علي حسين يوسف: ما بعد الحداثة بحثٌ عن الطارئ
علي لفتة سعيد 11 فبراير 2023
حوارات
الدكتور علي حسين يوسف
شارك هذا المقال
حجم الخط
بعد ثمانية كتبٍ ما بين النقد والبحث التاريخي، أصدرها الناقد والأكاديمي العراقي، الدكتور علي حسين يوسف، يأتي كتابه الجديد "ما بعد الحداثة: تمثّلات ومقولات"، ليناقش المنهجية النقدية العالميَّة، واضعًا تصوّراته عن الحداثة ببعديها الفلسفيّ والنقديّ، وكيف يمكن أنْ يلتقيا. إذْ لا يمكن فهم بعديَّة الحراك النقدي العالمي ما لم نفهم الحاضنة الفكرية والفلسفيّة المابعديَّة التي أنتجته.
ويوسف، باحث وأكاديمي عراقي ولد عام 1969، أنهى البكالوريوس في جامعة كربلاء، وحصل على الماجستير عام 2009. في عام 2013، حصل على الدكتوراة في فلسفة اللغة والنقد المعاصر. من إصداراته: "إشكاليات الخطاب النقدي العربي المعاصر"، و"الإمام الحسين بن علي في الشعر العراقي الحديث"، و"إضاءات في النقد الأدبي"، و"دراسات في الأدب واللغة"، و"حينما تتوهّج اللغة: دراسات في الأدب الكربلائي المعاصر"، و"النقد العربي المعاصر: دراسة في المنهج والإجراء"، و"ما بعد الحداثة وتجلياتها النقدية"، و"المصطلح النقدي: الترجمة والتوظيف"، و"مبادئ البنيوية".
عن كتابه الجديد، وجدل الحداثة وما بعدها، التقت "ضفة ثالثة" الدكتور علي حسين يوسف، وأجرت معه الحوار التالي:
(*) ماذا أردتَ أن تناقش في كتابك الجديد؟
كتابي يخوض في ما بعد الحداثة، وخصوصًا في مفاهيمها وتاريخها. أضع الحداثة في مكانها التاريخي، من قبل الحداثة إلى ما بعدها، وهنالك خوضٌ في أفكار فلسفية، وتناولٌ لفلاسفة روّاد. والأهمّ أننا نطرح قضيّة ما بعد الحداثة في إطار نقديّ، من حيث نقد العقلانية الأوروبية ونقد الشمولية ونقد السلطة ونقد الحقيقة ونقد النص، كما نجدها عند نيتشه، وفيتغنشتاين، وهايدغر، ودريدا، وفوكو، وبارت. أوضِّحُ في كتابي مفاهيم ما بعد الحداثة من حيث بنية النصّ، وطرافة التفكيك، عند نقد أركان العمل الأدبي، فالنقد مولِّد للاختلاف. وعند تتبّع مسارات الحداثة النقديّة، سنجد أنّ تاريخ الأدب العالمي لم يخلُ من ملامح تحديثيّة. مثلًا، العتبات التحديثيّة في الأدب يمكن تحديدها عبر رصد الشعريَّة. لذلك، قمنا بإعادة النظر في قراءة الأدب عبر تتبع مسارات الشعرية في التاريخ والمصطلح، وخصوصًا عند اليونانيين والعرب، ووقفنا عند السرديّة وعلم السردية، ثم تطرّقنا لعلاقة الماركسية بالأدب.
(*) كتبَ كثيرون عن الحداثة وما بعدها، حتّى بات الأمر أكثر تشعُّبًا. هل يمكن إيجاز الحداثة لنفهم ماذا تعني ما بعد الحداثة؟
مفهوم الحداثة في الفكر العربي المعاصر يتّسمُ بالضبابية وعدم الوضوح في الرؤية. الحداثة عربيًا تعني ثورة فكرية، أو انقطاعًا عن الماضي من أجل الحاضر، أو انفصامًا عن الحاضر من أجل المستقبل، أو أنَّ أدب الحداثة هو أدب اللاسلطة. يمكن القول إنّ خطاب الحداثة عند النقاد العرب المعاصرين اتسم بالحماسة، رغبةً في التجديد والبحث عن المختلف، مما أدى إلى خلق قناعات ورؤىً في أذهان عديد الأدباء الشباب في السبعينيات والثمانينيات حول الكتابة، والتي تجسّدت في الانهماك في التجريب، إيمانًا بمقولات تفجير اللغة وكسر المألوف. والحداثة في الاصطلاح المعاصر ظهرت لأوّل مرّة في الثقافة الغربية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر مع الثورة الصناعية الأوروبية. وارتكز المفهوم على رؤية فلسفية تنزع إلى تجاوز القديم في كلّ مجالات الحياة، ومحاولة الانتفاع منه.
(*) ربطتَ في كتابكَ الحداثة بالأدب والفلسفة. كيف تنظر إلى الحدود بين النظريتَيْن الأدبيّة والفلسفيّة؟
كانت الحداثة ثورةً ضدّ كل الأفكار الغيبية والميتافيزيقية بعد سنوات طويلة من سيطرة الكنيسة وتفشّي الجهل. لكن يجب أن نعترف، أنه ما من تغيير ثقافي واجتماعي ناجح، ما لم ينبثق من داخل المؤسسة نفسها، والأمر ذاته ينطبق على تحديث الدين. إذْ أنّ مسعاها في التغيير لم يكن هيّنًا، ولم يكن سينجح، لولا ظهور حركات إصلاحيّة من رحم الكنيسة نفسها. لذلك، فقد كان روَّادُ الحداثة في أوّل الأمر رجال دين، مثل الفرنسي جان كالفن، والألماني مارتن لوثر، إذْ قاما بتفنيد مزاعم الكنيسة، ودحض مقولاتها. ومن حسن حظّ تلك الحركة الإصلاحية أنّها تزامنت مع حركةٍ نهضويّة إنسانيّة آمنت بالإنسان بوصفه قيمةً عليا، وبأنّ العقل والتجربة هما مصدرا المعرفة الأساسيان، وظهر ذلك بشكلٍ وضح في اعتداد الإنسان بالعقل، والتمركز حول الذات العرقيّة والقوميّة.
آمن فكر الحداثة بالعقل وبكلّ ما هو عقلي، واستبعد الأوهام والخرافات والغيبيّات، وأعلى من قيمة الإنسان بوصفه سيّد الطبيعة، وجعلت الحداثة الذات الإنسانيّة المحور الذي تدور حوله كلّ الأفكار والفلسفات. الذات أصبحت في نظر الحداثة مركز الإبداع، ومصدر الحريات والقوانين والنظريات، وأصبح الإنسان، حسب هذا التصوُّر، سيّد التطور وقائد العلم. بحسب هذا التصوُّر، ليس هنالك أي مبرّر للرجوع إلى الوراء، بل إنّ الطريق الوحيد هو التقدم، وميدان التقدم هو ميدان الفلسفة والأدب في الوقت ذاته.
(*) ينظر بعضهم إلى ما بعد الحداثة على أنّ لها نظرة كونيّة، لكنك تعدها بذرة محرّمة أوليًا. كيف يمكن الربط بين مفهومي الكونية والتحريم هنا؟
انبثقت أفكار ما بعد الحداثة من الحداثة الأوروبية نفسها، وظهرت أوّلًا في مجال فنّ العمارة، ثمّ امتدّت إلى العلوم والفنون الأخرى، وخاصّة الحداثة الجمالية التي ازدهرت بين أعوام 1910 و1920، عند وولف، وجويس، وإليوت، وبروست، وكافكا، وريلكه. وقد كان من أبرز خصائص هذه الحداثة الجمالية التأكيد على الانطباعية، وذلك بنقل انطباعات الفنان الخاصة، بدلًا من النقل الموضوعي الواقعي للأشياء. أسّست الحداثة الجماليّة النزعة الذاتيّة بالابتعاد عن الموضوعيَّة، وركّزت على الأشكال المتشظّية، والمشاهد المتقطّعة والاعتباطيَّة، وضبابية التمييز بين الأشكال الأدبية والفنية بخلطها ببعضها بعضًا. رفضت الحداثة التقاليد الجمالية السائدة، ومالت إلى الابتكار والتجديد والتلقائيَّة، ورفضت التفرقة بين ثقافة شعبية عامة، وأخرى نخبوية خاصَّة. لذلك، كانت ما بعد الحداثة بذرة محرّمة، لأنها نبّهت إلى مخاطر العقلانية المفرطة.
العقل، بحسب ما بعد الحداثة، يقوم بعملية خلق مستمرة للمفاهيم، كما يرى دولوز، وغوتاري. العقل، إذًا، يقوم بصناعة مستمرة ومتغيّرة، وليس جوهرًا ثابتًا مقدّسًا خُلِقَ في هيئةٍ نهائيّة، بل هو صيرورة. ليس هذا فحسب، بل إن الأمر تجاوز تصوُّر العقل بأنّه ليس كائنًا مستقلًا موجودًا، بل إنّ وجوده يعتمد على وجود اللاعقلي، أي اللامقعول. فالعقل واللاعقل، والمعقول واللامعقول، لا يمكن تصوُّر أحدها في معزلٍ عن الآخر، بل إن وجود أحدهما يتوقّف على وجود الآخر. ومن الضروري التذكير بأنّ هذا لا يعني الدعوة إلى الفوضى، بل إلى ما يمكن تسميته بعقْلَنة اللامعقول، وإدخاله في ساحة المفهوميَّة.
يشير فكر ما بعد الحداثة إلى أنّ ما يكون مستبعدًا ومخفيًا ومستورًا ومرذولًا أو تافهًا في الفكر البشري بصورة عامة، قد يتضمن قيمة أكثر من الظاهر والعلني والمركزي. لذلك، جرى التأكيد على الهامش، بوصفه المعبر الحقيقي عن النشاط الإنساني المكبوت والمنسيّ والمُغيّب، وهذا أصبح تقليدًا ميّز ما بعد الحداثة. ولا شكّ في أن أثر فرويد كان واضحًا في هذه النقطة بالذات.
(*) ما هي تمثُّلات ما بعد الحداثة على صعيد النقد الأدبي؟
السمة النقديَّة تميّز ما بعد الحداثة، وقرأنا لإظهار ذلك مناهج نقديَّة عديدة، تجسّدت مقولاتها في مفاهيم اللسانيات والتحوُّل الشامل والأسلوبيَّة وآليات النقد الأسلوبي المعاصر والبنيويَّة والسيميائيَّة، وكلّها مناهج نقديَّة. تبقى الأصول والمقولات والتفكيكيَّة سؤالًا متجددًا ومنهجًا نقديًا، وخصوصًا قضيّة المعنى بين البنيويّة والتفكيكيَّة، إضافة إلى نظريات القراءة والتلقّي والنقد الثقافي. ثمّة مفاهيمٌ نقديّة ما بعد حداثيّة أصبحت ضاغطةً على الحاسّة النقديَّة، واستعرضنا عددًا منها، كما حصل مع مفهوم "درجة الصفر" في الكتابة، ومفهوم الكتابة عند دريدا، ومفهوم الكرنفاليَّة (ويعني تعدّد الأصوات في النص)، ومفاهيم الحوارية والنص والخطاب.
(*) ضمَّ كتابك قسمًا للدراسات والمناهج والمفاهيم النقدية، كيف ربطت بين هذه المناهج كصدىً لحركة فكرية فلسفية؟
ما بعد الحداثة تمثُّلُ وجهًا من وجوه الحرية الجديدة، إنّها نسفٌ لأسس وأصول ومبادئ كل ما هو مُعطَى وأوّلي وغيبي وماورائي ومتعالي، إذْ تدكُّها من أجل تفكيكها والحفر في طبقاتها وطيّاتها، وذلك لكشف حقيقتها وتعرية اختلافها وإظهار تناقضاتها وتبيان تشتتها. ما بعد الحداثة تُعْنَى بالجزيئات والهامش، بعدما ظهر أنَّ الكليّات تفسّرُ الواقع بالغيب، وبهذا فإنّ تفسير الكليات أدّى إلى الوصول إلى مبادئ وأسس زائفة حاولت ما بعد الحداثة إظهار تهافتها.
(*) ركَّزتَ على أهميّة البعديّة والمابعديّة في النظرية الحداثوية. ما هي الحدود الفاصلة، أو النقطة، التي توضح هاتين المنطقتين؟
من بين أهمّ ما نادت به ما بعد الحداثة، وأضافته إلى الثقافة العالمية المعاصرة، فكرة الموت، مثل: موت الإله، وموت الإنسان، وموت المؤلف، وموت الناقد، وموت الفلسفة، وموت الحداثة؛ وفكرة النهايات، مثل: نهاية التاريخ، ونهاية الحداثة، ونهاية الكتاب، ونهاية الروايَّة. الفكر الغربي أيضًا يشهد ما يسمّى بالمابعديات، مثل: ما بعد الحرب الباردة، وما بعد التاريخ، وما بعد الصناعية، وما بعد الماركسية، وما بعد الواقعية، وما بعد العقلانية، وما بعد السلوكية، وما بعد البنيويَّة، وما بعد الشمولية، وطبعًا ما بعد الحداثة.
أيضًا، تهتم ما بعد الحداثة بفكر التشظّي، الإنسان المتشظّي والثقافة العنكبوتية والعولمة. كل ذلك يأتي ردًا على عجز الثقافة التقليدية في تفسير المتغيُّرات الجذرية التي يشهدها عالمنا المعاصر، وتعبيرًا عن الرغبة بالتحرُّر والولادة من جديد، وفتح المجال لأفكار أكثّر جِدّة، مثل: تعدد المراكز، واختلاط الأجناس الأدبية، ونهاية ثنائية الحقيقة والواقع، والتكاثر المعرفي، والتخارج المعلوماتي، والخطاب التأويلي، والقراءة الضديّة للآخر.
(*) تؤكد على أهمية وجود حاضنة للحراك النقدي العالمي، على أساس أنه من خلال فهمها يمكن التوصل إلى دلالة ما بعد الحداثة، فما هي تدرجات هذه الحاضنة أساسًا؟
ظهرت الملامح في مرحلة الرأسمالية الثالثة، التي اتسمت بتعدد الجنسيات، والاستهلاكية المفرطة التي تؤكّد على قيمة المبيعات والاستهلاك على حساب الإنتاجيَّة. وتعد هذه مرحلة مهمة من مراحل التقدم العلمي الفائق، كالتقدم النووي، والإلكتروني. وقد لاحظ الناقد الأدبي الأميركي، فريدريك جيمسون، هذه النقطة بالذات، حينما أشار إلى القيم العلمية والتكنولوجية التي أسهمت في ظهور ما بعد الحداثة.
(*) بعضهم يرى أن كتابك يحمل جديته وحداثته، وقد يعني هذا تفوق النظرية النقدية العراقية في فهم هذه النقطة. فما هي حدود هذه الجدية؟
الجدية هي أن يفهم المرء الحراك الثقافي المعاصر، بوصفه طريقة للانسجام والتواصل مع الآخر. لذلك نرى أنّ العقل أصبح، وفق رؤية ما بعد الحداثة، مشروعًا للإنتاج وصقل الفهم، والبحث عما هو وراء العقل ذاته. وبهذا، من وجهة نظر ما بعد الحداثة، لم يعد مهمًّا أن نتكلّم عن العقل كجهاز مركزي ثابت، أو نتكلّم عن الإنسان بأنّه عاقل. بل على العكس، كلامٌ من هذا القبيل قد يتضمّن شيئًا من اللامعقول. على الإنسان أن يتخلّص من سيطرة الأفكار المسبقة والجاهزة والقارّة، وأن ينعتق من عبودية الأساطير وأسطرة المفاهيم وعبادتها.
(*) كيف تتعامل ما بعد الحداثة مع النصوص الأدبية؟
فكرة ما بعد الحداثة تقومُ أساسًا على الحفر بحثًا عن الأضداد التي أهمِلَت، بحثًا عن اللاشرعي في قلب الشرعي، وعن اللامعقول في قلب المعقول، وعن الطارئ في قلب الثابت، انطلاقًا من مُسلّمة بأنّه ليس هنالك حقائق ثابتة يمكن أن يعوّل عليها. إذْ ما نعده شرعيًا ومعقولًا وثابتًا ومطلقًا ليس كذلك في حقيقة الأمر. الشرعية والمعقوليّة والثبات هي أمور نسبية في نهاية المطاف.
علي لفتة سعيد 11 فبراير 2023
حوارات
الدكتور علي حسين يوسف
شارك هذا المقال
حجم الخط
بعد ثمانية كتبٍ ما بين النقد والبحث التاريخي، أصدرها الناقد والأكاديمي العراقي، الدكتور علي حسين يوسف، يأتي كتابه الجديد "ما بعد الحداثة: تمثّلات ومقولات"، ليناقش المنهجية النقدية العالميَّة، واضعًا تصوّراته عن الحداثة ببعديها الفلسفيّ والنقديّ، وكيف يمكن أنْ يلتقيا. إذْ لا يمكن فهم بعديَّة الحراك النقدي العالمي ما لم نفهم الحاضنة الفكرية والفلسفيّة المابعديَّة التي أنتجته.
ويوسف، باحث وأكاديمي عراقي ولد عام 1969، أنهى البكالوريوس في جامعة كربلاء، وحصل على الماجستير عام 2009. في عام 2013، حصل على الدكتوراة في فلسفة اللغة والنقد المعاصر. من إصداراته: "إشكاليات الخطاب النقدي العربي المعاصر"، و"الإمام الحسين بن علي في الشعر العراقي الحديث"، و"إضاءات في النقد الأدبي"، و"دراسات في الأدب واللغة"، و"حينما تتوهّج اللغة: دراسات في الأدب الكربلائي المعاصر"، و"النقد العربي المعاصر: دراسة في المنهج والإجراء"، و"ما بعد الحداثة وتجلياتها النقدية"، و"المصطلح النقدي: الترجمة والتوظيف"، و"مبادئ البنيوية".
عن كتابه الجديد، وجدل الحداثة وما بعدها، التقت "ضفة ثالثة" الدكتور علي حسين يوسف، وأجرت معه الحوار التالي:
(*) ماذا أردتَ أن تناقش في كتابك الجديد؟
كتابي يخوض في ما بعد الحداثة، وخصوصًا في مفاهيمها وتاريخها. أضع الحداثة في مكانها التاريخي، من قبل الحداثة إلى ما بعدها، وهنالك خوضٌ في أفكار فلسفية، وتناولٌ لفلاسفة روّاد. والأهمّ أننا نطرح قضيّة ما بعد الحداثة في إطار نقديّ، من حيث نقد العقلانية الأوروبية ونقد الشمولية ونقد السلطة ونقد الحقيقة ونقد النص، كما نجدها عند نيتشه، وفيتغنشتاين، وهايدغر، ودريدا، وفوكو، وبارت. أوضِّحُ في كتابي مفاهيم ما بعد الحداثة من حيث بنية النصّ، وطرافة التفكيك، عند نقد أركان العمل الأدبي، فالنقد مولِّد للاختلاف. وعند تتبّع مسارات الحداثة النقديّة، سنجد أنّ تاريخ الأدب العالمي لم يخلُ من ملامح تحديثيّة. مثلًا، العتبات التحديثيّة في الأدب يمكن تحديدها عبر رصد الشعريَّة. لذلك، قمنا بإعادة النظر في قراءة الأدب عبر تتبع مسارات الشعرية في التاريخ والمصطلح، وخصوصًا عند اليونانيين والعرب، ووقفنا عند السرديّة وعلم السردية، ثم تطرّقنا لعلاقة الماركسية بالأدب.
(*) كتبَ كثيرون عن الحداثة وما بعدها، حتّى بات الأمر أكثر تشعُّبًا. هل يمكن إيجاز الحداثة لنفهم ماذا تعني ما بعد الحداثة؟
مفهوم الحداثة في الفكر العربي المعاصر يتّسمُ بالضبابية وعدم الوضوح في الرؤية. الحداثة عربيًا تعني ثورة فكرية، أو انقطاعًا عن الماضي من أجل الحاضر، أو انفصامًا عن الحاضر من أجل المستقبل، أو أنَّ أدب الحداثة هو أدب اللاسلطة. يمكن القول إنّ خطاب الحداثة عند النقاد العرب المعاصرين اتسم بالحماسة، رغبةً في التجديد والبحث عن المختلف، مما أدى إلى خلق قناعات ورؤىً في أذهان عديد الأدباء الشباب في السبعينيات والثمانينيات حول الكتابة، والتي تجسّدت في الانهماك في التجريب، إيمانًا بمقولات تفجير اللغة وكسر المألوف. والحداثة في الاصطلاح المعاصر ظهرت لأوّل مرّة في الثقافة الغربية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر مع الثورة الصناعية الأوروبية. وارتكز المفهوم على رؤية فلسفية تنزع إلى تجاوز القديم في كلّ مجالات الحياة، ومحاولة الانتفاع منه.
"العقل يقوم بصناعة مستمرة ومتغيّرة، وليس جوهرًا ثابتًا مقدّسًا خُلِقَ في هيئةٍ نهائيّة، بل هو صيرورة" |
(*) ربطتَ في كتابكَ الحداثة بالأدب والفلسفة. كيف تنظر إلى الحدود بين النظريتَيْن الأدبيّة والفلسفيّة؟
كانت الحداثة ثورةً ضدّ كل الأفكار الغيبية والميتافيزيقية بعد سنوات طويلة من سيطرة الكنيسة وتفشّي الجهل. لكن يجب أن نعترف، أنه ما من تغيير ثقافي واجتماعي ناجح، ما لم ينبثق من داخل المؤسسة نفسها، والأمر ذاته ينطبق على تحديث الدين. إذْ أنّ مسعاها في التغيير لم يكن هيّنًا، ولم يكن سينجح، لولا ظهور حركات إصلاحيّة من رحم الكنيسة نفسها. لذلك، فقد كان روَّادُ الحداثة في أوّل الأمر رجال دين، مثل الفرنسي جان كالفن، والألماني مارتن لوثر، إذْ قاما بتفنيد مزاعم الكنيسة، ودحض مقولاتها. ومن حسن حظّ تلك الحركة الإصلاحية أنّها تزامنت مع حركةٍ نهضويّة إنسانيّة آمنت بالإنسان بوصفه قيمةً عليا، وبأنّ العقل والتجربة هما مصدرا المعرفة الأساسيان، وظهر ذلك بشكلٍ وضح في اعتداد الإنسان بالعقل، والتمركز حول الذات العرقيّة والقوميّة.
آمن فكر الحداثة بالعقل وبكلّ ما هو عقلي، واستبعد الأوهام والخرافات والغيبيّات، وأعلى من قيمة الإنسان بوصفه سيّد الطبيعة، وجعلت الحداثة الذات الإنسانيّة المحور الذي تدور حوله كلّ الأفكار والفلسفات. الذات أصبحت في نظر الحداثة مركز الإبداع، ومصدر الحريات والقوانين والنظريات، وأصبح الإنسان، حسب هذا التصوُّر، سيّد التطور وقائد العلم. بحسب هذا التصوُّر، ليس هنالك أي مبرّر للرجوع إلى الوراء، بل إنّ الطريق الوحيد هو التقدم، وميدان التقدم هو ميدان الفلسفة والأدب في الوقت ذاته.
(*) ينظر بعضهم إلى ما بعد الحداثة على أنّ لها نظرة كونيّة، لكنك تعدها بذرة محرّمة أوليًا. كيف يمكن الربط بين مفهومي الكونية والتحريم هنا؟
انبثقت أفكار ما بعد الحداثة من الحداثة الأوروبية نفسها، وظهرت أوّلًا في مجال فنّ العمارة، ثمّ امتدّت إلى العلوم والفنون الأخرى، وخاصّة الحداثة الجمالية التي ازدهرت بين أعوام 1910 و1920، عند وولف، وجويس، وإليوت، وبروست، وكافكا، وريلكه. وقد كان من أبرز خصائص هذه الحداثة الجمالية التأكيد على الانطباعية، وذلك بنقل انطباعات الفنان الخاصة، بدلًا من النقل الموضوعي الواقعي للأشياء. أسّست الحداثة الجماليّة النزعة الذاتيّة بالابتعاد عن الموضوعيَّة، وركّزت على الأشكال المتشظّية، والمشاهد المتقطّعة والاعتباطيَّة، وضبابية التمييز بين الأشكال الأدبية والفنية بخلطها ببعضها بعضًا. رفضت الحداثة التقاليد الجمالية السائدة، ومالت إلى الابتكار والتجديد والتلقائيَّة، ورفضت التفرقة بين ثقافة شعبية عامة، وأخرى نخبوية خاصَّة. لذلك، كانت ما بعد الحداثة بذرة محرّمة، لأنها نبّهت إلى مخاطر العقلانية المفرطة.
"ما يكون مستبعدًا ومخفيًا ومستورًا ومرذولًا أو تافهًا في الفكر البشري قد يتضمن قيمة أكثر من الظاهر والعلني والمركزي" |
العقل، بحسب ما بعد الحداثة، يقوم بعملية خلق مستمرة للمفاهيم، كما يرى دولوز، وغوتاري. العقل، إذًا، يقوم بصناعة مستمرة ومتغيّرة، وليس جوهرًا ثابتًا مقدّسًا خُلِقَ في هيئةٍ نهائيّة، بل هو صيرورة. ليس هذا فحسب، بل إن الأمر تجاوز تصوُّر العقل بأنّه ليس كائنًا مستقلًا موجودًا، بل إنّ وجوده يعتمد على وجود اللاعقلي، أي اللامقعول. فالعقل واللاعقل، والمعقول واللامعقول، لا يمكن تصوُّر أحدها في معزلٍ عن الآخر، بل إن وجود أحدهما يتوقّف على وجود الآخر. ومن الضروري التذكير بأنّ هذا لا يعني الدعوة إلى الفوضى، بل إلى ما يمكن تسميته بعقْلَنة اللامعقول، وإدخاله في ساحة المفهوميَّة.
يشير فكر ما بعد الحداثة إلى أنّ ما يكون مستبعدًا ومخفيًا ومستورًا ومرذولًا أو تافهًا في الفكر البشري بصورة عامة، قد يتضمن قيمة أكثر من الظاهر والعلني والمركزي. لذلك، جرى التأكيد على الهامش، بوصفه المعبر الحقيقي عن النشاط الإنساني المكبوت والمنسيّ والمُغيّب، وهذا أصبح تقليدًا ميّز ما بعد الحداثة. ولا شكّ في أن أثر فرويد كان واضحًا في هذه النقطة بالذات.
(*) ما هي تمثُّلات ما بعد الحداثة على صعيد النقد الأدبي؟
السمة النقديَّة تميّز ما بعد الحداثة، وقرأنا لإظهار ذلك مناهج نقديَّة عديدة، تجسّدت مقولاتها في مفاهيم اللسانيات والتحوُّل الشامل والأسلوبيَّة وآليات النقد الأسلوبي المعاصر والبنيويَّة والسيميائيَّة، وكلّها مناهج نقديَّة. تبقى الأصول والمقولات والتفكيكيَّة سؤالًا متجددًا ومنهجًا نقديًا، وخصوصًا قضيّة المعنى بين البنيويّة والتفكيكيَّة، إضافة إلى نظريات القراءة والتلقّي والنقد الثقافي. ثمّة مفاهيمٌ نقديّة ما بعد حداثيّة أصبحت ضاغطةً على الحاسّة النقديَّة، واستعرضنا عددًا منها، كما حصل مع مفهوم "درجة الصفر" في الكتابة، ومفهوم الكتابة عند دريدا، ومفهوم الكرنفاليَّة (ويعني تعدّد الأصوات في النص)، ومفاهيم الحوارية والنص والخطاب.
(*) ضمَّ كتابك قسمًا للدراسات والمناهج والمفاهيم النقدية، كيف ربطت بين هذه المناهج كصدىً لحركة فكرية فلسفية؟
ما بعد الحداثة تمثُّلُ وجهًا من وجوه الحرية الجديدة، إنّها نسفٌ لأسس وأصول ومبادئ كل ما هو مُعطَى وأوّلي وغيبي وماورائي ومتعالي، إذْ تدكُّها من أجل تفكيكها والحفر في طبقاتها وطيّاتها، وذلك لكشف حقيقتها وتعرية اختلافها وإظهار تناقضاتها وتبيان تشتتها. ما بعد الحداثة تُعْنَى بالجزيئات والهامش، بعدما ظهر أنَّ الكليّات تفسّرُ الواقع بالغيب، وبهذا فإنّ تفسير الكليات أدّى إلى الوصول إلى مبادئ وأسس زائفة حاولت ما بعد الحداثة إظهار تهافتها.
(*) ركَّزتَ على أهميّة البعديّة والمابعديّة في النظرية الحداثوية. ما هي الحدود الفاصلة، أو النقطة، التي توضح هاتين المنطقتين؟
من بين أهمّ ما نادت به ما بعد الحداثة، وأضافته إلى الثقافة العالمية المعاصرة، فكرة الموت، مثل: موت الإله، وموت الإنسان، وموت المؤلف، وموت الناقد، وموت الفلسفة، وموت الحداثة؛ وفكرة النهايات، مثل: نهاية التاريخ، ونهاية الحداثة، ونهاية الكتاب، ونهاية الروايَّة. الفكر الغربي أيضًا يشهد ما يسمّى بالمابعديات، مثل: ما بعد الحرب الباردة، وما بعد التاريخ، وما بعد الصناعية، وما بعد الماركسية، وما بعد الواقعية، وما بعد العقلانية، وما بعد السلوكية، وما بعد البنيويَّة، وما بعد الشمولية، وطبعًا ما بعد الحداثة.
"كانت الحداثة ثورةً ضدّ كل الأفكار الغيبية والميتافيزيقية بعد سنوات طويلة من سيطرة الكنيسة وتفشّي الجهل" |
أيضًا، تهتم ما بعد الحداثة بفكر التشظّي، الإنسان المتشظّي والثقافة العنكبوتية والعولمة. كل ذلك يأتي ردًا على عجز الثقافة التقليدية في تفسير المتغيُّرات الجذرية التي يشهدها عالمنا المعاصر، وتعبيرًا عن الرغبة بالتحرُّر والولادة من جديد، وفتح المجال لأفكار أكثّر جِدّة، مثل: تعدد المراكز، واختلاط الأجناس الأدبية، ونهاية ثنائية الحقيقة والواقع، والتكاثر المعرفي، والتخارج المعلوماتي، والخطاب التأويلي، والقراءة الضديّة للآخر.
(*) تؤكد على أهمية وجود حاضنة للحراك النقدي العالمي، على أساس أنه من خلال فهمها يمكن التوصل إلى دلالة ما بعد الحداثة، فما هي تدرجات هذه الحاضنة أساسًا؟
ظهرت الملامح في مرحلة الرأسمالية الثالثة، التي اتسمت بتعدد الجنسيات، والاستهلاكية المفرطة التي تؤكّد على قيمة المبيعات والاستهلاك على حساب الإنتاجيَّة. وتعد هذه مرحلة مهمة من مراحل التقدم العلمي الفائق، كالتقدم النووي، والإلكتروني. وقد لاحظ الناقد الأدبي الأميركي، فريدريك جيمسون، هذه النقطة بالذات، حينما أشار إلى القيم العلمية والتكنولوجية التي أسهمت في ظهور ما بعد الحداثة.
(*) بعضهم يرى أن كتابك يحمل جديته وحداثته، وقد يعني هذا تفوق النظرية النقدية العراقية في فهم هذه النقطة. فما هي حدود هذه الجدية؟
الجدية هي أن يفهم المرء الحراك الثقافي المعاصر، بوصفه طريقة للانسجام والتواصل مع الآخر. لذلك نرى أنّ العقل أصبح، وفق رؤية ما بعد الحداثة، مشروعًا للإنتاج وصقل الفهم، والبحث عما هو وراء العقل ذاته. وبهذا، من وجهة نظر ما بعد الحداثة، لم يعد مهمًّا أن نتكلّم عن العقل كجهاز مركزي ثابت، أو نتكلّم عن الإنسان بأنّه عاقل. بل على العكس، كلامٌ من هذا القبيل قد يتضمّن شيئًا من اللامعقول. على الإنسان أن يتخلّص من سيطرة الأفكار المسبقة والجاهزة والقارّة، وأن ينعتق من عبودية الأساطير وأسطرة المفاهيم وعبادتها.
(*) كيف تتعامل ما بعد الحداثة مع النصوص الأدبية؟
فكرة ما بعد الحداثة تقومُ أساسًا على الحفر بحثًا عن الأضداد التي أهمِلَت، بحثًا عن اللاشرعي في قلب الشرعي، وعن اللامعقول في قلب المعقول، وعن الطارئ في قلب الثابت، انطلاقًا من مُسلّمة بأنّه ليس هنالك حقائق ثابتة يمكن أن يعوّل عليها. إذْ ما نعده شرعيًا ومعقولًا وثابتًا ومطلقًا ليس كذلك في حقيقة الأمر. الشرعية والمعقوليّة والثبات هي أمور نسبية في نهاية المطاف.