذلك شأن أندريه ميكيل. وخلافًا لما قامت به حيال الصحافي والناقد المسرحي فيليب تيسون (1929 ـ 2023)، الذي أنهى حياته يرّوج لإرهاب العرب والمسلمين فقط على طريقة صحيفتي "لوفيغارو"، التي عمل فيها، و"لوكانار أنشيني" الكاريكاتيرية التي طردت الرسام الراحل موريس سينيه (1928 ـ 2016)، بعد رسمه ابن الرئيس ساركوزي.
موهبة عالية وأيديولوجيا يمينيّة
بحضور صديقه الملك الإسباني المغضوب عليه اليوم قضائيًا بسبب تحرش جنسي وفساد سياسي حسب أكثر من منبر صحافي، والذي لم تطأ قدماه باريس منذ عام 2007، راح، الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 2010، والعضو الجديد في الأكاديمية الفرنسية متباهيًا بسيفها، وبزيه الأخضر المزركش، يقرأ خطابًا أكد من خلاله تعلقه بالثقافة الفرنسية، وبتشبعه بها بشكل يعّمق ترويجه لها بمقدار أدبي إبداعي حقيقي وكبير. وبشحنة أيديولوجية أكبر كي تبرر منحه الأريكة رقم 18 خلفًا للمفكر الراحل، ميشال سيريس (1930 ـ 2019).
قال يوسا: "لقد قضيت طفولتي شاهدًا على سيطرة الثقافة الفرنسية في كل أميركا اللاتينية، ومنها وطني البيرو. لقد كانت السيدة المسيطرة. وهذا يعني أن كل المثقفين والفنانين كانوا يعترفون بأنها ثقافة أصيلة ومقنعة، وحتى الناس غير المحسوبين على الثقافة الفكرية الجادة كانوا معجبين بها بدورهم، باعتبار باريس رمزًا لأحلامهم، وعاصمة ثقافية لا تضاهيها عاصمة أخرى في العالم".
صاحب هذه المقدمة اللافتة في خطاب تنصيبه يوم التاسع من الشهر الجاري، وصاحب رواية "المدينة والكلاب"، وروايات أخرى أحدثت إجماعًا في أوساط نقدية متضاربة التوجه أيديولوجيًّا، كما سنرى ذلك لاحقًا، هو الكاتب الذي نشرت أعماله في سلسلة "لابلياد" مترجمة من اللغة الإسبانيّة إلى الفرنسيّة. وانتخِبَ يوسا بأغلبيّة ساحقة لدخول الأكاديمية الفرنسية العريقة في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2022.
لم يكن يوسا الوحيد الذي دخلها من الكتاب الأجانب، وسبقته إليها الراحلة الجزائرية الأصل آسيا جبار (1936 ـ 2015) واستثني منها محمد ديب. والشيء نفسه ينطبق على الروائي الكندي، داني لافيريير. أما صديق الملك خوان كارلوس، كما سبق وأن صرّح معتزًّا بذلك لصحيفة "الباييس"، أشهر الصحف الإسبانيّة، وعضو الأكاديمية البيروفيّة للغة، وعضو الأكاديمية الملكية الإسبانية، فأكّد عشية تنصيبه الرسمي عضوًا في الأكاديمية الفرنسية صحّة الإجماع النقدي الذي حظي به باعتباره أحد كتاب كوكبة أشهر كتاب أميركا اللاتينية الذين تركوا بصماتهم في خريطة الرواية العالمية. مجلة "تيليراما" الثقافيّة اليساريّة المعروفة كتبت "ماريو فارغا يوسا في الأكاديمية الفرنسية: إنجاز أدبي كبير وأفكار مخزية"، معترفة بموهبته الأدبية، ومشيرة في الوقت نفسه إلى مواقفه التي دفعت بسفينته الأيديولوجيّة نحو شاطئ اليمين المتطرف في أميركا اللاتينيّة.
تهليل إعلامي وانقسام ثقافي
كشأن كل الحالات الإبداعية التي تحيلنا على كبار الأدباء والمفكرين الذين أحدثوا نقلة نوعية، بغض النظر عن مدى اتفاق النقاد والصحافيين والقراء مع توجهاتهم الأيديولوجية، استطاع يوسا أن يفرض نفسه على الإعلام الفرنسي والعالمي، من منطلق اعتبار دخوله الأكاديمية الفرنسية حدثًا ثقافيًا وفكريًا لا يمكن تجاهله باسم الموقف الذي يُتّخَذ حياله لسبب سياسي. يوسا الذي دخل المعبد الثقافي الفرنسي الشهير مخترقًا شرط عدم تجاوز سن الخامسة والسبعين لدخوله (عمره 86 سنة)، انتزع اعتراف المجلة اليسارية المعادية له فكريًا ببصمته الأدبيّة الجديدة، تمامًا كما حدث مع صحف ومجلات يمينيّة وقريبة من اليمين المتطرف. المبدع الذي نفى صحة تهم التهرب الضريبي، رغم ظهور اسمه في عز فضيحتي باناما وأوراق باندورا، أيدّ الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو، اليميني المتطرف قبل انهزامه أمام الرئيس اليساري الحالي لولا، وأنطونيو كاست، الزعيم التشيلي الذي عبّر عن حنينه لعهد بينوشيه.
الروائي الشهير الذي قضى شبابه شيوعيًا، ومناهضًا للستالينية، ومناضلًا من أجل الديمقراطية، قبل أن يمهد لتحوله الأيديولوجي رويدًا رويدًا من يمين الوسط إلى اليمين، ثم اليمين المتطرف، لم يسلم من هجوم صحيفة "ليبراسيون" اليسارية الشهيرة، التي نشرت في شهر ديسمبر/ كانون الأوّل من عام 2021 عريضة كتاب وجامعيين نددوا بانتخابه عضوًا في الأكاديمية الفرنسية التي تدافع عن قيم تتعارض نظريًا وعمليًا مع التوجه الحالي للمبدع الذي يحسن التحدث باللغة الفرنسية، ويدافع عنها، لكنه لم يكتب حرفًا واحدًا بها.
"كانت أعماله مزيجًا من السيرة الذاتية والتجارب السياسية والعاطفية والشخصية، كما شهدت على ذلك حياته الزوجية المثيرة، وطلاقه من رفيقة دربه بعد زواج دام نصف قرن" |
مجلة "لوبوا" اليمينية التي يكتب فيها برنار هنري ليفي صفحة أسبوعية، مثل الكاتب الجزائري كمال داوود، هلّلت كما كان منتظرًا لدخول يوسا الأكاديمية الفرنسية تحت عنوان "ماريو فارغاس يوسا: كتاب فرنسا أنقذوني من الستالينية" ناقلة بذلك جوهر الكلمة التي ألقاها في حفل تنصيبه أمام قاعة كلها هيبة ووقار.
خلافًا لذلك، مجلة "الصارخ" اليسارية كتبت عن الموضوع تحت عنوان: "نوبل البذاءة، أو حينما يصل كاتب كبير إلى القاع". وجاء في المجلة على لسان أحد أعضاء الأكاديمية الفرنسية من دون ذكر اسمه: "لقد تم انتخاب ماريشال"، والمجلة نفسها التي تعترف بمستوى فارغاس الروائي، لم تتردد في التذكير بتغريدة جان لوك ميلانشون، زعيم "حزب فرنسا الأبية"، الذي يمثّل يسار اليسار في فرنسا، والمعروف بخطابته الأدبية البديعة، هو المثقف اللافت في الوسط السياسي الفرنسي، والذي قال مفجوعًا: "فرنسا المنحدرة اختارت كاتبًا لا يجيد الكتابة باللغة الفرنسية التي تعمل الأكاديمية على حمايتها وتمجيدها".
من الشيوعية إلى اليمين
ماريو فارغاس يوسا، واسمه الكامل خورخي ماريو بيدرو فارغاس يوسا، اشتهر بهويته الإبداعية الشاملة التي مكنته من شهرة عالمية أسوة بكتاب أميركا اللاتينية. الرجل الذي تألق بروايات متميزة، وبنصوص شعرية، وأبحاث سياسية، وبمسرحيات لافتة، تشهد على موهبته وعلى تحوله الفكري الذي قفز به من الشيوعية إلى اليمين المتطرف، اتخذ من بنى السلطة وصورها الحادة، ومن مقاومة الفرد لها وتمّرده عليها وفشله في مواجهتها، محاور مرجعيّة ومفصليّة أعطت لكتاباته نكهةً خاصةً تحيلنا على متمردين ومبدعين كبيرين هما ألكسندر سولجنتسين، وإسماعيل قدري، وأمثالهما الذين أصبحوا يناهضون الحكم الشيوعي المستبد.
كتحصيل حاصل لتحوله الفكري، عاش فارغاس ملتزمًا سياسيًا مثله مثل رفقاء دربه الأميركيين اللاتينيين الذين رفعوا الرواية إلى أعلى مصاف، ومثل جان بول سارتر، وألبير كامو، اللذين أشاد بهما في خطابه كرمزين لمبدعين فرنسيين أثَّرَا في مساره الإبداعي. بعد خيبة أمله في فيديل كاسترو، كشيوعي ويساري سابق، فشل عام 1990 في تأييد أنصار يمين الوسط في الوصول إلى سدة الحكم في بلده البيرو ببرنامج سياسي ليبرالي. ككل الكتاب الكبار الذين استنطقوا الذاكرة بقوة إبداعية مبكرة، كانت تجربة دراسته في سن الرابعة عشرة في الأكاديمية العسكرية "ليونيكو برادو" في البيرو وراء تحفة رواية "المدينة والكلاب"، التي نال بها جائزة مكتبة بريف والنقد (1962)، قبل أن يوقّع أعمالًا أخرى أكّدت قدرته السرديّة بروح تجديديّة أغنت قائمة كتاب أميركا الجنوبية الطلائعيين الذين أبدعوا باللغة الإسبانية، وأحدثوا قطيعة مع الرواية الأوروبية.
راح فارغاس يثبت بسرعة وجوده المتميز برواية "البيت الأخضر" (1963). وخلافًا لروائيين آخرين، لم يقتصر على الإبداع السردي، وغاص في الكتابة المسرحية والبحث السياسي محافظًا على هويته الأدبية المحورية، ألا وهي الرواية. إنها النوع الأدبي الطاغي الذي سمح له توسيع رقعة شهرته من خلال أعمال لافتة، قبل أن يحصل على جائزة نوبل بخلفية غير إبداعية فقط. وكان فوزه بأشهر الجوائز الأدبية مكافأة سياسية، كما حدث مع ألبير كامو، ومبدعين آخرين، خلافًا لآخرين أبدعوا فعلًا، وما زالوا واقفين في طابور منذ مدة طويلة صابرين كأيوب.
نال يوسا أشهر الجوائز العالمية بعد أن ساهم في الحرب الثقافية والسياسية الباردة كجندي يكافح ضد الطغيان والاستبداد من منظور غربي خالص شاب عليه. ويوسا حارب بما فيه الكفاية بقلم أخَّاذ بعد كفره بالمنظور اليساري الشرقي الذي شاب عليه، وتشهد عليه أعماله الأولى. الخريج من معاطف وليام فولكنر، وغوستاف فلوبير، وأشعيا برلين، والمحسوب على ممثلي رواية الواقعية السحرية، صاحب تحف روائية أخرى تركت معظم النقاد يعترفون بها كإضافات متميزة وشامخة إبداعيًا، ومن بينها "حرب نهاية العالم"، و"حزب الماعز"، و"البيت الأخضر"، و"محادثة في الكاتدرائية"، التي عُدت واحدة من أفضل مئة رواية إسبانية في القرن العشرين، و"بانتاليون والزائرون"، و"العمة جوليا والسكريبوييار".
وكانت أعماله مزيجًا من السيرة الذاتية والتجارب السياسية والعاطفية والشخصية، كما شهدت على ذلك حياته الزوجية المثيرة، وطلاقه من رفيقة درب النجم الغنائي الإسباني العالمي خوليو إيغليسياس بعد زواج دام نصف قرن، وزواجه الأول من إحدى قريباته. المبدع الذي أصبح ممثلًا لنظرية "نهاية العالم" لفرنسيس فوكوياما صار مقتنعًا بانتصار الليبراليّة أيديولوجيًّا. إذْ لم يكن مهرجًا سياسيًا فقط، كما يحلو لبعض معارضيه الأيديولوجيين الذين بقوا أوفياء لليسار بوجه عام. ولم يبرز اسمه في عالم الأدب موزعًا أساسا بين الرواية والقصة والشعر والمسرح فحسب، وطالت موهبته وقدرته الشاملة منذ البداية مجالات مهنية عدة، ولا أدلّ على صحّة ذلك من عمله محررًا صحافيًا وأستاذًا ومدققًا لغويًا وناقدًا سينمائيًا. إذْ ترجمت أعماله إلى حوالي مئة لغة، ونشرت دار "غاليمار" أشهر الدور الفرنسية أعماله التي صدرت لاحقًا في سلسلة الجيب.
اشتهر يوسا أيضًا بفصل مسرحي واقعي لا يعرفه كثيرون، وهو فصل أقرب إلى مفهوم التراجيديا. ما هو وكيف تم، وكيف انتهى دراميًا؟ يوسا الذي اعترف بعظمة رواية "مئة عام من العزلة" للراحل غابرييل غارثيا ماركيز، أصبح صديقًا حميمًا له بعد أن قابله في مطار كاراكاس عام 1967 أثناء رحلة قادتهما إلى المؤتمر الدولي الثالث عشر للأدب الإيبيري الأميركي.
يوسا الذي حصل على جائزة "رومولو غاليغو" عن رواية "البيت الأخضر"، وهي الجائزة نفسها التي حصل عليها ماركيز الكولومبي لاحقًا، بفارق خمسة أعوام عن رواية "مئة عام من العزلة"، رفض التبرع بالمال لمساعدة كاسترو خلافًا لماركيز الذي راح يساهم ماليًا في مساعدة حركة ثوريّة فنزويليّة. وبلغ إعجابه بالصديق المبدع مثله درجة دفعت به إلى تأليف كتاب عنه بعنوان "ماركيز: قصة قاتل للإله".
الجار السابق في برشلونة لم يتردد في توجيه لكمات عنيفة لرفيق درب السردية المتميزة في يوم الثاني عشر من فبراير/ شباط من عام 1976 في بهو سينما في مكسيكو سيتي. وبحسب أكثر من مصدر، لا تزال أسباب هذا الشجار الغريب والأول من نوعه بين روائيين كبيرين غير واضحة. بعضها تفيد بأن الشجار ناتج عن خيانة باتريسيا لزوجها يوسا، بعد ربطها بعلاقة غرامية مع صاحب تحفة "مئة عام من العزلة". مصادر أخرى تفيد أن للشجار علاقة بالخلافات السياسية بين عملاقين روائيين. لم يلتق الاثنان بعد الحادثة التراجيدية مدة 35 عامًا، وحتى غاية وفاة ماركيز. وحسب مصادر أخرى، منع يوسا أي إصدار جديد لكتابه عن ماركيز، ورفض أن يكشف عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ضرب صديقه المبدع. الشيء نفسه، قام به ماركيز، ومات آخذًا معه سيناريو تراجيديا بين اسمين غير عاديين.