سياسات الألم: علم الطب لا يخبرنا إلا القليل جدًّا
روب بوديس 13 فبراير 2023
ترجمات
"الصرخة" في دار مزادات سوثبي في لندن (12/4/2012/Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
ترجمة: سارة حبيب
لا يمكن لعلم الطبّ أن يخبرنا إلا القليل جدًا.لفهم الألم، نحن في حاجة إلى الأدوات الثقافية الخاصّة بالتاريخ، الفلسفة، والفن.
ليست تجربة الألم عموميةً بشرية. إن لها تاريخًا، وهي تتغيّر عبر الزمن ومن مكان إلى آخر. لذلك، من شأن التوسع في تفاصيل هذا التاريخ أن يفضح السياسات الكامنة في صميم محاولات قياس تجربة المتألمين، إقرارها، أو صرف النظر عنها.
لقد دمجت لغة الألم، الممتدة إلى العصور القديمة، العاطفيّ والجسديّ. وكان تداخل الحزن، الكرب، اليأس والأسى مع الألم الجسدي جوهرَ التعابير العامّية التي تتناول المعاناة في اللغات الإغريقية، اللاتينية، العربية، الأوردية، الهندية والصينية، بالإضافة إلى الإنكليزية واللغات الأوروبية الأخرى. ولآلاف السنين، كانت عبارة "أنا أتألم" زعمًا عاطفيًا بقدر ما هو جسديّ. لكن، وعلى الرغم من أن هذا التداخل الدلاليّ يبدو متّسقًا، فإن وضع المفاهيم الدقيقة قد تنوع إلى حد هائل، من (odْnē)"ὀδύvη" بالإغريقية، إلى "dolor" باللاتينية، إلى "وجع" بالعربية، إلى "dard" بالفارسية والهندية والأردية، إلى "tٍng" بالصينية. علاوة على ذلك، يقدّم علم دراسة الأيقونات تاريخًا غنيًا لما لا يمكن وصفه: تمثيلات الألم التي، في حين أنه لم يكن من الممكن قولها، كانت رغم ذلك مُعبَّرًا عنها. بالتالي، من خلال توثيق العمليات المثبَّتة تاريخيًا لاختبار أنواع الألم والتعبير عنها، من الممكن إظهار تعدد هائل، مع التشديد على تاريخ طويل من ضَفْرِ العاطفي والجسدي. وهذا، في دوره، يؤدي ضمنيًا إلى تجريد تجارب الألم الراهنة من طبيعيّتها، وإلى تثبيت موقعها وبلبلة قرنين من الخبرة الطبية الحديثة.
لنأخذ، على سبيل المثال، مفهوم الحزن في اليونان القديمة: (ákheos) ἄχεος. إن هذا المفهوم هو أحد التعابير الرئيسية للتعبير عن الحزن، أو الكرب، في القلب، في الإلياذة، لكنه أيضًا أحد الكلمات الكثيرة المستخدمة في اليونانية للتعبير عن الألم/ المعاناة. وعلى الرغم من ربط آخيل (أو آخيليس) بعواطف أخرى، فإن الحزن ــ الألم هو ما يجسّده في اسمه ذاته (يُعتَقد أن "آخيليس" يعني ألم/ حزن الناس)، وباسم هذا الألم تُنَفّذ معظم أفعال آخيل العنيفة في الأقسام الأخيرة من الملحمة. قد تعترضون قائلين إن آخيل هو شخصية خيالية، نصف إله؛ أو أن هذا الألم ليس فعليًا، بل أدبيّ فحسب، وأنه ليس بشريًا. لكن الإلياذة صاغت أفكار وممارسات الفضيلة، الإيمان، الأفعال الحربية، والشعائر لقرون طويلة. لقد كانت مفتاحًا لتشكيل الذات الإغريقية في الفترة الكلاسيكية. وكانت كذلك المُتناصّ (مصدر التناص) المحوري لجمهورية أفلاطون. إذا كان الإغريق قد تعلموا كيف يتعاملون مع الألم، فقد تعلموا ذلك، إلى حد ما، من خلال آخيل. تغيرت ممارسات الألم تلك عبر الوقت، على الرغم من حفظ القصص. في الإلياذة، عندما يعلم آخيل بموت فَطرُقل، صديقه، رفيقه، وربما حبيبه، يلقي بنفسه على التراب وينتف شَعره، في حين ينوح كلّ مرافقيه. وعندما تُستعاد الجثة أخيرًا، يغرق آخيل في الدموع، ينوح، يتأوه، ويبكي. إنه مثل أسد قُتِلت أشباله على يد صياد، وسرعان ما يُوجَّه ألمه إلى غضب (χόλος (khólos، وانتقام. عندما تصل والدة آخيل أخيرًا لتسلّمه درعه الجديد، تجده يبكي جهرًا، بينما لا يزال متشبثًا بجسد فَطرُقل الميت.
لكن، بحلول زمن أفلاطون، كانت كثير من الفضائل الواضحة في الإلياذة موضع تساؤل. على إناء أتيكيّ حلزوني الشكل ذي رسوم حمراء يعود إلى حوالي عام 460 قبل الميلاد، أي ربما حوالي 300 سنة بعد تدوين الإلياذة أولّ مرة، تصوّر هيئة آخيل حين تعثر عليه والدته تمامًا في لحظة حزنه. لكن، لا يُظهر الرسام آخيل باكيًا، متشبثًا بجثة فَطرُقل، بل يُصوَّر آخيل وحيدًا، مدثرًا بالكامل بغطاء، فيما عدا قمة رأسه وكعب إحدى قدميه الهام رمزيًا.
أصبح الاحتجاب بغطاء، وفقًا لبحث أجراه دوغلاس كيرنز، قاعدة بارزة من قواعد عرض المشاعر في الثقافة الإغريقية، تحديدًا من أجل التعبير عن الحزن، إنما مع إخفاء الدموع. وقد أُدرِك مؤخرًا أن المشهد يتلاءم مع الممارسات المقبولة في أثينا الكلاسيكية، لأن ذرف الدموع العلني كان ينافي المعايير الاجتماعية. بالتالي، كان الغطاء يحجب الهشاشة التي يُظهرها الحزن، من أجل حماية المتألمين من فقدان المكانة، وحماية المشاهدين من المنظر المؤلم. كان الغطاء رمزَ الحزن، إشارةً للألم تؤدي غرض إخفائه. وبهذا، يظهر الفنان هنا وفاء لمخطوطات الألم التي تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، أكثر مما يظهر من وفاء للقصيدة الملحمية الأسبق بثلاثة قرون، وذلك لكي يجنّب المُشاهد ــ المستخدم، حامل الإناء ــ مشهدَ الحزن غير المكبوح. لقد أصبح التعامل مع حزن آخيل صعبًا اجتماعيًا، صعبَ القراءة تجريبيًا. وكان الغطاء طريقة تعبيرية للقول، من دون كلمات، ومن دون تعابير وجهية: "أنا أعاني [نوعًا معينًا] من الألم". في بيئة مختلفة، فهم الفنان النرويجي إدفارد مونك القوةَ الكامنة في الصمت، أو في الوجه الخالي من التعابير. ويظهر خواء الوجه المرسوم عنده إشارة أخرى للألم العاطفي الذي لا يوصف، والذي هو رغم ذلك مُعبِّر وقابل للتمييز. كان مونك، مدعومًا بالفلسفة الدانماركية للقلق عند سورين كيركِيغارد، وغارقًا في وحل الحزن، الفقر، والأفكار الانتحارية، منغمسًا في ما تعبّر عنه الكلمة النرويجية "fortvilelse"؛ والتي تعني خليطًا من اليأس والحزن العنيف.
هذا التداخل المؤلم ألهمَه كثيرًا من لوحاته، بما فيها "الصرخة" (1893). لكن، ما كان يشكّل أساسها هو تجربة مفردة خربشها مونك قرب الرسم الأولي للوحة "fortvilelse" (اليأس ــ 1892). وقد أعادت الشاعرة المعاصرة أيريل فالك إنتاج تلك الخربشة على شكل ترجمة على النحو التالي:
مشيتُ على طول الطريق مع
صديقين ـ
غابت الشمس
أصبحت السماء فجأة بلون الدم
ــ وشعرت بهبّة من الكآبة ـ
ألم يمتصني أسفل القلب
توقفتُ ــ اتكأتُ على
السور متعبًا كالموت
فوق المضيق ذي اللون الأسود المزرّق والمدينة
امتدّت غيومٌ من دماء تتقاطر
{…} دماء دخانية
{…} تابع أصدقائي المشي
وقفتُ أرتعش مع جرح مفتوح
في صدري... أرتعش قلقًا
وشعرت بها تخترق الطبيعة
صرخةٌ عظيمة بلا نهاية.
بهذه الكلمات يبدّل مونك هيئة تجربة الألم الجسدي الخلطيّ ــ كآبته، ألمه أسفل القلب ــ ويضع مكانها ألمَ العالم، حيث تنزف السماء وتصرخ الطبيعة، ليس على نحو مسموع، إنما على نحو محسوس. إن قصور وصف مونك لألمه موسوم هنا بمحوه للسطور التي تحاول التعبير عن ذلك الألم. وفي حين أن الكلمات كلها سوف تُزال بشكل كامل في اللوحة النهاية، فإن محو التجسيد الشخصي والجسدي للألم يبقى مثبّتًا على اللوحة. فوجه الشخصية، وهي تتكئ على السور، خالٍ من المعالم؛ ليس غيابًا للتعابير، إنما ببساطة لا شيء في مكان الوجه: لا قناع، إنما محو. وبدلًا عن ذلك، الألم مصوّرٌ على السماء. فإذا كان الألم، بالنسبة إلى الرجل، لا يوصف، ليس علينا إلا أن ننظر للأعلى لنصل إلى ذلك الألم. إن عمق المعاناة هذا يضع الألم في كلّ مكان. بالنتيجة، لغة الألم عند مونك قد رُسِمت. والمفاهيم المطلوبة للتعبير عنها بادية للعيان. إنها متموضعة ــ الكآبة والقلق ممتزجان بالمدينة المرضوضة والسماء المدمّاة ــ وجلية. هكذا، يتطلب الوصول إلى هذا الألم معرفة ثقافية.
من ناحيتها، تتطلب الآلام المعاصرة المماثلة أنواعًا مختلفة من المعرفة. فكروا، على سبيل المثال، بالمعرفة الخاصة بالألم التي تحتاج إليها ليدي غاغا (المعروفة أيضًا باسم ستيفاني جيرمانوتا) للتعبير عن الآثار المستمرة للصدمة النفسية التي عانتها بعد أن تعرضت للاغتصاب في عمر التاسعة عشرة، وبمعرفة الألم التي نحتاجها نحن لنقرأ عن تلك الآثار ونجعلها مفهومة بالنسبة إلينا. في مقابلة استثنائية أجرتها عام 2021 لصالح "آبل تي في+"، وهي جزء من سلسلة عن الصحة العقلية حملت اسم "الـ أنا التي ليس بوسعك رؤيتها"، وصفت ليدي غاغا "الألم التام" الذي شعرت به، قبل أن يحلّ خدرٌ يعني أنه لم يعد في وسعها أن "تشعر" بـ"جسدها". إن هذا التجلي الفيزيولوجي للألم العاطفي قاد الأطباء حينها لتفتيش الداخل: "أجريتُ تصويرًا بالرنين المغناطيسي مرات عدة، وتصويرًا بالأشعة، حيث لم يجدوا شيئًا"، قالت. كل الأعراض، في الحقيقة، نشأت من الاغتصاب. "جسدك يتذكر"، تقول. و"كيفية شعوري حين أشعر بالألم هي ما شعرتُ حين اغتُصبت". هذا "الانهيار الذهانيّ الكامل" استمر "لبضع سنوات"، و"إثارته" تُرجِع الذعرَ الكامل للألم الجسدي والأحشائي.
تصبح مثل تلك الآلام اليوم مصادقًا عليها أكثر فأكثر، ثقافيًا وطبيًا على السواء. لا تخص تلك الآلام حسَّ الألم ــ اختزال الألم إلى إدراك حسي ــ ولا الأذية الجسدية، إنما تخص الجسد، العقل، والعالم الذي توجد فيه، في ديناميكيّة معقدة. إن كلمات الليدي غاغا، التي تصبح أكثر فأكثر شيوعًا اليوم ــ كلماتها عن الصحة العقلية، عن الانهيارات الذهانية، عن صور الرنين المغناطيسي وإثارة الألم ــ هي الكلمات الصحيحة، المخطوطة الثقافية الصحيحة، لإقرار ألمها.
تمثّل مثل تلك التوصيفات لحظة انقلابٍ معرفي وثقافي. لقد جاهد العلماء الطبيون في القرنين التاسع عشر والعشرين لتحديد الألم؛ تشييء عمله، الشعور به، كيفية رؤيته، وكيفية قياسه. وحاولوا عزل الألم الجسدي الذي سبّبته إصابة أو مرض عن اضطرابات العقل، على أمل الوصول إلى شرح ميكانيكي للألم يمكن ربطه بمنطقياتِ افتراضاتٍ حضارية مهيمنة تخص العرق، الجندر، العمر، الطبقة والنوع. على هذا النحو، أصبح جلد الذكر الأبيض البالغ ووجهه معيارًا للإحساس بالألم. وفي مراحل تاريخية عديدة، عُدَّت النساء، الأطفال، اليهود، الأميركيون الأفارقة والشعوب الأصلية من بلدان عديدة عديمي الإحساس، أو مفرطي الحساسية، يعبّرون عن الألم على نحو غير متناسب (متذمرين)، أو وحشيين تمامًا مثل الحيوانات الأخرى. وفي بعض الأوقات، بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، اقترن عديمو الإحساس مع طبقات المجرمين الذين من الممكن أيضًا تحديدهم بعدم قدرتهم على الشعور بالألم، وفقًا للبحث الشهير الذي أجراه العالم تشيزري لومبروزو.
في صلب هذه المحاولات لترتيب الألم في طبقات، يكمن التأكيد الضمني على أن الألم هو ظاهرة جسدية، تعبّر عن العلاقة بين الأعصاب المحيطية والدماغ. خلال معظم القرن العشرين، رزح العلماء الطبيون في الغرب تحت وطأة التصور الخاطئ القائل بأن تجربة الألم يمكن أن تُربط بمقياس شدة. كلما كان المحفّز أكبر، كان الألم أكبر. وكلما كان الجرح أكثر خطورة، ازدادت شدة الألم. إنها واحدة من علاقات الارتباط الواضحة ظاهريًا، والتي ليس لها أي أساس. على سبيل المثال، تجارب جرحى الحرب على نطاق واسع زودت الأطباءَ بثروة من المعلومات التجريبية التي فصلت الأذية عن الألم على نحو غير ملائم. لم تكن الجروح الكبيرة مؤلمة دومًا.
لقد وجّهت هذه الألغاز الباحثينَ إلى ديناميكيات إرسال الإشارات العصبية: لم تكن حركة المرور في اتجاه واحد فحسب، من المحيط إلى المركز، إنما أيضًا من المركز إلى المحيط. وكيفية الشعور بالمحفز الحسي يجري توصيلها من خلال التقييم، وذلك التقييم يُعيَّن من ناحية التجربة الشخصية للفرد، درجة الانتباه التي يوليها للجرح، للمناسبة المباشرة للإصابة (خطر، خوف، اطمئنان، أمان) وللمخزون الثقافي لمفاهيم الألم الذي يوفر إطار التعبير. في حين جرى في الستينيات فهمُ هذه الديناميكيات من خلال نموذج مبتكر دُعي "نظرية التحكم في بوابة الألم" (وهي البوابة المسؤولة عن التنظيم الأتوماتيكي للتراسل بين الدماغ والمحيط)، فإن تحدي الألم لم يُحَلّ باستخدام استعارات الهندسة الإلكترونية. لأن تلك الاستعارات، رغم أنها قطعت شوطًا في شرح تنويعات تجارب الألم الجسدي، لم تحلّ مشكلة أن الألم العظيم، في أغلب الأحيان، يمكن العثور عليه حتى في غياب الإصابة. كذلك كانت هنالك مسألة الألم المزمن. إن الأبحاث العصبية وحدها لم تتمكن من تقديم إجابة في ما يخص الآلام التي استمرت.
في النتيجة، كان لا بدّ لانحراف منطقي نحو عدم إمكانية التنبؤ بالألم، ولاعتراف متعدد الاختصاصات بأن التجربة متقلّبة، أن يكون وشيكًا. لكنّ العمومية البيولوجية لعمليات الألم، وإمكانية القراءة الموضوعية للألم، إما من الجلد، أو من "وجه ألم" ذي سمات عامة، ظلت اقتراحات مغرية. إن البحث عن سمات وجه ألم عامة، بناء على الفكرة الخاطئة القائلة بأن العضلات المعبِّرة هي تمثيل مباشر للتجربة الداخلية، مستمر منذ القرن السابع عشر، ولا يزال. من الفئران إلى البشر، حاول الباحثون تحديد ماهية الوجه المتألم، لكن من دون جدوى.
إن الوجه الشاعر بالألم قليل التحديد بقدر أي تعبير آخر. فهو أحيانًا يبتسم. أحيانًا يشكّل صرخة. أحيانًا يكزّ على أسنانه. فالوجه، حسب تصوير مونك له، ليس في حد ذاته مؤشرًا موثوقًا لأي شيء. علاوة على ذلك، كان ثمة انعطافة، أواخر السبعينيات، نحو فهم بيولوجي نفسي اجتماعي للألم؛ فهم يجمع الوظيفة البيولوجية، الميل النفسي، والحالة الاجتماعية. وبدا دومًا أن تجربة الألم تعتمد على الثلاثة. لكن، عمليًا، كان منطق الحقول المعرفية للأوساط الأكاديمية يعني أن تستمر أبحاث الألم في صوامعها المنفصلة. في الفترة ذاتها تقريبًا، صاغ مجموعة من أطباء الألم البارزين تعريفًا رسميًا للألم بغية معالجة الافتقار الجوهري لتصنيف توافقي للألم عبر الحقول المعرفية. لقد سايروا قليلًا الجانب النفسي والاجتماعي، لكنهم حافظوا جوهريًا على علاقة الألم بالأذية.
كان ذلك التعريف الذي يعود إلى عام 1979 حجر الأساس للرابطة الدولية لدراسة الألم (IASP)، وينص على التالي: "[الألم] تجربة عاطفية وحسيّة غير سارّة مرتبطة بتلف أنسجة فعلي، أو محتمل، أو موصوفة من ناحية ذلك التلف". إن هذا التشديد على "تلف الأنسجة" الذي يرتبط بدقة بمفهوم حسّ الألم في صميم أبحاث الألم الفيزيولوجية، ينفي المعاناة العاطفية والألم المزمن الحاصل من دون إصابة. ويجعل تجربة الألم العاطفي عند البشر عبر العصور تبدو مفقودة. الأمر ليس أن ذلك الألم لم يكن موضوع بحث، بل إن الصياغة الرسمية للألم بتعابير حسية ورضية ("الرضة trauma" مشتقة من الكلمة الإغريقية "τρῶμᾰ" التي تعني "جرح") قد حدّت من المدى الذي يمكن أن يصل إليه النموذج البيولوجي النفسي الاجتماعي.
أخيرًا، في يوليو/ تموز عام 2020، اعتُرِف بعدم كفاية التعريف الذي يعود إلى عام 1979، عندما أضافت الرابطة الدولية لدراسة الألم قائمة بالتنقيحات والتعديلات:
الألم دائمًا هو تجربة شخصية تتأثر بدرجات متفاوتة بعوامل بيولوجية، نفسية، واجتماعية.
الألم وحسّ الألم ظاهرتان مختلفتان. ولا يمكن استنتاج الألم من نشاط في الأعصاب الحسية فحسب.
خلال تجارب حياتهم، يتعلم الأفراد مفهوم الألم.
إفادة شخص بأن تجربة ما هي تجربة ألم يجب أن تُحترم.
على الرغم من أن الألم يقوم بدور تكيّفي، قد تكون له آثار عكسية على الأداء والعافية النفسية والاجتماعية.
التوصيف اللفظي ليس إلا واحدًا من سلوكيات عديدة للتعبير عن الألم؛ العجز عن توصيل الألم لا ينفي إمكانية أن إنسانًا، أو حيوانًا غير بشري، يختبره.
لا تقترح هذه التنقيحات تغييرًا جذريًا رسميًا في طريقة التعامل مع الألم فحسب، إنما في طريقة إجراء البحوث عليه كذلك. إن الفكرة القائلة بأن الألم دائمًا شخصي تدحض أي محاولة لجعله موضوعيًا؛ فكرة أن الألم مفصول رسميًا عن حسّ الألم تعني أن كل أشكال الألم الحاصل من دون إصابة ــ الألم العاطفي، بعض أنواع الألم المزمن، الألم الاجتماعي ــ تقع ضمن النطاق الطبي؛ إقرار أن الألم هو مفهوم يُتعلَّم يطرح سؤالًا عن كيفية تعلمه، بالإضافة إلى سؤال من وما الذي يصوغ هذا التعليم المفهوميّ؛ أخذ التوصيفات الشخصية للألم على محمل الجد يعني أن عمليات الإقرار الطبية لم تعد تستعين بأدوات القياس التشخيصية التي من شأنها أن تنكر صوت المريض؛ فكرة أن الألم ليس بالضرورة تكيفيًا (أنه غرضيّ من الناحية التطورية) يعني أن الأسباب النفسية والاجتماعية لحالات الألم ونتائجها يمكن أن تؤخذ على محمل الجد؛ وأخيرًا، كون الألم ليس له دالّ عام في اللغة يُفسح المجال لإدراك عالمٍ من تعابير الألم التي تتخطى الكلمة.
كل هذا ــ من منظور الملايين الذين يعانون من الألم المزمن، الألم العاطفي (الحزن، الوحدة، الاكتئاب، الرضة النفسية، وما إلى ذلك) وحالات الألم الغامضة مثل متلازمة الألم المزمن ــ هو موضع ترحيب. كما أنه، بالنسبة إلى الباحثين في مجال الألم خارج العلم الطبي والبحث السريري، تحدٍّ عظيم وفرصة تلوح في الأفق. والسبب في ذلك هو أن هذا التحول البنّاء نحو الذاتيّ ونحو عمليات التعلم المفهومي، مقترنًا بالاعتراف بأن الألم ليس في حاجة إلى عنصر الأذية الجسدية، يشير إلى تعدي العلم الطبي على العلوم الإنسانية. كذلك، على وجه الخصوص، يلقى هذا التحول استحسان المؤرخ الذي يستكشف تقلبات تجربة الألم في أزمنة وأمكنة مختلفة. وبالنسبة إليّ، كمؤرخ للألم، آخذ اعتبارَ الألمِ مسألةً متعددة الاختصاصات على محمل الجد. فما من منهج واحد لديه الأدوات ليصدّع الألم، إذا جاز التعبير. لكن التوجه المتغير لدراسات الألم ضمن العلم الطبي اليوم يقتضي الاعتراف بحقول مثل التاريخ، بوصفها مُنتِجات للمعرفة الخاصة بالألم، ولها تأثيرها على فهم العلم الطبي لماهية الألم، وكيفية التعامل معه.
إن المعرفة التاريخية الخاصة بالألم مفيدة على نحو فاعل. ومن شأن انخراط واعٍ بدارسات الألم أن يحفّز إعادة نظر تأريخية تعيد سبك تاريخ التجربة المؤلمة وفق الشروط التي تعرّفها بها اليوم الرابطة الدولية لدراسة الألم (IASP). فإذا كان البشر يتألمون عندما يقولون إنهم كذلك، ستفيض الأراشيف على حين غرّة بأدلّة الألم. قد لا يكون الطب قد أقرّ دومًا هذا النوع من الآلام، لكن يمكن إقرارها الآن. وفعل ذلك سيؤكد الحاجة إلى تعلم مفاهيم محددة للألم، والحاجةَ إلى القراءة لأجل الوصول إلى تعابير تتجاوز الكلمة وتتجاوز توقع وجوه ألم ذات سمات معينة. لأنه، مهما بلغ حدّ موافقة الرابطة الدولية لدراسة الألم على أن الألم يُتعلَّم، يبقى من الصعب رؤية ديناميكيات السلطة التي تتأصل في المواجهة مع الطب، سواء أتى المريض بقدم مكسورة، أو قلب مكسور، أو، سواء كان "المريض"، الشخص الذي يعاني فعليًا، يبحث عن الدواء على الإطلاق.
إن للعمليات العلاجية عطالتها الخاصة. وكلّ من المريض والسلطات الطبية يقرأ من مخطوطات ثقافية لا مرئية حول كيفية اجتياز حالة ألم وتداولها؛ تلك الحالة التي يتم توصيل تجربتِها تحديدًا عن طريق تلك المخطوطات ومن خلالها. إن سياسات التشخيص، منطق الوصفة الطبية، النسيج الثقافي الذي يوافق على الإقرار الطبي للألم، أو صرف النظر عنه؛ كل هذا غير مرئي عادة، أو طبيعي ظاهريًا، في المواجهة بين الشخص المتألم، وأي شخص آخر، سواء أكان طبيبًا، صديقًا، أو غريبًا. وبالعمل، من خلال المثال التاريخي، على إظهار الديناميكيات الاجتماعية والثقافية التي تعمل في مثل تلك المواجهات، وعلى تبيان أن دحض الألم يقترن بسياق، يمكن للمرضى وللسلطات الطبية على السواء أن يكونوا مجهزين على نحو أفضل لطرح الأسئلة واحدهم على الآخر: ليروا سياسات الألم ويقرأوها.
روب بوديس: كاتب، مؤرخ، موسيقي، وزميل أبحاث في HEX؛ مركز تميز الأكاديمية الفنلندية في مجال تاريخ التجارب، جامعة تامبيري (فنلندا). له ثلاثة عشر كتابًا بين تأليف وتحرير. من كتبه: "العاطفة، الإدراك، التجربة" (2020)، "المهن الإنسانية" (2021)، "انعدام راحة المشاعر في التاريخ الحديث" (2022). وسيُنشر كتابه التالي في مايو/ أيار 2023 بعنوان "معرفة الألم: تاريخ الإحساس، العاطفة، والتجربة".
رابط النص الأصلي:
https://aeon.co/essays/pain-is-not-t...orians-tell-us
روب بوديس 13 فبراير 2023
ترجمات
"الصرخة" في دار مزادات سوثبي في لندن (12/4/2012/Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
ترجمة: سارة حبيب
لا يمكن لعلم الطبّ أن يخبرنا إلا القليل جدًا.لفهم الألم، نحن في حاجة إلى الأدوات الثقافية الخاصّة بالتاريخ، الفلسفة، والفن.
ليست تجربة الألم عموميةً بشرية. إن لها تاريخًا، وهي تتغيّر عبر الزمن ومن مكان إلى آخر. لذلك، من شأن التوسع في تفاصيل هذا التاريخ أن يفضح السياسات الكامنة في صميم محاولات قياس تجربة المتألمين، إقرارها، أو صرف النظر عنها.
لقد دمجت لغة الألم، الممتدة إلى العصور القديمة، العاطفيّ والجسديّ. وكان تداخل الحزن، الكرب، اليأس والأسى مع الألم الجسدي جوهرَ التعابير العامّية التي تتناول المعاناة في اللغات الإغريقية، اللاتينية، العربية، الأوردية، الهندية والصينية، بالإضافة إلى الإنكليزية واللغات الأوروبية الأخرى. ولآلاف السنين، كانت عبارة "أنا أتألم" زعمًا عاطفيًا بقدر ما هو جسديّ. لكن، وعلى الرغم من أن هذا التداخل الدلاليّ يبدو متّسقًا، فإن وضع المفاهيم الدقيقة قد تنوع إلى حد هائل، من (odْnē)"ὀδύvη" بالإغريقية، إلى "dolor" باللاتينية، إلى "وجع" بالعربية، إلى "dard" بالفارسية والهندية والأردية، إلى "tٍng" بالصينية. علاوة على ذلك، يقدّم علم دراسة الأيقونات تاريخًا غنيًا لما لا يمكن وصفه: تمثيلات الألم التي، في حين أنه لم يكن من الممكن قولها، كانت رغم ذلك مُعبَّرًا عنها. بالتالي، من خلال توثيق العمليات المثبَّتة تاريخيًا لاختبار أنواع الألم والتعبير عنها، من الممكن إظهار تعدد هائل، مع التشديد على تاريخ طويل من ضَفْرِ العاطفي والجسدي. وهذا، في دوره، يؤدي ضمنيًا إلى تجريد تجارب الألم الراهنة من طبيعيّتها، وإلى تثبيت موقعها وبلبلة قرنين من الخبرة الطبية الحديثة.
لنأخذ، على سبيل المثال، مفهوم الحزن في اليونان القديمة: (ákheos) ἄχεος. إن هذا المفهوم هو أحد التعابير الرئيسية للتعبير عن الحزن، أو الكرب، في القلب، في الإلياذة، لكنه أيضًا أحد الكلمات الكثيرة المستخدمة في اليونانية للتعبير عن الألم/ المعاناة. وعلى الرغم من ربط آخيل (أو آخيليس) بعواطف أخرى، فإن الحزن ــ الألم هو ما يجسّده في اسمه ذاته (يُعتَقد أن "آخيليس" يعني ألم/ حزن الناس)، وباسم هذا الألم تُنَفّذ معظم أفعال آخيل العنيفة في الأقسام الأخيرة من الملحمة. قد تعترضون قائلين إن آخيل هو شخصية خيالية، نصف إله؛ أو أن هذا الألم ليس فعليًا، بل أدبيّ فحسب، وأنه ليس بشريًا. لكن الإلياذة صاغت أفكار وممارسات الفضيلة، الإيمان، الأفعال الحربية، والشعائر لقرون طويلة. لقد كانت مفتاحًا لتشكيل الذات الإغريقية في الفترة الكلاسيكية. وكانت كذلك المُتناصّ (مصدر التناص) المحوري لجمهورية أفلاطون. إذا كان الإغريق قد تعلموا كيف يتعاملون مع الألم، فقد تعلموا ذلك، إلى حد ما، من خلال آخيل. تغيرت ممارسات الألم تلك عبر الوقت، على الرغم من حفظ القصص. في الإلياذة، عندما يعلم آخيل بموت فَطرُقل، صديقه، رفيقه، وربما حبيبه، يلقي بنفسه على التراب وينتف شَعره، في حين ينوح كلّ مرافقيه. وعندما تُستعاد الجثة أخيرًا، يغرق آخيل في الدموع، ينوح، يتأوه، ويبكي. إنه مثل أسد قُتِلت أشباله على يد صياد، وسرعان ما يُوجَّه ألمه إلى غضب (χόλος (khólos، وانتقام. عندما تصل والدة آخيل أخيرًا لتسلّمه درعه الجديد، تجده يبكي جهرًا، بينما لا يزال متشبثًا بجسد فَطرُقل الميت.
"لآلاف السنين، كانت عبارة "أنا أتألم" زعمًا عاطفيًا بقدر ما هو جسديّ. لكن، وعلى الرغم من أن هذا التداخل الدلاليّ يبدو متّسقًا، فإن وضع المفاهيم الدقيقة قد تنوع إلى حد هائل" |
لكن، بحلول زمن أفلاطون، كانت كثير من الفضائل الواضحة في الإلياذة موضع تساؤل. على إناء أتيكيّ حلزوني الشكل ذي رسوم حمراء يعود إلى حوالي عام 460 قبل الميلاد، أي ربما حوالي 300 سنة بعد تدوين الإلياذة أولّ مرة، تصوّر هيئة آخيل حين تعثر عليه والدته تمامًا في لحظة حزنه. لكن، لا يُظهر الرسام آخيل باكيًا، متشبثًا بجثة فَطرُقل، بل يُصوَّر آخيل وحيدًا، مدثرًا بالكامل بغطاء، فيما عدا قمة رأسه وكعب إحدى قدميه الهام رمزيًا.
أصبح الاحتجاب بغطاء، وفقًا لبحث أجراه دوغلاس كيرنز، قاعدة بارزة من قواعد عرض المشاعر في الثقافة الإغريقية، تحديدًا من أجل التعبير عن الحزن، إنما مع إخفاء الدموع. وقد أُدرِك مؤخرًا أن المشهد يتلاءم مع الممارسات المقبولة في أثينا الكلاسيكية، لأن ذرف الدموع العلني كان ينافي المعايير الاجتماعية. بالتالي، كان الغطاء يحجب الهشاشة التي يُظهرها الحزن، من أجل حماية المتألمين من فقدان المكانة، وحماية المشاهدين من المنظر المؤلم. كان الغطاء رمزَ الحزن، إشارةً للألم تؤدي غرض إخفائه. وبهذا، يظهر الفنان هنا وفاء لمخطوطات الألم التي تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، أكثر مما يظهر من وفاء للقصيدة الملحمية الأسبق بثلاثة قرون، وذلك لكي يجنّب المُشاهد ــ المستخدم، حامل الإناء ــ مشهدَ الحزن غير المكبوح. لقد أصبح التعامل مع حزن آخيل صعبًا اجتماعيًا، صعبَ القراءة تجريبيًا. وكان الغطاء طريقة تعبيرية للقول، من دون كلمات، ومن دون تعابير وجهية: "أنا أعاني [نوعًا معينًا] من الألم". في بيئة مختلفة، فهم الفنان النرويجي إدفارد مونك القوةَ الكامنة في الصمت، أو في الوجه الخالي من التعابير. ويظهر خواء الوجه المرسوم عنده إشارة أخرى للألم العاطفي الذي لا يوصف، والذي هو رغم ذلك مُعبِّر وقابل للتمييز. كان مونك، مدعومًا بالفلسفة الدانماركية للقلق عند سورين كيركِيغارد، وغارقًا في وحل الحزن، الفقر، والأفكار الانتحارية، منغمسًا في ما تعبّر عنه الكلمة النرويجية "fortvilelse"؛ والتي تعني خليطًا من اليأس والحزن العنيف.
هذا التداخل المؤلم ألهمَه كثيرًا من لوحاته، بما فيها "الصرخة" (1893). لكن، ما كان يشكّل أساسها هو تجربة مفردة خربشها مونك قرب الرسم الأولي للوحة "fortvilelse" (اليأس ــ 1892). وقد أعادت الشاعرة المعاصرة أيريل فالك إنتاج تلك الخربشة على شكل ترجمة على النحو التالي:
مشيتُ على طول الطريق مع
صديقين ـ
غابت الشمس
أصبحت السماء فجأة بلون الدم
ــ وشعرت بهبّة من الكآبة ـ
ألم يمتصني أسفل القلب
توقفتُ ــ اتكأتُ على
السور متعبًا كالموت
فوق المضيق ذي اللون الأسود المزرّق والمدينة
امتدّت غيومٌ من دماء تتقاطر
{…} دماء دخانية
{…} تابع أصدقائي المشي
وقفتُ أرتعش مع جرح مفتوح
في صدري... أرتعش قلقًا
وشعرت بها تخترق الطبيعة
صرخةٌ عظيمة بلا نهاية.
بهذه الكلمات يبدّل مونك هيئة تجربة الألم الجسدي الخلطيّ ــ كآبته، ألمه أسفل القلب ــ ويضع مكانها ألمَ العالم، حيث تنزف السماء وتصرخ الطبيعة، ليس على نحو مسموع، إنما على نحو محسوس. إن قصور وصف مونك لألمه موسوم هنا بمحوه للسطور التي تحاول التعبير عن ذلك الألم. وفي حين أن الكلمات كلها سوف تُزال بشكل كامل في اللوحة النهاية، فإن محو التجسيد الشخصي والجسدي للألم يبقى مثبّتًا على اللوحة. فوجه الشخصية، وهي تتكئ على السور، خالٍ من المعالم؛ ليس غيابًا للتعابير، إنما ببساطة لا شيء في مكان الوجه: لا قناع، إنما محو. وبدلًا عن ذلك، الألم مصوّرٌ على السماء. فإذا كان الألم، بالنسبة إلى الرجل، لا يوصف، ليس علينا إلا أن ننظر للأعلى لنصل إلى ذلك الألم. إن عمق المعاناة هذا يضع الألم في كلّ مكان. بالنتيجة، لغة الألم عند مونك قد رُسِمت. والمفاهيم المطلوبة للتعبير عنها بادية للعيان. إنها متموضعة ــ الكآبة والقلق ممتزجان بالمدينة المرضوضة والسماء المدمّاة ــ وجلية. هكذا، يتطلب الوصول إلى هذا الألم معرفة ثقافية.
"فهم الفنان النرويجي إدفارد مونك القوةَ الكامنة في الصمت، أو في الوجه الخالي من التعابير" |
من ناحيتها، تتطلب الآلام المعاصرة المماثلة أنواعًا مختلفة من المعرفة. فكروا، على سبيل المثال، بالمعرفة الخاصة بالألم التي تحتاج إليها ليدي غاغا (المعروفة أيضًا باسم ستيفاني جيرمانوتا) للتعبير عن الآثار المستمرة للصدمة النفسية التي عانتها بعد أن تعرضت للاغتصاب في عمر التاسعة عشرة، وبمعرفة الألم التي نحتاجها نحن لنقرأ عن تلك الآثار ونجعلها مفهومة بالنسبة إلينا. في مقابلة استثنائية أجرتها عام 2021 لصالح "آبل تي في+"، وهي جزء من سلسلة عن الصحة العقلية حملت اسم "الـ أنا التي ليس بوسعك رؤيتها"، وصفت ليدي غاغا "الألم التام" الذي شعرت به، قبل أن يحلّ خدرٌ يعني أنه لم يعد في وسعها أن "تشعر" بـ"جسدها". إن هذا التجلي الفيزيولوجي للألم العاطفي قاد الأطباء حينها لتفتيش الداخل: "أجريتُ تصويرًا بالرنين المغناطيسي مرات عدة، وتصويرًا بالأشعة، حيث لم يجدوا شيئًا"، قالت. كل الأعراض، في الحقيقة، نشأت من الاغتصاب. "جسدك يتذكر"، تقول. و"كيفية شعوري حين أشعر بالألم هي ما شعرتُ حين اغتُصبت". هذا "الانهيار الذهانيّ الكامل" استمر "لبضع سنوات"، و"إثارته" تُرجِع الذعرَ الكامل للألم الجسدي والأحشائي.
تصبح مثل تلك الآلام اليوم مصادقًا عليها أكثر فأكثر، ثقافيًا وطبيًا على السواء. لا تخص تلك الآلام حسَّ الألم ــ اختزال الألم إلى إدراك حسي ــ ولا الأذية الجسدية، إنما تخص الجسد، العقل، والعالم الذي توجد فيه، في ديناميكيّة معقدة. إن كلمات الليدي غاغا، التي تصبح أكثر فأكثر شيوعًا اليوم ــ كلماتها عن الصحة العقلية، عن الانهيارات الذهانية، عن صور الرنين المغناطيسي وإثارة الألم ــ هي الكلمات الصحيحة، المخطوطة الثقافية الصحيحة، لإقرار ألمها.
تمثّل مثل تلك التوصيفات لحظة انقلابٍ معرفي وثقافي. لقد جاهد العلماء الطبيون في القرنين التاسع عشر والعشرين لتحديد الألم؛ تشييء عمله، الشعور به، كيفية رؤيته، وكيفية قياسه. وحاولوا عزل الألم الجسدي الذي سبّبته إصابة أو مرض عن اضطرابات العقل، على أمل الوصول إلى شرح ميكانيكي للألم يمكن ربطه بمنطقياتِ افتراضاتٍ حضارية مهيمنة تخص العرق، الجندر، العمر، الطبقة والنوع. على هذا النحو، أصبح جلد الذكر الأبيض البالغ ووجهه معيارًا للإحساس بالألم. وفي مراحل تاريخية عديدة، عُدَّت النساء، الأطفال، اليهود، الأميركيون الأفارقة والشعوب الأصلية من بلدان عديدة عديمي الإحساس، أو مفرطي الحساسية، يعبّرون عن الألم على نحو غير متناسب (متذمرين)، أو وحشيين تمامًا مثل الحيوانات الأخرى. وفي بعض الأوقات، بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، اقترن عديمو الإحساس مع طبقات المجرمين الذين من الممكن أيضًا تحديدهم بعدم قدرتهم على الشعور بالألم، وفقًا للبحث الشهير الذي أجراه العالم تشيزري لومبروزو.
في صلب هذه المحاولات لترتيب الألم في طبقات، يكمن التأكيد الضمني على أن الألم هو ظاهرة جسدية، تعبّر عن العلاقة بين الأعصاب المحيطية والدماغ. خلال معظم القرن العشرين، رزح العلماء الطبيون في الغرب تحت وطأة التصور الخاطئ القائل بأن تجربة الألم يمكن أن تُربط بمقياس شدة. كلما كان المحفّز أكبر، كان الألم أكبر. وكلما كان الجرح أكثر خطورة، ازدادت شدة الألم. إنها واحدة من علاقات الارتباط الواضحة ظاهريًا، والتي ليس لها أي أساس. على سبيل المثال، تجارب جرحى الحرب على نطاق واسع زودت الأطباءَ بثروة من المعلومات التجريبية التي فصلت الأذية عن الألم على نحو غير ملائم. لم تكن الجروح الكبيرة مؤلمة دومًا.
لقد وجّهت هذه الألغاز الباحثينَ إلى ديناميكيات إرسال الإشارات العصبية: لم تكن حركة المرور في اتجاه واحد فحسب، من المحيط إلى المركز، إنما أيضًا من المركز إلى المحيط. وكيفية الشعور بالمحفز الحسي يجري توصيلها من خلال التقييم، وذلك التقييم يُعيَّن من ناحية التجربة الشخصية للفرد، درجة الانتباه التي يوليها للجرح، للمناسبة المباشرة للإصابة (خطر، خوف، اطمئنان، أمان) وللمخزون الثقافي لمفاهيم الألم الذي يوفر إطار التعبير. في حين جرى في الستينيات فهمُ هذه الديناميكيات من خلال نموذج مبتكر دُعي "نظرية التحكم في بوابة الألم" (وهي البوابة المسؤولة عن التنظيم الأتوماتيكي للتراسل بين الدماغ والمحيط)، فإن تحدي الألم لم يُحَلّ باستخدام استعارات الهندسة الإلكترونية. لأن تلك الاستعارات، رغم أنها قطعت شوطًا في شرح تنويعات تجارب الألم الجسدي، لم تحلّ مشكلة أن الألم العظيم، في أغلب الأحيان، يمكن العثور عليه حتى في غياب الإصابة. كذلك كانت هنالك مسألة الألم المزمن. إن الأبحاث العصبية وحدها لم تتمكن من تقديم إجابة في ما يخص الآلام التي استمرت.
في النتيجة، كان لا بدّ لانحراف منطقي نحو عدم إمكانية التنبؤ بالألم، ولاعتراف متعدد الاختصاصات بأن التجربة متقلّبة، أن يكون وشيكًا. لكنّ العمومية البيولوجية لعمليات الألم، وإمكانية القراءة الموضوعية للألم، إما من الجلد، أو من "وجه ألم" ذي سمات عامة، ظلت اقتراحات مغرية. إن البحث عن سمات وجه ألم عامة، بناء على الفكرة الخاطئة القائلة بأن العضلات المعبِّرة هي تمثيل مباشر للتجربة الداخلية، مستمر منذ القرن السابع عشر، ولا يزال. من الفئران إلى البشر، حاول الباحثون تحديد ماهية الوجه المتألم، لكن من دون جدوى.
إن الوجه الشاعر بالألم قليل التحديد بقدر أي تعبير آخر. فهو أحيانًا يبتسم. أحيانًا يشكّل صرخة. أحيانًا يكزّ على أسنانه. فالوجه، حسب تصوير مونك له، ليس في حد ذاته مؤشرًا موثوقًا لأي شيء. علاوة على ذلك، كان ثمة انعطافة، أواخر السبعينيات، نحو فهم بيولوجي نفسي اجتماعي للألم؛ فهم يجمع الوظيفة البيولوجية، الميل النفسي، والحالة الاجتماعية. وبدا دومًا أن تجربة الألم تعتمد على الثلاثة. لكن، عمليًا، كان منطق الحقول المعرفية للأوساط الأكاديمية يعني أن تستمر أبحاث الألم في صوامعها المنفصلة. في الفترة ذاتها تقريبًا، صاغ مجموعة من أطباء الألم البارزين تعريفًا رسميًا للألم بغية معالجة الافتقار الجوهري لتصنيف توافقي للألم عبر الحقول المعرفية. لقد سايروا قليلًا الجانب النفسي والاجتماعي، لكنهم حافظوا جوهريًا على علاقة الألم بالأذية.
"تجارب جرحى الحرب على نطاق واسع زودت الأطباءَ بثروة من المعلومات التجريبية التي فصلت الأذية عن الألم على نحو غير ملائم. لم تكن الجروح الكبيرة مؤلمة دومًا" |
كان ذلك التعريف الذي يعود إلى عام 1979 حجر الأساس للرابطة الدولية لدراسة الألم (IASP)، وينص على التالي: "[الألم] تجربة عاطفية وحسيّة غير سارّة مرتبطة بتلف أنسجة فعلي، أو محتمل، أو موصوفة من ناحية ذلك التلف". إن هذا التشديد على "تلف الأنسجة" الذي يرتبط بدقة بمفهوم حسّ الألم في صميم أبحاث الألم الفيزيولوجية، ينفي المعاناة العاطفية والألم المزمن الحاصل من دون إصابة. ويجعل تجربة الألم العاطفي عند البشر عبر العصور تبدو مفقودة. الأمر ليس أن ذلك الألم لم يكن موضوع بحث، بل إن الصياغة الرسمية للألم بتعابير حسية ورضية ("الرضة trauma" مشتقة من الكلمة الإغريقية "τρῶμᾰ" التي تعني "جرح") قد حدّت من المدى الذي يمكن أن يصل إليه النموذج البيولوجي النفسي الاجتماعي.
أخيرًا، في يوليو/ تموز عام 2020، اعتُرِف بعدم كفاية التعريف الذي يعود إلى عام 1979، عندما أضافت الرابطة الدولية لدراسة الألم قائمة بالتنقيحات والتعديلات:
الألم دائمًا هو تجربة شخصية تتأثر بدرجات متفاوتة بعوامل بيولوجية، نفسية، واجتماعية.
الألم وحسّ الألم ظاهرتان مختلفتان. ولا يمكن استنتاج الألم من نشاط في الأعصاب الحسية فحسب.
خلال تجارب حياتهم، يتعلم الأفراد مفهوم الألم.
إفادة شخص بأن تجربة ما هي تجربة ألم يجب أن تُحترم.
على الرغم من أن الألم يقوم بدور تكيّفي، قد تكون له آثار عكسية على الأداء والعافية النفسية والاجتماعية.
التوصيف اللفظي ليس إلا واحدًا من سلوكيات عديدة للتعبير عن الألم؛ العجز عن توصيل الألم لا ينفي إمكانية أن إنسانًا، أو حيوانًا غير بشري، يختبره.
لا تقترح هذه التنقيحات تغييرًا جذريًا رسميًا في طريقة التعامل مع الألم فحسب، إنما في طريقة إجراء البحوث عليه كذلك. إن الفكرة القائلة بأن الألم دائمًا شخصي تدحض أي محاولة لجعله موضوعيًا؛ فكرة أن الألم مفصول رسميًا عن حسّ الألم تعني أن كل أشكال الألم الحاصل من دون إصابة ــ الألم العاطفي، بعض أنواع الألم المزمن، الألم الاجتماعي ــ تقع ضمن النطاق الطبي؛ إقرار أن الألم هو مفهوم يُتعلَّم يطرح سؤالًا عن كيفية تعلمه، بالإضافة إلى سؤال من وما الذي يصوغ هذا التعليم المفهوميّ؛ أخذ التوصيفات الشخصية للألم على محمل الجد يعني أن عمليات الإقرار الطبية لم تعد تستعين بأدوات القياس التشخيصية التي من شأنها أن تنكر صوت المريض؛ فكرة أن الألم ليس بالضرورة تكيفيًا (أنه غرضيّ من الناحية التطورية) يعني أن الأسباب النفسية والاجتماعية لحالات الألم ونتائجها يمكن أن تؤخذ على محمل الجد؛ وأخيرًا، كون الألم ليس له دالّ عام في اللغة يُفسح المجال لإدراك عالمٍ من تعابير الألم التي تتخطى الكلمة.
كل هذا ــ من منظور الملايين الذين يعانون من الألم المزمن، الألم العاطفي (الحزن، الوحدة، الاكتئاب، الرضة النفسية، وما إلى ذلك) وحالات الألم الغامضة مثل متلازمة الألم المزمن ــ هو موضع ترحيب. كما أنه، بالنسبة إلى الباحثين في مجال الألم خارج العلم الطبي والبحث السريري، تحدٍّ عظيم وفرصة تلوح في الأفق. والسبب في ذلك هو أن هذا التحول البنّاء نحو الذاتيّ ونحو عمليات التعلم المفهومي، مقترنًا بالاعتراف بأن الألم ليس في حاجة إلى عنصر الأذية الجسدية، يشير إلى تعدي العلم الطبي على العلوم الإنسانية. كذلك، على وجه الخصوص، يلقى هذا التحول استحسان المؤرخ الذي يستكشف تقلبات تجربة الألم في أزمنة وأمكنة مختلفة. وبالنسبة إليّ، كمؤرخ للألم، آخذ اعتبارَ الألمِ مسألةً متعددة الاختصاصات على محمل الجد. فما من منهج واحد لديه الأدوات ليصدّع الألم، إذا جاز التعبير. لكن التوجه المتغير لدراسات الألم ضمن العلم الطبي اليوم يقتضي الاعتراف بحقول مثل التاريخ، بوصفها مُنتِجات للمعرفة الخاصة بالألم، ولها تأثيرها على فهم العلم الطبي لماهية الألم، وكيفية التعامل معه.
إن المعرفة التاريخية الخاصة بالألم مفيدة على نحو فاعل. ومن شأن انخراط واعٍ بدارسات الألم أن يحفّز إعادة نظر تأريخية تعيد سبك تاريخ التجربة المؤلمة وفق الشروط التي تعرّفها بها اليوم الرابطة الدولية لدراسة الألم (IASP). فإذا كان البشر يتألمون عندما يقولون إنهم كذلك، ستفيض الأراشيف على حين غرّة بأدلّة الألم. قد لا يكون الطب قد أقرّ دومًا هذا النوع من الآلام، لكن يمكن إقرارها الآن. وفعل ذلك سيؤكد الحاجة إلى تعلم مفاهيم محددة للألم، والحاجةَ إلى القراءة لأجل الوصول إلى تعابير تتجاوز الكلمة وتتجاوز توقع وجوه ألم ذات سمات معينة. لأنه، مهما بلغ حدّ موافقة الرابطة الدولية لدراسة الألم على أن الألم يُتعلَّم، يبقى من الصعب رؤية ديناميكيات السلطة التي تتأصل في المواجهة مع الطب، سواء أتى المريض بقدم مكسورة، أو قلب مكسور، أو، سواء كان "المريض"، الشخص الذي يعاني فعليًا، يبحث عن الدواء على الإطلاق.
إن للعمليات العلاجية عطالتها الخاصة. وكلّ من المريض والسلطات الطبية يقرأ من مخطوطات ثقافية لا مرئية حول كيفية اجتياز حالة ألم وتداولها؛ تلك الحالة التي يتم توصيل تجربتِها تحديدًا عن طريق تلك المخطوطات ومن خلالها. إن سياسات التشخيص، منطق الوصفة الطبية، النسيج الثقافي الذي يوافق على الإقرار الطبي للألم، أو صرف النظر عنه؛ كل هذا غير مرئي عادة، أو طبيعي ظاهريًا، في المواجهة بين الشخص المتألم، وأي شخص آخر، سواء أكان طبيبًا، صديقًا، أو غريبًا. وبالعمل، من خلال المثال التاريخي، على إظهار الديناميكيات الاجتماعية والثقافية التي تعمل في مثل تلك المواجهات، وعلى تبيان أن دحض الألم يقترن بسياق، يمكن للمرضى وللسلطات الطبية على السواء أن يكونوا مجهزين على نحو أفضل لطرح الأسئلة واحدهم على الآخر: ليروا سياسات الألم ويقرأوها.
روب بوديس: كاتب، مؤرخ، موسيقي، وزميل أبحاث في HEX؛ مركز تميز الأكاديمية الفنلندية في مجال تاريخ التجارب، جامعة تامبيري (فنلندا). له ثلاثة عشر كتابًا بين تأليف وتحرير. من كتبه: "العاطفة، الإدراك، التجربة" (2020)، "المهن الإنسانية" (2021)، "انعدام راحة المشاعر في التاريخ الحديث" (2022). وسيُنشر كتابه التالي في مايو/ أيار 2023 بعنوان "معرفة الألم: تاريخ الإحساس، العاطفة، والتجربة".
رابط النص الأصلي:
https://aeon.co/essays/pain-is-not-t...orians-tell-us
- المترجم: سارة حبيب