عبد الواسع الحميري: مشروعي مهتم بنقد الخطاب بحقوله المختلفة
صدام الزيدي 18 يناير 2023
حوارات
شارك هذا المقال
حجم الخط
على مدى 36 عامًا، أنجز الناقد والباحث الأكاديمي اليمني، عبد الواسع الحميري، الحاصل على الدكتوراه سنة 1996 في اللغة العربية (أدب ونقد)، أكثر من 30 كتابًا تتوزع على عدة فروع نقدية ضمن مشروع نقدي يهتم بنقد الخطاب بكافة أشكاله وتجلياته، تناول في مجمله تحليل الخطاب الإبداعي الشعري، والخطاب النقدي، ثم نقد الخطاب السياسي، وتحليل خطاب المعرفة والوجود ونقد الخطاب الفلسفي وتحليل الخطاب السردي قديمًا وحديثًا.
وللحميري عشرات الأبحاث العلمية المنشورة في مجلات علمية محكمة وأخرى غير محكمة تعالج قضايا الخطاب في حقوله المختلفة، كما أشرف على عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه، في جامعات يمنية وسعودية وعربية.
مؤخرًا، أصدرت دار عناوين بوكس (دار نشر يمنية تنشط من القاهرة) المشروع النقدي للدكتور عبد الواسع الحميري المتضمن كتبًا سبق أن نشرها في العقود الماضية وأخرى جديدة، يتشكل منها هذا المشروع الذي اتجه إلى (نقد النقد) ونزف سنوات عمره في إنجازه وما يزال لديه بقية من الكتب والعناوين والتناولات النقدية المهمة استمرارًا لمشروعه الذي يُطلِق عليه المشروع النقدي الجامع.
هنا حوار مع الناقد عبد الواسع الحميري:
(*) أنجزت ضمن مشروع نقدي تشتغل عليه منذ أن كنت معيدًا في جامعة صنعاء في عام 1987 وحتى الآن، ما يزيد عن 30 كتابًا. المشروع يهتم بنقد الخطاب اللغوي بكافة أشكاله وتجلياته، حدثنا عنه، ولماذا أسميته "المشروع النقدي الجامع"؟
الحديث عن المشروع يطول لكنني سأوجز قولي في الآتي:هذا المشروع أسميته المشروع النقدي الجامع. لماذا هو مشروع نقدي جامع؟ لأنه ليس مشروعًا في نقد الخطاب الأدبي فقط، بمعنى أنه ليس مشروعًا في نقد الأدب الذي تخصص فيه الكثير من الأكاديميين وكرسوا له جل جهدهم وحيواتهم، بل هو مشروع في نقد الخطاب اللغوي بكافة أشكاله وتجلياته؛ داخلًا في ذلك نقد الخطاب الأدبي بشقيه الشعري والنثري (السردي) الذي أنجزت في إطاره ما يزيد عن ثمانية كتب، فالخطاب النقدي الذي كتبت فيه ما يزيد عن تسعة كتب، إضافة إلى الخطاب السياسي الذي حللته ونقدته في أربعة كتب، فالخطاب التاريخي والخطاب الديني، فضلا عن الخطاب الفلسفي الذي كرست في دراسته موسوعة أو ما يشبه الموسوعة في سبعة أجزاء، لذلك فهو مشروع تنويري، لأن الهدف منه ليس البحث عن جماليات الأدب، وإنما البحث في أنظمة التخاطب البشري وطرائق التفاعل بين البشر، فهو ينوّر المثقف الكاتب المبدع؛ شاعرًا كان أم ساردًا، كما ينوّر المثقّف السّياسي والمؤرّخ الاجتماعي والفيلسوف... إلخ.
(*) كثيرون ممن يتابعون نشاطك النقدي يسألون: 32 كتابًا في نقد النقد ماذا عسى أن تقول؟
هذه الكتب ليست فيما تسميه بنقد النقد، بل هي- كما سبق أن قلت- في نقد كافة أنظمة الخطاب، نقول "أنظمة" لأن هناك أنظمة متعددة للتفكير البشري، وأنظمة متعددة للتعبير البشري، ومن ثم، هناك أنظمة متعددة للحياة البشرية، وقد تناولت بالدراسة والتحليل الناقد الكثير من هذه الأنظمة، مبيّنًا العيوب التي تعتورها، وتجعلها تقود الإنسان؛ إمّا إلى السِّلم والاستقرار أو إلى العنف والحرب، ولذلك فقد ركزت على هذا الجانب بشكل خاص.
(*) ماذا تقصد بـ"أنظمة الحياة البشرية"... هل من مزيد من التوضيح؟
- أنظمة الكلام البشري هي – كما ذكرت- أنظمة التفكير البشريّ، وهي في الوقت ذاته أنظمة التعبير البشري، وهي بالتالي، أنظمة الحياة التي يحياها الإنسان بجوانبها المختلفة؛ بجانبها الإبداعي، وبجانبيها الاجتماعي والسياسي، وبجانبيها الروحي والأخلاقي، وبجانبيها العقلي والفلسفي... إلخ، ولذلك كان تركيزنا خلال المشروع على طبيعة العلائق الناشئة بين هذه الجوانب المختلفة من حياة الإنسان؛ منطلقًا في ذلك من طرح سؤال العلاقة بين الدين والسياسة، أو بين ما هو من (واجبات) الدين وما هو من (ممكنات) السياسة، ومن ثمّ، بين ما ينبغي نسبته إلى الله، ويجب علينا أن نتعبد الله به، وبين ما هو من صنع البشر وينبغي أن نتفاعل معه بوصفه من منجزات البشر. وكذلك أيضًا العلاقة بين السياسي والتاريخي، والعلاقة بين السياسي والمعرفي، والعلاقة بين السياسي والإبداعي والفني... إلخ. هذه من أهم المحاور التي تم تناولها خلال هذا المشروع الذي حاولت خلاله أن أميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود الذي غالبًا ما يلتبس في وعي المفكرين وفي كافة حقول التفكير.
(*) ما الذي حفّزك لتجشم هذا الطريق الصعب لتجعل من مشروعك هذا (مشروعًا جامعًا)؟
أعتقد أن الواقع الاجتماعي أو التاريخي المأزوم الذي بتنا نعانيه أفرادًا وجماعات هو الذي حفّزني على مواصلة الحفر في هذه المناطق القصية الشائكة والمعقدة من موروثنا الثقافي والحضاري، بحثًا فيه عن الأسباب والجذور التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه، وجعلتنا منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا نعيش حالة من التمزق والشتات الناجمة عن (الحروب البينيّة)؛ سواء في اليمن أو خارج اليمن.
(*) ما هي أهم مكونات المشروع؟ ومنذ متى بدأت في إنجازه؟
كما سبق أن قلت فإن مشروعي النقدي ليس مشروعًا في نقد الخطاب الأدبي فحسب، ولا هو في نقد الخطاب النقدي فحسب، بل هو في نقد الخطاب بكافة أشكاله وتشكلاته، بدءًا بالخطاب الأدبي؛ الشعري والسردي، مرورًا بالخطاب النقدي فالخطاب السياسي والتاريخي والديني والعقلي والفلسفي. ولأنه كذلك فقد كرست قرابة سبعة كتب في نقد الخطاب الأدبي الشعري والسردي. من بين أهم هذه الكتب: كتاب (الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية) هذا في نقد الشعر، وكتاب (كينونة التفرد والاختلاف)، وهو أيضًا في نقد الشعر، إضافة إلى (خطاب السلطة والخطاب المضاد)، وكتاب (الأنا مدخلًا لتحليل الخطاب السردي) وهذا الأخير عبارة عن ثلاثة أجزاء تناولت فيه الخطاب السردي بأشكاله المختلفة؛ الفنية منها، يعني الرّوائية، والتاريخية والتقريرية والسيريّة أيضًا.
هذا فيما يتعلق بنقد الخطاب الإبداعي؛ الشعري منه والنثري أو السردي، أمّا فيما يتعلق بنقد الخطاب النقدي (في نقد النقد)، فقد كرست لتحليله ونقده ما يزيد عن ثمانية كتب، من أهمها: كتاب (شعرية الخطاب في التراث النقدي والبلاغي)، وهو في نقد الخطاب النقدي العربي القديم، وكتاب (اتجاهات الخطاب النقدي وأزمة التجريب)، وهو في نقد الخطاب النقدي بشكل عام، إضافة إلى كتاب (ما الناقد؟ مقاربة تأسيسية في نقد النقد)، وهو الكتاب الذي استعرضته أنت في "ضفة ثالثة" عندما صدر في عام 2019، وهناك أيضًا كتاب (ما الخطاب وكيف نحلله؟) و(نظرية الخطاب: مقاربة تأسيسية)، إضافة إلى كتاب (الخطاب والنص: المفهوم، العلاقة، والسلطة)، وكتاب (في الطريق إلى النص) هذه كلّها كتب في نقد الخطاب النقدي.
وهناك كتب أخرى في نقد الخطاب السياسي، الذي كرّست له ما يزيد عن خمسة كتب، أهمها: كتاب (أزمة الخطاب السياسي العربي المعاصر)؛ و(دولة الخطاب ويوتوبيا الدولة)؛ و(تسييس المتعالي في تاريخ الحضارة الإسلامية)؛ و(الخطاب السياسي: البنية والدلالة)، وهذه جميعها في تحليل ونقد الخطاب السياسي، في مراحله المختلفة.
ثم هناك أيضًا مجموعة من الكتب في نقد الخطاب الفلسفي، وقد أنجزت على هذا الصعيد سبعة كتب، هي: (إشكالية الماهية والحقيقة والواقع) وهو واحد من أبرز ما كتب في هذا السياق، وكتاب: (الطبيعة والوجود في فلسفة الماهية والصورة عند كل من أفلاطون وأرسطو)؛ فكتاب (الطبيعة والوجود في العقل الإسلامي المعتقل)، وهو في نقد الخطاب الفلسفي عند الفلاسفة المسلمين: ابن سينا وابن مسكويه وابن رشد وابن خلدون، إضافة إلى كتاب (الطبيعة والوجود في العقل الفلسفي الحديث) بدءًا من ديكارت وانتهاءً بسارتر وكثير من الفلاسفة.
وبهذا يتضح أن المشروع النقدي الجامع ليس مشروعًا في نقد الأدب فقط، ولا هو في نقد النقد فقط أيضا، ولكنه مشروع في نقد الخطاب اللغوي بكافة أشكاله و(تجلياته....)، وهو مشروع بدأ مع بداية حياتي الأكاديمية، أي منذ أن كنت معيدًا في جامعة صنعاء في عام 1987، وقد كرست له جلّ حياتي، فمن يعرفني يعرفني إما قارئًا أو كاتبًا، وطوال 36 عامًا انقطعت تقريبًا بشكل كلي للقراءة والكتابة.
(*) ما الذي يمكنك أن تضيفه استمرارًا لهذا المشروع في ما كتب الله لك من بقية في الحياة؟
لا شك في أنه لا يزال لدي الكثير، لأنه ما زال هناك الكثير من المشكلات التي تؤرقني، الكثير من الأسئلة التي ما تزال تلح عليّ. فالمرحلة الماضية كانت بالنسبة لي بمثابة مرحلة للتأسيس. أنا أسست خطابًا نقديًا يُمكِّنني من العودة إلى الجذور؛ جذور موروثنا الثقافي والحضاري، لذلك فإنني أعمل حاليًا على نقد خطاب الجذور، خطاب الأصول؛ أصول الثقافة، أصول الحضارة، بدءًا بخطاب أصول الفقه أو أصول الفهم، منطلقا في ذلك من السؤال: كيف فهم فقهاؤنا النص الديني أو الشرعي؟ ما هي الأسس التي أقاموا عليها فقههم؟ ما هي المنطلقات التي انطلقوا منها، ومن أين استمدوها؟ وهل ما تزال كافية لفهم جوهر النص الديني أو الشرعي، أم أنها باتت بحاجة إلى إعادة نظر؟ هذه الأسئلة وأسئلة أخرى طرحناها وما نزال نطرحها على هذه الأصول. وقد أنجزنا الكثير على هذا الصعيد، من ذلك كتاب أعتقد بأنه من بين أهم ما كتبت حتى الآن، وهو لا يزال في طور الصياغة النهائية، عنوانه (الطبائع والشرائع: في رؤيا العالم القرآنية والفلسفية). هذا في ما يتعلق بأصول الفقه. كما شرعت في العمل في نقد أصول التفسير، تفسير القرآن الكريم، منطلقا في ذلك من السؤال: ما هي الأسس والمعايير التي انطلق منها المفسرون في تفسيرهم لكلام الله جلّ في علاه؟ من أين استمدّوها، وكيف وظّفوها؟
كذلك عملت وما أزال أعمل على نقد أصول الحديث، وقد أنجزت على هذا الصعيد كتابًا، هو من ضمن الكتب المنشورة (الأنا مدخلًا في تحليل بنية الخطاب السردي الخبري) وهو الجزء الثاني من الأجزاء الثلاثة التي صدرت مؤخرا عن دار عناوين بوكس، فقد درست فيه (حللت) أحد أشكال الخطاب الخبري، مجسّدًا في أحد المرويات الخبرية التّاريخية الحديثيّة في أحد أهم الكتب الصحيحة. كما عملت وما أزال أعمل على نقد أصول خطاب المعرفة والاعتقاد، وقد أنجزت على هذا الصعيد أيضًا واحدًا من أهم كتبي هو كتاب (نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة). إذًا هذه لمحة موجزة عن عمر المشروع النقدي الجامع الذي عملت عليه منذ عام 1987.
(*) في ظروف الحرب في اليمن التي تدور رحاها منذ أكثر من 8 سنوات، كيف آلت أحوال الثقافة والإبداع في السنوات الأخيرة (من الحرب) تحديدًا؟
نستطيع أن نقول عن مشهد الثقافة والإبداع في اليمن في السنوات الأخيرة بأنه مشهد ممزق، متشظ. لا نستطيع أن نبحث فيه عن بنية ناظمة لمكوّناته التي تتبدّى لعين المراقب بمثابة جزر معزولة، وإن كنّا، في حقيقة الأمر، نثمّن موقف المبدعين الشّباب من شعراء و(سردانيين) كتاب رواية بالذات الذين يواصلون تحديهم للظروف ويستقتلون في سبيل توصيل رسالتهم التي هي في النهاية في خدمة اليمن ومستقبل اليمنيين. فهم على رغم معاناتهم من ويلات الحرب والدمار إلا أن الكثير منهم يصر على مواصلة مسيرته الإبداعية بكل همة واقتدار.
وإن كنت أعتقد، من جهة أخرى، بأن الثقافة والمشهد الثقافي والمثقفين في اليمن عمومًا كانوا وما يزالون وربما قد يبقون في نفس الدوامة التي عانوها في الأعوام الفائتة، لأن القابضين على زمام الأمر السياسي اليمني ما زالوا – كما كانوا أبدًا- يدورون حول مصالحهم الخاصة، مسخّرين كل ما تطاله أيديهم من مقدرات الشعب اليمني في صراعهم على السلطة والنفوذ؛ حيث كلّ طرف يحاول أن يبذل كل ما في وسعه كي يستحوذ ويسخِّر كل طاقات الشعب والأمة اليمنية في سبيل تحقيق أهدافه التي لا علاقة لها باليمن ولا باليمنيين كوطن وكشعب وكمستقبل للأجيال القادمة.
صدام الزيدي 18 يناير 2023
حوارات
شارك هذا المقال
حجم الخط
على مدى 36 عامًا، أنجز الناقد والباحث الأكاديمي اليمني، عبد الواسع الحميري، الحاصل على الدكتوراه سنة 1996 في اللغة العربية (أدب ونقد)، أكثر من 30 كتابًا تتوزع على عدة فروع نقدية ضمن مشروع نقدي يهتم بنقد الخطاب بكافة أشكاله وتجلياته، تناول في مجمله تحليل الخطاب الإبداعي الشعري، والخطاب النقدي، ثم نقد الخطاب السياسي، وتحليل خطاب المعرفة والوجود ونقد الخطاب الفلسفي وتحليل الخطاب السردي قديمًا وحديثًا.
وللحميري عشرات الأبحاث العلمية المنشورة في مجلات علمية محكمة وأخرى غير محكمة تعالج قضايا الخطاب في حقوله المختلفة، كما أشرف على عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه، في جامعات يمنية وسعودية وعربية.
مؤخرًا، أصدرت دار عناوين بوكس (دار نشر يمنية تنشط من القاهرة) المشروع النقدي للدكتور عبد الواسع الحميري المتضمن كتبًا سبق أن نشرها في العقود الماضية وأخرى جديدة، يتشكل منها هذا المشروع الذي اتجه إلى (نقد النقد) ونزف سنوات عمره في إنجازه وما يزال لديه بقية من الكتب والعناوين والتناولات النقدية المهمة استمرارًا لمشروعه الذي يُطلِق عليه المشروع النقدي الجامع.
هنا حوار مع الناقد عبد الواسع الحميري:
(*) أنجزت ضمن مشروع نقدي تشتغل عليه منذ أن كنت معيدًا في جامعة صنعاء في عام 1987 وحتى الآن، ما يزيد عن 30 كتابًا. المشروع يهتم بنقد الخطاب اللغوي بكافة أشكاله وتجلياته، حدثنا عنه، ولماذا أسميته "المشروع النقدي الجامع"؟
الحديث عن المشروع يطول لكنني سأوجز قولي في الآتي:هذا المشروع أسميته المشروع النقدي الجامع. لماذا هو مشروع نقدي جامع؟ لأنه ليس مشروعًا في نقد الخطاب الأدبي فقط، بمعنى أنه ليس مشروعًا في نقد الأدب الذي تخصص فيه الكثير من الأكاديميين وكرسوا له جل جهدهم وحيواتهم، بل هو مشروع في نقد الخطاب اللغوي بكافة أشكاله وتجلياته؛ داخلًا في ذلك نقد الخطاب الأدبي بشقيه الشعري والنثري (السردي) الذي أنجزت في إطاره ما يزيد عن ثمانية كتب، فالخطاب النقدي الذي كتبت فيه ما يزيد عن تسعة كتب، إضافة إلى الخطاب السياسي الذي حللته ونقدته في أربعة كتب، فالخطاب التاريخي والخطاب الديني، فضلا عن الخطاب الفلسفي الذي كرست في دراسته موسوعة أو ما يشبه الموسوعة في سبعة أجزاء، لذلك فهو مشروع تنويري، لأن الهدف منه ليس البحث عن جماليات الأدب، وإنما البحث في أنظمة التخاطب البشري وطرائق التفاعل بين البشر، فهو ينوّر المثقف الكاتب المبدع؛ شاعرًا كان أم ساردًا، كما ينوّر المثقّف السّياسي والمؤرّخ الاجتماعي والفيلسوف... إلخ.
(*) كثيرون ممن يتابعون نشاطك النقدي يسألون: 32 كتابًا في نقد النقد ماذا عسى أن تقول؟
هذه الكتب ليست فيما تسميه بنقد النقد، بل هي- كما سبق أن قلت- في نقد كافة أنظمة الخطاب، نقول "أنظمة" لأن هناك أنظمة متعددة للتفكير البشري، وأنظمة متعددة للتعبير البشري، ومن ثم، هناك أنظمة متعددة للحياة البشرية، وقد تناولت بالدراسة والتحليل الناقد الكثير من هذه الأنظمة، مبيّنًا العيوب التي تعتورها، وتجعلها تقود الإنسان؛ إمّا إلى السِّلم والاستقرار أو إلى العنف والحرب، ولذلك فقد ركزت على هذا الجانب بشكل خاص.
(*) ماذا تقصد بـ"أنظمة الحياة البشرية"... هل من مزيد من التوضيح؟
- أنظمة الكلام البشري هي – كما ذكرت- أنظمة التفكير البشريّ، وهي في الوقت ذاته أنظمة التعبير البشري، وهي بالتالي، أنظمة الحياة التي يحياها الإنسان بجوانبها المختلفة؛ بجانبها الإبداعي، وبجانبيها الاجتماعي والسياسي، وبجانبيها الروحي والأخلاقي، وبجانبيها العقلي والفلسفي... إلخ، ولذلك كان تركيزنا خلال المشروع على طبيعة العلائق الناشئة بين هذه الجوانب المختلفة من حياة الإنسان؛ منطلقًا في ذلك من طرح سؤال العلاقة بين الدين والسياسة، أو بين ما هو من (واجبات) الدين وما هو من (ممكنات) السياسة، ومن ثمّ، بين ما ينبغي نسبته إلى الله، ويجب علينا أن نتعبد الله به، وبين ما هو من صنع البشر وينبغي أن نتفاعل معه بوصفه من منجزات البشر. وكذلك أيضًا العلاقة بين السياسي والتاريخي، والعلاقة بين السياسي والمعرفي، والعلاقة بين السياسي والإبداعي والفني... إلخ. هذه من أهم المحاور التي تم تناولها خلال هذا المشروع الذي حاولت خلاله أن أميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود الذي غالبًا ما يلتبس في وعي المفكرين وفي كافة حقول التفكير.
(*) ما الذي حفّزك لتجشم هذا الطريق الصعب لتجعل من مشروعك هذا (مشروعًا جامعًا)؟
أعتقد أن الواقع الاجتماعي أو التاريخي المأزوم الذي بتنا نعانيه أفرادًا وجماعات هو الذي حفّزني على مواصلة الحفر في هذه المناطق القصية الشائكة والمعقدة من موروثنا الثقافي والحضاري، بحثًا فيه عن الأسباب والجذور التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه، وجعلتنا منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا نعيش حالة من التمزق والشتات الناجمة عن (الحروب البينيّة)؛ سواء في اليمن أو خارج اليمن.
"إن مشروعي النقدي ليس مشروعًا في نقد الخطاب الأدبي فحسب، ولا هو في نقد الخطاب النقدي فحسب، بل هو في نقد الخطاب بكافة أشكاله وتشكلاته، بدءًا بالخطاب الأدبي؛ الشعري والسردي، مرورًا بالخطاب النقدي فالخطاب السياسي والتاريخي والديني والعقلي والفلسفي" |
كما سبق أن قلت فإن مشروعي النقدي ليس مشروعًا في نقد الخطاب الأدبي فحسب، ولا هو في نقد الخطاب النقدي فحسب، بل هو في نقد الخطاب بكافة أشكاله وتشكلاته، بدءًا بالخطاب الأدبي؛ الشعري والسردي، مرورًا بالخطاب النقدي فالخطاب السياسي والتاريخي والديني والعقلي والفلسفي. ولأنه كذلك فقد كرست قرابة سبعة كتب في نقد الخطاب الأدبي الشعري والسردي. من بين أهم هذه الكتب: كتاب (الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية) هذا في نقد الشعر، وكتاب (كينونة التفرد والاختلاف)، وهو أيضًا في نقد الشعر، إضافة إلى (خطاب السلطة والخطاب المضاد)، وكتاب (الأنا مدخلًا لتحليل الخطاب السردي) وهذا الأخير عبارة عن ثلاثة أجزاء تناولت فيه الخطاب السردي بأشكاله المختلفة؛ الفنية منها، يعني الرّوائية، والتاريخية والتقريرية والسيريّة أيضًا.
هذا فيما يتعلق بنقد الخطاب الإبداعي؛ الشعري منه والنثري أو السردي، أمّا فيما يتعلق بنقد الخطاب النقدي (في نقد النقد)، فقد كرست لتحليله ونقده ما يزيد عن ثمانية كتب، من أهمها: كتاب (شعرية الخطاب في التراث النقدي والبلاغي)، وهو في نقد الخطاب النقدي العربي القديم، وكتاب (اتجاهات الخطاب النقدي وأزمة التجريب)، وهو في نقد الخطاب النقدي بشكل عام، إضافة إلى كتاب (ما الناقد؟ مقاربة تأسيسية في نقد النقد)، وهو الكتاب الذي استعرضته أنت في "ضفة ثالثة" عندما صدر في عام 2019، وهناك أيضًا كتاب (ما الخطاب وكيف نحلله؟) و(نظرية الخطاب: مقاربة تأسيسية)، إضافة إلى كتاب (الخطاب والنص: المفهوم، العلاقة، والسلطة)، وكتاب (في الطريق إلى النص) هذه كلّها كتب في نقد الخطاب النقدي.
وهناك كتب أخرى في نقد الخطاب السياسي، الذي كرّست له ما يزيد عن خمسة كتب، أهمها: كتاب (أزمة الخطاب السياسي العربي المعاصر)؛ و(دولة الخطاب ويوتوبيا الدولة)؛ و(تسييس المتعالي في تاريخ الحضارة الإسلامية)؛ و(الخطاب السياسي: البنية والدلالة)، وهذه جميعها في تحليل ونقد الخطاب السياسي، في مراحله المختلفة.
ثم هناك أيضًا مجموعة من الكتب في نقد الخطاب الفلسفي، وقد أنجزت على هذا الصعيد سبعة كتب، هي: (إشكالية الماهية والحقيقة والواقع) وهو واحد من أبرز ما كتب في هذا السياق، وكتاب: (الطبيعة والوجود في فلسفة الماهية والصورة عند كل من أفلاطون وأرسطو)؛ فكتاب (الطبيعة والوجود في العقل الإسلامي المعتقل)، وهو في نقد الخطاب الفلسفي عند الفلاسفة المسلمين: ابن سينا وابن مسكويه وابن رشد وابن خلدون، إضافة إلى كتاب (الطبيعة والوجود في العقل الفلسفي الحديث) بدءًا من ديكارت وانتهاءً بسارتر وكثير من الفلاسفة.
وبهذا يتضح أن المشروع النقدي الجامع ليس مشروعًا في نقد الأدب فقط، ولا هو في نقد النقد فقط أيضا، ولكنه مشروع في نقد الخطاب اللغوي بكافة أشكاله و(تجلياته....)، وهو مشروع بدأ مع بداية حياتي الأكاديمية، أي منذ أن كنت معيدًا في جامعة صنعاء في عام 1987، وقد كرست له جلّ حياتي، فمن يعرفني يعرفني إما قارئًا أو كاتبًا، وطوال 36 عامًا انقطعت تقريبًا بشكل كلي للقراءة والكتابة.
(*) ما الذي يمكنك أن تضيفه استمرارًا لهذا المشروع في ما كتب الله لك من بقية في الحياة؟
لا شك في أنه لا يزال لدي الكثير، لأنه ما زال هناك الكثير من المشكلات التي تؤرقني، الكثير من الأسئلة التي ما تزال تلح عليّ. فالمرحلة الماضية كانت بالنسبة لي بمثابة مرحلة للتأسيس. أنا أسست خطابًا نقديًا يُمكِّنني من العودة إلى الجذور؛ جذور موروثنا الثقافي والحضاري، لذلك فإنني أعمل حاليًا على نقد خطاب الجذور، خطاب الأصول؛ أصول الثقافة، أصول الحضارة، بدءًا بخطاب أصول الفقه أو أصول الفهم، منطلقا في ذلك من السؤال: كيف فهم فقهاؤنا النص الديني أو الشرعي؟ ما هي الأسس التي أقاموا عليها فقههم؟ ما هي المنطلقات التي انطلقوا منها، ومن أين استمدوها؟ وهل ما تزال كافية لفهم جوهر النص الديني أو الشرعي، أم أنها باتت بحاجة إلى إعادة نظر؟ هذه الأسئلة وأسئلة أخرى طرحناها وما نزال نطرحها على هذه الأصول. وقد أنجزنا الكثير على هذا الصعيد، من ذلك كتاب أعتقد بأنه من بين أهم ما كتبت حتى الآن، وهو لا يزال في طور الصياغة النهائية، عنوانه (الطبائع والشرائع: في رؤيا العالم القرآنية والفلسفية). هذا في ما يتعلق بأصول الفقه. كما شرعت في العمل في نقد أصول التفسير، تفسير القرآن الكريم، منطلقا في ذلك من السؤال: ما هي الأسس والمعايير التي انطلق منها المفسرون في تفسيرهم لكلام الله جلّ في علاه؟ من أين استمدّوها، وكيف وظّفوها؟
كذلك عملت وما أزال أعمل على نقد أصول الحديث، وقد أنجزت على هذا الصعيد كتابًا، هو من ضمن الكتب المنشورة (الأنا مدخلًا في تحليل بنية الخطاب السردي الخبري) وهو الجزء الثاني من الأجزاء الثلاثة التي صدرت مؤخرا عن دار عناوين بوكس، فقد درست فيه (حللت) أحد أشكال الخطاب الخبري، مجسّدًا في أحد المرويات الخبرية التّاريخية الحديثيّة في أحد أهم الكتب الصحيحة. كما عملت وما أزال أعمل على نقد أصول خطاب المعرفة والاعتقاد، وقد أنجزت على هذا الصعيد أيضًا واحدًا من أهم كتبي هو كتاب (نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة). إذًا هذه لمحة موجزة عن عمر المشروع النقدي الجامع الذي عملت عليه منذ عام 1987.
(*) في ظروف الحرب في اليمن التي تدور رحاها منذ أكثر من 8 سنوات، كيف آلت أحوال الثقافة والإبداع في السنوات الأخيرة (من الحرب) تحديدًا؟
نستطيع أن نقول عن مشهد الثقافة والإبداع في اليمن في السنوات الأخيرة بأنه مشهد ممزق، متشظ. لا نستطيع أن نبحث فيه عن بنية ناظمة لمكوّناته التي تتبدّى لعين المراقب بمثابة جزر معزولة، وإن كنّا، في حقيقة الأمر، نثمّن موقف المبدعين الشّباب من شعراء و(سردانيين) كتاب رواية بالذات الذين يواصلون تحديهم للظروف ويستقتلون في سبيل توصيل رسالتهم التي هي في النهاية في خدمة اليمن ومستقبل اليمنيين. فهم على رغم معاناتهم من ويلات الحرب والدمار إلا أن الكثير منهم يصر على مواصلة مسيرته الإبداعية بكل همة واقتدار.
وإن كنت أعتقد، من جهة أخرى، بأن الثقافة والمشهد الثقافي والمثقفين في اليمن عمومًا كانوا وما يزالون وربما قد يبقون في نفس الدوامة التي عانوها في الأعوام الفائتة، لأن القابضين على زمام الأمر السياسي اليمني ما زالوا – كما كانوا أبدًا- يدورون حول مصالحهم الخاصة، مسخّرين كل ما تطاله أيديهم من مقدرات الشعب اليمني في صراعهم على السلطة والنفوذ؛ حيث كلّ طرف يحاول أن يبذل كل ما في وسعه كي يستحوذ ويسخِّر كل طاقات الشعب والأمة اليمنية في سبيل تحقيق أهدافه التي لا علاقة لها باليمن ولا باليمنيين كوطن وكشعب وكمستقبل للأجيال القادمة.