فاتحة الطايب: المشهد الثقافي العربي يشهد دينامية نقدية مقارنة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • فاتحة الطايب: المشهد الثقافي العربي يشهد دينامية نقدية مقارنة

    فاتحة الطايب: المشهد الثقافي العربي يشهد دينامية نقدية مقارنة
    أسامـة الصغيـر 3 يناير 2023
    حوارات
    فاتحة الطايب خلال مشاركتها في مؤتمر للرابطة العالمية بالصين
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    تُعتبر الأكاديميةُ المغربية فاتحة الطايب واحدةً من الأسماء العربية القليلة الممسِكة بجمر الدرس الثقافي المقارن اعتبارًا لجَسامة الخَوض والإقدام في هذا الحقل المعرفي العلمي المُتَطلّب، برصيدِها مُتعدِّد المَشارب، ما بين: التَّلمذة، التدريس، الإشراف، الإنتاج العلمي، المُشارَكة والتنظيم القُطري والإقليمي والدولي في مضمار الدرس المقارن، والذي تُوِّجَ مؤخرًا بشرف الحصول على عضوية اللجنة التنفيذية للرابطة العالمية للأدب المقارن.

    الطايب حاصلة على دكتوراه الدولة في الأدب المقارن من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس بالرباط، وهي تشغل حاليا منصب أستاذة التعليم العالي بقسم الدراسات العربية. مُشرِفة على تكوين ماستر "الأدب العام والنقد المقارن" من السنة الجامعية 2010-2011 إلى السنة الجامعية 2020-2021، كما ساهمت في تأسيس "مختبر الدراسات المقارنة" وكذا "تكوين الدكتوراه في الدراسات المقارنة" وتدبيرِهِما ابتداء من السنة الجامعية 2012-2013، علاوةً على تأسيس "فريق البحث في الدراسات المقارنة" وتدبيرِه من السنة الجامعية 2016-2017 حتى اللحظة. تختصُّ الطايب في الكتابة ضمن مجالات الأدب المقارن والدراسات الثقافية، من قبيل: دراسات الترجمة، ودراسات ما بعد الاستعمار، والسرود البينية (الروايات الفرنكفونية والأنجلوفونية العربية)، والتمثلات الثقافية، والتعددية اللغوية والثقافية، وأدب الرحلات...

    نفتح اليومَ حوارًا معرفيًا مُتَّئِدًا مع الطايب ساعِين لأن يكون مَرجِعًا لكل مُهتمٍّ بنشأة وتطوّر ثم واقعِ هذا الخيار الثقافي العالمي، مع التركيز على الموقع العربي فيه.



    نحو تفكيك المركزية الغربية

    (*)حسب تقييمكم، ما هي مُميَزات المؤتمر الـ 23 للرابطة العالمية للأدب المقارن المُنعقد مُؤخرا بدولة جورجيا، وما هي دلالات اختيارها كجغرافيا لتنظيم هذا المُلتقى المعرفي العالمي؟

    إلى حدود آخر مؤتمر احتضنَته هذه السنة جامعة إيفان جفاخشفيلي الحكومية بتبليسي في موضوع إعادة تصوُّر آداب العالم: عالمية ومحلية، مركزية وهامشية؛ تكون الرابطة العالمية للأدب المقارن قد نظّمت ثلاثة وعشرين مؤتمرًا بمعدل مؤتمر كل ثلاث سنوات منذ تأسيسها سنة 1954 بأكسفورد، بمبادرة من مقارنين وكتاب غربيين أمثال فرناند بالدنسبرجر، جون ماري كاري، و ت. س. إليوت. والذي يتأمل في موضوعات ومحاور هذه المؤتمرات، ابتداء بأول مؤتمر عقد في البندقية سنة 1955 بعنوان "البندقية في الآداب الحديثة"، سيكتشف التطور الحاصل في إطار حقل الأدب المقارن ليس على مستوى التداخل والتشابك بين الحقول والاختصاصات وتجديد المجالات وتطويرها فحسب، وإنما على مستوى التوجه نحو تفكيك المركزية الغربية والاحتفاء بالتفاعل والهجنة والاختلاف. وإذا نحن قارنّا موضوع مؤتمر جورجيا، بمواضيع المؤتمرات الأخيرة للرابطة المنعقدة بالتتالي في باريس/ 2013، وفيينا/ 2016، ومكاو/ 2019، مُستحضِرين أهم محاور مؤتمر جورجيا، سنخلُص إلى أن من مُميزات هذا المؤتمر فضلًا عن تسليط الضوء على العلاقة بين المحلي/ الأصلي والوطني والعالمي، والتركيز على ضرورة إعادة كتابة التاريخ الثقافي في ظل سياقات دولية ما بعد استعمارية واستعمارية جديدة، هو التشديد على أهمية وغنى آداب الأمم الصغيرة في سبيل خلخلة التقسيمات الثنائية التي أريد لها أن تظل ثابتة من مثل: آداب صغرى/ آداب كبرى، آداب مركزية/ آداب هامشية، استنادًا إلى اعتبارات مُتَّصلة بالهيمنة اللغوية بوصفها وجها للهيمنة السياسية – الاقتصادية المؤثرة على الميدان الثقافي. مع العلم أن اختيار موضوع هذا المؤتمر - الذي هو نتاج تواصُل مكثَّف وحوار بين كبار المُتخصِّصين في حقل الأدب المقارن كالعادة - اختيار راعى وضعية أدب البلد المُضيف ضمن الآداب العالمية، بفضل دينامية "الجمعية الجورجية للأدب المقارن" التي جعلت من أولوياتها منذ تأسيسها سنة 2008 برئاسة الأستاذة إيرما راتياني إدراج المعرفة الجورجية ضمن نطاق المعرفة العالمية. فهذه الجمعية التي اتكأت من ناحية على أصالة وعراقة الأدب الجورجي والمعرفة الجورجيين وغناهما في الزمن الراهن في ظل التفاعل مع مختلف أنماط المعرفة الإنسانية وشتى الآداب شرقية وغربية، واتكأت من ناحية ثانية على ثمار الجهود المبذولة بعد استقلال جورجيا لتقوية البنية الثقافية التحتية والتعريف بالبلد وثقافته دوليًا، تمكّنت علاوة على استقطاب اهتمام المقارنين الدوليين لعقد المؤتمر في جورجيا، من تكييف شكل المؤتمر لتسهيل تدويل الأدب الجورجي والترويج للثقافة المحلية وتعزيزًا لهذه الجهود المبذولة لإعادة النظر في تصورات وتصنيفات مُتجاوزة، كان الإعلام الجورجي السمعي- البصري حاضرًا بكل ثقله لمُتابعة أشغال المؤتمر وعقد حوارات وجلسات غنيّة عنه مع المسؤولين الأكاديميين والأساتذة المنظمين والمساهمين... وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الاهتمام الإعلامي الجورجي الكبير بالمؤتمر، الذي يُترجِم اهتمام وزارة الثقافة الجورجية، اهتمامٌ يَمزج بين تيمة المؤتمر وأشغاله وبين حدث انعقاده في جورجيا. ذلك أن اختيار جورجيا فضاءً لتنظيم هذا الملتقى المعرفي العالمي، بصفتها بلدًا يقع بين أوروبا وآسيا، لا يجد في نظرنا تفسيره في التوجُّه الجديد للرابطة العالمية للأدب المقارن نحو الخروج من إسار المركزية الغربية الذي يرمز له تنويع فضاءات استضافة المؤتمر فحسب، وإنما يجد تفسيره أيضًا في نجاعة السياسة الثقافية الجورجية منذ تأسيس وزارة الثقافة في جورجيا سنة 2010، وفي فاعلية الدبلوماسية الثقافية الجورجية التي لم تَأُلْ جهدا منذ استقلال جورجيا عن روسيا سنة 1991 في العمل على فك الحصار عن جورجيا وثقافتها، إلى أن نجحت في مدة قصيرة في أن تحقق حلم الانخراط في الدينامية الثقافية العالمية وأن تصبح وجهة ثقافية دولية. فجورجيا هي أول بلد في قائمة بلدان ما بعد الحقبة السوفياتية استطاع أن يحظى بهذه الفرصة الدولية. وحتى أبين مدى نجاعة هذه الدبلوماسية، التي أصبحت تسندها سياسة ثقافية ذكية ابتداء من سنة 2010، أشير إلى أن ثقافة جورجيا وآدابها بحسب شهادة المثقّفين الجورجيين أنفسهم كانت شبه مجهولة في العالم أجمع إلى حدود منتصف عام 2010. هذا بالرغم من الجهود الفردية المبذولة قبل ذلك، سواء في أثناء المرحلة السوفياتية التي كانت فيها الثقافة الجورجية تعيش الحصار ولا تنقل أهم إنجازاتها سوى إلى اللغة الروسية، أو بعد الاستقلال مباشرة. ففي المرحلة السوفياتية عمل الجورجيون الذين ينتمون إلى أمة تكن احترامًا كبيرًا لكُتّابها، وتعتبرهم موضوع فخر أمام العالم العدائي الذي يحيط بها، على حث المثقفين الأجانب الذين تُتاح لهم فرصة اللقاء بهم والتواصل معهم على ترجمة ملحمة "الفارس في إهاب النمر" التي تؤصل للثقافة والأدب الجورجيين إضافة إلى إنتاجات حديثة كإنتاج الروائي نودار دومبادزي. ونستشهد في هذا السياق بمُلابسات ترجمة ملحمة شوتا روستافيلي الى العربية. أما في السنوات التالية للاستقلال، فقد عد كل كاتب ومثقف جورجي نفسه سفيرا لبلده وثقافته، فلم يكتف بإهداء كتبه الخاصة كما هو الشأن عندنا وإنما سعى إلى التعريف بالكُتب التي ترمز إلى قوة الفكر والأدب الجورجيين، وعلى رأسها طبعًا وإلى يومنا هذا الملحمة التي تعتبر الموسوعة الحقة للروح الجورجية.





    12 سنة فقط تفصل تاريخ إنشاء وزارة الثقافة الجورجية عن تاريخ انعقاد أكبر مؤتمر ثقافي دولي في جورجيا، وهي مدةٌ قصيرة جدًا لكي تتمكن أمةٌ صغيرة خرجت مُنهَكة لتوِّها من استعمارٍ طويل الأمد، من إيجاد مكان تحت الشمس والالتحاق بالركب العالمي. ففي هذه الفترة القصيرة تمكّنت جورجيا من اختراق السوق الثقافية الأوروبية، بواسطة تمويل وزارة الثقافة لبرنامج ترجمة الأدب الجورجي إلى اللغات الأجنبية وعلى رأسها اللغات الكبرى وتشجيع سعي دور النشر الجورجية إلى المساهمة في فعاليات المعارض الدولية الكبرى إلى أن أصبحت جورجيا ضيفة شرف في معرض فرانكفورت الدولي سنة 2018. وبحسب المعطيات، يُعد هذا المعرضُ نقطةَ انطلاقٍ حقيقية لجورجيا وثقافتها في العالم الغربي. ولا ننسى في هذا السياق، دور سُفراء جورجيا في خدمة الثقافة الجورجية وتدويلها، ففي أثناء مشاركة جورجيا في معرض الدوحة الدولي للكتاب سنة 2020 على سبيل التمثيل، أهدت سفارتها مكتبة جامعة قطر 74 كتابا وكان حضور سفيرها لدى قطر حضورا مؤثرا في سبيل مزيد من التعاون وترجمة الأدب الجورجي إلى العربية.

    يتضح مما سبق أن للإرادة السياسية دورًا محوريًا في تحريك عجلة الفعل الثقافي ورعايته واستثماره بما فيه إشعاع للبلد ودعم لتنميتها، ويكفي أن نُصيخ السمع للكلمة الترحيبية التي وجهها وزير الثقافة الجورجي إلى المشاركين في مؤتمر الأدب المقارن المنعقد بتبليسي لنكتشف مدى دعم الحكومة الجورجية لانخراط الثقافة الجورجية في الحوار العالمي ووعيها بالتلازم القائم بين السياسي والثقافي، ففي هذه الكلمة عد وزير الثقافة الجورجي تنظيم أكبر ملتقى علمي وثقافي دولي في حقلي النقد والأدب بتبليسي حدثا عظيما وحاسما بالنسبة إلى جورجيا، لأن هذا المُلتقى الذي يملك القدرة على تجميع كبار وألمع النقاد والمُتخصِّصين من شتّى بقاع العالم فضلًا عن الكتاب والمترجمين، قد تم تنظيمه على مدار السنوات في أكبر المدن العالمية وفي أعرق جامعاتها مما يعني، بالضرورة، انضمام تبليسي إلى قائمة هذه المدن والجامعة الجورجية الى قائمة الجامعات العريقة. ما لم يتحدث عنه وزير الثقافة الجورجي، حتى لا يتعدى ربما على اختصاص وزير الاقتصاد والتنمية المستدامة، هو أن تنظيم مؤتمر يشارك فيه أزيد من 3000 مُشارك من شتى البلدان العالمية يُعد أكبر دعم للسياحة الثقافية في جورجيا بوصفها رافعة للتنمية، فالمؤتمر الذي ينعقد على مدى ستة أيام يُساهم في تنشيط ميدان السياحة وما يتعلق به من وظائف وخدمات متشابكة. وبالرغم من أن الإعلان عن انعقاد المؤتمر تزامن في هذه الدورة مع الحرب الروسية - الأوكرانية مما أدى إلى انقسام المساهمين بين المشاركة الحضورية والمشاركة عن بعد، فإن من شأن تسليط الضوء دوليا على تبليسي ومؤسَّساتها الجامعية والثقافية (جامعة إيفان جفاخشفيلي، معهد شوتا روستافيلي للأدب الجورجي...) أن يعزز في المستقبل القريب موقع جورجيا بوصفها وجهةً ثقافية وسياحية دولية.



    الأدب المقارن في الجامعة المغربية

    (*) حظيتم بشرف تمثيل المغرب لأول مرة في اللجنة التنفيذية للرابطة العالمية للأدب المقارن. ما هي الرهاناتُ والأدوار المَنُوطة باللجنة التنفيذية؟ وكيف جاء هذا الاستحقاق العلمي؟

    تم تصوُّر الرابطة العالمية للأدب المقارن منذ نشأتها كعامل أساسي لتشجيع الأبحاث الدولية في الأدب المقارن والمُضي قُدمًا في تطوير هذا الحقل المعرفي. وتضطلع اللجنة التنفيذية تحت إشراف رئيس/ة الرابطة (الدكتورة لوشيا بولدريني في هذه الدورة) بالحرص على تحقيق وتعزيز الهدف الأصلي من إنشاء الرابطة، وذلك من خلال توزيع المهام بين أعضائها ضمن لُجيْنات مُتفرِّعة دائمة تشتغل بشكل متكامل وبأساليب متطورة باستمرار من بينها مثلًا: اللجنة المكلفة بتطوير البحث في المجال.
    "لستُ أبالغ في شيء إذ أقول، إن الحضور العربي في المؤتمر من خلال ورشةٍ ثنائية اللغة فرنسية- إنكليزية كان حضورًا مُشرِّفًا، تماما كما كان الشأن بالنسبة إلى الورشة المقارنية العربية في مؤتمر مكاو بالصين سنة 2019"


    ويُعد تمكنُّنا أخيرًا من تمثيل المغرب والجامعة المغربية في اللجنة التنفيذية لأعرق وأنجع رابطة دولية في حقل الأدب المقارن، نتاجا للدينامية التي شهدَها الأدبُ المقارن في الجامعة المغربية (كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط نموذجًا) بعد مرحلة تطويره في ثمانينيات القرن العشرين على يد المقارن المغربي الدكتور سعيد علوش، والتي استفدتُ منها بصفتي طالبة في تخصُّص الأدب المقارن في نهاية الثمانينيات. وقد مَنحني انخراطي كأستاذة في مشروع تكوين "ماستر الأدب العام والنقد المقارن" الذي أسَّسه الدكتور علوش مُسايِرًا آخر مُستجدّات الحقل عالميا عام 2006، وكمسؤولة عن هذا التكوين بعد تقاعده ومساهِمةً في تطوير هندسته البيداغوجية، فرصةَ الإحاطة العميقة بحقل المقارنة وتشعُّباتها، خاصة وأن عمليَّتَيْ التدريس والإشراف تَوازَتا مع المساهمة في تظاهرات مُقارنية عربية وغربية، وتنظيم هذه التظاهرات وطنيا ودوليا، الأمر الذي مَكنَّني من العبور التدريجي إلى الأوساط المقارنية العالمية الوازنة.

    في هذا السياق أشير إلى أن مساهماتي في مؤتمرات مقارنية رصينة خارج المغرب وتنظيم مؤتمرات من الوزن نفسه داخل المغرب قد توازى من ناحية مع انضمامي شريكًا في مواقع دولية مؤثِّرة يُشرف عليها مقارنون وازنون، ومن ناحية ثانية مع نشر أبحاث وكُتب في مجالات الأدب المقارن الجديدة وغير المعبدة عربيا من مثل دراسات الترجمة (نقد الترجمة تخصيصا)، المقارنة في إطار الثقافة الوطنية الواحدة احتفاء بالتعدد، أو الاهتمام بما يُسمّى إجحافًا بالآداب الصغرى (الأدب الجورجي تخصيصا)، هذا فضلًا عن المساهمة في تنسيق الكتب المخصَّصة لأشغال مؤتمرات الاحتفال باليوم العربي للأدب المقارن الذي أَقرّه، باقتراح من المغرب، المؤتمر الدولي المنعقد بجامعة القاهرة سنة 2007 بهدف تحسين أوضاع المقارنة في العالم العربي.

    من بين إيجابيات هذه الاحتفالية التي توقّفت اليوم بسبب عدة إكراهات مادية ومؤسساتية - أكاديمية وسياسية، خلقُ فضاءٍ للتداول والنقاش تجاوَز إلقاء مداخلات ومناقشة فحواها، إلى تضافُر جهود الأسماء المقارنية العربية الكبيرة (سعيد علوش، ماري تيريز عبد المسيح، أحمد عثمان، عبد المجيد حنون، محمود طرشونة...) لاقتراح مواضيع مقارنية جديدة، والتشديد على تنظيم ورشات وازنة مُعبّدة للتعريف بالجهود المقارنية العربية على الصعيد الدولي، بمعنى بلورة مشاريع مقارنية تُترجِم، من ناحية، التطوّر الحاصل في الميدان في ارتباط بخصوصيات النسق الثقافي العربي، وتسمح من ناحية أخرى للأدب المقارن العربي بالتفاوض خارج حدوده التقليدية التي تُمثِّلُها في المُجمل مواضيع من مثل: تأثير الأدب العربي في آداب البلدان الإسلامية، وتأثير الآداب الغربية في الأدب العربي الحديث.

    أولى هذه الورشات كانت من تنظيم المقارن المصري الدكتور المرحوم أحمد عثمان في مؤتمر الرابطة العالمية للأدب المقارن المنعقد بباريس عام 2013، وقد مثلتُ فيها الجامعة المغربية إلى جانب باحثات وباحثين متعددين مَثّلوا مختلف الجامعات العربية.
    فاتحة الطايب (إلى اليسار) خلال مشاركتها في مؤتمر للرابطة العالمية للأدب المقارن
    للأمانة أقول إن فرصة المشاركة في هذه الورشة المقارنية - التي جعلتْني أقف على أهمية ونجاعة الورشات في هذا المحفل العالمي لتجاوز مرحلة الاستهلاك إلى الإنتاج - تعد نقطة تحوّل هامة في مساري. حيث شاركتُ لاحقًا، وتحديدًا في مؤتمر الرباط المقارني الذي نظمه "ماستر الأدب العام والنقد المقارن" بالشراكة مع "مختبر الدراسات المقارنة" سنة 2017 في موضوع: "الأدب المقارن والهويات المتحركة"، في صياغة توصيةِ تنظيم ورشات عربية رصينة تُمكّن الباحثين العرب في مجال المقارنة من الدخول في حوار بنّاء مع مقارنين من مختلف الجامعات العالمية.

    وقد تم تفعيل هذه التوصية، في المؤتمر 22 للرابطة العالمية للأدب المقارن المُنعقد بجامعة مكاو بالصين عام 2019، في موضوع "أدب العالم ومستقبل الأدب المقارن"، بفضل الشراكة المُثمِرة بين جامعة القاهرة مُمثَّلة بالدكتورة ماري تيريز عبد المسيح- التي تُعد أول مُرشّحة من المنطقة العربية تفوز في انتخابات اللجنة التنفيذية للرابطة الدولية للأدب المقارن - وبالدكتورة لبنى إسماعيل من قسم الدراسات الإنكليزية، وبين جامعة محمد الخامس التي مثَّلتُها من قسم الدراسات العربية، في موضوع "الأدب المقارن وتداخل الاختصاصات: اتجاهات جديدة في الدراسات العربية"، الذي تم اختياره بالاستشارة مع الدكتور سعيد علوش.

    وتُعد هذه أول مساهمة لجامعةٍ مغربية في تنظيم ورشات في إطار الرابطة العالمية للأدب المقارن، حيث اقتصرتِ المساهمةُ في المؤتمرات السابقة على المشاركات الفردية، أو ضمن ورشات من تنظيم جامعات أجنبية ومن بينها أولُ ورشة من تنظيم جامعة القاهرة مثلما أسلفْنا. وتكمن المفاجأة بالنسبة إليّ آنئذ في تواصل إدارة الرابطة معي في شخص نائبة الرئيس الدكتورة لوشيا بولدريني التي فازت برئاسة الرابطة في هذه الدورة من أجل أن أترشح لانتخابات اللجنة التنفيذية، الأمر الذي تهيَّبتُ منه حينها، بسبب عدم استعدادي للخوض في منافسةٍ دولية شديدة.

    المساهمة الثانية للجامعة المغربية في تنظيم ورشات مقارنية دولية، كانت في هذا المؤتمر الأخير بالشراكة بين جامعة محمد الخامس التي مثَّلتُها وجامعة القاهرة مُمثَّلة بالدكتورة لبنى إسماعيل وجامعة عين شمس ممثَّلة بالدكتورة فاتن مرسي، فالجامعة الأميركية بالشارقة مُمثَّلة بالدكتورة بثينة خالدي، في موضوع: نصوص ومنظورات عابرة للأنواع والوسائط - في سبيل إعادة التفكير في التاريخ الثقافي العربي.



    (*) كيف كان الحضورُ العربي من خلال هذه الورشة ضمن فعاليات المؤتمر؟

    لستُ أبالغ في شيء إذ أقول إن الحضور العربي في هذا المؤتمر من خلال ورشةٍ ثنائية اللغة فرنسية- إنكليزية كان حضورًا مُشرِّفًا، تماما كما كان الشأن بالنسبة إلى الورشة المقارنية العربية في مؤتمر مكاو بالصين سنة 2019 ، فالمُداخلات كانت وازنة في مواضيع تطرّقت إلى مختلف اهتمامات الباحثين العرب في مجال المقارنة في اتصال بموضوع الورشة بطبيعة الحال.

    وقد تميزت هذه الورشة عن سابقَتها بحضورٍ مكثَّف للباحثين المغاربة، حيث حرصنا على إشراك الباحثين المُتميِّزين الذين سبق لنا أن كَوَّناهُم في "ماستر الأدب العام والنقد المقارن" ومن بينهم من أشرفنا على أطروحته (العربي قنديل، فاطمة الزهراء عجول، يونس اليسفي، حميد الصافي، وخالد آيت تحميدت).

    في سياق الحديث عن الحضور المغربي، أشير إلى أن مُنظِّمي المؤتمر قد احتفوا بالجامعة المغربية، بتخصيص فقرة من فقرات "حدث"- المُخصَّصة للقاء المبدعين والنقاد الضيوف- لجامعة محمد الخامس بالرباط . حيث ألقيتُ محاضرةً باللغة الإنكليزية مُدتُها ساعة ونصف الساعة، في موضوع: جورجيا بوصفها مَصدرًا ثقافيا للكتاب العرب - المتخيل المغربي نموذجًا.





    عن وضعية النقد والأدب المقارن في المنطقة العربية

    (*)هل نفهم من إشادتكُم بالحضور المُشرِّف للمقارنة العربية في المؤتمر الأخير للرابطة العالمية للأدب المقارن، أن الدرس العربي المقارن قد تخطّى اليوم الإشكالات المعرفية والبنيوية أمام تطوُّره في الأمس القريب؟

    ترتبط المقارنة أشدَّ الارتباط بالوضعية اللغوية وبمُستوى النقد والفكر في كل نسقٍ ثقافي، ومن هذا المنطلق نفهم من ناحيةٍ ضعف الدراسات المقارنة العربية في المُجمل إلى حدود بدايات ثمانينيات القرن العشرين مثلما سَلّط الضوءَ على ذلك كمال أبو ديب في سنة 1983 مؤكِدًا التلازم بين الأدب المقارن ووضع الأدب الوطني - القومي. فإلى ذلك الحين، كانت المقارنة العربية في مُجملها تدور في فلك المنظور الوضعي للمدرسة الفرنسية التقليدية الذي كان الفرنسيون أنفسهم قد تجاوزوه منذ زمن. هذا مع العلم، أن المجهودات العربية في استنبات هذا الحقل باتخاذ المنظور التاريخي الوضعي نموذجًا قد أسفرت عن تكوين شبه مدرسةٍ لها مجالاتها الخاصة المؤثرة في نشأة الأدب المقارن وتطوره في أنساق العالم الإسلامي الثقافية، ولا سيما النسق الفارسي والكردي والتركي والأردي.

    من ناحية ثانية، نفهم استنادًا إلى اتصال المقارنة بالوضعية اللغوية وبمستوى النقد والفكر في كل نسق ثقافي، المفارقة التي تعيشها المقارنة في الحقل الثقافي العربي بالنظر إلى تعدُّد مظهرها المُتّصل اتصالًا وثيقًا بتقاليد لُغات الكتابة والقراءة المُتعدّدة في المنطقة العربية وبدرجة المُواكبة، حيث نُسجّل تفاوُت مستويات النقاد والمقارنين العرب في علاقتهم بالحقل النقدي والمقارني العالمي. ففي الوقت الذي نجحت فيه أسماء وازنة في تخصيب المشهد الثقافي المقارني العربي من زاوية نقدية، تقف الأغلبية على أعتاب الحقل، لتبرُز في المقابل أسماء استثنائية وصلت إلى مرحلة التفاوُض مع كبار المفكرين والمقارنين الغربيين وأصبحت بذلك مراجع عالمية. مما يستوجب بالضرورة أخذ تعدُّد البلدان العربية بعين الاعتبار، ومن ثم تعدُّد لغات الكتابة فيها أثناء تشخيص وضعية النقد والأدب المقارن في المنطقة العربية وتخصيصًا مجال تداخُل الاختصاصات والدراسات الثقافية.

    في هذا السياق، نذكر من بين الاستثناءات العربية الطلائعية التي ساهمت في وقت مبكر مساهمةً عميقة وفعالة في مجال الرد بالكتابة إلى جانب أسماء عالمية لامعة ومؤسسة، المفكر وعالم الاجتماع المغربي الفرنكفوني عبد الكبير الخطيبي، الذي يعود الفضل- حسب شهادة رولان بارت - إلى نقده ما بعد - الكولونيالي للمشروع السيميائي الغربي المتمركز على ذاته، في التفكير في بلورة أبعاده المُتَعدّدة حاليًا.
    "المشهد الثقافي العربي يعرف اليوم دينامية نقدية ومعرفية مقارنة بفترة السبعينيات وبداية الثمانينيات، يعود الفضل فيها إلى الصحوة المعرفية التي عرفتها "الهوامش" العربية القديمة في الزمن الحديث في فترة الثمانينيات وانخراطها في إغناء الثقافة العربية في شتّى المجالات"
    وإلى نقده الطلائعي مُتداخل الاختصاصات، يعود الفضلُ كذلك في فتح آفاق منهجية ومعرفية خصبة أمام النقاد والمقارنين المغاربة والعرب: فَمِمَّا أدى إلى تطوير الخطاب النقدي المغربي والعربي، وتخصيصًا الممارسة المقارنية بمختلف تجلياتها اللغوية وعلى رأسها العربية، توسيعُ الخطيبي المبكّر لأفق الأدب (المثل، الحكاية الشفوية...) وإعادة تعريفه لمفهوم الكتابة (الوشم، الخط...) من ناحية، ومن ناحية أخرى توليفه الطلائعي الرصين والخلاّق بين مناهج متداخلة ومنظورات تخصصات متعدّدة بجعله "التشابك" جوهر دراساته مُتعدِّدة الاختصاصات، تماما كما هو الشأن اليوم عند منظري مجال تداخل الاختصاصات في الغرب. وضمن الاستثناء تندرج أيضًا فئةٌ من الأكاديميين والمقارنين العرب الذين جعلوا من الأدب المقارن حالة فكر وقضية حياة (عز الدين المناصرة، سعيد علوش، ماري تيريز عبد المسيح، حسام الخطيب...)، ويكفي أن نتأمل في عناوين إنتاجاتهم في الألفية الثالثة لنكتشف من ناحية حرصهم الكبير على مسايرة الركب المقارني العالمي من زاوية نقدية، ولنستنتج من ناحية أخرى رهانهم على قدرة الدراسات المقارنة على إخصاب "الدراسات العربية"، بل وتوسيع أفقها بجعلها قادرة على الانخراط في دينامية الائتلاف والاختلاف.

    إجمالًا يمكن القول إن المشهد الثقافي العربي يعرف اليوم دينامية نقدية ومعرفية مقارنة بفترة السبعينيات وبداية الثمانينيات، يعود الفضل فيها إلى الصحوة المعرفية التي عرفتها "الهوامش" العربية القديمة في الزمن الحديث في فترة الثمانينيات وانخراطها في إغناء الثقافة العربية في شتّى المجالات. فليس من قبيل الصدفة أبدًا أن يتصدى المقارن المغربي سعيد علوش لمُراجعة وتصحيح مسار الأدب المقارن في العالم العربي في هذه الفترة بالذات مما يفيد بالضرورة تجديد الدرس المقارن العربي بالاستفادة من التطور الحاصل في الحقل عالميا. غير أن هذا لا يعني استفادة جميع المُنتسِبين إلى الحقل عربيًا من عملية المراجعة والتصحيح وانخراطهم في مسار التجديد. فإذا تأمَّلنا تاريخ الأدب المقارن بالجامعة العربية الحديثة، والتي تتّصل نشأتُها بمشروع النهضة العربية، سنكتشف أنه تاريخٌ متكسِّر الحلقات مثل تاريخ "النهضة العربية" تماما. أي تاريخٌ لا يسير في جميع البلدان العربية- بل وفي جامعات البلد العربي الواحد أحيانا كثيرة - وفق سيرورةِ تطوُّرٍ تصاعُدية في تفاعُل مع مستجدّات الحقل المقارني العالمي. ففي الوقت الذي تعمل فيه بعض الجامعات العربية جاهدة بفعل تأثير مقارنين استثنائيين من أجل مُواكبة تطورات الدرس المقارن على المستوى العالمي، نجد جامعات عربية أخرى لا تتجاوز النسخة العربية من المدرسة الفرنسية "المرحومة" كما ثبَّت أركانَها محمد غنيمي هلال في خمسينات القرن العشرين... بل إن البرامج التعليمية في جامعات بعض الأقطار العربية- التي تملك الوسائل المادية اللازمة لتأسيس ورعاية حقل عابر للغات والثقافات والتخصصات - برامج تشي بعدم الوعي بأهمية الدرس المقارن في زمن العولمة والتنميط. إن أُسَّ المشكل هو السياسة التعليمية ذاتها، في اتصال بما يُراد له أن يظل من ثوابت البنية الفكرية والعقلية العربية. فالاستثناءات تظل استثناءات بالرغم من فاعليتها.


    (*) إلى أي حد يُمكن الحديثُ عن ملامح مدرسةٍ عربية تُغْني حقلَ الأدب المقارن؟

    لنتفق بداية على أن مفهوم "مدرسة" أصبح مفهومًا مُتجاوَزًا في إطار الدرس المقارن مع تدويل المفهوم الجديد للأدب المقارن، والإيمان بتعدُّد المقارَنات بتعدُّد البلدان التي تَلج غمار المقارنة، مع التأكيد على شرط الاختلاف الثقافي، والتسليم بالتطور بِعَدِّهِ صفة مُلازِمة للدرس بالموازاة مع تطور الأدب والنقد ومختلف الاختصاصات والحقول وأشكال الإنتاج الفني والمعرفي التي يتفاعل معها. وقد ساهم هذا الانفتاح العابر للوطنيات والحقول والتخصصات في تجديد مجالات المقارنة وتوسيع أفقها لتشمل جميع المظاهر وأشكال ومستويات التعبير الإنساني.

    ما يمكن أن نتحدث عنه اليوم، إذًا، هو المسارات المختلفة للأدب المقارن من بلد إلى آخر بالرغم من الاشتراك في الاهتمامات، نظرا لاتصال المقارنة بوضع دراسات الأدب الوطني- القومي مثلما أسلفنا. واستنادا إلى اختلاف نقاط انطلاق المقارنين العرب عن نظرائهم الغربيين، نتوقّع أن تختلف الممارسات المقارنية العربية عن الممارسات المقارنية الغربية. بل وأن تتمايز الممارسات المقارنية من بلد عربي إلى آخر، بالنظر إلى الخصوصيات الثقافية التي تميز كل بلد.

    إن الوعي بهذا التمايُز وباتصال المقارنة بالوضعية اللغوية وبمستوى النقد والفكر في كل نسق ثقافي، في سياق من التعاون وتضافُر الجهود للانخراط في النقاش المقارني العالمي المتجدِّد والمتطوّر باستمرار تجدُّدِ وتطورِ المعرفة ذاتها، هو الذي بإمكانه أن يؤدي إلى مساهمة الممارسات المقارنية العربية في إغناء حقل الأدب المقارن؛ شريطة أن تحظى الدراسات المقارنة في الجامعات العربية بالدعم المؤسساتي المطلوب، وألا تقع مسؤولية رعايتها بالكامل على أساتذة أفراد يُناضلون من أجل إنشاء تكوينات مقارنية واستمرارها.


يعمل...
X