هبة القواس: قادرون أن ننتج اقتصادًا معرفيًا عبر الموسيقى
دارين حوماني 1 فبراير 2023
حوارات
شارك هذا المقال
حجم الخط
قبل أشهر قليلة تسلمت السوبرانو اللبنانية هبة القواس مهمات إدارة "المعهد الوطني اللبناني للموسيقى" (الكونسرفتوار)، كانت لديها أحلام موسيقية صارت عندها مهمات وطنية. مشاريع كثيرة على طاولتها، تحلم بريبرتوار أوبرالي لمنطقتنا العربية وبيان موسيقي عربي جامع يصل للعالمية. منذ التسعينيات بدأت تحقق أحلامها الموسيقية بأوبرا عربية اندفعت معها حواسنا كلها، نقلتنا من عالم إلى عالم، أحضرت الغرب إلينا وأخذت الشرق إلى خارج الحدود على طريقة ألف ليلة وليلة وابن عربي والحلاج في عملية تمازج متفرّد، أسلوب موسيقي ينتمي إلى اتساع الكون يبدأ من الداخل ويسافر برحلات لانهائية. أوبرا تم إنتاجها مقطّرة بذلك الإبداع الصافي. هبة القواس الحائزة على ماجستير في الغناء الأوبرالي وماجستير في التأليف الموسيقي وإجازة في علم النفس العيادي، وقفت على أهم الصروح العالمية ونالت العديد من الجوائز منها "أفضل موسيقي معاصر" في مهرجان كراكوف للتأليف الموسيقي المعاصر، و"وسام السلطان قابوس الذهبي". وهي التي يترك حضورها عتبات ضوئية كيفما تخطو. معها كان لنا هذا الحوار.
(*) بالعودة إلى طفولة هبة القواس في صيدا، تلك المساحات الآتية من الزمن الذي يبني أحلامنا وأصواتنا الداخلية... ماذا تقولين لنا عنها... وماذا بقي من تلك الأصوات فيك؟
يوجد في مدينة صيدا كمّ هائل من الجمال والطيبة والانفتاح، هذه الأشياء أثّرت فيّ، طبيعة صيدا بين البحر والتاريخ، بساتين صيدا مع رائحة زهر الليمون، مع الناس الطيبين فيها. طبعًا جزء من الكلام الذي أقوله تغيّر، الطبيعة تغيّرت ولم تعد مساحات البساتين نفسها، أصبحت أخاف أن أذهب إلى صيدا لأني أريد ذاكرتي القديمة فيها أن تبقى كما هي. بالتأكيد بقي شكل البحر، وسماء صيدا، والناس الطيبون. صيدا هي عاصمة من أولى العواصم بالتاريخ، هي عاصمة الكنعانيين الأولى. وأنا أؤمن أن اللاوعي الجمعي يكتسبه من يولد بمدينة عمرها من عمر التاريخ، كل مخزون هذا التاريخ سيكتسبه من يصبح مؤلفًا، بلا وعيه. هذا العمق التاريخي انعكس بالموسيقى التي ألّفتها، وبالأحلام التي حملتها. حتى لو أنني أحيانًا لا أعي هذا الشيء ولكن هناك شيء بداخلي أحمله هو صيدا، كيفما ذهبت في العاصمة وكيفما اتجهت. هناك نظافة تفتقدها بعض الأمكنة، نظافة الروح. في المناطق الأبعد عن المدن الكبيرة الناس تحمل طيبة، والذين يخرجون من هذه الأمكنة الأبعد تبقى هذه الأمكنة بداخلهم، وتبقى الطيبة نفسها والحلم نفسه والصدق. العاصمة الأساسية عدوانية، الناس فيها مختلفون ويفكرون ويشعرون بطريقة مختلفة. ربما ما هو جميل أنني تركت صيدا بعمر 15 سنة عندما دخلت الجامعة بهذا العمر. ربما حُميتُ من عدوانية العاصمة الأساسية، من كل تفاصيلها، بسبب ما أحمله من صيدا لا أرى إلا رائحة الجمال بالعاصمة، في صيدا هذا المزيج الرائع من تاريخ الماضي والسلام الحالي، ولبيروت إحساس خاص بكل مربع فيها. أحمل هذا المزيج من المدينتين.
(*) مشروع أوبرا عربية... كيف تأتّى لديك هذا الحلم في بلد لا يمكنه أن يدعم أنشطة ثقافية بسيطة فكيف به أمام دعم موسيقى الأوبرا التي احتاجت أوروبيًا إلى دعم الملوك بإنتاج حضارة موسيقية غربية كبيرة... هل وجدت الدعم من جهات معينة، وهل اكتمل هذا الحلم بعد كل ما حققته من نجاح عالمي؟
بعمر الأشهر اكتشفت أمي أن الموسيقى الكلاسيكية وحدها القادرة على إيقاف وجع اللاكتوز. عندما كبرت صرت أسمع عبد الوهاب، وأسمع الأوبرا وأسمع ماريا كالاس وبراونز وبيتهوفن، ثم أسمع الموسيقى العربية فأشعر بعظمة الغرب وبحنين الشرق، فأقول، يا الله كيف لو جمعناهم! فكرت وشعرت بالأوبرا عندما كنت في الرابعة من عمري، ولا أزال أتذكر أين كنتُ أقف عندما فكرت بها، وفي ذلك العمر بدأت موسيقاي تخرج مني تلقائيًا. طبعًا درست موسيقى وأكملت بالمشروع وصُدمت أننا بعالمنا العربي وبلبنان ليس لدينا "إيكو سيستيم" (منظومة متكاملة)، بنية تحتية أساسية يمكن أن تحمل حلمي للمكان الذي أريده، فبدأت أعمل على البنية التحتية الموسيقية، وذهبت إلى أوروبا وحققت ما حققت لوحدي، وعندما عدت حاولت أن أبني مؤسسات لديها القدرة لتحقيق ما أصبو إليه. أقول إننا يجب أن نخلق هذه البنية التحتية من أجل الأجيال القادمة، ودائمًا أجد نفسي أركض خلف التمويل ووراء الدعم، وطبعًا أغلب الأحيان لا يكون الدعم من لبنان، والحقيقة أن أحلامنا نحققها حول العالم ولكن كل نجاحاتنا تصب باسم ولمصلحة لبنان. الجميل أننا نملك دائمًا أشياء لم نحققها بعد، وهي دائمًا أكثر مما حققناه... بحاجة للدعم بالتأكيد، ولكن أتصور أننا بموقع كل شخص منا يجب أن يرى كيف يمكن أن يعطي لبنان ويدعمه كي يقف على قدميه من جديد. ولدتُ في الحرب، وكل فترة، نحن اللبنانيون نفعل بلبنان ما يجعلنا نخاف من جديد. لا يوجد أمان، لذلك وصلت لقناعة أننا يجب أن نحقق الأمان، وأن نغيّر البلد. على المفكرين أن يتسلموا دفة قيادة البلد، أين وكيف يذهب. المعنى الحقيقي أن نرى أين الفوضى ونوقفها، أين الهدر ونوقفه، أين الخطأ، إننا ندور في نفس المكان ونقع في الجورة. هناك غلطة كبيرة، من غير المعقول أن أولد في الحرب ولا أعيش أي يوم جيد، إذا عشت أيامًا جميلة فهي قليلة. من غير المعقول أن يكون كل صاحب فكر أو موهبة أو قدرة يترك البلد لأن ألف بلد يتمناه. لذلك أخذت قرارًا، وربما من منطلق المركز الذي تسلمته بدأتُ بمؤسساتي. نحن جزء من منطقة أصبحت قادرة أن تلعب دورًا بالعالم الحديث. يجب أن نرى كيف نعمل على مشروعنا الذي هو جزء من مشروع المنطقة ونقدّمه للعالم، وتكون الموسيقى قادرة على أن تكون جزءًا من الاقتصاد وجزءًا من الدبلوماسية الثقافية. أهم جزء من الدبلوماسية الثقافية هو الموسيقى، لا حدود تحدّها وتفتح الجسور وتؤسس لاقتصاد الفكر والاقتصاد المعرفي، نحن قادرون أن ننتج اقتصادًا عبر الموسيقى. كل حياتي، حفرتُ الصخر بيديّ، بأصابعي فعلًا، وعندي الآن مهمات كثيرة وكبيرة فعلًا، كانت عندي أحلام موسيقية، الآن صارت عندي مهمات وطنية. ولكن لدينا فرصة لأن نحمل الموسيقى لتكون جزءًا من الاقتصاد العالمي. الاقتصاد المعرفي، اقتصاد الفكر هو الثالث أو الثاني عالميًا. يجب أن نفكر "خارج الصندوق" ليتمكن لبنان من الوقوف بالموسيقى والفكر والثقافة، أن نجتمع سويًا، المثقفون والمفكرون والمبدعون لنتمكن من إنجاز نهضة حقيقية، ونتواصل مع العالم العربي المنفتح ونخلق سويًا بيانًا للعالم كله. منذ فترة طويلة وأنا أفكر بذلك، ولكن الآن من موقع ومنطلق المسؤولية التي أحملها أحاول أن أرى كيف يمكن تحقيق ذلك.
(*) منذ تسلمك رئاسة المعهد الوطني العالي للموسيقى- الكونسرفاتوار تشعرين بمسؤولية أكبر، ما هي المهمات والمشاريع التي تفكرين بها للمعهد؟
طبعًا توجد استراتيجية كاملة. أطمح بأن يكون الكونسرفتوار مركزًا للشرق الأوسط كله، وبأن تكون الأوركسترا اللبنانية سفيرة حقيقية حول العالم. نريد تأسيس أوركسترا كبيرة بالمناطق العربية، من تلاميذ ومن غير تلاميذ المعهد وغير الأوركسترا الشرق عربية. حاليًا افتتحنا قسم "علم الموسيقى" Musicology Department، باليه ورقص معاصر، وفتحنا "علم إدارة الموسيقى" Music Management، وقسم "علاج بالموسيقى" Music Therapy، والكتابة النقدية الموسيقية. مشاريع كثيرة لا تنتهي وهذا كله لن يتحقق كاملًا إلا بوجود منظومة متكاملة. المؤلف اللبناني يجب رعايته، والموسيقي اللبناني يجب أن نعزف موسيقاه. ونريد أن نؤسس لشبكة كبيرة حول العالم مع اللبنانيين الموسيقيين الذين هاجروا كي يعودوا إلى هذه المؤسسة الأم لتعطيهم ويعطونها. كنا نعلّم رقميًا خلال جائحة كورونا، الآن نحققها بشكل تكنولوجي وبشكل نتمكن من خلاله أن نعطي كل بلاد العالم موسيقى وليس فقط الموجودين في لبنان.
أتصور أن الحفلة الموسيقية الأخيرة والزخم الذي حدث يُظهر أننا ذاهبون لمكان أفضل. لدينا وزير ثقافة يدعمنا كثيرًا ومجلس إدارة متعاون جدًا ورئيس وزراء متحمس لمشروعنا ولاستراتيجيتنا ويتابع معي بالتفاصيل، وهذا يساعد لإصدار مراسيم جديدة ودعم خاص للكونسرفتوار. ولا أنكر أننا نمر بظروف صعبة، وكل تفكيري "خارج الصندوق" ليقف الكونسرفتوار على قدميه، أريده أن يكتمل، هو ليس للتعليم فقط، لدينا أوركسترا يمكن أن نذهب بعيدًا من خلالها. أحاول أن تكبر هذه المؤسسة لدرجة أن تخلق هي "الإيكو سيستم" بلبنان وبالمنطقة وتدعم المؤلفين والموسيقيين. إنني أبني استراتيجية من كل الأفكار الحديثة وأحاول تحويلها للعالمية عبر التكنولوجيا من مكاننا. ولكن هل نطلب من بلد لا يقدر على تعبئة المازوت أن يدعم؟ نحن الآن من يجب أن يساهم، وليس هذا الكلام لمجرد الحكي، فهذا كان هدفي من العودة إلى لبنان.
(*) في حديث لك تذكرين المُغني الأوبرالي الإيطالي كارلو بيرجونزي أنه كان يريدك أن تغرفي من الريبرتوار الأوروبي الأوبرالي لكي تسيري في عالم الأوبرا الكبير. وسألك وها نحن نسألك نفس السؤال: "لِم تتركين كل هذا في أوروبا وتعودين للعالم العربي؟"، ألم يكن البقاء في أوروبا أغنى لك وأكثر وصولًا إلى العالمية القصوى؟
كان بيرجونزي أستاذي وأراد أن يقدّمني على اسمه في الخارج. كان يقول لي إن صوتي أجمل صوت سمعه في حياته، وكنت أقول له إن صوتي من أجمل الأصوات التي سمعها ولكن سيكون صوتًا يُضاف إلى أصوات كثيرة غنت نفس الريبرتوار الموجود، يوجد ريبرتوار بالعالم الأوبرالي، أنا أريد أن أعود إلى بلادي لأخلق ريبرتوار غير موجود عبر أعمال جديدة للغتنا. وكان هذا هو همي، كيف نخلق ريبرتوار لمنطقتنا العربية ينطلق للعالم كله وأستخدم صوتي أداة لتطويره وينتقل عبر خبرتي لكل الأصوات وللمؤلفين. طبعًا مررت بصعوبات كثيرة. كان بيرجونزي يريدني أن أكمل بالتأليف وبالكتابة، وأعتقد أنني كنت كتبت موسيقى مختلفة وغنيت بشكل مختلف لو لم أعد، هدفي كان أمرًا آخر.
آن الأوان لتكون الأوركسترا
سفيرتنا إلى العالم
(*) ساهمتِ سابقًا مع الموسيقار الراحل وليد غلمية في تأسيس الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية، حدثينا عن هذه المشاركة وعن الجهود المبذولة في سياق أهمية دور الموسيقى في المجتمع والحياة؟
الحقيقة عندما انطلقت بحفلاتي كنت أُحضر الأوركسترا من خارج لبنان وكنت كل مرة أتساءل، لماذا لا يوجد عندنا أوركسترا. بدأنا أنا والدكتور غلمية نضع بنية لأوركسترا وحملت ملف المشروع وذهبت للشهيد رفيق الحريري الذي آمن بالمشروع ووقّع عليه. كانت تربطني بالرئيس الحريري علاقة خاصة وكان داعمًا لموسيقاي، ومن هذا المنطلق عندما طرحت فكرة الأوركسترا تجاوب مباشرة لأنه كان يعرف ويتساءل، لماذا نُحضر الأوركسترا من الخارج. هذا الدعم مكّننا من تأسيس الأوركسترا الفلهارمونية بأعلى المستويات ووصلت أعدادها لـ 110 عازفين بذلك الوقت وتركت أثرًا بالغًا. والدكتور غلمية اشتغل على تدريب العازفين وجمع اللبنانيين بالأجانب كي يصبحوا جسمًا واحدًا، وقدمنا مهرجانات رائعة على مدى سنين طويلة، طبعًا إلى أن حدث انهيار البلد. الأوركسترا الفلهارمونية موجودة ولكن ليس بنفس العدد، فمع الانهيار الاقتصادي هاجر الكثير من العازفين اللبنانيين وغير اللبنانيين. آمل أن أعيدهم ونكمل الأوركسترا ونذهب في جولات عالمية وهذا ما لم يحدث سابقًا. آن الأوان لأن تكون هي سفيرتنا وتصل إلى كل العالم.
(*) يقول نيتشه "إذا أردت الحكم على مستوى شعب ما فاستمع إلى موسيقاه"، لكننا أمام مجتمعات استهلاكية شجعت على قيامة غنائية لا تنتمي لا إلى التراث ولا إلى الحداثة بحيث أصبحت لدينا أزمة في تقبّل الموسيقى التراثية العربية، فكيف بنا أمام أوبرا قادمة من النسيج الغربي مشتبكة مع جذور من التراث العربي بحيث لا تحضرها إلا طبقات معينة أو مهتمون بهذه الموسيقى تحديدًا... كيف يمكن تجاوز أزمة الذائقة الموسيقية المجتمعية العامة من حيث الانحدار أو الهبوط؟
الإعلام ليس في خدمة الثقافة باختصار، عندما يصير الإعلام بخدمة الثقافة سنجد أن المشكلة لم تعد موجودة. المشكلة ليست بالناس بل بما يُقدّم لهم. عندما بدأ الاستهلاك الرخيص، ولا أتحدث عن الموسيقى الشعبية لأن للموسيقى الشعبية تاريخًا، فوديع الصافي وزكي ناصيف وفيروز وعبد الوهاب وسيد درويش كانت لهم موسيقى شعبية رائعة، عندما بدأ ذلك الاستهلاك أذكر أن أهلي كانوا مصدومين ويتساءلون: ما هذا الذي نسمعه؟ ولكن تكراره على السمع كرّسه والناس تعودت عليه. إذا تجندت كل وسائل التواصل والميديا، ميديا تقليدية وميديا حديثة، لتنظف تلوث السمع والنظر سنصل إلى ذائقة مختلفة. إن الإنسان كائن عميق وعظيم، إذا أردتِ تسطيحه فسيحدث التسطيح، وإذا أردتِ أن يذهب لأبعد فسيذهب، كما تعوّدينه. أتصوّر أن علينا دورًا وهذا ما أحاول أن أشتغله عبر التعاون مع الإعلام كي نذهب نحو ما هو أبعد. (*) هل ترين تغييرًا في تلقي الجمهور بعد سنوات من الحفر في الصخر، بمعنى آخر، هل تمكنت عبر الزمن من إحداث حركة موسيقية وتكوين طبقة اجتماعية تجذبها أوبرا عربية راقية؟
أتصور نعم... في الماضي كانوا يستغربون هذا النمط الجامع لأنماط عديدة عالمية وشرقية وعربية، أوروبا استقبلتها بشكل رائع منذ البداية. عالمنا العربي أحبّ الفكرة، لكن لم تكن الأوبرا جزءًا من وجدانه. الآن أصبحت الفكرة قريبة منه وغير هجينة على السمع، وتدخل لقلبه، ولكن نحتاج لشغل أكثر وتواصل أكثر وخصوصًا أنني مقلة بإطلالاتي الإعلامية. ربما يجب تغيير أو ضغط الأسلوب وأن نصبح مثل الزمن الذي نحن فيه. الأغنية الأخيرة "عد أملًا" أعطت أصداء رائعة، ورأينا أين كنا وأين أصبحنا. الرحلة بدأت من التسعينيات وذهبت لبعيد ولكن أنا لا أكتفي وأريد الأبعد.
(*) برأيك، هل لدينا فقر في الإنشاءات الموسيقية العربية؟ وكيف تلمسين وجود حركة تحديثية في الموسيقى العربية؟
لدينا موسيقيون مهمون ولكنهم غير ظاهرين بالميديا كما الموسيقى الاستهلاكية. مشكلتنا ماذا يظهر في الإعلام وليس إذا كانوا موجودين أم لا. أفرح لمؤلف عظيم مثل راجح داوود أن يصل عربيًا ولكن ما جعله يصل هي الأفلام والمسلسلات التي كتب لها الموسيقى، ولكن على الأقل وصل فكره الموسيقي. أفرح عندما أسمع عن بشارة الخوري بباريس وكيف تُعرض أعماله عالميًا، وعبد الله المصري وأسماء كبيرة بعالمنا العربي، ولكنها غير موجودة على الإعلام العريض، هي تحت الضوء، وهي تشتغل وتنتج وتتفاعل بعيدًا عن الإعلام.
(*) يلاحظ أن كبار الموسيقيين في الغرب هم من الذكور، وهذا موضوع تاريخي، فقد واجهت المرأة الكثير من التحديات في أوروبا سابقًا لكي يكون لها منتوج إبداعي على جميع الأصعدة، برأيك، حاليًا وعلى الصعيد العربي، ما هي مسوغات عدم وجود مؤلفات موسيقيات إلا بعدد أصابع اليد؟
سعيدة بأنني كنت أول مؤلفة موسيقية عربية كسرت هذا الأمر، ولكن أتصوّر أن الأمور تتغير. هناك أكثر من سبب، السبب الاجتماعي الذي يجعل الأنثى لا تستعمل فكرها بشكل مباشر بل تمشي حول الأمور، والأمر الثاني هو غريزة الأمومة التي تجعلها تذهب للأمومة بدل التأليف، والأمران متشابهان. ربما على المرأة أن تختار، أن تنجب ولدًا أو أن تؤلف. هناك جانب بالتأكيد سيطغى على الآخر، فالمرأة تذهب للغريزة الأولى، وتنسى نفسها. أتصور أننا في زمن يتغير، وهذه الصحوة عند الأنثى، والأمر ليس الأنثوية التي في الجهاز الجسدي، هناك الشيء المجرّد في الجهاز الفكري، هذه الصحوة تزيد من عدد المؤلفات. ومع الوقت سيزداد العدد، الأصعب هو من يفتح الباب، وبعد ذلك سنجد من يسير عبر نفس الباب بتلقائية. الموضوع ليس ضعف الأنثى وقلة قدرتها الفكرية بل كل الظروف لم تكن تجعلها تصل لهذا المكان. وهذا الأمر عالمي وليس فقط عربيًا، زاد عدد المؤلفات عالميًا فلم يمر عبر التاريخ سوى 2 أو 3 سابقًا.
(*) يقول بيتهوفن: "الموسيقى وَحْيٌ يعلو على كل الحِكم والفلسفات"؛ ثمة كتابة موسيقية تعتمد على المخزون الأكاديمي وأخرى تعتمد على الإلهام، كيف تكتبين موسيقاك؟
يجب التمكن من المخزون الأكاديمي لدرجة أن نرميه خلفنا وننساه، والتمكن بشكل أنه عندما تأتي لحظة الإلهام لا نفكر بهذا المخزون، ولكنه الأدوات التي نستخدمها لنترجم هذا الإلهام على الورق، وهذه الأدوات يجب ألا تكون ظاهرة لدرجة أن تطغى على لحظة الوصل الكوني. فإذا كان الأكاديمي في الوسط لن يتمكن من القيام بهذه المهمة وإذا كان الإبداع فقط من خلال العلم والأكاديميا لا يعود إبداعًا، يصبح اجترارًا للنظريات. وإذا لم يكن خلف الإلهام علم لن يترجم بمستوى الكون، سيتقطر، لذلك أقول إن هذه القنوات التي تمر من خلالها الأصوات توصلنا لدرجة أن نتطور فكريًا وأكاديميًا وموسيقيًا وروحيًا وعندما تمر لحظة العبور الكوني، عندما يجتاحك الكون، نتمكن من تقطير ما يسقط على رؤوسنا ويخرج صدى الكون على الورق بطريقة مختلفة.
(*) لديك مئات المؤلفات الموسيقية التي لم تصل إلى الجمهور، لماذا؟ هل هي مشكلة في الإنتاج؟
أكيد، مؤسستي تنتج كل أعمالي، وهذا أمر مكلف جدًا. هذا النمط من الأعمال عادة يحتاج الى موازنات دول، موازنات طائلة. أنا أنتج من شغلي وجهدي عبر جولاتي في العالم وحصيلة كل ذلك أضعه على الإنتاجات، وهذا يجعلني معرّضة للخطر، هو أمر غير سهل.
(*) من هي الأسماء البارزة في مسيرتك الموسيقية منذ الطفولة وحتى الآن، والتي كان لها أثر وتأثير في مسيرتك؟
والدتي أولًا، هي التي تابعتني موسيقيًا منذ ولدتُ وبالتفاصيل. لاحظت أنني أكتب من عمر سنة ونصف السنة فعلمتني القراءة والكتابة. لاحظت أنني بعمر سنتين ونصف السنة أصنع لحنًا على السمع فأتت لي بأستاذ موسيقى، ودعمتني بشكل دائم وساهمت بإنتاجاتي الموسيقية ببداية طريقي. أسماء كثيرة، وليد غلمية في لبنان وكارلو بيرجونزي بإيطاليا، وأصدقاء من العالم العربي اهتموا بأعمالي أيضًا. وهناك أسماء متل نيتشه وشوبنهاور وابن عربي والحلاج وغيرهم، هؤلاء أصدقاء لا نلتقي بهم. على مستوى آخر كان عندي أصدقاء مهمين ببداية حياتي المهنية والتعليمية عندما كان عمري 15 تركوا أثرًا بداخلي وبحياتي بفكري كأنسي الحاج وهدى النعماني وحمزة عبود. وهناك الأصدقاء الذين أكون معهم دائمًا. الصديق يقولبك، خاصة أصدقاء الفكر. وأيضًا الناس الذين يهتمون بموسيقاي، هؤلاء يؤثرون بي كثيرًا.
أوروبا أعطتني الكثير
(*) عندما حادثتكِ أخبرتني أنك في جولة موسيقية في أوروبا، كيف يرانا الغرب عبركِ، وكم تجدين حضورك ونجاحك هناك يساهم في حوار الثقافات ووصول موسيقانا العربية بطريقة مختلفة إليهم؟
طبعًا حوار الثقافات موجود حتى في طريقة الموسيقى التي أكتبها، كيف أكتبها وأجمع العالمين. تلقفني العالم بشكل مهم جدًا وأخذت جوائز عالمية بأهم الصروح. وما ساعد بتكريسي في عالمنا العربي هو ما حققته في الغرب، مثل شهادة عالمية نكون بحاجة إليها كي نقدّر في بلادنا ويلتفتوا إلينا وإلى أعمالنا. أوروبا أعطتني الكثير، بدءًا من العلم إلى التقدير الكبير الذي حصلت عليه، وصولًا لأن تعزف لي أوركسترا عالمية وتتوج ملكة هولندا عملي. أعطاني الغرب علامات بتاريخي الموسيقي، وأسّس لي النقلات الكبيرة التي ارتكزت عليها. أوروبا عالم يطلب دائمًا الجديد ويفتش عن صوت موسيقي جديد وربما لأن موسيقانا مختلفة وهذا الدمج الذي أنجزته خلق عندهم وعلى سمعهم صوتا موسيقيا جديدا وسمعوني بشكل ربما كوّن لديهم اقتراحا مختلفا عن الذي تعودوا عليه، وتفاعلوا معي بشكل رائع.
(*) يقول الشاعر محمد الماغوط "أحيانًا الصمت أجمل موسيقى في العالم"، ويقول الفنان ألدوس هسكلي: "الموسيقى هي أقرب شيء بعد الصمت يمكن التعبير بها عما لا يمكن وصفه"... هل أتاك هذا الشعور بالرغبة بالصمت عن الموسيقى أمام خراب لبنان والأزمات الكبيرة في كل مكان؟
إذا لم يكن صمت لا يكون صوت، بين النوتة والنوتة هناك علامات صمت. الصمت هو جزء من الموسيقى المدّونة. نكتب نوتات تحكي ونكتب نوتات صامتة نسكت فيها، وهذا التداول مثل الولادة للحياة والموت، الصوت هو صناعة الحياة، الموسيقى صوت يولد وصوت يموت، والولادة والموت هما الحياة، لكن الصوت الذي يموت عندنا يبقى مسافرًا ويعيش في أكوان أخرى، يسافر برحلته اللانهائية، أما صمتنا أمام الوضع الذي نحن فيه بلبنان فليس فيه صمت، فيه أنين وليس صمتًا. وهذا الأنين مدوٍ...
هبة القواس- "لبنان عد أملًا":
دارين حوماني 1 فبراير 2023
حوارات
شارك هذا المقال
حجم الخط
قبل أشهر قليلة تسلمت السوبرانو اللبنانية هبة القواس مهمات إدارة "المعهد الوطني اللبناني للموسيقى" (الكونسرفتوار)، كانت لديها أحلام موسيقية صارت عندها مهمات وطنية. مشاريع كثيرة على طاولتها، تحلم بريبرتوار أوبرالي لمنطقتنا العربية وبيان موسيقي عربي جامع يصل للعالمية. منذ التسعينيات بدأت تحقق أحلامها الموسيقية بأوبرا عربية اندفعت معها حواسنا كلها، نقلتنا من عالم إلى عالم، أحضرت الغرب إلينا وأخذت الشرق إلى خارج الحدود على طريقة ألف ليلة وليلة وابن عربي والحلاج في عملية تمازج متفرّد، أسلوب موسيقي ينتمي إلى اتساع الكون يبدأ من الداخل ويسافر برحلات لانهائية. أوبرا تم إنتاجها مقطّرة بذلك الإبداع الصافي. هبة القواس الحائزة على ماجستير في الغناء الأوبرالي وماجستير في التأليف الموسيقي وإجازة في علم النفس العيادي، وقفت على أهم الصروح العالمية ونالت العديد من الجوائز منها "أفضل موسيقي معاصر" في مهرجان كراكوف للتأليف الموسيقي المعاصر، و"وسام السلطان قابوس الذهبي". وهي التي يترك حضورها عتبات ضوئية كيفما تخطو. معها كان لنا هذا الحوار.
(*) بالعودة إلى طفولة هبة القواس في صيدا، تلك المساحات الآتية من الزمن الذي يبني أحلامنا وأصواتنا الداخلية... ماذا تقولين لنا عنها... وماذا بقي من تلك الأصوات فيك؟
يوجد في مدينة صيدا كمّ هائل من الجمال والطيبة والانفتاح، هذه الأشياء أثّرت فيّ، طبيعة صيدا بين البحر والتاريخ، بساتين صيدا مع رائحة زهر الليمون، مع الناس الطيبين فيها. طبعًا جزء من الكلام الذي أقوله تغيّر، الطبيعة تغيّرت ولم تعد مساحات البساتين نفسها، أصبحت أخاف أن أذهب إلى صيدا لأني أريد ذاكرتي القديمة فيها أن تبقى كما هي. بالتأكيد بقي شكل البحر، وسماء صيدا، والناس الطيبون. صيدا هي عاصمة من أولى العواصم بالتاريخ، هي عاصمة الكنعانيين الأولى. وأنا أؤمن أن اللاوعي الجمعي يكتسبه من يولد بمدينة عمرها من عمر التاريخ، كل مخزون هذا التاريخ سيكتسبه من يصبح مؤلفًا، بلا وعيه. هذا العمق التاريخي انعكس بالموسيقى التي ألّفتها، وبالأحلام التي حملتها. حتى لو أنني أحيانًا لا أعي هذا الشيء ولكن هناك شيء بداخلي أحمله هو صيدا، كيفما ذهبت في العاصمة وكيفما اتجهت. هناك نظافة تفتقدها بعض الأمكنة، نظافة الروح. في المناطق الأبعد عن المدن الكبيرة الناس تحمل طيبة، والذين يخرجون من هذه الأمكنة الأبعد تبقى هذه الأمكنة بداخلهم، وتبقى الطيبة نفسها والحلم نفسه والصدق. العاصمة الأساسية عدوانية، الناس فيها مختلفون ويفكرون ويشعرون بطريقة مختلفة. ربما ما هو جميل أنني تركت صيدا بعمر 15 سنة عندما دخلت الجامعة بهذا العمر. ربما حُميتُ من عدوانية العاصمة الأساسية، من كل تفاصيلها، بسبب ما أحمله من صيدا لا أرى إلا رائحة الجمال بالعاصمة، في صيدا هذا المزيج الرائع من تاريخ الماضي والسلام الحالي، ولبيروت إحساس خاص بكل مربع فيها. أحمل هذا المزيج من المدينتين.
"نحن جزء من منطقة أصبحت قادرة أن تلعب دورًا بالعالم الحديث. يجب أن نرى كيف نعمل على مشروعنا الذي هو جزء من مشروع المنطقة ونقدّمه للعالم، وتكون الموسيقى قادرة أن تكون جزءًا من الاقتصاد وجزءًا من الدبلوماسية الثقافية" |
بعمر الأشهر اكتشفت أمي أن الموسيقى الكلاسيكية وحدها القادرة على إيقاف وجع اللاكتوز. عندما كبرت صرت أسمع عبد الوهاب، وأسمع الأوبرا وأسمع ماريا كالاس وبراونز وبيتهوفن، ثم أسمع الموسيقى العربية فأشعر بعظمة الغرب وبحنين الشرق، فأقول، يا الله كيف لو جمعناهم! فكرت وشعرت بالأوبرا عندما كنت في الرابعة من عمري، ولا أزال أتذكر أين كنتُ أقف عندما فكرت بها، وفي ذلك العمر بدأت موسيقاي تخرج مني تلقائيًا. طبعًا درست موسيقى وأكملت بالمشروع وصُدمت أننا بعالمنا العربي وبلبنان ليس لدينا "إيكو سيستيم" (منظومة متكاملة)، بنية تحتية أساسية يمكن أن تحمل حلمي للمكان الذي أريده، فبدأت أعمل على البنية التحتية الموسيقية، وذهبت إلى أوروبا وحققت ما حققت لوحدي، وعندما عدت حاولت أن أبني مؤسسات لديها القدرة لتحقيق ما أصبو إليه. أقول إننا يجب أن نخلق هذه البنية التحتية من أجل الأجيال القادمة، ودائمًا أجد نفسي أركض خلف التمويل ووراء الدعم، وطبعًا أغلب الأحيان لا يكون الدعم من لبنان، والحقيقة أن أحلامنا نحققها حول العالم ولكن كل نجاحاتنا تصب باسم ولمصلحة لبنان. الجميل أننا نملك دائمًا أشياء لم نحققها بعد، وهي دائمًا أكثر مما حققناه... بحاجة للدعم بالتأكيد، ولكن أتصور أننا بموقع كل شخص منا يجب أن يرى كيف يمكن أن يعطي لبنان ويدعمه كي يقف على قدميه من جديد. ولدتُ في الحرب، وكل فترة، نحن اللبنانيون نفعل بلبنان ما يجعلنا نخاف من جديد. لا يوجد أمان، لذلك وصلت لقناعة أننا يجب أن نحقق الأمان، وأن نغيّر البلد. على المفكرين أن يتسلموا دفة قيادة البلد، أين وكيف يذهب. المعنى الحقيقي أن نرى أين الفوضى ونوقفها، أين الهدر ونوقفه، أين الخطأ، إننا ندور في نفس المكان ونقع في الجورة. هناك غلطة كبيرة، من غير المعقول أن أولد في الحرب ولا أعيش أي يوم جيد، إذا عشت أيامًا جميلة فهي قليلة. من غير المعقول أن يكون كل صاحب فكر أو موهبة أو قدرة يترك البلد لأن ألف بلد يتمناه. لذلك أخذت قرارًا، وربما من منطلق المركز الذي تسلمته بدأتُ بمؤسساتي. نحن جزء من منطقة أصبحت قادرة أن تلعب دورًا بالعالم الحديث. يجب أن نرى كيف نعمل على مشروعنا الذي هو جزء من مشروع المنطقة ونقدّمه للعالم، وتكون الموسيقى قادرة على أن تكون جزءًا من الاقتصاد وجزءًا من الدبلوماسية الثقافية. أهم جزء من الدبلوماسية الثقافية هو الموسيقى، لا حدود تحدّها وتفتح الجسور وتؤسس لاقتصاد الفكر والاقتصاد المعرفي، نحن قادرون أن ننتج اقتصادًا عبر الموسيقى. كل حياتي، حفرتُ الصخر بيديّ، بأصابعي فعلًا، وعندي الآن مهمات كثيرة وكبيرة فعلًا، كانت عندي أحلام موسيقية، الآن صارت عندي مهمات وطنية. ولكن لدينا فرصة لأن نحمل الموسيقى لتكون جزءًا من الاقتصاد العالمي. الاقتصاد المعرفي، اقتصاد الفكر هو الثالث أو الثاني عالميًا. يجب أن نفكر "خارج الصندوق" ليتمكن لبنان من الوقوف بالموسيقى والفكر والثقافة، أن نجتمع سويًا، المثقفون والمفكرون والمبدعون لنتمكن من إنجاز نهضة حقيقية، ونتواصل مع العالم العربي المنفتح ونخلق سويًا بيانًا للعالم كله. منذ فترة طويلة وأنا أفكر بذلك، ولكن الآن من موقع ومنطلق المسؤولية التي أحملها أحاول أن أرى كيف يمكن تحقيق ذلك.
(*) منذ تسلمك رئاسة المعهد الوطني العالي للموسيقى- الكونسرفاتوار تشعرين بمسؤولية أكبر، ما هي المهمات والمشاريع التي تفكرين بها للمعهد؟
طبعًا توجد استراتيجية كاملة. أطمح بأن يكون الكونسرفتوار مركزًا للشرق الأوسط كله، وبأن تكون الأوركسترا اللبنانية سفيرة حقيقية حول العالم. نريد تأسيس أوركسترا كبيرة بالمناطق العربية، من تلاميذ ومن غير تلاميذ المعهد وغير الأوركسترا الشرق عربية. حاليًا افتتحنا قسم "علم الموسيقى" Musicology Department، باليه ورقص معاصر، وفتحنا "علم إدارة الموسيقى" Music Management، وقسم "علاج بالموسيقى" Music Therapy، والكتابة النقدية الموسيقية. مشاريع كثيرة لا تنتهي وهذا كله لن يتحقق كاملًا إلا بوجود منظومة متكاملة. المؤلف اللبناني يجب رعايته، والموسيقي اللبناني يجب أن نعزف موسيقاه. ونريد أن نؤسس لشبكة كبيرة حول العالم مع اللبنانيين الموسيقيين الذين هاجروا كي يعودوا إلى هذه المؤسسة الأم لتعطيهم ويعطونها. كنا نعلّم رقميًا خلال جائحة كورونا، الآن نحققها بشكل تكنولوجي وبشكل نتمكن من خلاله أن نعطي كل بلاد العالم موسيقى وليس فقط الموجودين في لبنان.
أتصور أن الحفلة الموسيقية الأخيرة والزخم الذي حدث يُظهر أننا ذاهبون لمكان أفضل. لدينا وزير ثقافة يدعمنا كثيرًا ومجلس إدارة متعاون جدًا ورئيس وزراء متحمس لمشروعنا ولاستراتيجيتنا ويتابع معي بالتفاصيل، وهذا يساعد لإصدار مراسيم جديدة ودعم خاص للكونسرفتوار. ولا أنكر أننا نمر بظروف صعبة، وكل تفكيري "خارج الصندوق" ليقف الكونسرفتوار على قدميه، أريده أن يكتمل، هو ليس للتعليم فقط، لدينا أوركسترا يمكن أن نذهب بعيدًا من خلالها. أحاول أن تكبر هذه المؤسسة لدرجة أن تخلق هي "الإيكو سيستم" بلبنان وبالمنطقة وتدعم المؤلفين والموسيقيين. إنني أبني استراتيجية من كل الأفكار الحديثة وأحاول تحويلها للعالمية عبر التكنولوجيا من مكاننا. ولكن هل نطلب من بلد لا يقدر على تعبئة المازوت أن يدعم؟ نحن الآن من يجب أن يساهم، وليس هذا الكلام لمجرد الحكي، فهذا كان هدفي من العودة إلى لبنان.
(*) في حديث لك تذكرين المُغني الأوبرالي الإيطالي كارلو بيرجونزي أنه كان يريدك أن تغرفي من الريبرتوار الأوروبي الأوبرالي لكي تسيري في عالم الأوبرا الكبير. وسألك وها نحن نسألك نفس السؤال: "لِم تتركين كل هذا في أوروبا وتعودين للعالم العربي؟"، ألم يكن البقاء في أوروبا أغنى لك وأكثر وصولًا إلى العالمية القصوى؟
كان بيرجونزي أستاذي وأراد أن يقدّمني على اسمه في الخارج. كان يقول لي إن صوتي أجمل صوت سمعه في حياته، وكنت أقول له إن صوتي من أجمل الأصوات التي سمعها ولكن سيكون صوتًا يُضاف إلى أصوات كثيرة غنت نفس الريبرتوار الموجود، يوجد ريبرتوار بالعالم الأوبرالي، أنا أريد أن أعود إلى بلادي لأخلق ريبرتوار غير موجود عبر أعمال جديدة للغتنا. وكان هذا هو همي، كيف نخلق ريبرتوار لمنطقتنا العربية ينطلق للعالم كله وأستخدم صوتي أداة لتطويره وينتقل عبر خبرتي لكل الأصوات وللمؤلفين. طبعًا مررت بصعوبات كثيرة. كان بيرجونزي يريدني أن أكمل بالتأليف وبالكتابة، وأعتقد أنني كنت كتبت موسيقى مختلفة وغنيت بشكل مختلف لو لم أعد، هدفي كان أمرًا آخر.
آن الأوان لتكون الأوركسترا
سفيرتنا إلى العالم
(*) ساهمتِ سابقًا مع الموسيقار الراحل وليد غلمية في تأسيس الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية، حدثينا عن هذه المشاركة وعن الجهود المبذولة في سياق أهمية دور الموسيقى في المجتمع والحياة؟
الحقيقة عندما انطلقت بحفلاتي كنت أُحضر الأوركسترا من خارج لبنان وكنت كل مرة أتساءل، لماذا لا يوجد عندنا أوركسترا. بدأنا أنا والدكتور غلمية نضع بنية لأوركسترا وحملت ملف المشروع وذهبت للشهيد رفيق الحريري الذي آمن بالمشروع ووقّع عليه. كانت تربطني بالرئيس الحريري علاقة خاصة وكان داعمًا لموسيقاي، ومن هذا المنطلق عندما طرحت فكرة الأوركسترا تجاوب مباشرة لأنه كان يعرف ويتساءل، لماذا نُحضر الأوركسترا من الخارج. هذا الدعم مكّننا من تأسيس الأوركسترا الفلهارمونية بأعلى المستويات ووصلت أعدادها لـ 110 عازفين بذلك الوقت وتركت أثرًا بالغًا. والدكتور غلمية اشتغل على تدريب العازفين وجمع اللبنانيين بالأجانب كي يصبحوا جسمًا واحدًا، وقدمنا مهرجانات رائعة على مدى سنين طويلة، طبعًا إلى أن حدث انهيار البلد. الأوركسترا الفلهارمونية موجودة ولكن ليس بنفس العدد، فمع الانهيار الاقتصادي هاجر الكثير من العازفين اللبنانيين وغير اللبنانيين. آمل أن أعيدهم ونكمل الأوركسترا ونذهب في جولات عالمية وهذا ما لم يحدث سابقًا. آن الأوان لأن تكون هي سفيرتنا وتصل إلى كل العالم.
"الإعلام ليس في خدمة الثقافة باختصار، وعندما يصير الإعلام بخدمة الثقافة سنجد أن المشكلة لم تعد موجودة. المشكلة ليست بالناس بل بما يُقدّم لهم" |
الإعلام ليس في خدمة الثقافة باختصار، عندما يصير الإعلام بخدمة الثقافة سنجد أن المشكلة لم تعد موجودة. المشكلة ليست بالناس بل بما يُقدّم لهم. عندما بدأ الاستهلاك الرخيص، ولا أتحدث عن الموسيقى الشعبية لأن للموسيقى الشعبية تاريخًا، فوديع الصافي وزكي ناصيف وفيروز وعبد الوهاب وسيد درويش كانت لهم موسيقى شعبية رائعة، عندما بدأ ذلك الاستهلاك أذكر أن أهلي كانوا مصدومين ويتساءلون: ما هذا الذي نسمعه؟ ولكن تكراره على السمع كرّسه والناس تعودت عليه. إذا تجندت كل وسائل التواصل والميديا، ميديا تقليدية وميديا حديثة، لتنظف تلوث السمع والنظر سنصل إلى ذائقة مختلفة. إن الإنسان كائن عميق وعظيم، إذا أردتِ تسطيحه فسيحدث التسطيح، وإذا أردتِ أن يذهب لأبعد فسيذهب، كما تعوّدينه. أتصوّر أن علينا دورًا وهذا ما أحاول أن أشتغله عبر التعاون مع الإعلام كي نذهب نحو ما هو أبعد. (*) هل ترين تغييرًا في تلقي الجمهور بعد سنوات من الحفر في الصخر، بمعنى آخر، هل تمكنت عبر الزمن من إحداث حركة موسيقية وتكوين طبقة اجتماعية تجذبها أوبرا عربية راقية؟
أتصور نعم... في الماضي كانوا يستغربون هذا النمط الجامع لأنماط عديدة عالمية وشرقية وعربية، أوروبا استقبلتها بشكل رائع منذ البداية. عالمنا العربي أحبّ الفكرة، لكن لم تكن الأوبرا جزءًا من وجدانه. الآن أصبحت الفكرة قريبة منه وغير هجينة على السمع، وتدخل لقلبه، ولكن نحتاج لشغل أكثر وتواصل أكثر وخصوصًا أنني مقلة بإطلالاتي الإعلامية. ربما يجب تغيير أو ضغط الأسلوب وأن نصبح مثل الزمن الذي نحن فيه. الأغنية الأخيرة "عد أملًا" أعطت أصداء رائعة، ورأينا أين كنا وأين أصبحنا. الرحلة بدأت من التسعينيات وذهبت لبعيد ولكن أنا لا أكتفي وأريد الأبعد.
(*) برأيك، هل لدينا فقر في الإنشاءات الموسيقية العربية؟ وكيف تلمسين وجود حركة تحديثية في الموسيقى العربية؟
لدينا موسيقيون مهمون ولكنهم غير ظاهرين بالميديا كما الموسيقى الاستهلاكية. مشكلتنا ماذا يظهر في الإعلام وليس إذا كانوا موجودين أم لا. أفرح لمؤلف عظيم مثل راجح داوود أن يصل عربيًا ولكن ما جعله يصل هي الأفلام والمسلسلات التي كتب لها الموسيقى، ولكن على الأقل وصل فكره الموسيقي. أفرح عندما أسمع عن بشارة الخوري بباريس وكيف تُعرض أعماله عالميًا، وعبد الله المصري وأسماء كبيرة بعالمنا العربي، ولكنها غير موجودة على الإعلام العريض، هي تحت الضوء، وهي تشتغل وتنتج وتتفاعل بعيدًا عن الإعلام.
(*) يلاحظ أن كبار الموسيقيين في الغرب هم من الذكور، وهذا موضوع تاريخي، فقد واجهت المرأة الكثير من التحديات في أوروبا سابقًا لكي يكون لها منتوج إبداعي على جميع الأصعدة، برأيك، حاليًا وعلى الصعيد العربي، ما هي مسوغات عدم وجود مؤلفات موسيقيات إلا بعدد أصابع اليد؟
سعيدة بأنني كنت أول مؤلفة موسيقية عربية كسرت هذا الأمر، ولكن أتصوّر أن الأمور تتغير. هناك أكثر من سبب، السبب الاجتماعي الذي يجعل الأنثى لا تستعمل فكرها بشكل مباشر بل تمشي حول الأمور، والأمر الثاني هو غريزة الأمومة التي تجعلها تذهب للأمومة بدل التأليف، والأمران متشابهان. ربما على المرأة أن تختار، أن تنجب ولدًا أو أن تؤلف. هناك جانب بالتأكيد سيطغى على الآخر، فالمرأة تذهب للغريزة الأولى، وتنسى نفسها. أتصور أننا في زمن يتغير، وهذه الصحوة عند الأنثى، والأمر ليس الأنثوية التي في الجهاز الجسدي، هناك الشيء المجرّد في الجهاز الفكري، هذه الصحوة تزيد من عدد المؤلفات. ومع الوقت سيزداد العدد، الأصعب هو من يفتح الباب، وبعد ذلك سنجد من يسير عبر نفس الباب بتلقائية. الموضوع ليس ضعف الأنثى وقلة قدرتها الفكرية بل كل الظروف لم تكن تجعلها تصل لهذا المكان. وهذا الأمر عالمي وليس فقط عربيًا، زاد عدد المؤلفات عالميًا فلم يمر عبر التاريخ سوى 2 أو 3 سابقًا.
(*) يقول بيتهوفن: "الموسيقى وَحْيٌ يعلو على كل الحِكم والفلسفات"؛ ثمة كتابة موسيقية تعتمد على المخزون الأكاديمي وأخرى تعتمد على الإلهام، كيف تكتبين موسيقاك؟
يجب التمكن من المخزون الأكاديمي لدرجة أن نرميه خلفنا وننساه، والتمكن بشكل أنه عندما تأتي لحظة الإلهام لا نفكر بهذا المخزون، ولكنه الأدوات التي نستخدمها لنترجم هذا الإلهام على الورق، وهذه الأدوات يجب ألا تكون ظاهرة لدرجة أن تطغى على لحظة الوصل الكوني. فإذا كان الأكاديمي في الوسط لن يتمكن من القيام بهذه المهمة وإذا كان الإبداع فقط من خلال العلم والأكاديميا لا يعود إبداعًا، يصبح اجترارًا للنظريات. وإذا لم يكن خلف الإلهام علم لن يترجم بمستوى الكون، سيتقطر، لذلك أقول إن هذه القنوات التي تمر من خلالها الأصوات توصلنا لدرجة أن نتطور فكريًا وأكاديميًا وموسيقيًا وروحيًا وعندما تمر لحظة العبور الكوني، عندما يجتاحك الكون، نتمكن من تقطير ما يسقط على رؤوسنا ويخرج صدى الكون على الورق بطريقة مختلفة.
(*) لديك مئات المؤلفات الموسيقية التي لم تصل إلى الجمهور، لماذا؟ هل هي مشكلة في الإنتاج؟
أكيد، مؤسستي تنتج كل أعمالي، وهذا أمر مكلف جدًا. هذا النمط من الأعمال عادة يحتاج الى موازنات دول، موازنات طائلة. أنا أنتج من شغلي وجهدي عبر جولاتي في العالم وحصيلة كل ذلك أضعه على الإنتاجات، وهذا يجعلني معرّضة للخطر، هو أمر غير سهل.
(*) من هي الأسماء البارزة في مسيرتك الموسيقية منذ الطفولة وحتى الآن، والتي كان لها أثر وتأثير في مسيرتك؟
والدتي أولًا، هي التي تابعتني موسيقيًا منذ ولدتُ وبالتفاصيل. لاحظت أنني أكتب من عمر سنة ونصف السنة فعلمتني القراءة والكتابة. لاحظت أنني بعمر سنتين ونصف السنة أصنع لحنًا على السمع فأتت لي بأستاذ موسيقى، ودعمتني بشكل دائم وساهمت بإنتاجاتي الموسيقية ببداية طريقي. أسماء كثيرة، وليد غلمية في لبنان وكارلو بيرجونزي بإيطاليا، وأصدقاء من العالم العربي اهتموا بأعمالي أيضًا. وهناك أسماء متل نيتشه وشوبنهاور وابن عربي والحلاج وغيرهم، هؤلاء أصدقاء لا نلتقي بهم. على مستوى آخر كان عندي أصدقاء مهمين ببداية حياتي المهنية والتعليمية عندما كان عمري 15 تركوا أثرًا بداخلي وبحياتي بفكري كأنسي الحاج وهدى النعماني وحمزة عبود. وهناك الأصدقاء الذين أكون معهم دائمًا. الصديق يقولبك، خاصة أصدقاء الفكر. وأيضًا الناس الذين يهتمون بموسيقاي، هؤلاء يؤثرون بي كثيرًا.
أوروبا أعطتني الكثير
(*) عندما حادثتكِ أخبرتني أنك في جولة موسيقية في أوروبا، كيف يرانا الغرب عبركِ، وكم تجدين حضورك ونجاحك هناك يساهم في حوار الثقافات ووصول موسيقانا العربية بطريقة مختلفة إليهم؟
طبعًا حوار الثقافات موجود حتى في طريقة الموسيقى التي أكتبها، كيف أكتبها وأجمع العالمين. تلقفني العالم بشكل مهم جدًا وأخذت جوائز عالمية بأهم الصروح. وما ساعد بتكريسي في عالمنا العربي هو ما حققته في الغرب، مثل شهادة عالمية نكون بحاجة إليها كي نقدّر في بلادنا ويلتفتوا إلينا وإلى أعمالنا. أوروبا أعطتني الكثير، بدءًا من العلم إلى التقدير الكبير الذي حصلت عليه، وصولًا لأن تعزف لي أوركسترا عالمية وتتوج ملكة هولندا عملي. أعطاني الغرب علامات بتاريخي الموسيقي، وأسّس لي النقلات الكبيرة التي ارتكزت عليها. أوروبا عالم يطلب دائمًا الجديد ويفتش عن صوت موسيقي جديد وربما لأن موسيقانا مختلفة وهذا الدمج الذي أنجزته خلق عندهم وعلى سمعهم صوتا موسيقيا جديدا وسمعوني بشكل ربما كوّن لديهم اقتراحا مختلفا عن الذي تعودوا عليه، وتفاعلوا معي بشكل رائع.
(*) يقول الشاعر محمد الماغوط "أحيانًا الصمت أجمل موسيقى في العالم"، ويقول الفنان ألدوس هسكلي: "الموسيقى هي أقرب شيء بعد الصمت يمكن التعبير بها عما لا يمكن وصفه"... هل أتاك هذا الشعور بالرغبة بالصمت عن الموسيقى أمام خراب لبنان والأزمات الكبيرة في كل مكان؟
إذا لم يكن صمت لا يكون صوت، بين النوتة والنوتة هناك علامات صمت. الصمت هو جزء من الموسيقى المدّونة. نكتب نوتات تحكي ونكتب نوتات صامتة نسكت فيها، وهذا التداول مثل الولادة للحياة والموت، الصوت هو صناعة الحياة، الموسيقى صوت يولد وصوت يموت، والولادة والموت هما الحياة، لكن الصوت الذي يموت عندنا يبقى مسافرًا ويعيش في أكوان أخرى، يسافر برحلته اللانهائية، أما صمتنا أمام الوضع الذي نحن فيه بلبنان فليس فيه صمت، فيه أنين وليس صمتًا. وهذا الأنين مدوٍ...
هبة القواس- "لبنان عد أملًا":