أندريه ميكيل: سكنه الشغف بتاريخ العرب والمسلمين
بوعلام رمضاني 13 فبراير 2023
هنا/الآن
أندريه ميكيل (1929 ـ 2022)
شارك هذا المقال
حجم الخط
سيبقى أندريه ميكيل، الذي رحل عن عالمنا يوم 27 ديسمبر/ كانون الأول 2022 عن عمرٍ ناهز 93 عامًا، مبدعًا من نوعٍ خاص.
فهذا الكاتب والباحث والأستاذ والإداري السامي، والشاعر والمترجم والروائي، خلَّد الحضارة العربيّة والإسلامية أدبيًّا وعلميًّا حتى آخر نفس من حياته. مبدعٌ لن يمحو ذكره الزمن، حتى وإن لم ينل الاهتمام المطلوب والكافي في وطنه فرنسا التي لم تُسلِّط الضوء عليه كما يجب، رغم حمله شعار الأنوار التي أضاءت على أسماء كثيرةٍ تطعنُ في الحضارة التي خلّدها الراحل، وخاصة في العقود الأخيرة التي أصبحت فيها عرضةً لتشويه غير مسبوق على أيدي مثقفين مزيفين، على حد تعبير باسكال بونيفاس في كتابه الذي تسبّب له في تهميش لا يُحْسَد عليه.
المبدع الذي اهتمَّ باللغة العربية منذ مطلع شبابه، وحتى آخر نفس من حياته، واتخذ منها عشيقةً أبدية، على حد تعبيره لكاتب هذه السطور، أكدّ عبر عشرات الكتب التاريخيّة أن المسلمين والعرب صناع جمال وفكر، وحضارة استثنائية وزينة أدبية، ومن غير اللائق تحويلهم إلى حصان طروادة في سباق أيديولوجي أعرج وأعمى وأصم يريد صناعه فرض نموذجهم الحضاري الوحيد والأوحد، وذلك بطمس نماذج حضارية تختلف عن نماذجهم قلبًا وقالبًا.
العالمية الإنسانية ميّزت إبداع الراحل في فرنسا التي صارت مرتعًا لشعبوية مثقفين وأدباء يعرفون فقط لغة واحدة، ويفكرون في انغلاق حال دون انفتاحهم على الآخر المختلف، الشعبوية التي ناهضها الراحل بروعة وتميز وفرادة. إنها الحقيقة التي يشهد عليها ثلاثي التقتهم "ضفة ثالثة" أشادوا بالراحل، انطلاقًا من عمق تاريخيّ إبداعيّ مذهلٍ بكل المقاييس، ليرفع به إلى أعلى المصاف، وليتباهى به في الدنيا قبل الآخرة.
قبل توجهي إلى المقبرة العائلية المتواجدة في مدينة مونبلييه (مدينة فرنسية تقع جنوب فرنسا) لوضع كتابي الوحيد عنه على قبره ملفوفًا ببلاستيك لن ينال منه المطر، التقيتُ الشاعر والباحث العراقي كاظم جهاد، الذي فتح حاسوبه للفقيد قبل رحيله بقليلٍ ليرى كتابي، والمؤرخ والناشر السوري فاروق مردم بك، الذي يعدُّ أحد سفراء الثقافة العربية في باريس من دون اعتماد رسمي، والشاعرة الجزائريّة لويزة ناظور، التي ترجم لها الفقيد ديوانيها الأخيرين: وهما: "هل يرقد الموج" و"الريشة وعناق الياسمين". فلقد عرف الثلاثة الراحل، واستفادوا من إبداعه، وكتبوا عنه ونشروا أعماله. وها هم يتحدّثون عن ميكيل عبر هذه السطور.
لويزة ناظور:
ميكيل مكسب عظيم للإنسانية
الشاعرة لويزة ناظور التي ترجم لها الفقيد ديوانَيْن من اللغة العربية إلى الفرنسية، تقولُ بألمٍ: "ماذا عساي أقول عن فقيدنا أندريه ميكيل؟ كان منذ بداية مسيرته الإبداعية والفكرية يقتفي أثر فطرته النقية السوية على الآخر، وذلك للتعريف به واكتشاف عوالمه. فعل كل ذلك بنبلٍ غير مسبوق مُتوِّجًا مسيرته الفذة بعشق أبديّ للغتنا العربيّة".
وعبرت لويزة عن ألمها، وعن أثر الفقيد في إغناء اللغة العربية، قائلة: "ماذا عساي أقول ما دمتُ عاجزةً عن الكلام والكتابة عن جليل الحضور والأثر لشخصية استثنائيّة بكلّ المعايير. يقول العرب: (رُبَّ صدفةٍ خيرٌ من ألف ميعاد)، فطوبى لهذه الصدفة الساحرة والشامخة التي أدخلت اللغة العربية في حياة الفقيد العلمية، وهو طالب في أربعينيات القرن الماضي، ليصبح لاحقًا أسيرها السرمدي، كما كان يحلو له أن يقول والابتسامةُ تشرقُ من محياه الملائكي. الحب وحده هو الذي جعله متيمًا بها، فراحت روحه تتبحّر في لغة الضاد، وتعانق ضفاف الشمال والشرق. سحره هذا الأخير، بعد أن رفع الستار عن أسراره العظيمة وثقافته وحضارته العريقة المجهولة بنسبة كبيرة في وطنه الأم، الأمر الذي أعطى كتاباته طابعًا غير مسبوق. كان الراحل عاشقًا حكيمًا ملمًّا بالروافد الثقافية للعالمَيْن العربي والإسلامي، وبالفروق الدقيقة بين الثقافتين الغربية والشرقية، ما خوَّله الإسهام بشكل وثيق في تجسير علاقة لافتة ومذهلة بين الغرب والشرق. لقد كان يشيد بمثال الحضارة الإسلامية في الأندلس كنموذج ناطق بتعايش بين حضارتين، بغض النظر عن الأعراق والمعتقدات والثقافات".
وتشير لويز إلى دور الراحل في الانفتاح على الآخر، وكسر الصور النمطية عنه، بقولها: "كان الراحل دائمًا يحرص على المطالبة بوجوب العودة إلى ثقافة الحوار بحكمته المعهودة والمتفردة، مُؤكّدًا على احترام الرأي الآخر، وعدم نكران وجوده، وتفادي التقوقع الذي يتسبب في تقزز مجتمعات هشة ثقافيًا، وتغذي الأفكار المسبقة المنافية لدور ومفهوم المثقف. ميكيل كان وسيبقى نموذجًا للمثقف الذي عمل على تجسيد الأصالة والمعاصرة بانفتاحه غير المسبوق على الثقافة العربية والإسلامية بشكل سيخلّد اسمه، في تناقضٍ جذريّ وتام مع مقاربيها بذهنية التعالي والعنصرية والهيمنة والسيطرة على الأخر المختلف. وفعل ذلك محافظًا على هويته التي لم تكن شعبوية ومنغلقة، كما هي اليوم عند مثقفين كثر".
تضيف لويزة لـ"ضفة ثالثة" متحدّثة عن دوره المحوريّ في مقاربة الحضارتين العربية والإسلامية، بقولها: "قال ميكيل عن اللغة العربية: (ستبقى عشيقتي الأبدية حتى الموت). العربية قادته إلى الترجمة تكريسًا لحبه لها، وهذا ما شهدتُ عليه قبل عامين وهو يترجم ديوانَيَّ الأخيرين. لم يتحمس فقط لترجمتهما من اللغة العربية إلى الفرنسية، بل راح يصرُّ على كتابة مقدمتيهما بكلمات أكبر مني بكثير".
وعن علاقتها الشخصية معه، تكمل ناظور: "علاقتي مع الراحل ليست ككل العلاقات، وهي هدية من السماء، وسيبقى اليوم الذي وصلتني فيه رسالته المتضمنة رغبته الملحة في ترجمة ديواني، يومًا غير مسبوق في حياتي الشخصية والإبداعية. اغرورقت عيناي بالدموع وأنا في حضرة الرسالة المكتوبة بخط يده، وهي الرسالة التي توجت بتعاون مشترك سأعلقه وسامًا على صدري، وهو الوسام الذي أكد لي أن اللغة العربية هي لغة الإحساس والشاعرية بامتياز. إنها الحقيقة التي ستدفعني أكثر من أي وقت مضى إلى ترجمة قصائدي إلى اللغة الفرنسية، ليدرك القارىء جمالية وثراء وبلاغة وتنوع السياقات الثقافية والفنية لهذه اللغة الساحرة. سأزدادُ عزيمة لكتابة الشعر وروح الراحل تقودني نحو شاطئ إبداعي لم أصل إليه من قبله. ظللتُ أقرأ له، وأتابع حواراته، وألتقي به في الندوات، حيث لم يكن يبخل بالرد على استفسار وطلب النصيحة بتواضع العظماء. لقد كان لي حظ التعرف على ابنته كلود، التي أصبحت صديقة. كلود مشت على درب والدها الذي علمّنا كيف نحب الآخر المختلف، والتواصل معه من دون أفكار مسبقة، وما زالت كلود تتذكّر الأيام التي كانت تفتح فيها باب بيتهم لكي يستقبل والدها الطلبة الأجانب".
كاظم جهاد:
ميكيل جمع بين دقّة التحليل وجمال الكتابة
يؤكّد الشاعر كاظم جهاد بأنّ حياة الراحل شبيهة بسيرة ملحمية مؤلفة من سلسلة لا تنقطع من المبادرات الفعالة والكتابات والترجمات. ويقول لـ"ضفة ثالثة": "حياته صورة مركّبة ومتلاحمة لحضور فكري وأدبي أعرب عنها رجلٌ أحبّ الثقافة العربية في مقتبل شبابه، وتمسَّك بها بوفاء مستديم ومتصاعد ونهائي. أحبَّ ميكيل الثقافة العربية حبّا جمّا، فأعطته أفضل كنوزها، من روائع الشعر العربي القديم، إلى "كليلة ودمنة"، إلى حكايات "ألف ليلة وليلة". أي مستعرب آخر في الغرب يجب أن يفخر بضخامة عطاء كهذا، والذي جاء مشفوعًا بعمق المعالجة ورهافة الأداء؟ وكما أكدت مرارًا، فإن الاحتفاء بالأعمال التاريخية والفكرية والنقدية لأندريه ميكيل، وجلّها يدور حول تاريخ العرب وإبداعهم المتعدد الأشكال، ينبغي ألا ينسينا الشاعر والكاتب في تجربته. في كتاباته، بوصفه مؤرّخًا ومحّللًا للأدب العربي الكلاسيكي، فرض سحر أسلوبه نفسه. كان المستعرب الوحيد الذي جمع في دراساته عمق التفكير، ودقة التحليل، وجمال الكتابة. وقد لا يعلم الجميع بعد، بأنَّ ميكيل قد مضى في حبه للغة العرب إلى حد كتابة قصائد بهذه اللغة. وكان يترجمها بنفسه إلى اللغة الفرنسية، وينشر الصيغ الأصلية والترجمات تحت العنوان الشامل الذي ابتكره لها: (أشعار متجاوبة). بطلب منه، أصدرنا أهم مجموعاته الشعرية تحت هذا العنوان عن (دار الجمل). وهنالك مجموعات آخرى سترى النور عما قريب. برحيل ميكيل، فقدت الثقافة العالمية، والاستعراب الفرنسي بخاصة، آخر الوجوه الكبرى في هذا الميدان. فأنت تجد اليوم مستعربين أفذاذًا يعمل كل واحد منهم على نطاق محدّد، هذه الفترة التاريخية، أو ذاك اللون الأدبي، أما النظرة الآفاقية والتفصيلية والمعمقّة، فوحده ميكيل أدرك سرّها، وعمل فيها حتّى رمقه الأخير. لقد كان أحد أعظم من سكنهم الشغف بتاريخ الآخر" (العرب والمسلمون).
فاروق مردم بك:
كان داعمًا للشعب الفلسطيني
تعود صلة المؤرّخ والناشر، فاروق مردم بك، بالراحل أندريه ميكيل إلى عام 1980، حين وافق على كتابة مقدمة من خمسين صفحة لسلسلة من كتب التراث العربي أعدها مردم بك باللغتين العربية والفرنسية، لصالح دار نشر لبنانية صغيرة شاركَ في تأسيسها. ويقول مردم بك لـ"ضفة ثالثة" حول تطوُّر هذه العلاقة: "في السنة التالية، بعد طباعة هذه السلسلة ومقدمتها، كتب مقالة لمجلة الدراسات الفلسطينية في بيروت، وقررت آنذاك مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت إصدارها باللغة الفرنسية، فبارك مبادرتها، وعبّر عن تضامنه مع قضية الشعب الفلسطيني، وأرسل إليّ نصًا بديعًا عن المقدسي، الجغرافي الفلسطيني، بعنوان (أحسن الأقاليم في معرفة الأقاليم)، نُشِرَ في العدد الثاني من المجلة. وجدّد إثرها دعمه للمجلة بمقالة عنوانها (أسامة بن منقذ: أمير سوري في مواجهة الصليبيين)، نُشِرَت في ربيع 1989. وفي هذه الأثناء، قرأتُ أغلب كتبه ومقالاته وترجماته. وحين عُهِدَت إلي في عام 1995 إدارة (دار سندباد للنشر) بعد وفاة بيار برنار، كان ميكيل عرابها، ومن كتابها الأوائل. أصبحت وقتها أحد ناشري أعماله، وخصوصًا ترجماته الشعرية، مثل "أنطولوجيا شعر الحب عند العرب"، و"ديوان مجنون ليلى"، ومختاراته من قصائد أبي العتاهية وأبي فراس الحمداني وابن زيدون. وبفضل هذا التعاون، أتيحت لي فرصة مكاتبته ومجالسته، فمنحني بدماثته المعهودة ثقته ومودته. لا حاجة لتكرار القول عن موسوعية أندريه ميكيل وغزارة إنتاجه وتنوعه، ولا عن حبه العميق للغة العربية، وجهوده طوال حياته للتعريف بها، ولا عما كان يتمتع به من موهبة أدبية رفيعة تتجلى في كلّ ما كتبه وترجمه في الأخير. أضيف أيضًا بأن ميكيل، الذي ودعناه في نهاية العام الماضي، لا يمكن أن ينساه من عرفوه عن كثب، وأعني مناقبه الشخصية، وأولها إخلاصه للقيم الروحية والإنسانية النبيلة التي نشأ عليها، والتي لازمته حتّى رمقه الأخير".
بوعلام رمضاني 13 فبراير 2023
هنا/الآن
أندريه ميكيل (1929 ـ 2022)
شارك هذا المقال
حجم الخط
سيبقى أندريه ميكيل، الذي رحل عن عالمنا يوم 27 ديسمبر/ كانون الأول 2022 عن عمرٍ ناهز 93 عامًا، مبدعًا من نوعٍ خاص.
فهذا الكاتب والباحث والأستاذ والإداري السامي، والشاعر والمترجم والروائي، خلَّد الحضارة العربيّة والإسلامية أدبيًّا وعلميًّا حتى آخر نفس من حياته. مبدعٌ لن يمحو ذكره الزمن، حتى وإن لم ينل الاهتمام المطلوب والكافي في وطنه فرنسا التي لم تُسلِّط الضوء عليه كما يجب، رغم حمله شعار الأنوار التي أضاءت على أسماء كثيرةٍ تطعنُ في الحضارة التي خلّدها الراحل، وخاصة في العقود الأخيرة التي أصبحت فيها عرضةً لتشويه غير مسبوق على أيدي مثقفين مزيفين، على حد تعبير باسكال بونيفاس في كتابه الذي تسبّب له في تهميش لا يُحْسَد عليه.
المبدع الذي اهتمَّ باللغة العربية منذ مطلع شبابه، وحتى آخر نفس من حياته، واتخذ منها عشيقةً أبدية، على حد تعبيره لكاتب هذه السطور، أكدّ عبر عشرات الكتب التاريخيّة أن المسلمين والعرب صناع جمال وفكر، وحضارة استثنائية وزينة أدبية، ومن غير اللائق تحويلهم إلى حصان طروادة في سباق أيديولوجي أعرج وأعمى وأصم يريد صناعه فرض نموذجهم الحضاري الوحيد والأوحد، وذلك بطمس نماذج حضارية تختلف عن نماذجهم قلبًا وقالبًا.
العالمية الإنسانية ميّزت إبداع الراحل في فرنسا التي صارت مرتعًا لشعبوية مثقفين وأدباء يعرفون فقط لغة واحدة، ويفكرون في انغلاق حال دون انفتاحهم على الآخر المختلف، الشعبوية التي ناهضها الراحل بروعة وتميز وفرادة. إنها الحقيقة التي يشهد عليها ثلاثي التقتهم "ضفة ثالثة" أشادوا بالراحل، انطلاقًا من عمق تاريخيّ إبداعيّ مذهلٍ بكل المقاييس، ليرفع به إلى أعلى المصاف، وليتباهى به في الدنيا قبل الآخرة.
قبل توجهي إلى المقبرة العائلية المتواجدة في مدينة مونبلييه (مدينة فرنسية تقع جنوب فرنسا) لوضع كتابي الوحيد عنه على قبره ملفوفًا ببلاستيك لن ينال منه المطر، التقيتُ الشاعر والباحث العراقي كاظم جهاد، الذي فتح حاسوبه للفقيد قبل رحيله بقليلٍ ليرى كتابي، والمؤرخ والناشر السوري فاروق مردم بك، الذي يعدُّ أحد سفراء الثقافة العربية في باريس من دون اعتماد رسمي، والشاعرة الجزائريّة لويزة ناظور، التي ترجم لها الفقيد ديوانيها الأخيرين: وهما: "هل يرقد الموج" و"الريشة وعناق الياسمين". فلقد عرف الثلاثة الراحل، واستفادوا من إبداعه، وكتبوا عنه ونشروا أعماله. وها هم يتحدّثون عن ميكيل عبر هذه السطور.
لويزة ناظور:
ميكيل مكسب عظيم للإنسانية
الشاعرة لويزة ناظور التي ترجم لها الفقيد ديوانَيْن من اللغة العربية إلى الفرنسية، تقولُ بألمٍ: "ماذا عساي أقول عن فقيدنا أندريه ميكيل؟ كان منذ بداية مسيرته الإبداعية والفكرية يقتفي أثر فطرته النقية السوية على الآخر، وذلك للتعريف به واكتشاف عوالمه. فعل كل ذلك بنبلٍ غير مسبوق مُتوِّجًا مسيرته الفذة بعشق أبديّ للغتنا العربيّة".
وعبرت لويزة عن ألمها، وعن أثر الفقيد في إغناء اللغة العربية، قائلة: "ماذا عساي أقول ما دمتُ عاجزةً عن الكلام والكتابة عن جليل الحضور والأثر لشخصية استثنائيّة بكلّ المعايير. يقول العرب: (رُبَّ صدفةٍ خيرٌ من ألف ميعاد)، فطوبى لهذه الصدفة الساحرة والشامخة التي أدخلت اللغة العربية في حياة الفقيد العلمية، وهو طالب في أربعينيات القرن الماضي، ليصبح لاحقًا أسيرها السرمدي، كما كان يحلو له أن يقول والابتسامةُ تشرقُ من محياه الملائكي. الحب وحده هو الذي جعله متيمًا بها، فراحت روحه تتبحّر في لغة الضاد، وتعانق ضفاف الشمال والشرق. سحره هذا الأخير، بعد أن رفع الستار عن أسراره العظيمة وثقافته وحضارته العريقة المجهولة بنسبة كبيرة في وطنه الأم، الأمر الذي أعطى كتاباته طابعًا غير مسبوق. كان الراحل عاشقًا حكيمًا ملمًّا بالروافد الثقافية للعالمَيْن العربي والإسلامي، وبالفروق الدقيقة بين الثقافتين الغربية والشرقية، ما خوَّله الإسهام بشكل وثيق في تجسير علاقة لافتة ومذهلة بين الغرب والشرق. لقد كان يشيد بمثال الحضارة الإسلامية في الأندلس كنموذج ناطق بتعايش بين حضارتين، بغض النظر عن الأعراق والمعتقدات والثقافات".
"ميكيل كان وسيبقى نموذجًا للمثقف الذي عمل على تجسيد الأصالة والمعاصرة بانفتاحه غير المسبوق على الثقافة العربية والإسلامية" |
وتشير لويز إلى دور الراحل في الانفتاح على الآخر، وكسر الصور النمطية عنه، بقولها: "كان الراحل دائمًا يحرص على المطالبة بوجوب العودة إلى ثقافة الحوار بحكمته المعهودة والمتفردة، مُؤكّدًا على احترام الرأي الآخر، وعدم نكران وجوده، وتفادي التقوقع الذي يتسبب في تقزز مجتمعات هشة ثقافيًا، وتغذي الأفكار المسبقة المنافية لدور ومفهوم المثقف. ميكيل كان وسيبقى نموذجًا للمثقف الذي عمل على تجسيد الأصالة والمعاصرة بانفتاحه غير المسبوق على الثقافة العربية والإسلامية بشكل سيخلّد اسمه، في تناقضٍ جذريّ وتام مع مقاربيها بذهنية التعالي والعنصرية والهيمنة والسيطرة على الأخر المختلف. وفعل ذلك محافظًا على هويته التي لم تكن شعبوية ومنغلقة، كما هي اليوم عند مثقفين كثر".
تضيف لويزة لـ"ضفة ثالثة" متحدّثة عن دوره المحوريّ في مقاربة الحضارتين العربية والإسلامية، بقولها: "قال ميكيل عن اللغة العربية: (ستبقى عشيقتي الأبدية حتى الموت). العربية قادته إلى الترجمة تكريسًا لحبه لها، وهذا ما شهدتُ عليه قبل عامين وهو يترجم ديوانَيَّ الأخيرين. لم يتحمس فقط لترجمتهما من اللغة العربية إلى الفرنسية، بل راح يصرُّ على كتابة مقدمتيهما بكلمات أكبر مني بكثير".
وعن علاقتها الشخصية معه، تكمل ناظور: "علاقتي مع الراحل ليست ككل العلاقات، وهي هدية من السماء، وسيبقى اليوم الذي وصلتني فيه رسالته المتضمنة رغبته الملحة في ترجمة ديواني، يومًا غير مسبوق في حياتي الشخصية والإبداعية. اغرورقت عيناي بالدموع وأنا في حضرة الرسالة المكتوبة بخط يده، وهي الرسالة التي توجت بتعاون مشترك سأعلقه وسامًا على صدري، وهو الوسام الذي أكد لي أن اللغة العربية هي لغة الإحساس والشاعرية بامتياز. إنها الحقيقة التي ستدفعني أكثر من أي وقت مضى إلى ترجمة قصائدي إلى اللغة الفرنسية، ليدرك القارىء جمالية وثراء وبلاغة وتنوع السياقات الثقافية والفنية لهذه اللغة الساحرة. سأزدادُ عزيمة لكتابة الشعر وروح الراحل تقودني نحو شاطئ إبداعي لم أصل إليه من قبله. ظللتُ أقرأ له، وأتابع حواراته، وألتقي به في الندوات، حيث لم يكن يبخل بالرد على استفسار وطلب النصيحة بتواضع العظماء. لقد كان لي حظ التعرف على ابنته كلود، التي أصبحت صديقة. كلود مشت على درب والدها الذي علمّنا كيف نحب الآخر المختلف، والتواصل معه من دون أفكار مسبقة، وما زالت كلود تتذكّر الأيام التي كانت تفتح فيها باب بيتهم لكي يستقبل والدها الطلبة الأجانب".
كاظم جهاد:
ميكيل جمع بين دقّة التحليل وجمال الكتابة
"قد لا يعلم الجميع بعد أنَّ ميكيل قد مضى في حبه للغة العرب إلى حد كتابة قصائدٍ بهذه اللغة" |
يؤكّد الشاعر كاظم جهاد بأنّ حياة الراحل شبيهة بسيرة ملحمية مؤلفة من سلسلة لا تنقطع من المبادرات الفعالة والكتابات والترجمات. ويقول لـ"ضفة ثالثة": "حياته صورة مركّبة ومتلاحمة لحضور فكري وأدبي أعرب عنها رجلٌ أحبّ الثقافة العربية في مقتبل شبابه، وتمسَّك بها بوفاء مستديم ومتصاعد ونهائي. أحبَّ ميكيل الثقافة العربية حبّا جمّا، فأعطته أفضل كنوزها، من روائع الشعر العربي القديم، إلى "كليلة ودمنة"، إلى حكايات "ألف ليلة وليلة". أي مستعرب آخر في الغرب يجب أن يفخر بضخامة عطاء كهذا، والذي جاء مشفوعًا بعمق المعالجة ورهافة الأداء؟ وكما أكدت مرارًا، فإن الاحتفاء بالأعمال التاريخية والفكرية والنقدية لأندريه ميكيل، وجلّها يدور حول تاريخ العرب وإبداعهم المتعدد الأشكال، ينبغي ألا ينسينا الشاعر والكاتب في تجربته. في كتاباته، بوصفه مؤرّخًا ومحّللًا للأدب العربي الكلاسيكي، فرض سحر أسلوبه نفسه. كان المستعرب الوحيد الذي جمع في دراساته عمق التفكير، ودقة التحليل، وجمال الكتابة. وقد لا يعلم الجميع بعد، بأنَّ ميكيل قد مضى في حبه للغة العرب إلى حد كتابة قصائد بهذه اللغة. وكان يترجمها بنفسه إلى اللغة الفرنسية، وينشر الصيغ الأصلية والترجمات تحت العنوان الشامل الذي ابتكره لها: (أشعار متجاوبة). بطلب منه، أصدرنا أهم مجموعاته الشعرية تحت هذا العنوان عن (دار الجمل). وهنالك مجموعات آخرى سترى النور عما قريب. برحيل ميكيل، فقدت الثقافة العالمية، والاستعراب الفرنسي بخاصة، آخر الوجوه الكبرى في هذا الميدان. فأنت تجد اليوم مستعربين أفذاذًا يعمل كل واحد منهم على نطاق محدّد، هذه الفترة التاريخية، أو ذاك اللون الأدبي، أما النظرة الآفاقية والتفصيلية والمعمقّة، فوحده ميكيل أدرك سرّها، وعمل فيها حتّى رمقه الأخير. لقد كان أحد أعظم من سكنهم الشغف بتاريخ الآخر" (العرب والمسلمون).
فاروق مردم بك:
كان داعمًا للشعب الفلسطيني
تعود صلة المؤرّخ والناشر، فاروق مردم بك، بالراحل أندريه ميكيل إلى عام 1980، حين وافق على كتابة مقدمة من خمسين صفحة لسلسلة من كتب التراث العربي أعدها مردم بك باللغتين العربية والفرنسية، لصالح دار نشر لبنانية صغيرة شاركَ في تأسيسها. ويقول مردم بك لـ"ضفة ثالثة" حول تطوُّر هذه العلاقة: "في السنة التالية، بعد طباعة هذه السلسلة ومقدمتها، كتب مقالة لمجلة الدراسات الفلسطينية في بيروت، وقررت آنذاك مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت إصدارها باللغة الفرنسية، فبارك مبادرتها، وعبّر عن تضامنه مع قضية الشعب الفلسطيني، وأرسل إليّ نصًا بديعًا عن المقدسي، الجغرافي الفلسطيني، بعنوان (أحسن الأقاليم في معرفة الأقاليم)، نُشِرَ في العدد الثاني من المجلة. وجدّد إثرها دعمه للمجلة بمقالة عنوانها (أسامة بن منقذ: أمير سوري في مواجهة الصليبيين)، نُشِرَت في ربيع 1989. وفي هذه الأثناء، قرأتُ أغلب كتبه ومقالاته وترجماته. وحين عُهِدَت إلي في عام 1995 إدارة (دار سندباد للنشر) بعد وفاة بيار برنار، كان ميكيل عرابها، ومن كتابها الأوائل. أصبحت وقتها أحد ناشري أعماله، وخصوصًا ترجماته الشعرية، مثل "أنطولوجيا شعر الحب عند العرب"، و"ديوان مجنون ليلى"، ومختاراته من قصائد أبي العتاهية وأبي فراس الحمداني وابن زيدون. وبفضل هذا التعاون، أتيحت لي فرصة مكاتبته ومجالسته، فمنحني بدماثته المعهودة ثقته ومودته. لا حاجة لتكرار القول عن موسوعية أندريه ميكيل وغزارة إنتاجه وتنوعه، ولا عن حبه العميق للغة العربية، وجهوده طوال حياته للتعريف بها، ولا عما كان يتمتع به من موهبة أدبية رفيعة تتجلى في كلّ ما كتبه وترجمه في الأخير. أضيف أيضًا بأن ميكيل، الذي ودعناه في نهاية العام الماضي، لا يمكن أن ينساه من عرفوه عن كثب، وأعني مناقبه الشخصية، وأولها إخلاصه للقيم الروحية والإنسانية النبيلة التي نشأ عليها، والتي لازمته حتّى رمقه الأخير".