بديع صنيج: دمشق مدينة لا يسعها تاريخ واحد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بديع صنيج: دمشق مدينة لا يسعها تاريخ واحد

    بديع صنيج: دمشق مدينة لا يسعها تاريخ واحد
    علاء زريفة 21 فبراير 2023
    حوارات
    بديع صنيج
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    "روحٌ وريحان: نُزهات دمشقية"، هو العنوان الذي يمثل باكورة الأعمال المنشورة للكاتب الصحافي السوري، بديع صنيج، والصادر عن "دار سويد" عام 2022. يجمعُ صنيج في الكتاب مشاهداته على شكل مجموعة من المقالات التي تحمل طابع العمل الصحافي المحترف، والمُقترن بعاطفةٍ متأجّجة بحنينٍ إلى واقع ما قبل الحرب التي تعيشها سورية المنكوبة. يبدو صنيج في الكتاب مشغولًا، كما لو أنّه يحيك "بروكار"دمشق الشهير، بخيوط من السرديَّة الأدبيَّة التي يمتلك صنيج ناصيتها بجدارةٍ والتي يٌقدمها بروح العاشق، و"ذهنية السائح"، كما يقول هو.
    القارئ لهذا الكتاب يشعر وكأنّه يتمشَّى في دمشق، في شوارعها وأحيائها وأزقتها، متلمِّسًا حجارتها العتيقة، ومتنفِّسًا روائح أسواقها وأزهارها، ومتمعِّنًا في وجوه ناسها، من غابوا ومن حضروا، ومستشعرًا دفء الكلمات في حميميَّة السرد، كمن يُسرّ لنفسه بألّا يرضخ إلا لمزاج المحب الذي يبذل لحبيبه كل شيء.
    لا يستكينُ صنيج إلى تنميطٍ، أو صورة انطباعيَّة عن دمشق، فهي المتنوّعة الثريّة، سواء ببعدها التاريخي المسيحيّ، فيحكي لنا حياة أحد أشهر قديسيها: حنانيا، وهو مؤسس أول كنيسة فيها، إلى دير سيدة صيدنايا بمعجزاته ونذوره وأيقوناته، أو مقامات متصوّفيها، وأشهرها مقام ابن عربي. ليقودنا بعيدًا عن هذه وذاك، إلى حيّزها المجنون، مارًّا بشارع شيكاغو، واصفًا إياه بـ"ملتقى الكيف والباحثين عن المغامرة، وإثبات الوجود بطرق مغايرة".
    حول هذا الكتاب، التقت "ضفّة ثالثة" مع صنيج، وأجرت معه الحوار التالي:


    (*) العنوان هو العتبة الأولى لفهم أي نصِّ، فلماذا اخترت عنوان "روح وريحان"؟
    عندما تكون الكتابة عن دمشق بطريقة مُغايرة، فهذا يتطلَّب ألا يكون العنوان تقليديًّا، وهذا ما حاولته منذ كان الكتاب مخطوطًا، بالبحث عما يليق بالنَّص ويصلح لأن أُصدِّرُه به. وبما أن الكتابة كانت عن روح دمشق، وأرواح البشر فيها، لذا كانت البداية بـ"روح"، لأن محاولاتي كانت حثيثة بالتقاطات من العاصمة لا تكتفي بالتوثيق العادي، ولا تهتم فقط برصد تحوُّلات سطحية، بل تخترق الجوهر، وتسعى ما استطاعت لنقل الانطباعات عن الأماكن التي زرتها وتفحَّصتها بتروٍ. لذلك لجأت إلى نوع من الشاعرية في الجزء الثاني من العنوان، وعثرت على "ريحان"، هذه النبتة التي تُحرِّك الذكريات والأشجان بمجرد سماع اسمها. وكي لا يبقى عنواني هائمًا من دون ذكر دمشق التي أعشقها، وضعت عنوانًا فرعيًّا للكتاب هو "نزهات دمشقية"، وبذلك بات "روح وريحان: نزهات دمشقية" يضمُّ جوهر ما أردت قوله تمامًا، بعيدًا عن فذلكات العناوين الرائجة، ومن دون اللجوء إلى العناوين التجاريّة التي تُضخِّم المضمون.


    (*) ما أهمية الكتابة عن دمشق اليوم؟ وماذا تعني لك شخصيًا؟ وهل ما زالت تلك المدينة نفسها بعد سنوات الحرب؟
    أعتقد أن دمشق اليوم في أمسّ الحاجة للكتابة عنها، وإعادة التعريف بها بعد سنوات طويلة من الحرب، خاصةً أن ما أظن أنني نجحت به كان فتح آفاق جديدة لتلك المعرفة، إذ إن هنالك دائمًا معلومات يتضمنها الكتاب لا يعلمها كثيرون، حتى من سكان الأحياء التي تحدثت عنها، وليس لذلك علاقة بالتاريخ فقط، والمراجع التوثيقية التي اعتمدت عليها، وإنما بترصيع تلك المعرفة بالأدب حينًا، وبالمشاهدات الشخصية في أحيان أخرى، وبلقاءات عابرة مع شخصيات جمعتني بهم الصدفة، أو سعيت للقاء بهم. كما أن هنالك محاولة حثيثة للَّعب بالزَّمن، وتثويره لصالح الجذب المعرفي، إن صحّ القول. ففي كل ما كتبت، هنالك إدغام للماضي بالحاضر، ورصد تصويري يقترب أحيانًا من الدرامي، وذلك لنقل "ماضي الأيام الآتية". فدمشق عصيّة على النسيان لكل من عاش فيها، أو مرَّ بها، وهذا ما يجعل من توثيق ذاكرتي عنها ومعرفتي بها مهمة ليست هيِّنة، لكنه مع ذلك يحمل في طيّاته كثيرًا من المتعة، وهو ما حاولت أن أنقله إلى القارئ، تاركًا له مساحةً ليضيف إلى ما كتبته من روحِهِ ومن ذكرياته وقراءاته الأخرى عنها، ومن دون ذلك لا أعد دارة القراءة اكتملت.

    "لدمشق جماليات لا تنتهي، وأيضًا آلام كبيرة، فهي موغلة بكل شيء، والأهم أنها موغلة بكل تفاصيل روحي"


    (*) تجمعُ في كتابك بين بنية النص الصحافي الذي يوازي بين العاطفة الواضحة والتوثيق التاريخي وروح السردية الفاتنة، فأي دمشق تريد أن تصورها للقارئ؟
    لدمشق جماليات لا تنتهي، وأيضًا آلام كبيرة، فهي موغلة بكل شيء، والأهم أنها موغلة بكل تفاصيل روحي. ولذا سعيت ألا تكون ذاكرتي عنها ذاكرة عابرة، بل ذاكرة مُقيمة في العُمق والجوهر، وهذا استدعى لغةً خاصةً تجمع بين التوثيق والسرد والكتابة بالصورة، وأحيانًا اضطرني لاستدعاء روائح المكان وعبقه، كل ذلك لرسم ملامح دقيقة لدمشق، تلك الملامح التي عبرت الأزمان وطرأت عليها بعض التغييرات، لكنها مع ذلك بقيت محافظة على ألقها، وزادها الزمن زخمًا جماليًا. ووفق كل ذلك، لا أدري إن كان كتابي دفاعًا عن دمشق، لكن ما أنا واثق منه، أنه دفاعٌ عن أرواحنا المتخمة بدمشق، ودفاعٌ عن وجودنا الذي يزداد بهاءً فيها، ولأجلها، وأتوقع أنه لو أتيح لي لما تركت شبرًا منها لم أكتب عنه، ولأعدت صياغة دمشق كما يليق بها، فهي عاصمة الأرواح التَّوَّاقة إلى الجمال، وملجأ المقهورين والحزانى، وهي مدينةٌ ساحرة بكل المقاييس، ولا يمضي يوم إلا وتزداد مكانتها في قلبي.


    (*) تظهر دمشق في كتابك كمدينة عابرة للتاريخ والزمن، من أين اكتسبت هذه الميزة في رأيك؟
    لدمشق ميّزة خاصّةً أنها كلما أوغل الزَّمَن فيها، كلما أشرقت أكثر، فالقديم فيها له معنى مغاير، إذ إنه يتشرَّب عبق السنوات، وينثره على العابرين من دون مقابل. لذلك هي مدينة العطاءات المديدة، ووطن مناسب لكل من فقد هويته، ولديها القدرة على الرَّبتِ على كتف المتعبين دائمًا، وكفكفة دمع المتألمين، وهي مدينة مُغرية للعيش فيها، ولإعادة قراءة التاريخ المستوطن في أحجار عماراتها وأسواقها وشوارعها وساحاتها ومعابدها وحاناتها. ولذلك، فإنها مدينة لا يسعها تاريخ واحد، وكل شخص قادر على كتابة تاريخه لها وتاريخه فيها وفق محبته لها، وقدرته على استنطاقها وفك شيفرات الزمن فيها.
يعمل...
X